الدرس التاسع عشر

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7130 24
الدرس التاسع عشر

المحرر في الحديث (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، نَحمده -جلَّ وعَلا- ونَشكرُه ونُثني عليه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد، فأرحبُ بكم أيُّها المشاهدون الكرام في لقاءٍ مُتجدِّدٍ مِن لقاءاتنا في قِراءة كِتابِ المُحرَّر للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
وأسأل الله -جَلَّ وعَلا- أن ينفعنا وإيَّاكم، وأن يَرزقنا عِلمًا نافعًا، وَعَمَلًا صَالحًا، ونيَّةً خالصةً، كما أسأله -جلَّ وعَلا- لكم أن تكونوا مِن حَفَظَةِ كتابِه، العَالِمينَ بسنَّة نبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم.. وبعدُ.
فكنَّا قد أخذنا ثلاثةَ أحاديث مِن باب قَسْمِ الصَّدقات، ولعلنا -إن شاء الله- أن نُكمل وأن نواصل الحديث في ذلك، ونشرُف بقراءة فضيلة الشيخ، فليتفضَّل مشكورًا.
{الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمشاهدين يا رب العالمين.
قال المؤلف -رحمه الله: (وَعَنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ بنِ رَبيعَةَ بنِ الْحَارِثِ قَالَ: اجْتَمَعَ رَبيعَةُ بنُ الْحَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بنُ عبدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا: وَاللهِ لَو بَعَثْنَا هَذَيْنِ الغُلامَينِ -قَالَا لي، وللفَضْلِ بنِ عَبَّاسٍ- إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَلَّمَاهُ، فَأَمَّرَهُما عَلَى هَذِه الصَّدَقَاتِ فَأَدَّيا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ وأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُما فِي ذَلِكَ جَاءَ عَليُّ بنُ أَبي طَالبٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَفْعَلَا، فوَاللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ، فانْتَحَاهُ رَبيعَةُ بنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلَّا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا، فوَاللَّهِ لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرْسِلُوهُمَا، فَانْطَلقَا واضْطَجَعَ قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبَقْناَهُ إِلَى الْحُجْرَةِ، فَقُمْنَا عِنْدَهَا، حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بآذَانِنَا، ثُمَّ قَالَ: «أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ»، ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَ: فَتَواكَلْنَا الْكَلَامَ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ، وأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ، وَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّي إِلَيْكَ مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ، قَالَ: فَسَكَتَ طَويلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ، قَالَ: وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ إِلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجابِ: أَنْ لَا تُكَلِّمَاهُ،قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاس ادْعُوا لِي مَحْمِيَةَ -وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ- وَنَوْفَلَ بنَ الْحَارِثِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ»، قَالَ فَجَاءَاهُ، فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: «أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ»، -لِلفَضْلِ بنِ عَبَّاسٍ- فأَنْكَحَهُ، وَقَالَ لِنَوفَل بنِ الْحَارِثِ: «أَنْكِحْ هذا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ» -ليَ- فأَنْكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: «أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُس كَذَا وَكَذَ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلم يُسَمِّهِ لي. وَفِي طَرِيقٍ آخَرَى: فَألْقَى عَليَّ رِدَاءَهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَنا أَبُو حَسَنٍ القَرْمُ، وَالله لَا أَرِيمُ مَكَاني حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْكُمَا ابْنَاكُما بِحَوْرِ مَا بَعَثْتُما بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ فِي الحَدِيثِ: ثُمَّ قَالَ لَنَا: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لآلِ مُحَمَّدٍ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث فيه عَددٌ مِن الفوائد الفقهيَّة:
أوَّل هذه الفوائد: أنَّه مِن رواية عبد المطَّلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
الحارث: هو عمُّ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
وقد استدلَّ بعضُ أهلِ العلمِ بهذا الحديث على جوازِ التَّسمية بــ "عبد المطلب" لا لمسمَّى جدِّ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه كان على الجاهليَّة، وإنَّما لكون النِّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ عبد المطلب على هذا الاسم، ولم يأمره بتغييره.
ورأى آخرون عدم جواز التَّسمية بـ "عبد المطلب"، وأنَّ المراد هنا ليست العبوديَّة المطلَقة، وإنَّما المراد هنا العبوديَّة التي تقوم مقام الخدمةِ ونحوها، والخلاف مشهور بينَ أهلِ العلم في هذا، والأولى بالإنسان ترك التَّسمية بهذا الاسم، من أجلِ ترك الخلاف الوارد في هذا والاحتياط في هذا الباب.
وقوله: (اجْتَمَعَ رَبيعَةُ بنُ الْحَارِثِ)، هو: والد "عبد المطلب" السَّابق، وهو ابن عم النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
قال: (وَالْعَبَّاسُ بنُ عبدِ الْمُطَّلِبِ)، وهذا عَمُّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عَمُّ ربيعة أيضًا، وكان ربيعة كبيرًا في السِّنِّ.
قوله: (فَقَالَا: ..)، يعني: ربيعة والعباس.
قوله: (وَاللهِ لَو بَعَثْنَا هَذَيْنِ الغُلامَينِ) يقصدان "عبد المطلب" و "الفضل بن عباس" وقد بلغا سنَّ النِّكاح.
قوله: (إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَلَّمَاهُ)، أي: طلبا منه أن يقوم بوضعهما على الصَّدقات.
قوله: (فَأَمَّرَهُما عَلَى هَذِه الصَّدَقَاتِ)، أي: جعلهما أميرين على بَعثينِ مِن بُعوثِ الصَّدقاتِ التي تجمَع الصَّدقات من النَّاسِ.
قوله: (فَأَدَّيا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ)، أي: قاما بجبايةِ الزَّكاة، ثم قدَّماها للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كما يفعل الآخرون.
قوله: (وأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ)؛ لأنَّ العَاملين على الزَّكاة يستحقُّونَ شيئًا منها بقدرِ عِمالَتهم فيها.
قال: (فَبَيْنَمَا هُما فِي ذَلِكَ)، يعني: ربيعة والعباس كانا يتحدَّثان في ذلك، وفي ذلك الوقت جَاءَ عَليُّ بنُ أَبي طَالبٍ وهو ابنُ عمِّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عم ربيعة وابن أخي العباس بن عبد المطلب.
قوله: (فَوَقَفَ عَلَيْهِمَ)، أي: على ربيعة والعباس.
قوله: (فَذَكَرا لَهُ ذَلِكَ)، أي: ما همَّا به من بعثِ ابنيهما للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِن أجلِ أن يُعطيهما عِمالة الزَّكاة.
قوله: (فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَفْعَلَ)، أي: لا تُرسلا ربيعة والفضل إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِن أجلِ أن يطلبا منه العمل في عِمالة الزكاة.
قوله: (فوَاللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ)؛ لأنَّه علمَ أنَّ هناك حُكمًا شَرعيًّا يمنع مِن هذا الفعل، وأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لن يُخالِفَ الحُكمَ الشَّرعيَّ الواردَ في هذه المسألة.
قوله: (فانْتَحَاهُ رَبيعَةُ بنُ الْحَارِثِ)، أي: قصده بالكلام وتوجَّه إليه رافعًا صوته معترضًا على مقترحِ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه.
قوله: (فَقَالَ: وَاللهِ مَا تَصْنَعُ هَذَ)، أي: قال ربيعة لعليّ -رضي الله عنه- ما تقترح علينا هذا الاقتراح إلا مِن أجلِ أنَّك أردتَّ ألا يكونَ لنا شيءٌ ممَّا يُعطيه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إِلَّا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَ)، أي: أردتَّ أن تنافسنا في بعضِ المزايَا التي تُقدَّم لنا مِن عند النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
قال ربيعة لعلي: (فوَاللَّهِ لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ لأنَّ عليًّا تزوج فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنها.
قوله: (فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ)، أي: لم يكن في صدورنا شيءٌ مِن التَّنافس معك، أو محاولة التَّقليلِ من مكانتِكَ.
قوله: (فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرْسِلُوهُمَ)، أي: إذا لم تطيعاني في ذلك فابعثوا بهما إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من أجلِ أن تتحقَّقا صِدقَ المقالة التي قلتها لكما.
قوله: (فَانْطَلقَ)، يعني: ربيعة وعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن عباس.
قوله: (واضْطَجَعَ)، يعني: علي بن أبي طالب -رضي الله عنه.
وفي الرِّواية الأخرى: (فَألْقَى عَليَّ رِدَاءَهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهِ)، والرِّداء: هو لباس أعلى البدن، فوضعه على الأرضِ واضطَجَعَ عليه.
قوله: (وَقَالَ: أَنا أَبُو حَسَنٍ القَرْمُ)، القَرْم: هو الرَّجلُ المُقدَّمُ من جماعته ممَّن يكون له الرَّأي والشَّجاعة.
قوله: (وَالله لَا أَرِيمُ مَكَاني)، أي: لا أتجاوز هذا المكان ولا أنتقل عنه.
قوله: (حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْكُمَا ابْنَاكُم)، أي: يعودان من عند النبي -صلى الله عليه وسلم.
قوله: (بِحَوْرِ مَا بَعَثْتُما بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: يرجعان خائبي اليدين، ليس في أيدهما شيءٌ ممَّا طلباه.
قَالَ: (فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكانت صلاة الظُّهر في المسجد بالناس، وهذا هو شأن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في المحافظة على صلاة الجماعة إمامًا.
قال عبد المطلب: (سَبَقْناَهُ إِلَى الْحُجْرَةِ)، أي: حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت حُجَر النبي -صلى الله عليه وسلم- على المسجد، ويبدو أنَّ كلَّ زوجة في حجرة، وأنَّهما عرفا الحُجرة التي سيأوي إليها من كونها مجفاة الباب، أو من كونه قد خرج منها، أو نحو ذلك. وفيه: محافظة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- على العدلِ بين زوجاتِه.
قال: (فَقُمْنَا عِنْدَهَ)، أي: وقفنا ننتظر النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مِن أجلِ أن نخبره بحاجتنا.
قوله: (حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بآذَانِنَ)، أنَّه بمثابة أبيهم، فهو ابن عمِّهم، وأكبر سِنًّا منهم، وكانوا يأخذون منه، فهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قائد الأمَّة، وهو مَن يوجِّههما. قوله: (ثُمَّ قَالَ: «أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ»)، أي: أخبراني بما تضمران في صدوركما.
والصُّرَّة: هي قطعة القماش التي يوضع فيها شيء من النُّقود وغيره، ثم تُوكَأ وتُربَط.
قوله: (ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنا عَلَيْهِ)، أي: دخلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حجرتِهِ.
قوله: (وَهُوَ يَوْمئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ)، وزينب بنت جحش ابنةُ عَمِّ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهي قريبة لهما.
قَالَ: (فَتَواكَلْنَا الْكَلَامَ)، أي: كل واحد منَّا ظنَّ أنَّ صاحبَه سيكفيه الكلام، ولذلك سكتنا ولم نُبادر بالكلام.
قوله: (ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَ)، والظَّاهر أنَّ الذي تكلَّم هو الفضلُ بن عباس؛ لأنَّه لو كان المتكلِّم عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث لقال: "ثمَّ تكلَّمتُ".
قوله: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ)، أي: أكثرهم في البرِّ وتقديم الخيرِ والنَّفعِ لقرابتك.
قوله: (وأَوْصَلُ النَّاسِ)، أي: أكثرهم صلةً لذوي رحمك.
قوله: (وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ)، أي: وصلنا إلى السِّنِّ الذي يتزوَّج النَّاس فيها، وهي سنُّ البلوغ في ذلك الزَّمان، لأنَّهم كانوا يُبكِّرون بالزَّواجِ بعدَ البلوغِ.
قال: (وَجِئْنَ)، أي: أتينا إليكَ يا رسولَ الله.
قوله: (لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ)، أي: ترسلنا في البُعوثِ التي تَجبي الصَّدقات.
قوله: (فَنُؤَدِّي إِلَيْكَ مَا يُؤَدِّي النَّاسُ)، أي: ما أدَّاه أهلُ الزكاة إلى عُمَّالك نأخذه منهم، ونأتي به إليه.
وفيه: أنَّ الإمام هو الذي يتولَّى صرفَ هذه الصَّدقات التي تكون في الأموال العامَّة، وذلك أنَّ الأموالَ الزَّكويَّة على نوعين:
النوع الأول: أموال عامَّة ظاهرة: فهذه تُدفع زكاته للإمام المسلمين، وهو الذي يتولَّى قسمتها.
النَّوع الثاني: ما يكون خفيًّا مِن الأموالِ، فهذا يتولَّى زكاته صاحب المال.
قال: (وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ)، فيه: جواز إعطاء الزَّكاة للعاملين عليها، وقد نُصَّ على هذا الحكم في آية التَّوبة.
قَالَ: (فَسَكَتَ طَويلً)، يعني: سكتَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- طويلًا، كأنَّه يُفكِّرُ في حالهما، وكيف يقضي حاجتهما بدونِ أن يُخالفَ الحكمَ الشَّرعيَّ في ذلك، فهما أرادا الزَّواجَ، وظنَّا أنَّ الوسيلَة لذلك أن يعملا في جباية الزَّكاة.
قوله: (حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ)، أي: نخطبه ونطلب منه مرةً أخرى ما كنَّا طلبناهُ سابقًا.
قَالَ: (وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ)، وهي زوجة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وابنةُ عمِّه.
قوله: (تُلْمِعُ إِلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجابِ)، أي: تشير إلينا، وفيه أنَّ زوجات النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يلبسنَ الحجابَ، والحجابُ على الصَّحيحِ فريضةٌ شرعيَّةٌ، والحجابُ يُراد به تغطيةُ جميعَ البدنِ بما فيه الوجه، ولذا لم يكن هناك إشارة إلا بالأصبع ونحوه.
قوله: (أَنْ لَا تُكَلِّمَاهُ)، أي: لا تُعيدا الحديث معه مرةً أخرى، لأنَّها علمت أنَّ هذا الحكم يُخالف الحكم الشَّرعيَّ في ذلك.
قَالَ: (ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ»)، وآل محمد المراد بهم: آل عبد المطلب، وآل المطلب، وهم مَن يلتقي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رابع جدٍّ، فهؤلاء قد جاءت الأحاديث بأنَّهم لا نصيب لهم في الزكاة.
قول: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ» وعلَّل ذلك بقوله: «إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاس»؛ لأنَّها هي التي يُطَهَّر بها المال، فكانت حينئذٍ إنَّما خرجت ليُطهَّر المال بها، ولذا وصف الزَّكاة بهذا الوصف.
ثم قال: «ادْعُوا لِي مَحْمِيَةَ»، محميَّة هذا رجل استعملَه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الخُمُس، وهو محميَّة بن جزء الزُّبَيْدي -أو الزَّبِيدي.
قال: (وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ)، أي: كان الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- قد استعملَه على الخُمُسِ الذي يُجمَع، سواء خُمُس الغنائم، أو خُمُس الفيء.
قوله: «وَنَوْفَلَ بنَ الْحَارِثِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ»، نوفل هو أخو ربيعة الذي تحدَّثنا عنه قبل قليل، وهو عم عبد المطلب الذي جرى فيه الحديث.
قوله: (فَجَاءَاهُ، فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: «أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ»)، المراد بذلك الفضل بن عباس، فهنا حقَّقَ لهما الهدف الذي يُريدانه من الزَّواج، وإن لم يستجب لهما في الوسيلة التي طلباها منه.
قال: (فأَنْكَحَهُ)، أي: قام محميَّة بتزويجِ الفضلِ بن عباس لابنته.
قوله: (وَقَالَ لِنَوفَل بنِ الْحَارِثِ:...)، وهو ابنُ عمِّ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
قوله: («أَنْكِحْ هذا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ» -ليَ)، أي: لعبد المطلب، وذلك أنَّ نوفل سيزوِّج ابنته من ابن أخيه عبد المطلب.
قوله: (فأَنْكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: «أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُس كَذَا وَكَذَ»)؛ لأنَّ الخُمُس ليس زكاة، إنَّما هو خُمُس الفيء الذي يُدفَع مِن غير المسلمين لبيتِ مال المسلمين بدون قتال، أو الغنائم التي تكون من المعارك، وآل بيت النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يجوز أن يُعطَوا مِن خُمُس الغنائم، أو خُمُس الفيء، وأمَّا الصَّدقة وغيرها مِن المالِ فلا يدلَّان في هذا الباب، وذلك أنَّ النُّصوص التي وردت في إعطاء آل البيت إنَّما وردت في إعطائِهم مِن الغنائم، أو إعطائِهم مِن الفَيء.
قوله: «أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُس كَذَا وَكَذَ»، أي: حدَّدَ له المالَ الذي يُؤدَّى فيه هذا الصَّداق ليكون مهرًا في ذلك الزَّواج.
قوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلم يُسَمِّهِ لي)، أي: أنَّ الرَّواي الذي رواه -وهو عبد المطلب- لم يذكر مقدار ذلك المال الذي دفعه مهرًا لهذين الرجلين.
وَفِي لفظ قال: «لا تنبغي لآل محمد»، وفي لفظ قال: «وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لآلِ مُحَمَّدٍ».
وقوله هنا: «لَا تَحِلُّ» أصرح في المنع، وفيه دلالة على أنَّ الزكاة تُمنَع من النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ومِن آله، وفيه إشارة إلى أنَّ الآل لا ينحصرون في ذريَّته كما تقول بعضُ الطَّوائف أنَّها منحصرة في الحسن والحسين وما جاء من ذريَّتهما، فهي أيضًا تشمل مَن كان مِن آل المطلبِ، ومَن كان مِن آل عبد المطلب.
{(وَعَنْ جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيتُ أَنا وَعُثْمَانُ بنُ عَفَّان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ منْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وهُمْ -مِنْكَ- بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بَنو المُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ، شَيْءٌ وَاحِدٌ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ بن عدي ينتسب إلى عبد مناف، وعبد مناف أخ للمطَّلب ولهاشم، ولذلك ظنُّوا أنَّهم يتساوون في الأحكام لأنَّهم أخوة، وأنَّ ذريَّتهم يتسَاوون في الأحكامِ. وعثمان بن عفان أيضًا من بني عبد مناف.
قوله: (قَالَ: جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ: مَشَيتُ أَنا وَعُثْمَانُ بنُ عَفَّان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يسألانه أن يُعطيَا من الخُمُس.
قوله: (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ منْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَ)، وذلك أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- في سورة الحشر لما ذكر الفيء ذكر أنَّ من مصارفه آل بيت النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وذوي قرابته، وهكذا في سورةِ الأنفال لمَّا ذكر الله -عزَّ وجلَّ- الأنفال ومصارفها ذكرَ أنَّ لهم نصيبًا في الخُمُس كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ﴾ [الأنفال/41].
قال: (وَنَحْنُ وهُمْ -مِنْكَ- بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ)، أي: قال جبيرٌ للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ القرابةَ واحدة، فأبوهم المطلب أخو أبينا عبدَ مناف.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بَنو المُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ، شَيْءٌ وَاحِدٌ»، أي: أنَّهم كانوا على حالةٍ واحدةٍ، ومالهم مالٌ واحدٌ، وما تعرَّضَ له أحدهما تعرَّضَ له الآخر، ولذلك لمَّا جاء الحصار في الشِّعب قبل هجرة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- جاء بنو هاشم وبنو المطلب في الحصار وحُوصرُا بخلاف غيرهم من قبائل قريش، ومنهم بني عبد مناف، ولهذا قال إنَّ حكمهم لمَّا كانوا على شأنٍ واحدٍ حكمٌ واحدٌ بخلاف غيرهم.
ومِن هنا نقول: إنَّ بني عبدَ منافٍ يجوزُ دفع الزَّكاة لهم، وإنَّما تُمنع الزَّكاة مِن بني هاشم وبني المطلب.
{(وَعَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ وَصَفوَانَ بنَ أُميَّةَ وعُيَيْنَةَ بنَ حِصْنٍ والأَقْرَعُ بنَ حَابِسٍ: كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُم مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأعْطَى عَبَّاسَ بنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ:
 

أَتجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبِيْـ ... فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ
وَمَا كُنْتُ دُوْنَ امْرِيءٍ مِنْهُمَا ... ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ؟
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ ... وَمَنْ تَخْفِضِ اليَوْمَ لَا يُرْفَعِ

قَالَ: فَأَتمَّ لَهُ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفي رِوَايَةٍ: وَأعْطَى عَلْقَمَةَ بنَ عُلاثَةَ مِئَةً. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا في قَسْمِ الغنائمِ التي يغنمها المسلمون، فهذه كانت بعدَ معركة الطَّائفِ، فغنِمَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مغانمَ كبيرة، فأرادَ أن يَقسِمَ منها بما يرى أنَّه يُحقِّق مصلحةَ الإسلامِ، وبما يكون سببًا مِن أسباب كون هؤلاء القادة الذين يقودون قبائلهم ممَّن يقوم مع دينِ الله -عزَّ وجلَّ- فينشره ويحميه ويناصره، ولهذا أعطاهم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فمرجع ذلك إلى الاجتهادِ الذي يكونُ مِن إمامِ المسلمين.
وقوله: أَتجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبِيْـ  ................................... 
البعبيْـ : اسم فرس عباس بن مرداس.
وفيه مساواةُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بينهم بعدَ ذلك.
{(وَعَنْ أَبي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزومٍ، فَقَالَ لِأَبي رَافعٍ: اصْحَبْنِي فَإِنَّكَ تُصِيْبُ مِنْها، قَالَ: حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْأَلَهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «مَوْلَى القَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِم، وَإِنَّا لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)}.
أبو رافع هو مولى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنَّه بعدَ حِصارِ الطَّائف تدلَّى أبو رافع مِن الحصنِ فكان من موالي النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه هو الذي أعتقه، وحينئذٍ أخبرَ أنَّ مولى القوم -الذين منَّوا عليه بالحريَّة- يكون له أحكامِهم، ويدخلُ فيهم بالولاءِ، فإذا مُنع القومُ مِن الزَّكاة فإنَّ مواليهم كذلك يُمنعون من الزَّكاة.
قوله: (بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزومٍ)، بنو مخزوم قبيلة من قبائل قريش، فهم فرعٌ من فروعهم، وليسوا مِن بني المطلب ولا مِن بني هاشم، ولذلك بعثهم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ليجبيا الزَّكاة.
فقال هذا الرَّجل المخزومي لأبي رافع: (اصْحَبْنِي فَإِنَّكَ تُصِيْبُ مِنْه)، أي: كن معي في جبايةِ الزَّكاة، وحينئذٍ ستُعطى مِن الزَّكاة، لأنَّ مِن مصارفِ الزَّكاة إعطاء العامِلينَ عليها.
فسألَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فمنعه، وبيَّنَ له أنَّ الصَّدقة لا تحلُّ له لأنَّه مِن موالي النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وموالي القوم يأخذونَ حكمهم، ومِن ذلك ما يتعلَّقُ بمنعهم مِن الصَّدقَةِ.
{(وَعَنْ سَالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُعْطِي عُمَرَ الْعَطاءَ فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: أَعْطِهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَو تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَأَنَتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ». قَالَ سَالِـمٌ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمرَ لَا يسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (وَعَنْ سَالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ) أبوه الصَّحابي الجليل عبد الله بن عمر، وجدُّه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُعْطِي عُمَرَ الْعَطاءَ)، أي: يعطيه من بيت المالِ ما يرى أنَّ المصلَحةَ تتحقَّقُ به مِن كفايةِ شأنِ عمر، ومِن كونِ ذلك يؤدِّي المقاصدَ التي من أجلها وُضعَ بيتُ المالِ.
قوله: (فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: أَعْطِهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي)، فيمتنع مِن أخذ هذا المال لكونه ظنَّ أنَّ هذا العطاء مِن أجلِ مجرَّد الفقر.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ»، كأنَّه قال له: إنَّ العطاء ليس لمجرد الفقر، وإنَّما لأوصاف أخرى، منها: قيامك بالأمور التي يقوم عليها بيت المال.
وهذا فيه دلالة العامة يجوز الإعطاء لأصحابها من بيت المال ما يكفي حاجتهم من الرَّواتب ونحوها.
قال: «خُذْهُ» أي: خذ هذا المال الذي قُدِّمَ لك.
قوله: «فَتَمَوَّلْهُ»، أي: اجعله لك مالًا يسدُّ حاجتك، ويقوم بما تطلبه قرابتك مِن نفقاتٍ.
قوله: «أَو تَصَدَّقْ بِهِ»، أي: أعطِه مَن تراهُ مِن الفقراءِ.
قوله: «وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ»، أي: ما قُدِّمَ لك ومَا أُعطيتَه مِن هذا المالِ.
قوله: «وَأَنَتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ»، أي: لا تَطمَعَ فيه ولا تطلَّع إليه.
قوله: «وَلَا سَائِلٍ»، أي: لا تكن ممَّن طَلَبَه.
قوله: «فَخُذْهُ، وَمَا لَ»، أي: ما لا تتَّصِف فيه بالصِّفات السَّابقة سواء كنتَ قد سألتَه أو كنتَ متطلِّعًا له، أو لم تُعطَه.
إذن تُفسَّر هذه اللفظة بتفسيرين:
- ما لم تُعطَه، «فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»، أي: لا تنظر إليه.
- أو ما كنتَ مُشرفًا فيه أو سائلًا «فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»، أي: لا تجعل نفسك تابعة لهذا المال متطلِّعةً لأن تُعطى منه.
قَالَ سَالِـمٌ بن عبد الله: (فَمِنْ أَجْلِ)، أي: مِن أجلِ ذلك الحديث، ولِتطبيقِ هذا الحديث النَّبويِّ الكريم (كَانَ ابْنُ عُمرَ لَا يسْأَلُ أَحَدًا شَيْئً)، يعني مِن الولاة، ومن غيرهم.
قوله: (وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ)؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قد أمرَ بأخذِ هذا المال وتموُّله، فهذا فيه فضيلة ابن عمر -رضي الله عنه- وفضيلة أبيه عمر بن الخطَّاب.
- أمَّا ابن عُمر فلأنَّه كانَ حريصًا على العملِ بِسُنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
- وأمَّا عمر -رضي الله عنه- فكان مُتورِّعًا، حَريصًا على ألا يدخل عليه شيء مِن المالِ فيه شُبهة -رضي الله عنهم جميعًا- وهكذا شأن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم.
{(بَابٌ فِي الْمَسْأَلَةِ
عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
قوله (بَابٌ فِي الْمَسْأَلَةِ) المراد بذلك: أحكامُ طلبِ المالِ مِن الآخرينَ بدونِ أن يكونَ له سبب، أمَّا لو كان له سبب كما في البيعِ والشِّراءِ، أو ثمن الأجرة، أو نحو ذلك؛ فهذا لا شكَّ أنَّه يجوز المطالبة به، ولا يُعدُّ مِن الأموالِ التي تدخل في المقصودِ بهذا الباب، وإنَّما المراد بالمسألةِ أن يطلبَ الإنسان مِن غيره مالًا بدونِ أن يكونَ على جهةِ المقابلة لشيءٍ ممَّا أدَّاه.
وقوله: (عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يسْأَلُ النَّاسَ»)، أي: يطلبَ مِن النَّاس أموالهم ليتصدَّقوا بها عليه، بحيث يكون مستمرًّا على ذلك.
قال: «حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»، المزعة: هي القطعة، وكأنَّه لمَّا لم يستر وجهه بتركِ السُّؤالِ في الدُّنيا لم يُستَر وجهه يوم القيامة باللَّحمِ، فإمَّا أن يُراد به أنَّه يأتي وليس له لحم في وجهه بحيث يكون العظم ظاهرًا. وهذا هو ظاهر الحديث.
وبعضهم تأوَّله بأنَّه يُراد به أنَّه يأتي يومَ القيامة لا قدرَ له ولا مكانة له، ولذا يقولون: فلان له وجه، وفلان وجيه؛ أي: الذي له مكانة ومنزلة في الناس.
فالمقصود: أنَّ مَن سألَ النَّاس واستمرَّ على ذلك فإنَّه يُعاقَب بمثل هذه العقوبَة.
وفي الحديث: التَّرغيبُ في تركِ السُّؤال، وبيانُ أنَّه ليس ممَّا يحل ابتداءًا، وبعضُ العلماء استثنى مِن هذا عددًا من المسائل، منها:
- سؤال صاحب الولاية.
- مَن كان فقيرًا محتاجًا لا يجد ما يقومُ بحاجته.
- وما في حديث قبيصة مِن الأحوال الثَّلاثَة.
وآخرون قالوا: إنَّ هذا الخبر عامٌّ ومطلقٌ، وقوله: «الرَّجُل» هنا مُفردٌ مُعرَّفٌ بــ "ال" الاستغراقيَّة، فيكون عامًّا شاملًا، وبالتَّالي يشملُ جميعَ الأفرادِ، ولا يُستثنى منه الحالات السَّابقة.
فيقولون: إنَّ هذه عقوبة أو تَعرِفَةٌ له يوم القيامة بأنَّ هذا كان من شأنه في الدُّنيا.
{(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُم تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَو لِيَسْتَكْثِرْ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله هنا: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُم تَكَثُّرً»، يعني: طلب مِن النَّاس أن يُعطوه أموالَهم مِن أجلِ أن تَكثُرَ أموالَه.
وقوله: «مَنْ سَأَلَ»، أي: طلب. وقوله: «أَمْوَالَهُم»، أي: ما يمتلكونه مِن المال بدون أن يكون على جهة المقابلة والمُعاوضَة.
قال: «فَإِنَّمَا يسْأَلُ جَمْرً»، أي: أمرًا مُحرِقًا له.
قال: «فَلْيَسْتَقِلَّ أَو لِيَسْتَكْثِرْ»، هذا الأمر مِن بابِ بيانِ سوءِ العاقبَة، وليسَ المراد بِه الأمر في هذا الباب.
وهذا فيه دلالة على أنَّ الأصلَ المنعَ مِن سؤالِ الآخرين أموالهم على جهةِ الصَّدقةِ، ولذلك على الإنسانِ أن يتورَّعَ في هذا الباب، ولا يظنَّ أنَّ كثرة ما يرد إليه يكون مِن أسبابِ غناه أو كثرة أمواله، فإنَّما يكون السؤال سببًا مِن أسبابِ نقصِ المالِ لا مِن أسبابِ كثرتِه، ولذا قالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ»[61]، وأخبر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه «وَلَا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ»[62]، والأرزاق ليست بالمقاييس العقلية المجرَّدة؛ بل لله حكم وأسباب قد تخفى على كثير من الناس، ومن هنا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ المعطي المنفق يُخلف الله عليه كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [البقرة/215]، وأخبر أنَّ الصِّدق والبيان من أسباب بركةٍ المال، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَ»[63]، وكثير من الناس يعتقد خلاف ذلك.
وحينئذٍ نعلم أنَّ للأرزاقِ أسبابًا إلهيَّة قد تخفى على كثير من النَّاسِ.
{(عَنِ الزُّبَيرِ بنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَها، فَيَكُفَّ اللهُ بهَا وَجْهَهُ، خَيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَو مَنَعُوهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
هذا الحديث فيه: ترغيبُ النَّاسِ في العملِ وتركِ السُّؤالِ، والتَّكسُّبِ بأداءِ الأعمالِ أولى للإنسانِ مِن أن يَسألَ النَّاسَ أموالَهم، وقد ضربَ لهم مثلًا فيه عملٌ وجُهدٌ بدنيٌّ، ولكن ليس فيه حاجة إلى وجودِ رأس مالٍ، وذلك بأن يأخذ حبلَه فيذهبَ حتى يأتي بحزمةِ حطبٍ فيبيعَها على النَّاس؛ فإنَّ هذا مِن أسبابِ كفايَةِ الإنسانِ بما لديه، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ اغتناء الإنسان عن غيره في حوائجِهِ أولى بِهِ مِن سؤالِ النَّاسِ وطَلَبَهِم وطَلَبِهِ لِأمَوالِهم.
وفيه دلالة على أنَّ العملَ الذي يحصلُ به التَّكسُّبِ أمرٌ فاضل، ينبغي للنَّاس أن يشتغلوا به.
ولعلَّنا نقفُ عند هذا الموطن، نسألُ اللهَ -جلَّ وعَلا- أن يوفِّقنا جميعًا لِما يُحبُّه ويرضاه، كما أسألُه -جلَّ وعَلا- أن يغنِينَا ويُغني المشاهدينَ الكرام بفضله، وأن يجعلَنا ممَّن يكتفي بحلاله عن حرامه، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يباركَ لنا ولهم ولجميعِ المسلمينَ فيما رُزقوا فيكون هذا من أسبابِ قضائهم لحوائجهم وأدائِهم لِما طلبَ الله -عزَّ وجلَّ- منهم أداءه.
 
باركَ الله لكم جميعًا، ووفَّقكم لكلِّ خيرٍ، وأسألُه -جلَّ وعَلا- لإخواننا ممَّن يُرتِّب هذا اللقاء مِن مشرفٍ وفنييَن ومخرجٍ كلَّ خيرٍ، اللهمَّ أدرَّ عليهم الأرزاقَ، وكن معهم مُعينًا.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك