بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى أفضلِ الأنبياءِ
والمُرسلين، أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيُّها الإخوة الكرام ممَّن يُشاهد لقاءنا هذا، وأسأل الله-جَلَّ
وَعَلا- لي ولكم التَّوفيق لكل خير، اللهمَّ يا حَيُّ يَا قَيومُ أَغْنِهم بفضلك
عمَّن سواك، واكفهم بحلالك عَن حَرَامِك.
ونواصل في هذا اللقاء ما ابتدأنا به مِن قِرءاة كتاب المحرر للحافظ ابن عبد الهادي
-رحمه الله تعالى.
وَكُنَّا قد أخذنا حَديث الزُّبير بن العَوام في باب الْمَسْأَلَة، ولعلنا -إن شاء
الله- نبدأ من حديث سمُرة بن جندب في هذا الباب، ونستمع لقراءة الشيخ عبد الرحمن،
فليتفضَّل مَشكورًا.
{الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين،
نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولمشاهدين يا ربَّ العالمين.
(وَعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا
الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَاناً، أَو فِي أَمْرٍ
لَا بُدَّ مِنْهُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
هذا الحديث قد أخرجه الترمذي، وذكر المؤلف أنَّه صحَّحه، وقد تكلَّمَ فيه بعض أهل
العلم من جهةِ إسناده، وعلى كلٍّ فالمعنى الذي دَلَّ عليه الحديث مُؤَيَّدٌ
بأحاديثٍ أُخرى تَشهَد لَه.
وقوله: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ»، المراد بالمسألة: الطَّلَب من الآخرين أن يُعطوا مِن
أموالهم بدون أن يكون ذلك على جِهة المعاوضة والمقابلة والمُجازاة.
وقوله: «كَدٌّ»، قيل: إنَّه تعب، وتغيُّر في الوجه، وقيل: إنَّه جُرحٌ يُجرَح به.
قوله: «كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ»، أي: يُذهِبُ رونق الوجه وحُسنَه
بهذا السؤال.
قال: «إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَان»، أي: صاحب ولاية لديه بيت مال،
بحيث يطلب منه ما يكون متوافقًا مع المقاصد التي أُنشِئَ من أجله بيت المال.
قوله: «أَو فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ»، أي: لا يستطيع الاستغناء عن السؤال فيه.
وقد تقدَّم معنا أنَّ الحديث موطن خلاف بين أهل العلم من جهةِ تصحيحه.
{(وَعَنِ ابْنِ الفِرَاسِيِّ، أَنَّ الفِرَاسِيَّ قَالَ لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْأَلُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا، وَإِن ْكُنتَ سَائِلًا لَابُدَّ، فَسَلِ الصَّالِحِينَ». رَوَاهُ
أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ)}.
هذا الحديث حديثٌ لا يَثبت عَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ ابن الفراسي هذا
الذي ذكره المؤلف مجهول لا يُعلَم حاله، حيث لم يروِ عنه إلا مُسلم بن مخشي،
وَمُسلمٌ أيضًا مجهولٌ لا يُعلم حاله، فالحديث مُسَلسَل بالجهالةِ لوجودِ جهالة في
اثنين من رواته.
وقوله: «لَ»، أي: لا تَسأل.
قوله: «وَإِن ْكُنتَ سَائِلًا لَا بُدَّ»، أي: لم تستطع أن تكتفي عن السؤال.
قوله: «فَسَلِ الصَّالِحِينَ»، قيل المراد بالصَّالحين: مَن صلُحَت أحوالهم
الدُّنيويَّة، وبالتالي لا تُشقُّ عليهم فيما تطلبه.
وقيل: إنَّ المراد خيار النَّاس من أصحاب الصَّلاح والعمل الصَّالح.
ولا يمتنع أن يكونَ كلٌّ من المعنيين مراد بهذا اللفظ.
{(بَابُ صَدَقَةِ الْفَضْلِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا
ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ،
وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحابَّا فِي اللهِ،
اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ
مَنْصِبٍ وجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ
فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ، وَرَجُلٌ
ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}
قوله: (صَدَقَةِ الْفَضْلِ)، المراد بها: ما أدَّاه الإنسان على جِهَةِ الاستحباب
لا على جِهة الوجوب، ويقابلها: صدقة الزَّكاة، أو الصدقة الواجبة.
ولفظة "الصَّدقة" مرَّة تُطلَق على المُستحب، ومرَّة تُطلَق على الواجب كما في قوله
تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء﴾ [التوبة: 60].
ومرَّة يُطلق اسم "الزكاة" على الواجب، واسم "الصدقة" على التَّطوع كما في قوله
تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: 103]، فالصدقة هنا واجبة. وورد
في بعض النُّصوص تسميتها بالزَّكاة.
ثم روى المؤلف في هذا الباب حديث أبي هريرة (عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَبْعَةٌ»)، أي: سبعة أصناف.
قوله: «يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ»، المراد بالظِّلِّ هنا: ظل العرش، وإلا
فإنَّ الله نور-سبحانه وتعالى.
قال: «يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، أي: ظل أنشأه الله -سبحانه وتعالى.
وما يُضاف إلى الله على صنفين:
- معنى: فيكون صفة له.
- ذات: فلا يلزم أن يكون من الصِّفات، ولذا تقول: كعبة الله، وناقة الله؛ هذه ذوات،
ولا يلزم أن تكون صفة له -سبحانه وتعالى- ومن ذلك الظِّل.
وقوله: «إِمَامٌ عَادِلٌ»، المقصود: صاحب الولاية.
والمراد بالعادل: هو الذي يضع الأمور في مواضعها، ويُعطي أصحاب الحقوق حقوقهم، فهذا
من الأصناف التي تكون تحت الظِّل في هذا اليوم، وذلك أنَّ يوم القيامة تدنو الشمس
مِن العباد حتى تكون قريبة من رؤوسهم، فينزل منهم العرق الشَّديد، حتى إنَّ بعضهم
يُلجَم بعرقه، وبعضهم يصل إلى حقوه، وبعضهم إلى قدميه؛ على قدر أعمالهم في الدنيا.
وأمَّا هؤلاء الأصناف السَّبعة فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُظلهم بحيث لا تدنو منهم
الشمس.
والصِّنف الثاني: «وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ»، والمراد بالشَّابِّ: هو
صغير السِّنِّ، وذلك أنَّ صغير السِّنِّ في الغالب يكون عنده شهوة، وقد لا يتأمَّل
في عواقب الأمور، وبالتَّالي إذا كان الشَّاب قد نشأ في طاعة الله -عزَّ وجلَّ- كان
هذا من أسباب وقاية الله له من حَرِّ الشَّمسِ في ذلك اليوم، فكون هذا الشَّاب
استمرَّ على الطَّاعة وكان من أهلها؛ هذا دليل على أنَّه قدَّم محبوبَ اللهِ على
محبوبِ نفسهِ، وقدَّم أمرَ الله على رغبة نفسه.
وأمَّا الصنف الثالث الذين ذكروا في هذا الحديث: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ
بالمَسَاجِدِ»، أي: يُحبُّها، ويُحبُّ إتيانها، ولذلك منذ أن يُغادرها يعود إليها
مرَّة أخرى بأداء صلاة أخرى، أو عبادة أخرى في المساجد.
وتعلُّق القلب بالمساجد يكون بفعل أنواع الطَّاعات بها، مِن صلاةِ الجماعة إلى
الاعتكاف إلى دروس العلم، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة التي تؤدَّى في المساجد.
قال: «وَرَجُلانِ تَحابَّا فِي اللهِ»، أي: كلٌّ منهما أحبَّ الآخر، لا لدنياه ولا
لمجرَّدِ قرابةٍ أو سبب تواصل، وإنَّما أحبَّهُ؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُحبُّ
المتحابِّينَ فيه، ولذلك أحبَّ بعضهم بعضًا، ومن هنا فإنَّ المؤمن يتقرب إلى الله
-عزَّ وجلَّ- بأن يُحبَّ أهل الخير وأهل الصَّلاح من أمثالكم ومن أمثال المشاهدين
الكرام؛ فيتقرَّب الإنسان بمحبَّتهم جميعًا، يُريد ما عند الله.
وقوله: «وَرَجُلانِ»، ليس المراد هذا الوصف لذاته، وإنَّما هذا على جِهةِ
التَّمثيل، وقد تكون امرأة تُحبُّ امرأةً أخرى في الله -عزَّ وجلَّ.
وقد يكون من السَّببِ في هذا: ألا يكون هناك إشعار بوجود محبَّة قد تُفسَّر بتفسير
آخر بين رجلٍ وامرأةٍ.
وقوله: «اجْتَمَعَا عَلَيْهِ»، أي: أنَّهما تآلفا على هذه لمحبَّة.
قوله: «وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»، أي: تفرَّقا وهما يُحبُّ كلُّ واحد منهما الآخر،
فإنَّ الفُرقَة لابدَّ حاصلة، إمَّا بسفر، وإمَّا بانتقال، وإمَّا بانشغال، وإمَّا
بوفاة، أو بغير ذلك؛ فالفرقة لابدَّ أن تحصل بين الناس.
وأمَّا الصِّنف الآخر: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ»، أي:
دعته إلى فعل الأمر المحرم من الفاحشة، وطلبت منه ذلك، ومع كونها كانت ذات منصب
–أي: لها منزلة عالية- وذات جمال –أي: منظرها المنظر الجميل الحسن- إلا أنَّه لم
يَستَجِب لها، وذكرَ لها العِلَّة التي تَمْنَعُه مِنَ الاستجابةِ، أَلَا وَهِيَ
أنَّه يَخَاف الله.
وفي هذا فضيلة الخوف من الله -عزَّ وجلَّ- وقد قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:46]، وقال: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
[النازعات40-41].
ثم قال: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَ»، أي: لم يُظهرها للنَّاس،
ولم يعلم بها الآخرون، حتى إنَّه من إخفائها قد يُقال: «لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا
تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ».
وقوله: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِي»، الذِّكر قد يكون باللسان، وقد يكون
بالقلب بأن يتذكَّر عظمة الله وصفاته-سبحانه وتعالى- وعجيب صعنه في الخلق وتقليبه
لأحوال الناس.
قال: «ذَكَرَ اللهَ خَالِي»، أي: ليس عنده أحد حتى يُرَائِيه، أو يُظهِرَ لَه مِن
حَالِ نَفسهِ الصَّلاح وهو لم يكن كذلك.
قال: «فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»، فإنَّ خروج الدَّمع في هذه الحال دليلٌ على وُجُودِ
الخُشوعِ، وعلى مَخَافَةِ رَبِّ العِزَّة والجلال، وعلى تعلُّقِ القلب به -سبحانه
وتعالى.
فالحديث فيه فضيلة هذه الأعمال العظيمة، ومنها -وهو سبب إيراد المؤلف: صدقة
التَّطوع، وفيه دلالة على استحباب إخفاء صدقة التَّطوع، فالأولى إخفاء صدقة
التَّطوع إلا لمعنى خاص.
وأمَّا بالنِّسبة للزكاة الواجبة فالأولى إظهارها؛ لأنَّ الناس يشاهدون المال
الظَّاهر، وبالتَّالي حسُنَ إظهار إخراج زكاته، من أجل ألا يُلام، ومن أجل أن يكون
دافعًا لمظنَّة السُّوء به، ومن أجل أن يُقتدى به، ومن أجل ألا يُحسدَ فيما ءاتاه
الله -عزَّ وجلَّ- من المال.
{(وَعَنْ يزِيدِ بنِ أَبي حَبِـيْـبٍ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ
سَمِعَ عُقْبَةَ بنَ عَامِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ
بَينَ النَّاسِ -أَو قَالَ- حَتَّى يُحْكَمَ بَينَ النَّاسِ» قَالَ يزِيدٌ: وَكَانَ
أَبُو الْخَيْرِ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لَا يتَصَدَّقُ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَو
كَعْكَة ًأَو بَصَلَةً. رَوَاهُ الْحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ
مُسْلْمٍ وَلم يُخَرِّجَاهُ)}.
هذا الحديث فيه فضيلة صدقة التَّطوع:
- فصدقة التَّطوُّع يُكمل الله بها ما حصل من نقصٍ في الصَّدقةِ الواجبة، كما لو
راءى أو لو لم يؤدِّ أفضل مَاله، أو نحو ذلك.
- وهكذا فيها تَطهير النَّفس من أن يكون بها عُجب.
- وفيها ملاحظة حاجة المحتاجين.
- وفيها التَّذلل لله -عزَّ وجلَّ- ببذل شيء مِن مَحبوب النُّفوس، ألا وهو المال.
وصدقة التَّطوع مِن أعظمِ الأدلة على إيمان صاحبها، إذا قدَّم محبوب الله على محبوب
نفسه، فإنَّ محبَّة المال جبلَّة جُبِلَ الناس عليها، كما قال تعالى: ﴿وَآتَى
الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ﴾ [البقرة: 177]، وكما
قال: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:
92]، فإذا قدَّم الإنسان محبوب الله على محبوب نفسه دلَّ هذا على وجود الإيمان
والخير في نفسه.
قوله: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ»، أي: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُظلله في
يوم القيامة، حتى يُفصل بين النَّاس، فإنَّه في يوم الحشر يقف النَّاسُ في الموقف
وتدنو الشَّمس منهم، ويأتيهم العرق الشَّديد، وأمَّا أصحاب الأصناف السَّابقة ومنهم
صاحب الصَّدقة فإنَّه يُظلَّل في ذلك اليوم.
قوله: (قَالَ يزِيدٌ: وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ)، بعضهم فسَّر أبا الخير بأنه مرثد
اليزني.
قال: (كانَ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لَا يتَصَدَّقُ فِيهِ بِشَيْءٍ)، فيحرص على أن
يتصدَّق بشيء في كلِّ يومٍ من أيَّامه، وهذا بمثابة التَّطبيق العملي لما وردَ في
الحديث الشَّريف.
قال: (وَلَو كَعْكَة)، أي: ما يُصنع من الخبز ومن القمح ونحوه.
قوله: (أَو بَصَلَةً)، فيه أنَّ صدقة الإنسان ولو بالشيء القليل محسوبة له عند الله
-عزَّ وجلَّ- ولو كان ممَّا يتزَّهد فيه الناس، ولذا قال النبي -صلى الله عليه
وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»[64]، وقال -صلى الله عليه وسلم:
«أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ»[65]، يعني يعطي العنز
ساعة لِتُحلَب، ثم تُعاد، وقال: «لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ
فِرْسِنَ شَاةٍ»[66]، فهذا فيه الحث على الصَّدَقَةِ ولو كانت قليلة.
{(وَعَنْ أَبي خَالِدٍ -الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ فِي بَنِي دَالان- عَنْ نُبَيْحٍ،
عَنْ أَبي سَعيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلمٍ كَسَا مُسْلِمَاً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ،
كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمَاً
عَلَى جُوْعٍ، أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلمٍ سَقَى
مُسْلِماً عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد، ونُبَيْحٌ العَنَزيُّ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.
وأَبُو خَالِدٍ اسْمُهُ يَزِيدٌ وَقَدْ وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ،
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ: "لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ"، وَقَالَ الْحَاكِمُ
أَبُو أَحْمدَ: "لَا يُتَابَعُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ")}.
أبو خالد الدالاني هو أبو يزيد -كما ذكر المؤلف- وأكثر العلماء على أنَّه صدوق
الحديث، وبعضهم ضعَّفه، وذكر المؤلف أنَّ نُبَيْحًا قد وَثَّقَه أبو زرعة وابن
حبان.
وقد وَرَدَ الحديث مِن حديث عطية بن سعد، ولكن عطية ضعيف، فيتقوى الحديث بهذه
الرويات المتعدِّدة.
قال: «أَيُّمَا مُسْلمٍ كَسَا مُسْلِمَاً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللهُ مِنْ
خُضْرِ الْجَنَّةِ»، هذا فيه التَّرغيب في صدقة الثِّياب والملابس، خصوصًا عند وجود
الحاجات.
قال: «كَسَا مُسْلِمَاً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ»، أي: عندما لا يجد ثوبًا.
قوله: «كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ»، تلاحظ هنا أنَّ الجزاء من جنس
العمل، فلمَّا كسا في الدنيا محتاجًا؛ كساه الله يوم القيامة لمَّا احتاج.
وقوله: «خُضْرِ الْجَنَّةِ»، هي: أوراق الجنَّة التي تكون سابغةً ليِّنةَ الملمسِ.
قال: «وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمَاً عَلَى جُوْعٍ، أَطْعَمَهُ اللهُ
مِنْ ثِمارِ الْجَنَّةِ»، الجزاء من جنس العمل، أَطعَمَ فأُطعِم في يوم شديد
الظَّمأ شديد الجوع.
قال: «وَأَيُّمَا مُسْلمٍ سَقَى مُسْلِماً عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللهُ مِنَ
الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ»، الرحيق المختوم هذا شراب من شراب أهل الجنة، مختومٌ؛
لأنَّه لم يشربه أحد قبله، قد أُغلِقَ وخُتِمَ كأنَّه إنَّما فُتِحَ من أجلِ هذا.
والرَّحيق: المراد بها ما يُستخلَص من الأزهار من أنواع السِّقاء.
وقيل المراد به: الخمر الجيِّد، وهو مُباح لأهل الجنَّة كما في دلالة النُّصوص.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي
رَمَضَانَ، حِيْـنَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلٌ -عليه السلام- يَلْقَاهُ
فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ, حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي -صلى الله عليه
وسلم- القرآن، فإذا لقيه جبريل -عليه السلام-كانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ
الرِّيحِ الـمُرْسَلَةِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا الحديث فيه فضيلة العطاء، وصدقة التَّطوع على النَّاس كما هُو فِعلُ النَّبي
-صلى الله عليه وسلم- الذي أمرنا بالاقتداء به، وقد جعل الله مِن سنَّته في الكون
أنَّ أصحاب الصَّدقات يُضاعف لهم الثَّواب في الآخرة كما في قوله: ﴿مَّثَلُ
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]، وهكذا مِن
سنة الله في الكون أن يُخلف على المنفقين، كما قال تعالى: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
[البقرة: 276].
قال: (وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ)، فيه فضيلة زيادة العطاء في شهر
رمضان، فهو شهر منَّة الله -عزَّ وجلَّ، وشهر مضاعفة الأجور.
قال: (حِيْـنَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ)، فإنَّ جبريل كان ينزل على النَّبي -صلى الله
عليه وسلم.
قال: (وَكَانَ جِبْرِيلٌ -عليه السلام- يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ
رَمَضَانَ، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن)، في هذا فضيلة
مُدَارَسَةِ القُرآن في شهر رمضان.
وفيه أيضًا فضيلة ترتيب قراءة القرآن ومدارسته، فترتيب المدارسة في كل ليلة على
مقدارٍ مُعيَّن هذا من الأمور المستحبَّة.
واستُدلَّ بهذا الحديث على استحباب ختم القرآن في كلِّ شهرٍ مَرةٍ، وأن يكون ذلك
أقل ما يكون خصوصًا في جلسات المدارسة؛ لأنَّه كان يُعرض عليه القرآن في كل رمضان
مَرة، فلمَّا جاءت السَّنة الأخيرة التي تُوفِّيَ فيها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عَرَضَهُ مَرَّتين.
قال: (فَلَرسول الله أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الـمُرْسَلَةِ)، الرِّيحُ
شَديدة وتأتي بالسَّحاب الكثير، ومع ذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود
منها.
{(وَعَنْ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ
السُّفْلَى، وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنَىً،
وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ» رَوَاهُ
البُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَى مُسلمٌ أَكْثَرَهُ)}.
اليد العليا: هي المُنفِقَة، وهي أفضل مِنَ اليدِ السُّفلى -وهي الآخذة- وفيه فضيلة
صدقة التَّطوع.
قوله: «وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»، أي: مَن يجب عليك إعالتهم والقيام على نفقتهم،
ومن ذلك: الزوجة، والأبناء، والقرابة.
واستدلَّ بقوله: «وابْدَ» على وُجُوبِ النَّفَقَةِ على الزَّوجة والأقارب.
قوله: «وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنَىً»، أي: ما كان زائدًا عن حَاجة
الإنسان، أمَّا ما احتاج إليه الإنسان فإنَّه يبدأ بنفسه قبل غيره، وهذا هو
المُستَحسَن.
قال: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ»، أي: مَن يَنْأى بِنَفسِه عَن أخذ
أموال الآخرين فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُغنيه عَن أموالهم، فإنَّ الجزاء من جنس
العمل.
قال: «وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ»، أي: يكتفي بما آتاه الله -عزَّ وجلَّ-
فمن لم يطلب أموال الآخرين يُغنِهِ الله، أي: يجعل الله ما لديه من المال كافيًا
لحوائجه لا يحتاج معها إلى غيره.
{(وَعَنْ أَبي الزُّبَـيْـرِ، عَنْ يَحْيَى بنِ جَعْدَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جُهْدُ الْمُقِلِّ، وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» رَوَاهُ
أَحْمدُ-وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ"، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ يَحْيَى لمْ يَرْوِ لَهُ مُسلمٌ، وَلَكِنْ
وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيرُهُ)}.
قوله هنا: (قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟)، أي: أيُّها أكثر أجرًا؟
فقَالَ: «جُهْدُ الْمُقِلِّ»، أي: ما كان على سعته، وعلى ما يُطيقه ويحتمله حالَ
قلَّة ماله، بحيث لا يُقصِّر في نفقته على نفسه وعلى مَن يعول.
قال: «وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»، أي: لتكن بدايتك في الصَّدقة على مَن أوجبَ الله
-عزَّ وجلَّ- عليك إعالتهم والقيام بنفقتهم.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُو» فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ
عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ»، قَالَ عِنْدِي آخَرُ؟
قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ:
«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ
عَلَى خَادِمِكَ»، قَالَ عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ». رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ)}.
هذا الحديث حسن الإسناد؛ لأنَّه من رواية ابن عجلان وهو صدوق.
قوله: (قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُو»)،
المراد بهذا: صدقة التَّطوع.
قوله: (فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي دِينَارٌ؟)، أي: أريد أن أتصدَّق
به، والدينار يُصنع من الذَّهب، ووزنه أربعة جرام ونصف تقريبًا.
فقال -صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ»، فيه دلالة على أنَّ
أوَّل مَن يجب على الإنسان أن يُنفق عليهم أن يُنفق على نفسه، فهو مُقدَّم على
زوجه، وعلى ولده، وعلى والديه، وعلى قرابته.
قوله: (قَالَ عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ»)، فيه تسمية
النَّفقة على الزَّوجة "صدقة" والمراد بها صدقة التَّطوع.
وبعضهم قال: هذا دليل على جواز دفعِ الزَّكاة للزوجه، وعارضوه بالأحاديث الأخرى.
والصواب: أنَّ هذا الحديث إنَّما هو في النَّفقات وصدقات التَّطوع لا في الواجبات.
وفي هذا دلالة على أنَّ الزَّوجة تُقدَّم في النَّفقة على الأولاد، ولم يُفرَّق في
هذا بين الزوجة الغنيَّة والزوجة الفقيرة، فإنَّ النَّفقة واجبة على الزَّوج لهما
جميعًا.
قوله: (قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ»)، الولد:
يشمل الأبناء والبنات، وفي هذا أنَّ صدقة الأولاد بعد صدقة الزَّوجة، وأنَّ صدقة
الأولاد مُقدَّمة على نفقة الوالدين والأقارب.
وقد استدلَّ بعضهم بهذا الحديث على عدم وجوب نفقة الأقارب من غير الزوجة والأولاد،
ولكن قد جاءت نصوص أخرى تدلُّ على وجوب النَّفقة على الأقارب، وحينئذٍ يُقيَّد
مفهوم هذا الخبر بمنطوق تلك الأخبار.
قَالَ: (عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ»)، أي: مَن يقوم
بخدمتك، وكانوا في السَّابق مَن يقوم بالخدمة هم المماليك الذين لا يُعطون راتبًا،
والصَّدَقة عليه تكون بالنَّفقة عليه في مأكله ومشربه وملبسه، وفيما يحتاج إليه من
أنواع النَّفقات.
قَالَ: (عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ»)، أي: ضعه حيث شئتَ وحيث
ترى.
وبعضهم قال: المراد به أن يتتبَّع أشدَّ المواطن حاجة فيُنفق فيه ما زاد من ماله.
{(وَعَنْ هِشَامِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
سَمِعْتُ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ
مَالاً عِنْدِي فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ- إِنْ سَبَقْتُهُ
يَوْماً- فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟» قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو
بِكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ
وَرَسُولَهُ، فَقُلْتُ: لَا أُسابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدَاً. رَوَاهُ عبدُ بنُ
حُميدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ
-وَقَالَ: "حَدِيثٌ صَحِيحٌ", وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ لأَجْلِ
هِشَامٍ فَإِنَّ مُسْلِمَاً رَوَى لَهُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: "هِشَامُ بنُ سَعْدٍ
مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِي زيدِ بنِ أَسْلَمَ")}.
هشام بن سعد صدوق، ولذلك فإنَّ حديثه من قبيل الحسن.
زيد بن أسلم من علماء التَّابعين، وأبوه أسلم مولى عمر، وكان يرافقه ويقوم بحوائج
عمر.
قال: (سَمِعْتُ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: أَمَرَنَا
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَتَصَدَّقَ)، قد يُراد بهذه
الصَّدقة صدقة التَّطوع، وهو الظَّاهر؛ لأنَّه أتى لهم بكلِّ ماله، والآخر أتى
بنصفِ ماله، والزَّكاة لا تجب بهذا المقدار.
والأمر بالصَّدقة هنا يكون أمرَ استحباب؛ لأنَّه قد استقرَّ استحباب صدقة التَّطوع.
وقد يكون المراد به: الزكاة الواجبة، لأنَّها هي التي يؤمر بها.
قال عمر: (فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي)، أي: كنت في ذلك الوقت قد اكتسبتُ
مالًا.
قوله: (فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ)، ظنَّ أنَّ السَّبق والأفضليَّة
بمقدار المال، فبيَّن الحديث أنَّ الأفضلية بنسبة ذلك المال إلى مالك لها بكميَّة
المال، ولذا قال في الحديث السابق لما سئل عن أفضل الصدقة: «جُهْدُ الْمُقِلِّ»،
فهو لم يُعطِ شيئًا كثيرًا إلا أنَّه لمَّا سمحت نفسه بذلك المقدار وتلك النِّسبة
مع حاجته إليها كان ذلك أفضل الصدقة.
قال عمر: (فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمً)، في
هذا دلالة على فضيلة أبي بكر وعمر، وأنَّ أبا بكر أفضل من عمر، وأنَّ أبا بكر كان
يُسابق في الخيرات، لهذا ينبغي للمؤمن أن يُسابق إلى الخيرات خُصوصًا في الصَّدقات
وفي العَطَاءِ.
قال عمر: (فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟»)، فيه سؤال الإمام وقابض الصَّدقات أفرادَ
النَّاس عن أحوالهم، حتى أحوالهم الماليَّة، ليوجِّهَهم، أو ليتَّخذ معهم مَا يَراه
مِن أُمور تُصلح أحوالهم.
قوله: (قُلْتُ: مِثْلَهُ)، وفي بقيَّة الأحاديث أنَّه دعا له -صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: (وَأَتَى أَبُو بِكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ)، أي: بجميع المال الذي عنده،
فعند أبي بكر مِنَ اليقينِ والثِّقة بالله، والعلم من أنَّه سَيُعَوِّضه ما جعل
النَبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل منه، وما جعل نفسه تسمح بأن يتصدَّق بكل ماله.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَا أَبْقَيْتَ
لأَهْلِكَ؟»، أي: ما مقدار المال الذي بقيَ عندك لتستطيع النَّفقة به على أهلك؟
والأهل تشمل: الزوجة، وتشمل أهل البيت.
قَالَ: (أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ)، فلمَّا علمَ أنَّ الله هو
الرَّزَّاق أنفق كلَّ ماله.
وقوله هنا: (وَرَسُولَهُ)، أكثر العلماء قالوا: إنَّما قال هذا لأنَّه في زمن
النُّبوَّة؛ لأنَّه لو احتاج عاد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فَقُلْتُ)، يقول عمر: (لَا أُسابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدً)، أي: أقررت
بأنَّك ستسبقني في كلِّ شيء، وفي هذا فضيلة المسابقة في الخيرات -كما تقدَّم.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيتهَا، غَيرَ
مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوجِها أَجْرُهُ بِمَا
كَسَبَ، ولِلخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَـنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ
شَيْئً» وَفي رِوَايَةٍ: «مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله: «إِذا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيتهَ»، فيه دلالة على أنَّ
المرأة يجوز لها أن تُنفق من مالها حتى ولو لم تُخبر زوجها، وورد عن الإمام مالك
أنه يقول: إذا أرادت أن تتصدَّق بأكثر من الثُّلث لابدَّ أن تُخبر الزَّوج، وهذا
الإخبار من أجل أن يوجِّهها على ما ينفعها وما يعود عليها بالنَّفع.
والأظهر أنَّه لا يريد أنَّها تستأذن، وإنَّما تُخبره، وإن قال بعض المالكيَّة:
إنَّها لابدَّ أن تستأذن.
والجمهور على أنَّ المال مالها، وبالتَّالي تتصرَّف فيه بما تريد ولا تحتاج إلى
إخبار الزوج ولا إلى استئذانه.
قوله: «مِنْ طَعَامِ بَيتهَ»، قيَّد الشيء بالطَّعام، فإنَّ الطَّعام إذا تُركَ
يفسد، وبالتَّالي تتصدَّق به حتى ولو لم تستأذن فيه؛ لأنَّه سيفسد هذا الطعام.
قال: «غَيرَ مُفْسِدَةٍ»، أي: جاعلة لهذا الطعام يفسد، أو سادَّة ومانعة لأهل البيت
من أن يطعموا طعامه.
قوله: «كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ»، لكونها تصدَّقت.
قوله: «وَلِزَوجِها أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ»، لأنَّه هو الذي كسب ذلك المال.
قوله: «ولِلخَازِنِ» أي: مَن يتولى خزنَ المال في البيت.
قوله: «مِثْلُ ذَلِكَ»، أي من الأجر.
قوله: «لَا يَـنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئً»، استدلَّ به بعضهم على
أنَّها تنفق من مال زوجها ولو لم يعلم، ولكن إذا كان من مال الزَّوج وجرت العادة
بأن يُتسامح في الصَّدقة فيه فلا حرج عليها أن تتصدَّق ولو لم تستأذن، ولكن لو لم
تجرِ العَادة بالتَّسامح فيه فإنَّها لا تتصدَّق به حتى تُخبرَ زوجها.
{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ رَسُولَ
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَضْحَىً -أَو فِطْرٍ- إِلَى
الْمُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ،
فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُو» فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: «يَا
مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ
النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ
اللَّعْنَ وتَكْفُرْنَ العَشِيْرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ
أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِم ِمِنْ إحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ»
ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عبدِ
اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فَقيل: يَا
رَسُولَ اللهِ هَذِه زَيْنَبُ؟ فَقَالَ: «أَيُّ الزَّيانِبِ؟» فَقِيْلَ: امْرَأَةُ
ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «نَعَمْ، ائْذَنُوا لَهَ» فأُذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا
نَبِيَّ اللهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ
لي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ
أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ
تَصَدَّقتِ بِهِ عَلَيْهِم». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ) وهو سعد بن مالك بن سنان، وهو صحابي جليل.
قوله: (قَالَ: خَرَجَ رَسُولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
أَضْحَىً)، أي: في يوم عيد الأضحى.
قوله: (أَو فِطْرٍ)، أي: في يوم عيد الفطر.
قوله: (إِلَى الْمُصَلَّى)، فيه دلالة على أنَّ صلاة العيد تُقام في المصلَّى خارج
البلد.
قال: (ثُمَّ انْصَرَفَ)، أي: بعد أن أدَّى الصَّلاة.
قوله: (فَوَعَظَ النَّاسَ)، فيه دلالة على أنَّ صلاة العيد تُقدَّم على الخطبة،
فيبدأ بالصلاة قبل الخطبة في يوم العيد.
قال: (وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ)، فيه الأمر بالصَّدقة في خطبة العيد.
فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ»، فيه مُخاطبة المؤمنين بلفظِ "النَّاس".
قوله: «تَصَدَّقُو»، فعل أمر يَشمل الواجب في الزَّكاة، ويشمل التَّطوع، وفيه
دلالة على أنَّ اللفظ الواحد قد يشتمل على معنيين، أحدهما واجب والآخر مُستحب.
ولذا قال -جلَّ وعَلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾
[النحل:90]، فمن الإحسان ما هو مُستحبٌ ومنه ما هو واجبٌ.
قال: (فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ)، يعني: بعد أن فرغَ من خطبة الرِّجال، وبعض
العلماء قال: إنَّ هذا دليلٌ على أنَّ العيدَ ليس له إِلَّا خطبة واحدة.
والجماهير على أنَّه لابد من خطبتين، وهو المأثور من عهد النُّبوَّة وعهد الصَّحابة
إلى زماننا، وهو أن يخطبوا للعيد بخطبتين.
وبعضهم قال: خطبة النِّساء هي الخطبة الثانية.
وقوله: (فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ)؛ لأنَّ النساء كنَّ ينعزلنَ عن الرجال في
المصلَّى، وفيه دلالة على أنَّ ممَّا تُرغِّبُ فيه الشَّريعة عزل النِّساء عن
الرَّجُلِ خصوصًا في المجتمعات العَامَّة، وأنَّ الاختلاط ليس من شأن الإسلام؛ بل
هو مُنافٍ لِما جاءت به الشَّريعة، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ
صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ
آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَ»[67]، ممَّا يَدُلُّ على أنَّ الصفوف مُنفصلة
وَمُنعَزِلٌ بَعضُها عَن بَعضِها الآخر.
فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ»، فيه الأمر بالصَّدقة.
قال: «فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ»، أي: رأيتُ النِّساء أكثر
مَن يَسكن في نار جهنَّم.
قوله: (فَقُلْنَ: وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)، فيه السؤال عن سبب دخول
النَّار من أجل أن يُتفَادَى.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ»، أي: يلعن بعضكم بعضًا، فهذا
فيه تحريم اللعن، وأنَّه من أسباب دخول النَّار.
قال: «وتَكْفُرْنَ العَشِيْرَ»، المراد بالكفر: جحد النِّعمَة. والعشير: الزَّوج.
وقد فُسِّرَ ذَلكَ في بعض الروايات بأنَّه «لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ
الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا
قَطُّ».
ثم قال -صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ»[68]،
وقد فُسِّر نقص العقل: بكثرة النِّسيان عند النساء.
ونقصان الدين: بكونها لا تؤدِّي الصَّلوات في جميع أيَّامها.
قوله: «أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِم ِمِنْ إحْدَاكُنَّ»، فإنَّ المرأة إذا
خاطبت الرَّجل مال معها الرَّجل مهما كان عنده من العقل، يتفادى ما قد يحصل بعد
ذلك.
قوله: (ثُمَّ انْصَرَفَ)، أي: ترك مُصلَّى العيد وذهب إلى بيته، وفيه دلالة على
أنَّ صلاة العيد لا يوجد لها سُنَّة بعديَّة.
قوله: (فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عبدِ اللهِ بنِ
مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ)، فيه أنَّ الدُّخول في
البيوت لابدَّ له من الاستئذان.
قوله: (فَقيل: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِه زَيْنَبُ)، أي: هذه المرأة التي تَستأذن
مِنك في الدُّخول هي: زينب.
فَقَالَ: «أَيُّ الزَّيانِبِ؟»، فيه سؤال الرَّجل عمَّن يُقابله؛ ليتحقَّقَ مِن
شَخصِه، وأنَّ هذا ليس ممَّا يُنقص المسؤول عنه ولا السَّائل.
قوله: (فَقِيْلَ: امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «نَعَمْ، ائْذَنُوا لَهَ»
فأُذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ)، فيه سؤال المرأة للمفتي، واستفصالها
عن الأحكام الشَّرعيَّة منه.
فَقَالَتْ: (يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ
عِنْدِي حُلِيٌّ لي)، الحلي: هو الذَّهب الملبوس، وفيه السؤال عن تطبيقات الأحكام
الشرعية.
قالت: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ)؛ لِأَمرِ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-
بالصَّدقة.
قالت: (فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ
عَلَيْهِمْ)، وذلك لقرابتهم، والمراد -كما تقدَّم: صدقة التَّطوع.
وبعضهم حمله على زكاة الفريضة، وأجاز للمرأة أن تؤدِّي زكاتها لزوجها متى ما كان
فقيرًا.
والجمهور: على أنَّها متى فعلت ذلك أدَّت نفعًا لنفسها، والأصل في الزَّكاة ألا
يعود الإنسان على نفسه بالنَّفعِ بزكاة ماله.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ»،
يعني: صَدَقَ فِي قَولِه أنَّه وولده أحق بصدقة التَّطوع من غيرهما. «زَوجُكِ
وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقتِ بِهِ عَلَيْهِم» رواه البخاري.
وفي هذا الحديث:
- مَا يَدل عَلى مَقصدٍ مِن مَقَاصِدِ الشَّريعةِ مِن تَرَابُطِ الأسرة، ومن كونهم
يدًا واحدة.
- سؤال الإنسان عمَّا يُشكِلُ عليه من أمور دينه.
بارك الله فيك، وبارك الله فيمَن رتَّبَ هذا اللقاء من إخواننا الكرام، كما أسأله
أن يُبارك في إخواني المستمعين الكرام.
أعظم اللهُ أجوركم، وأكثر اللهُ ثوابكم، ورزقكم اللهُ عِلمًا نافعًا تُصلحون به
حياتكم، وتطيعون به ربَّكم -جلَّ وعَلا- وترتفع به درجاتكم في جنَّات الخُلدِ، كما
أسأله -جَلَّ وَعَلا- أن يُصلِحَ أحوال المسلمين، وأن يجمع كلمتهم، وأن يؤلِّفَ ذات
بينهم، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّقَ ولاة أمور المسلمين لكلِّ خيرٍ، وأن
يجعلهم من أسباب الهدى والتُّقى والصَّلاح.
وهذا آخر حديث في كتاب الزَّكاة، وإن شاء الله في لقائنا القادم نبتدئ بكتاب
الصِّيام.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا
كثيرًا إلى يوم الدين.