الدرس الثاني

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4333 24
الدرس الثاني

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين، أمَّا بعدُ:
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بِكم إخواني المشاهدين الكرام، بَاركَ الله فِيكم، ورزقكم اللهُ العلمَ النَّافعَ، وجعلَكم مَن أهلِ الإخلاصِ، كما أسأله -جَلَّ وَعَلا- أن يُكثِر الفقهاءَ في الأمَّة، وأن ينشرَ العلمَ فيها، وأن يُكثر العملَ، وبعدُ:
فكنَّا قد ابتدأنا ببابِ صلاةِ الجماعةِ في لِقائنا السَّابقِ، ولعلَّنا -بإذنِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ- أن نُواصل قراءة الأحاديث التي وردت في هذا الباب، فليتفضل الشَّيخُ مشكورًا.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، اللهمَّ اغفر لنا ولشيخِنا، وللمستمعينَ وللمشاهدينَ ولجميعِ المشاهدين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ زَيدِ بنِ ثَابتٍ رضي الله عنه، قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُجَيْرةً بِخَصَفَةٍ -أَوْ حَصِيْرٍ- فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهَا، قَالَ: فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، قَالَ: ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُم، قَالَ: فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِم، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهم وحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا، فَقَالَ لَهُم: «مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاة فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلاة المَكْتُوبَةَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قولُ المؤلِّفِ: (عَنْ زَيدِ بنِ ثَابتٍ رضي الله عنه، قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُجَيْرةً)، احتجرَ: أي وضعَ حجرةً، وهي تصغير: "حجرة".
(بِخَصَفَةٍ -أَوْ حَصِيْرٍ)، كأنَّه أرادَ التَّأكُّدَ مِن اللَّفظ، ومعناه: أنَّه وضعَ هذا الحصيرَ بمثابةِ الحائطِ عليه، يعني يحوط مكانَ اعتكافه في المسجدِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مُعتكفًا، أو كانَ يخصُّ ذلك الموطنَ بالصَّلاةِ في الليلِ.
(خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهَ)، أي: في ذلك المكان، وفي هذا دلالة على مَشروعيَّة صلاة قيامِ رمضان؛ لأنَّ الرِّوايات الأخرى قد جاءت وبيَّنت أنَّ المراد به: قيام رمضان، وكان النَّاسُ في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يصلُّون جماعاتٍ، يصلِّي الرَّجل ويصلي بصلاته الجماعة، وهذا الحديث هو في صلاةِ آخرِ الليل التي تسمَّى صلاة القيامِ، أو صلاة التَّهجُّدِ، وذلك أنَّه في العشرِ الأواخرِ من رمضان يَستحب العلماء أن يكون هناكَ صلاةَ تهجُّدٍ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم « كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ»[6].
وفي هذا دلالة على مشروعيَّة أن يؤدِّي الإنسانُ هذه الصَّلوات في المسجد كما كان فِعلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف العلماءُ في صلاة رمضان، أيُّهما أفضل: أن تكون في المسجد أو تكون في البيت؟
الجمهورُ مِن الأئمَّة الأربعة وغيرهم على أنَّ أداءها في المسجدِ أفضل؛ لأنَّها شعيرةٌ من الشَّعائر الظَّاهرة، قالوا: لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّاها في المسجدِ، وصلاها جماعةً بأصحابِه، وإنَّما امتنع منها بسببٍ لم يعدْ مَوجودًا؛ لأنَّه خشيَ أن تُكتَب على الأمَّة، فتصبح صلاة رمضان من الواجبات، وهذا المعنى زال بوفاته صلى الله عليه وسلم، والحكم يدورُ مع علَّتِه وجودًا وعدمًا، لذلك قالوا بأفضليَّة أداءِ صلاة القيام -أو صلاة التَّراويح- في رمضان في المسجدِ جماعةً.
قال: (فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجالٌ) أي: سمعوا بصلاته، فأصبحوا يُصلُّون معه، ونادى بعضُهم بعضًا، وأصبحوا يتتابعون.
والتَّتبعُ معناه: المراقبة والمشاهدة. والتَّتابعُ معناه: أن يأتي الواحدُ بعدَ الآخر.
(جَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ) فيه دلالة على مشروعيَّة صلاةِ الجماعة في صلاةِ رمضان.
قال: (ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً) وذلك أنَّه صلَّى بهم ثلاثَ ليالٍ أو أربعَ، ثم تكاثر النَّاسُ حتى كَادَ المسجدُ أن يضيق بأهله، بعدها بليلةٍ لم يخرج صلى الله عليه وسلم فحضروا ينتظرون صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليصلُّوا معه.
(وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُم)، فيه دلالة على أنَّ الإنسان قد يترك العملَ المستحبَّ مراعاة للآخرين، كما ترك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هنا صلاة الجماعة في قيام رمضان لئلا تُكتَب على الأمَّة، وكما ورد في الخبر أنَّه إذا سمع صياح الصَّبيِّ أو بكاءَ الصَّغيرِ خفَّفَ في صلاته مرعاة لشعورِ أمِّه لئلا يحزنها[7]، وهكذا يراعِي الإنسانُ هذا المعنى، فمثلًا في تقبيل الحجر الأسود قد يتركه الإنسان حِسبةً يريد الخير لئلَّا يُضيِّق على غيره، وهكذا في أداءِ النُّسكِ.
 (قَالَ: فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِم، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهم) يريدون تنبيه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم من أجلِ أن يخرج إليهم.
(وحَصَبُوا الْبَابَ)، أي أنهم أخذوا الحصباءَ -وهي الحجارة الصغيرة- فقاموا برميها على باب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّ غرف النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانت على المسجد.
(فَخَرَجَ إِلَيْهِم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبً)، أي: لم يرضَ بتصرفهم عندما رفعوا الصَّوتَ في المسجدِ وعندما حصبوا بابَه دون أن يكونَ هناك داعٍ شرعيِّ.
فَقَالَ لَهُم: «مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ» يعني: قيام رمضان، فلذلك ترك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الفعل خشيةً مِن هذا المعنى الذي زال بوفاته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال بعدها: (فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاة فِي بُيُوتِكُمْ)، أي: من أجلِ ألا تُكتَب عليكم.
ثم قال: «فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلاة المَكْتُوبَةَ»، فيه دلالةٌ على أنَّ الصَّلاة المكتوبة الأفضل فيها أداؤها في المسجد، ولذلك قال بعضهم: إن هذا الحديث يُفيد عدم وجوب صلاة الجماعة، وفي هذا نظر! لأنَّه -كما تقدَّم: أنَّ الموازنة بين شيئين لا تعني أنَّ أحدهما ليس بواجبٍ، وقد يُستدل على الوجوبِ بأدلةٍ أخرى.
وفي الحديث: التَّرغيب في أداءِ الإنسانِ الصَّلوات في بيته، وعمْرُ البيوت بالصَّلاة فيه فوائد عظيمة:
منها: ابتعادُ الشَّياطين عنها.
ومنها: تعلُّم الصِّبيان للصَّلاة بمشاهدتهم لآبائِهم يصلُّون وأمهاتِهم.
ومنها: أنَّ هذا الموطن يُشغَل بالطَّاعة.
{(وَعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ لأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِم، فَانْصَرفَ رَجُلٌ مِنَّا، فَصَلَّى، فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّه مُنَافِقٌ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ مُعَاذٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَتُرِيدُ أَنْ تَكُوْنَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ؟ إِذا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأ بـ ﴿الشَّمْسِ وَضُحَاهَ﴾ و ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ و ﴿اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ﴾ و ﴿اللَّيْلِ إِذا يَغْشَى﴾» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ أَيْضًا، وَفِي لفظٍ لَهُ: فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرفَ)}.
قال جابر رضي الله عنه: (صَلَّى مُعَاذٌ)، معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم يذهب ليصلِّي بأصحابه.
استُدل بهذا على أنَّه يجوز أن يؤمَّ المتنفلُ المفترضَ بشرط أن ينوي نفسَ الصَّلاة، كما قال بذلك الشَّافعيةُ وطائفةٌ مِن أهلِ العلم، أمَّا إذا كان ينوي نافلةً مُطلقةً فإنَّه لا يدخل في الخبرِ، ولا يُستدلُّ بالخبرِ عليه، والأصلُ أنَّ المأموم يكون مماثلًا للإمام لحديث: «إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ»[8].
وقوله: (صَلَّى مُعَاذٌ لأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِم)، أي: قرأ قراءة طويلة في أثناء الصَّلاة.
قال: (فَانْصَرفَ رَجُلٌ مِنَّ)، يعني: أنَّ هذا الرَّجل نوى الانفرادَ في صلاته، وقد ورد في بعض الأخبار أنَّه كان يعمل على سوانٍ -يعني حيوانات تستخرج الماء من البئر- فخشيَ عليها من السُّقوطِ في البئرِ ومن التَّوقُّفِ، ولذلك نوى الانفرادَ في صلاته.
وقد وقع هناك اختلاف بين الرُّواة في هذا الرَّجل، هل قَلبَ نيَّته من كونه مأمومًا إلى كونه منفردًا فأكمل صلاته؟ أو أنَّه سلَّم ثم بعد ذلك ابتدأ صلاةً جديدةً؟
وينبني على هذا أنَّ مَن أرادَ قطعَ الصَّلاة هل يحتاجُ إلى السَّلام؟
فإنَّ مَن أثبت الرِّواية الأخرى التي في مسلم (فانحرف رجل فسلم) تدلُّ على أنَّه يسلِّم ولو كان واقفًا إذا أراد قطع الصَّلاة.
والأكثر من الرُّواة على عدمِ ذكرِ السَّلام، ولذلك حكمَ بعضُهم على هذه اللفظة بشذوذها.
قال: (فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّه مُنَافِقٌ)، أي أنَّ مِن شأن المنافقين تركُ صلاة الجماعة، وهذا قد ترك صلاة الجماعة، فأثبتَ عليه الوصف، ولكن هناك مانع يمنع من إطلاقِ هذا الوصف عليه؛ ألا وهو العذرُ الذي كان عنده، وحينئذٍ يُلاحظُ في إثباتِ الأحكامِ على الأفعالِ والأسماءِ والأشخاصِ، أو إثباتِ الأوصافِ؛ أنَّه لابدَّ من وجوِد المعنى الذي مِن أجله ثبتَ هذا الحكم، ولابدَّ من وجودِ الشُّروط، ولابدَّ من انتفاءِ الموانع، ومِن ذلك: إطلاق اسمِ النِّفاق، أو اسمِ الكُفرِ، أو اسمِ الفسقِ على أحدٍ لابدَّ فيه من ملاحظةِ المعنى، ثم لابدَّ فيه مِن ملاحظة وجودِ الشُّروط وانتفاء الموانع.
وهناك أمرٌ آخر: وهو أن يُلاحظ أنَّ الحكم قد يُطلق على الوصفِ وإن لم يُطلق على المتَّصف بذلك الوصف، لإمكان تخلُّف الحكم لأحد المعاني السَّابقة.
 قال: (فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ)، يعني: بلغَ الرَّجل أنَّ معاذًا يقول عنه: إنَّه منافق، وهذه اللَّفظة فيها قدحٌ واستنقاصٌ مِن مكانته، وهذا ممَّا يتنافى مع ما جاء في الشَّرعُ من التَّرغيبِ في عدم ذكرِ مَعايبِ الآخرين، إلا إذا ترتَّب عليه مَصلحة مَشروعة.
(دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ مُعَاذٌ)، يعني: أنَّه يشتكي مِن معاذ في هذه اللفظة.
(فَقَالَ لَهُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم) يعني: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم استدعى معاذًا.
ثم قال له: «أَتُرِيدُ أَنْ تَكُوْنَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ؟»، الفتنة هي انقلابُ الموازين والمفاهيم، ورؤيةُ الحقِّ باطلًا، والباطلِ حقًّا، ومن الفتنة جعل النَّاس يبتعدون عن الطاعات، وَيُقدمون على المعاصي وَيَرَونها خيرًا، ومِن ذلك أنَّه إذا أطيلت الصَّلاة كان هذا من أسبابِ فتنة النَّاس بترك صلاة الجماعة، ولهذا قال: «أَتُرِيدُ أَنْ تَكُوْنَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ؟»، لكونه سارَ على خلافِ السُّنَّة في العمل المشروع، ممَّا يؤدِّي إلى تركِ بعضِ النَّاس للعمل المشروع.
ثم أخبره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالطريقةِ المشروعة، وهكذا قاعدة الشَّرعِ: أنَّه إذا جاء النَّاصح فأخبر بمخالفة فعلٍ للشَّرعِ أخبر بالموافق للشَّرعِ من أجل أن يُسار عليه وأن يُعمل به، فقال: «إِذا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأ بـ ﴿الشَّمْسِ وَضُحَاهَ﴾ و﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ و﴿اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ﴾ و﴿اللَّيْلِ إِذا يَغْشَى﴾»، يعني وما ماثلها من السُّور، واستُدلَّ بهذا على أنَّه يستحبُّ أن يُقرَأ في صلاة العشاء من متوسطِ المُفصَّلِ.
قال الفقهاء: في المغرب يقرأ من قصار المفصل، وفي العشاء من أوساطه، وفي الفجر من طواله.
والرِّواية الأخرى قال: (فَانْحَرَفَ رَجُلٌ)، أي: انصرف عن جهة القبلة. (فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرفَ)، يعني: قبل انصراف الإمام.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لـمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاة، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، قَالَتْ: فَقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيْفٌ، وَإنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعِ النَّاسَ فَلَو أَمَرْتَ عُمرَ؟ فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». قَالَتْ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيْفٌ، وَإنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسمِعِ النَّاسَ فَلَو أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَتْ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» قَالَتْ: فَأَمَرُوا أَبَا بَكْرٍ فَصَلِّى بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاة وَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بَينَ رَجُلَيْنِ، وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ، ذَهَبَ يتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قُمْ مَكَانَكَ»، فجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويَقتدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبي بَكْرٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله في هذا الخبر: (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لـمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، أي: ثقلَ بدنه من المرض، وذلك قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه حرص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على أداءِ الصَّلاة جماعة حتى مع مرضه، وفي هذا أنَّ التَّكاليف لا تسقطُ عن أحدٍ من الخلقٍ، فإذا كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم تسقط عنه الصَّلاة مع كونِه قد ثقلَ في مرضه فغيرُه يأخذُ حكمه في وجوب أداءِ الواجبات الشَّرعيَّة.
قال: (جَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاة) أي قد حان وقتها، وذلك من أجلِ أن يصلِّي بالنَّاس، وفيه أنَّ المؤذِّنَ هو الذي يتولَّى التَّنبيه بالصَّلاة.
فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فيه أنَّ الإمام يُنيب في الصَّلاة، وأنَّه إذا نوَّب أحدًا بعنيه فإنَّه لا يصلِّي غير ذلك النَّائب.
قوله: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» (قَالَتْ: فَقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيْفٌ)، خشيَت عائشةُ أن يتشاءم النَّاسُ لكونِه هو الذي صلَّى بهم في وقت مرض النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن يُصلي غيره، ومن هنا ذكرت عن أبي بكر صفة لعلَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يكلِّف غيره بالصَّلاة، فقالت عائشة: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيْفٌ)، أي سريع الحزنِ والبكاءِ، فإنَّه إذا صلَّى مكان النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنَّه سيبكي، ولذا قالت: (وَإنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ)، أي متى صلَّى بالنَّاس إمامًا في مقام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(لَا يُسْمِعِ النَّاسَ) أي أنَّ قراءته لن تصلَ إلى بقيَّة النَّاسِ، وفي هذا مشروعيَّة إيصال صوت الإمام بالقراءة لجميعِ المصلِّينَ.
قالت: (فَلَو أَمَرْتَ عُمرَ؟)، فإنَّ عمرَ كان رجلًا جهوريَّ الصَّوتِ، ولذلك أشارت بعمر.
فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فيه تأكيدُ الأمر، وأن لم يُطَع في الخير والطَّاعة فإنَّه يَحسُن أن يكرِّر النَّصيحة.
(قَالَتْ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ) أي للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيْفٌ، وَإنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسمِعِ النَّاسَ فَلَو أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَتْ لَهُ)، أي فقالت حفصة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ذلك.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُنَّ» يشير للنِّساء «لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» أي: في تكرار الطَّلب على ما يردْنَه، والإلحاحِ فيما يطلبْنَه، بحيث يُزيِّينَّ للنَّاس ما يردْنَه، ويتعلَّلْنَ له بالعللِ التي تجعل النَّاس يقبلونه.
«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فيه تكرار هذا اللفظ. (قَالَتْ: فَأَمَرُوا أَبَا بَكْرٍ فَصَلِّى بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاة) يعني أنَّ أبا بكر ابتدأ بالصَّلاة.
(وَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً) أي أنَّه زالَ عنه ما يجده من ثقل بدنه، ولذا أراد أن يصلِّي مع النَّاس. (فَقَامَ يُهَادَى بَينَ رَجُلَيْنِ)، أي يحمله الرَّجلان بحيث يعتمد عليهما في مشيه.
(وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ) لأنَّه لا يستطيع المشي، وفي هذا دلالةٌ على تأكيدِ صلاة الجماعة التي حرص عليها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع كون حاله قد وصلت لهذه الحال. (قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ) يعني أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجد.
(سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ)، أي: صوتًا يدلُّ عليه. (ذَهَبَ يتَأَخَّرُ)، أي يقفُ مع المأمومين لكون الإمام الأصلي قد حضر، وفيه أنَّ إمام المسجد أولى من غيره بصلاة الجماعة.
قالت: (فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قُمْ مَكَانَكَ») أي: ابقَ في المكان الذي تصلي فيه إمامًا بالنَّاس.
قالت: (فجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبي بَكْرٍ) فيه دلالة على أنَّ المأموم يقف على يمين الإمام، وأنَّ الإمام عن يسار المأموم.
قالت: (فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمً)، وبهذا استدلَّ الجمهور على أنَّ الإمام إذا صلَّى جالسًا فإنَّ مَن خلفه يصلُّون قيامًا، كما هو فِعل النَّبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ويكون هذا ناسخًا لِما تقدَّم، وذهب الإمامُ أحمد إلى أنَّ الإمام إذا صلَّى جالسًا صلَّى مَن خلفه جُلوسًا لِما وردَ من حديث أبي هريرة السَّابق أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال عن الإمام: «وإذا صلى جالسًا صلوا جلوسًا أجمعون»[9].
وحملَ حديث الباب على مَن ابتدأ صلاته قائمًا ثم جلسَ، فإنَّ أبا بكر ابتدأ بهم مصليًا واقفًا، ثم جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فصلَّى جالسًا، فحينئذٍ قالوا: إنَّ هذا خارج مدلول الدَّليل الأوَّلِ، فإنَّ مَن ابتدأ صلاتَه جالسًا فإنَّ المأمومين يصلُّون جلوسًا، وأمَّا مَن ابتدأ صلاتَه قائمًا ثم عرضت له علَّة جعلته يجلس، فإن مَن خلفه يصلُّون قيامًا، وهذا الحديث استُدلَّ به على مشروعيَّة التَّبليغ، فإذا كان صوت الإمام ضعيفًا شُرع أن يوجد مَن يُبلغ صوته للمأمومين كما هو فِعلُ أبو بكر رضي الله عنه.
قوله: (يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويَقتدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبي بَكْرٍ)، أي يتابعونه في صلاته.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالكَبِيرَ والضَّعيفَ وَالمَرِيضَ، فَإِذا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ»، وَفِي لفظٍ: «وَذَا الحَاجَةِ»، وَفِي آخَرٍ: «الضَّعِيْفَ والسَّقِيْمَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسلمٍ، وَلم يَقُلْ البُخَارِيُّ: «وَالصَّغِيْرَ»)}.
 
قوله: «إِذا أَمَّ»، أي إذا كان أحدكم إمامًا في الصَّلاة. «النَّاسَ» يعني المأمومين. «فَلْيُخَفِّفْ»، يعني في صلاته، وقمَّةُ التَّخفيفِ صلاةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان أوجزُ النَّاسِ في صلاته مع إتمامها، وبالتَّالي ليس هذا من أدلَّة جوازِ نقرِ الصَّلاة والإسراعِ فيها سرعة كثيرة، وإنَّما المرادُ التَّخفيفُ الذي لا يُلحق مشقةً، وكم من مخفِّفٍ يكون مِن أسباب المشقَّة على المأمومين، فإنَّ بعضَ المأمومين يعجز عن متابعته في القيام وفي الرُّكوع، وبالتَّالي يكون إسراعه لم يُلحق التَّخفيف بالمصلين، وإنَّما شقَّ عليهم.
قوله: «فَإِنَّ» مِن أداوت التَّعليل «فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالكَبِيرَ والضَّعيفَ وَالمَرِيضَ»، وهؤلاء يحتاجون إلى التَّخفيف، فإنَّ التَّطويل يشقُّ بهم.
قال: «فَإِذا صَلَّى وَحْدَهُ»، أي إذا صلَّى أحدُكم وحده سواء صلاة اللَّيل أو صلاة النَّافلة «فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ»، أي يختر من صلاته ما يرى أنَّه أنسب لحاله من تطويلِ الصَّلاة أو تقصيرها، ولذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يطيل الصَّلاة إذا صلَّى وحدَه في صلاة الليل، وفيه مراعاة الإمام لأحوالِ المأمومين، سواء في طول الصَّلاة أو في وقتِ انتظارِ الصَّلاة، وفيه أنَّه ينبغي أن يُراعى أحوال أصحاب الأعذار.
{(وَعَنْ عَمْرِو بنِ سَلَمَةَ الـجَـرْمِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرِّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ، فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا لِلنَّاس؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَرْسَلَهُ، أَوْ أَوْحى اللهَ بِكَذَا، وَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ فَكَأَنَّمَا يُغَرَّى فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَومَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِم فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ وقْعَةَ الفَتْحِ بَادرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبدَرَ أَبي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللهِ مِنْ عِنْد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: «صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذا حَضَرَتِ الصَّلاة فَلْيُؤذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنً» فَنَظَرُوا فَلمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي؛ لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدِّمُونِي بَينَ أَيْدِيهِم، وَأَنا ابْنُ سِتِّ -أَوْ سَبْعِ- سِنِينَ، وَكَانَتْ عَليَّ بُرْدَةٌ، وَكُنْتُ إِذا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَرَوْا، فَقَطَعُوا لِي قَمِيْصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ القَمِيصِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَعند أَبي دَاوُدَ: وَأَنا ابْنُ سَبعِ سِنِينَ -أَو ثَمَانِ- سِنِينَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: وَأَنا ابْنُ ثَمَانِ سِنِين.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالبَيْهَقِيُّ -وَلَفظُهُ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ)
}.
هذا الحديثان في إمامة الصَّبي الذي لم يبلغ بعد لكنَّه مميِّز، هل يصح أن يكون إمامًا للبالغين أو لا يصح؟
ذهب بعضُ أهل العلم إلى صحَّة إمامته لهذا الحديث، وذهب آخرون إلى عدمِ صحَّة إمامته، قالوا: لأنَّه يُصلي نفلًا، لأنَّه لم يبلغ بعدُ ولم تجب عليه الصَّلاة، والمتنفِّلُ لا يصح أن يكون إمامًا للمفترض.
ولكن حديث الباب حديث ثابتٌ صحيحٌ، وإن كان بعضهم طعن فيه لأنَّه لم يكن بحضرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكن الغالب أنَّ ما كان مِن أحوالٍ في زمنِ النُّبوَّة أن يُنقل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم إنَّ إقرارَ الله لذلك لأناسٍ في زمن النُّبوَّة دليلٌ على جوازه، وإلا لنزلَ المنعُ منه.
قال المؤلف: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ سَلَمَةَ الـجَـرْمِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرِّ النَّاسِ)، يعني أنَّنا ننزل في موطنٍ يسمى (ماء) أو أنَّ فيه بئر يستقي منها النَّاس الماء، ويمرُّ النَّاس بهم.
قال: (وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ)، أي يمرُّ بقبيلته مَن يركبون على الإبل في سيرهم وقوافلهم، (فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا لِلنَّاس؟)، أي ما الذي حدث ؟ وما هي الأخبار.
(مَا هَذَا الرَّجُلُ؟)، يعني الذي دعا النَّاس إلى الله -عزَّ وجلَّ- وهم يريدون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فَيَقُولُونَ) يعني الركبان. (يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَرْسَلَهُ، أَوْ أَوْحى اللهَ بِكَذَ) فيأتون بلفظٍ قرآنيٍّ قد جاء به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، (وَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ) أي كان عمرو يحفظ ذلك الكلام، ويحفظ الآيات القرآنيَّة التي تُتلى عليه.
قال: (فَكَأَنَّمَا يُغَرَّى فِي صَدْرِي)، أي يُلصق بالغراء. وقال بعضهم (فكأنما يكرُّ)، أي يبقى في صدري.
(وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ)، أي تتأخَّر بإسلامها (الْفَتْحَ)، أي فتح مكة، أي: اتركوه وقومَه، انتظروا ما يكون شأنه مع قومه، فإن تبعه قومَه تبعناه، وإن لم يتْبعه قومه توقَّفنا فيه، (فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِم)، يعني على قومه. (فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ) لأنَّهم مِن أوائل مَن عاداه وقاتله، وفي هذا أنَّ النَّاس يستدلون بالأحوال الدنيويَّة على صحَّة الشَّيء، وهذا فيه نظر! لأنَّ الأولى أن يُنظَر إلى الدَّعوى مِن خلال النَّظر في دليلها، لا فيما يكون لها في الدنيا من آثارٍ، لكن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صحَّح إسلامَ أولئك الذين أسلموا بناء على ظهوره، ممَّا يدلُّ على أنَّ المقصود هو الدُّخول في الإسلامِ، وهذا دليلٌ لمذهبِ أهلِ السُّنَّة والجماعة في أنَّ أوَّلَ واجبٍ على المكلفين هو: الإقرارُ بشهادة التَّوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وليس كما يقول بعضهم: الشَّكُّ أو النَّظرُ أو قصدُ النَّظرِ، أو نحو ذلك، ولذا لما أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى قومه قال: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ»[10] وفي لفظ «فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»[11].
قال: (فَلَمَّا كَانَتْ وقْعَةَ الفَتْحِ)، يعني فتحَ مكة. (بَادرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ)، أي أرسلوا مندوبًا عنهم إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يشعرُه بإسلامِ هؤلاءِ القوم.
قال: (وَبدَرَ أَبي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ) أي ذهب للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مخبرًا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بإسلامهم. (فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللهِ مِنْ عِنْد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: «صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَ») أي أخبرهم بأوقات الصَّلوات، ممَّا يدلُّ على تأكيدِ طلب الصَّلوات، وأنَّها مقدَّمة بعدَ إقرارِ الإنسان بدينِ الله، وبشهادتي التَّوحيد. وفيه تعليم الصِّبيانِ أوقاتَ الصَّلوات المفروضة، وتعليمُ المسلم الجديد أوقات الصَّلوات والواجبات الأساسيَّة في الدِّينِ.
ثم قال: «فَإِذا حَضَرَتِ الصَّلاة فَلْيُؤذِّنْ أَحَدُكُمْ»، استُدلَّ بهذا على أنَّ الأذان مِن فروض الكفايات، لأنَّه أمر به في قوله: «فليؤذن» وهذا فعل مضارع مسبوق بلام الأمر.
قوله: «وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنً» أكثرُكم: فاعل «يؤمُّكم» وبالتَّالي هي مرفوعة، وفيه دلالة على قول مَن يقول بوجوب صلاة الجماعة، كأنَّه أمرهم بذلك، لأنَّه أمر بالإمامة، وفيه دلالةٌ على أنَّ كثرةَ حفظِ القرآن مقدَّمَة في اختيارِ الإمام، فإذا كان عندنا فقيهٌ وعندنا حافظٌ للقرآن؛ قدَّمنا حافظَ القرآنِ على الصَّحيح من قولي أهل العلم كما هو مذهب أحمد وجماعة، وأنَّه لا يُقدَّم عليه مَن كان عالمًا بالسنَّةِ أو بالفقهِ إذا كان صاحبه أكثر حفظًا للقرآن.
وفيه دلالة على أنَّ العبرةَ في التَّقديم بكثرةِ المحفوظِ لا بجمال الصَّوتِ، وحينئذٍ لو وُجد عندنا مقيمٌ ومسافر، مَن الذي يُصلي إمامًا؟
نقول: الأكثر قرآنًا، إما المسافر وإما المقيم.
قال: (فَنَظَرُو)، يعني أنهم بحثوا في الموجودين. (فَلمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي) كان أكثرهم حفظًا للقرآن. (لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ)، أي فأستمع إليه فأحفظه، قال: (فَقَدِّمُونِي بَينَ أَيْدِيهِم) أي إمامًا، وبهذا استَدلَّ الشَّافعيَّةُ ومَن نحا نحوهم على صحَّة إمامة الصَّبيِّ المميِّز، ومذهبهم أقوى مِن مذهب غيرهم في المسألة
قال: (وَكَانَتْ عَليَّ بُرْدَةٌ)، البردة: لباس يعم البدن، ولكنَّها كانت صغيرة على عمرو. قال: (وَكُنْتُ إِذا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ)، أي ترفَّعت عني بحيث تظهر بعض أجزاء بدنه السُّفلى.
قال: (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟)، أي دبره في أثناء الصَّلاة، وفيه دلالةٌ على أنَّ انكشاف العورة بدون قصدٍ لا يؤثِّر على صحَّةِ الصَّلاة. قال: (فَاشْتَرَوْ) أي اشتروا له قماشًا، (فَقَطَعُوا لِي قَمِيْصً) ليلبسه أثناء صلاته. (فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ القَمِيصِ)، لأنه قد ستر بدنه، ودفَّأه، وكان ثوبًا جديدًا.
قال المؤلِّف: (وَعند أَبي دَاوُدَ: وَأَنا ابْنُ سَبعِ سِنِينَ -أَو ثَمَانِ- سِنِينَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ: وَأَنا ابْنُ ثَمَانِ سِنِين).
ثم أورد المؤلِّفُ كلام ابن عباس: (يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ)، وهذا مستند الجمهور في عدم تقديم الصَّبِّي المميِّز في إمامة البالغين، والمذهبُ الأوَّلُ أقوى، لأنَّ هذا أثر موقوف على ابن عباس، وذاك واقعة في زمنِ النُّبوَّة، ومثلها لا يخفى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم إنَّ الشَّرع قد أقرَّ ذلك في زمنِ التَّشريع ولم يُنكر فيه.
{(وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ، سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُم سِلْمًا، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «سِنًّ» بَدَلَ: «سِلْمً» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
عَنْ أَبي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «يَؤُمُّ الْقَوْمَ» أي يتقدَّمهم، و"القومُ" في الأصل تُطلق على جماعةِ الرِّجالِ الذين ينتسبون إلى شيءٍ واحدٍ، إما إلى قبيلةٍ أو إلى موطنٍ، أو إلى مهنةٍ، واستُدلَّ بهذا على أنَّ الإمامة تكون في الرِّجال لا في النِّساء، ولذا قال: «أقرأهم لكتاب» فإنَّ الجماعة من شأنِ الرِّجال -على ما تقدَّم- فتكون الإمامة فيهم.
قوله: «أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ»، فيه دلالةٌ على أنَّ صاحبَ القراءة يُقدَّم على غيره في إمامة الصَّلاة حتى ولو كان غيره ممَّن يكون أكثر منه فقهًا ومعرفة بسنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف العلماء في لفظة «أقرأهم» هل المرا أجودهم وأحسنهم؟ أو المراد أكثرهم؟
ولعلَّ الثَّاني أظهر ما لم يكن لحَّانًا في قراءته.
قال: «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً»، أي تساووا في مِقدرا ما يحفظون «فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» أي أكثرهم علمًا بسنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: «فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ، سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً» أي انتقالًا من دارِ الكفرِ إلى دارِ الإسلام. «فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً»، أي هاجروا سويًّا أو لم يهاجروا جميعًا «فَأَقْدَمُهُم سِلْمً» أي دخولًا في دين الإسلام، فالذي تقدَّم في دخوله في الإسلام مقدَّمٌ. وفي رواية «أقدمهم سنًّ» أي أكبرهم في السِّن، فإذا تساووا في القراءةِ وفي السُّنَّةِ والهجرةِ والدُّخولِ في الإسلام نظرنا للأكبرِ في السِّنِّ، وعلى ذلك يُحملُ الحديثُ السَّابق «ليؤمكم أكثركم قرآنً» وقد جاءَ في حديثِ مالك بن الحويرث «وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَ»[12]، وذلك لأنَّهم تساووا في القراءةِ وفي السُّنَّةِ وفي الهجرةِ فعُمِلَ بالسِّنِّ.
قال: «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجلَ»، أي لا يتقدَّمه في الإمامة، وفيه دلالة على أنَّ الإمامة تكون في الرجال.
قال: «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجلَ فِي سُلْطَانِهِ» أي أنَّه مَن كان له سلطة وولاية فإنَّه يُقدَّم على غيرِه في إمامة الصَّلاة، وهذا يشمل الإمام الأعظم، فإنَّ له سلطانًا، وكذلك يشمل إمام المسجد فإنَّه مقدَّم على غيره في الإمامة في ذلك المسجد، وهكذا صاحب المنزل فإنَّه يُقدَّم على غيره في منزلِه في الإمامة. ومعنى التَّقدم: أنَّه أولى بالإمامة منه، لكن هل له الحق أن يأذن في أن يؤمَّ غيره في ذلك؟
هذا من مواطن الخلاف بين العلماء.
قوله: «وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»، المراد بالتَّكرمة: الفِراش، ويماثله الكراسي، وجميع ما يُهيَّأ للجلوس.
قال: «وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» يعني في بيت غيره. « عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»، لأنَّ في هذا استعمال لمالِ الغيرِ، ولا يجوز استعمال أموالِ الآخرين إلا بإذنهم.
والإذنُ قد يكون إذنٌ لفظيٌّ كما لو قال له: اجلس. وقد يكون إذن عرفي بأن يتعارف النَّاس على أن من فتح بابه فهو يأذن بالجلوس فس مجلسه، أو أن يكون الإذنُ لمأذونٍ له، كما لو أذنَ لشخصٍ بأن يستعمل بيته ولأضيافه، فحينئذٍ يقوم مقام صاحب البيت في ذلك، فهذا دليل على أنَّ الأصلَ في أموال الآخرين ألا يُنتفع منها إلا بإذن.
{(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لِيَلِنِي مِنْكُم أُوْلُوا الأَحْلَامِ والنُّهَى، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا، وَإِيَّاكُمْ وهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ» رَوَاهُ مُسلمٌ أَيْضً)}.
لعلَّنا نؤخِّرُ شرح هذا الحديث، ونبيِّن ما فيه مِن الأحكام في لقائنا الآتي بإذن الله -عزَّ وجلَّ- بارك الله فيكم أيُّها الحاضرون وأيُّها المشاهدون، وجعلكم الله موفَّقين في كلِّ أموركم.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
--------------------
[6] صحيح مسلم (1174)
[7] جاء عند البخاري من حديث أبي قتادة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ"
[8] صحيح البخاري (650).
[9] رواه البخاري (647) ومسلم (623)
[10] صحيح البخاري (6848).
[11] صحيح مسلم (19).
[12] صحيح البخاري (2848).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك