بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى أفضلِ الأنبياءِ
والمُرسلين، أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيُّها الإخوة الكرام ممَّن يُشاهد لقاءنا هذا، وأسألُ الله-جَلَّ
وَعَلا- لي ولكم التَّوفيق لكل خير، اللهمَّ يا حَيُّ يَا قَيومُ أَغْنِهم بفضلك
عمَّن سواك، واكفهم بحلالك عَن حَرَامِك.
ونواصل في هذا اللقاء ما ابتدأنا به مِن قِرءاة كتاب المحرر للحافظ ابن عبد الهادي
-رحمه الله تعالى- ولعلنا -إن شاء الله- نبدأ في كتاب الصيام، ونستمع لقراءة الشيخ
عبد الرحمن، فليتفضَّل مَشكورًا.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمشاهدين يا ربَّ العالمين.
(كِتَابُ الصِّيامِ- بابُ فَرْضِ الصَّوْمِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا
يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًَا فَلْيَصُمْهُ» مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قوله «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ»، فيه النَّهي
عن صومِ يوم الثَّلاثين من شهر شعبان، وصوم اليوم التَّاسع والعشرين من شهر شعبان،
وقد اختلف العلماء في شمول هذا الحديث في اليوم الثَّامن والعشرين من شهر شعبان،
وذلك لأنَّ الأشْهُر قد تنقص، وبالتَّالي يكون آخر يومين هما اليوم الثَّامن
والتَّاسع والعشرون.
والأظهر أنَّ الحديثَ يشمله؛ لأنَّ من عَادة العَرب إطلاق اليوم الأخير على اليوم
التَّاسِع والعشرين، ولذا فإنَّه يُنهى عن صوم آخر أيَّام شعبان، وقد وردَ في عددٍ
من الأحاديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سمَّى يوم الثلاثين يوم الشَّك،
ونهى النَّاسَ عَن صَومِه، فأمَّا إذا كانت السَّماء مُصحِية؛ فإنَّ العلماء
اتَّفقوا على كَراهةِ صَومِ يَومِ الشَّك، وإنَّما اختلفوا في صومِ يوم الشَّكِّ
إذا كانت السَّماء قد امتلأت بالغيوم، ولكنَّ الجمهور على أنَّ الحديث يشملُ يومَ
الغيمِ كما يشملُ يومَ الصَّحو، ولذلك قالوا بكراهة صوم يوم الشَّك ولو كانت
السَّماء قد امتلأت بالغيوم.
وذهب الحنابلة إلى أنَّ يوم الشَّك إذا كانت ليلته قد جاءتها الغيوم فغطَّت الهلالَ
فحينئذ يجب عند بعضهم صوم ذلك اليوم، ويُقام له قيام التَّراويح، وهذا المذهب عند
فُقَهَاءِ الحنابلة، وقد استدلوا له بالحديث الآتي، حديث ابن عمر حينما قال:
«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَاقْدِرُوا لَهُ»، قالوا: التَّقدير يعني: التَّضييق، كما
في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ [العنكبوت: 62].
وقال الجمهور: إنَّ هذا اللفظ قد فُسِّر برواية البقيَّة وبرواية أبي هريرة وغيرهم
حينما قال: «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ»[69].
ولذا فإنَّ الرَّاجح في هذه المسألة هو مذهب الجمهور مِن كراهة صوم يوم الشَّك ولو
كان هناك غيم.
وقوله: «إِلَّا رَجُلٌ»، هكذا الرَّواية بالرَّفع، مع أنَّه مستثنًى، وذلك أنَّه
بمثابة الاستثناء المفرغ، ولفظة "الرجل" ليست مرادة، بل تشملُ الأنثى كما تشملُ
الرَّجل.
قوله: «كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»، قوله "لِيَصُمْهُ" فعل مضارع مسبوق
بلام أمر فيكون فعل أمر، والأمر بعد النَّهي يُعيد الحكم على ما كان عليه سابقًا.
والمراد بذلك: مَن كان عنده عادة يصومها، كمن كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، أو
نحو ذلك مِن أنواع الصِّيام، فإنَّه لا بأس أن يصوم يوم الشَّك حينئذٍ.
ومثل هذا: مَن كان عليه صيام مِن أيام رمضان السَّابق، ولم يتمكَّن مِن صومها،
فإنَّه يُشرع له أن يصوم في يوم الشَّك صوم القضاء الذي فاته من رمضان السَّابق.
{(عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذا
رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَاقْدِرُوا لَهُ» مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَلمسلمٍ: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُم فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ»،
وللبُخاريِّ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ». وَلهُ
مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُم
فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ»)}.
قال في حديث ابن عمر: «إِذا رَأَيْتُمُوهُ»، يعني: رأيتم الهلال، وفيه دلالة على
أنَّ الصَّوم والفطر مرتبطٌ برؤيةِ الهلال، وفيه دلالة على عدمِ جوازِ الاعتمادِ
على الحسابِ الفلكيِّ في إثبات دخولِ الشَّهرِ وخروجِه؛ لأنَّه علَّقه بالرُّؤيةِ،
ولم يعلِّقُه بكونِ القمر هلالًا.
وفيه دلالة على أنَّه متى رُؤيَ الهلالُ فإنَّه يُصام حتى ولو كانت تلك الرُّؤية
بواسطة آلاتِ الرَّصدِ أو بآلاتٍ مكبِّرةٍ، ونحو ذلك؛ فإنَّه لم يشترط في الرُّؤية
أن تكون بالعين المجردة.
وفي هذا الحديث الاعتماد على شهادة الشُّهود، لأنَّهم هم الذين يرونه.
وفيه أيضًا: أنَّ ظاهر الخبر يدلُّ على أنَّه إذا رُؤيَ الهلال في بلدٍ فإنَّه يلزم
جميع المسلمين أن يصوموا وأن يفطروا، ولذلك لأنه قال: «إِذا رَأَيْتُمُوهُ»،
والضَّمير يعود إلى أهل الإسلام.
واختلف العلماء في هذه المسألة:
- فالحنابلة وجماعة يرون أنَّه إذا رُؤيَ في بلدٍ لزمَ جميعَ البلدان.
- ورأى آخرون أنَّ لكلِّ بلدٍ رؤية مستقلَّة، بناء على قولهم: إنَّ المطالع تختلف.
ولا شكَّ أنَّ المطالِعَ تختلف، ولكن هل يُبنى عليها الحكم في مسائل الصيام والفطر
أو لا؟
- وهناك مَن يقول: إنَّه إذا رُؤيَ الهلالُ في بلد لزم البلدان التي تقع عنه غربًا
أن يصوموا؛ لأنَّ الشَّمسَ أسرع مِن القمر، فإذا رُؤيَ الهلال في بلد فهذا معناه
أنَّه قد هلَّ على البلدان التي تقع عنه غربًا.
والمسألة حينئذٍ يُرجع فيها إلى أصحاب الفتوى في كلِّ بلدٍ، فإذا اختاروا قولًا من
هذه الأقوال فإنَّهم يسيرون عليه.
وبالنِّسبة لأفرادِ النَّاس فإنَّهم يتبعونَ أهلَ الفتوى في ذلك البلد، ولا يجوز
للإنسانِ أن يُخالف أهلَ فتوى بلدهِ في مسائلِ الصَّوم والفِطرِ، وإثباتِ دخولِ
الشَّهرِ؛ ليكون النَّاس في البلدِ الواحدِ على طريقةٍ واحدةٍ.
وبالنِّسبةِ للبلدان التي ليس فيها ولاية إسلاميَّة يتمكَّنون فيها مِن إثبات رؤيةِ
الهلالِ، والتَّأكد من تزكية الشُّهود ونحو ذلك؛ فإنَّهم حينئذٍ بالخيار، إن رأوا
أن يسيروا على طريقةِ بلدٍ معيَّن من البلدانِ التي تقع عنهم شرقًا، أو اختاروا
أنَّه متى أُعلن في أحدِ البلدان تبعوه، أو اختاروا مثلًا ثلاث بلدان يسيرون على
طريقتها، فإنَّهم حينئذٍ يجتهدون.
وينبغي لأهلِ المدينةِ الواحدةِ أن يتِّفقُوا في هذا الباب، بحيث لا يكون هناك
اختلاف بين أهلِ المدينة الواحدة في صومهم وفطرهم.
وأمَّا بالنِّسبة لأفرادِ النَّاس فإنَّهم يعودون ويعتمدون في هذا الباب على قولِ
المركز الإسلامي الذي يُصلُّون معه ويتبعونَه، ويعتمدونَ على ما يسيروا عليه.
وقوله: «وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُو»، ظاهره تساوي رؤية الفطر مع رؤية
الصَّوم.
وقد اختلف العلماء في عدد مَن يُعتمد على قوله في الرؤية:
- فهناك مَن قال: لابدَّ مِن اثنين في رؤية الفطرِ ورؤيةِ الصَّومِ.
- وهناك مَن قال بالتَّفريق: فقال: إنَّ رؤية الصَّوم تثبتُ بشاهد واحد، بينما رؤية
الفِطرِ لا تثبت إلا بشاهدين.
وقوله: «فَأَفْطِرُو»، تدلُّ على الوجوب؛ لأنَّها أوامر، ومن ثَمَّ استُدلَّ بهذا
اللفظ على وجوب فطرِ يوم عيدِ الفطرِ، وأنَّه لا يجوز للإنسانِ أن يصومَه.
قوله: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم»، أي: جاء السَّحاب فلم يمكِّنكم مِن رؤية الهلالِ.
قوله: «فَاقْدِرُوا لَهُ»، تقدَّم معنا أنَّ الحنابلة فسَّروه بإنقاصِ شهرِ شعبان،
ولكنَّهم لم يُدخلوا في هذا حكم آخر شهر رمضان.
قوله هنا: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» هذه عند
البخاري تُفسِّر الرواية الأولى، ولذلك فإنَّ الرَّاجح هو مذهب الجمهور بوجوب
إكمالِ شهر شعبان عندَ وجودِ الغَيمِ.
{(وَعَنْ أَبي مَالكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ حُسَيْنِ بنِ الْحَارِثِ الجَدَليِّ
جَدِيْلَةَ قَيْسٍ، أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ خَطَبَ ثُمَّ قالَ: عَهِدَ إِلَيْنَا
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَـنْـسُكَ لِلرُّؤْيَـةِ،
فَإِنْ لم نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا. فَسَأَلْتُ
الْحُسَيْنَ بنَ الْحَارِثِ: مَنْ أَمِيرُ مَكَّةَ؟ قَالَ: هُوَ الْحَارِثُ بنُ
حَاطِبٍ أَخُو مُحَمَّدِ بنِ حَاطِبٍ، ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ: إِنَّ فِيكُم مَنْ
هُوَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنِّي، وَشَهِدَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى رَجُلٍ، قَالَ
الْحُسَيْنُ: فَقُلْتُ لِشَيْخٍ إِلَى جَنْبِي: مَنْ هَذَا الَّذِي أَوْمَأَ
إِلَيْهِ الْأَمِيرُ؟ قَالَ: هَذَا عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ وَصَدَقَ، وَهُوَ
أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَقَالَ: بِذَلِكَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ-،
وَالدَّارَقُطْنِيُّ -وَقَالَ: "هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ")}.
قوله هنا (أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ خَطَبَ)، فيه مشروعيَّة أن تشتملَ الخطب على
الأحكامِ الشَّرعيَّة التي يحتاج إليها النَّاس، وكان أصحاب الولاية -الأمراء- هم
الذين يتولَّونَ الخطبة، فيأخذون منهم أحكام الشَّرع.
قوله: (ثُمَّ قالَ:..)، يعني: في خطبته.
قوله: (عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: أخذ
علينا العهد والميثاق.
قوله: (أَنْ نَـنْـسُكَ لِلرُّؤْيَـةِ)، أي: أن نصوم شهر رمضان بالرُّؤية، ويحتمل
أن يكون قوله (أَنْ نَـنْـسُكَ)، أي: نذبح النُّسك في الأضحى، أو أن نعلِّقَ أحكامَ
النُّسك في الحجِّ برؤيةِ الهلال، لأنَّ وقوف يوم عرفة إنَّما يكون في اليوم
التَّاسع من شهرِ ذي الحجَّة، ويوم العيد هو اليوم العاشر، ولا يثبت ذلك إلا
بتعليقه بدخولِ الشَّهر، وهذا أمر مرتبط برؤية الهلال.
قال: (فَإِنْ لم نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَ)، إذن
هنا طريقان:
الطَّريق الأوَّل: أن نراه نحن.
الطَّريق الثَّاني: أن يشهد لنا شاهدا عدلٍ بأنَّه قد رُؤيَ الهلال.
وفي هذا دلالة على إثبات دخول الأشهر بواسطة رؤية العدول.
وفيه دلالة على أنَّ الإخبار برؤية الهلالِ مِن بابِ الشَّهادة، وذلك أنَّ باب
الشَّهادة يُخالف بابَ الرِّواية في عددٍ مِن الأحكامِ، ومنها: أنَّه في باب
الشَّهادة لابدَّ أن يكون هناك عدل، ويكون من الرجال.
وقد اختلف العلماء في رؤية هلال رمضان، هل تثبت بشهادة الواحد؟
فقال طائفة: نعم.
وقال الجمهور: لا تثبت إلا بشهادة اثنين.
وقد ورد فيه حديث ابن عمر الآتي أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر النَّاس
بصيام الشهر بناء على رؤية الواحد، ولكن في بقيَّة الشهور لابدَّ أن يكون من رأى
الهلال اثنين أو أكثر.
قوله: (نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَ)، يعني أنهم يفعلون النسك مِن ذبحِ الأضاحي، أو
مِن أداء الحجِّ، أو نحو ذلك.
قال: (فَسَأَلْتُ الْحُسَيْنَ بنَ الْحَارِثِ)، القائل هو: أبو مالك الأشجي.
قوله: (مَنْ أَمِيرُ مَكَّةَ؟)، ثمَّ إنَّه أخبره بعد ذلك أنَّه الْحَارِثُ بنُ
حَاطِبٍ أَخُو مُحَمَّدِ بنِ حَاطِبٍ.
قوله: (ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ: إِنَّ فِيكُم مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ مِنِّي)، فيه ردُّ العلمِ لأهلِهِ.
قوله: (وَشَهِدَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي
كان حاضرًا لهذه الرِّواية حين وجودها.
قوله: (وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى رَجُلٍ)، وأشار إلى عبد الله بن عمر، وهذا فيه
فضل عبد الله بن عمر.
قوله: (فَقُلْتُ لِشَيْخٍ إِلَى جَنْبِي: مَنْ هَذَا الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ
الْأَمِيرُ؟ قَالَ: هَذَا عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ وَصَدَقَ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِاللَّهِ مِنْهُ)، يعني هو أعلم من الأمير الْحَارِث بنُ حَاطِبٍ.
قوله: (فَقَالَ: بِذَلِكَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)، أي: بالاعتماد على شهادة الشُّهود في إثباتِ دخول الأشهر.
وفي هذا دلالة على أنَّه ينبغي لأهلِ الإسلام أن يعتمدوا على الأشهر القمريَّة،
لأنَّها هي التي تُبنى عليها الأحكام الشَّرعيَّة، كصيام رمضان، ونسك الحجِّ، وعددٍ
مِن الأحكام، كصيام يوم عاشوراء، وصيام الأيَّام البيض، ونحو ذلك مِن الأحكامِ،
وهكذا الأشهرِ الحرم إنما تُحدَّد برؤية القمر، ولذلك يحسن بالنَّاس أن يعتمدوا على
الأشهر القمريَّة.
كذلك أيضًا هناك عددٌ مِن الأحكام المتعلِّقة بالنَّاس، ومِن أمثلة ذلك: فيما
يتعلَّق بالإيلاء، وما يتعلَّق بالعدَّة لمن توفي عنها زوجها، أو مَن طُلِّقَت
وكانت كبيرة أو صغيرة، أو ما يتعلَّق بصيام الكفارات في كفارةِ القتل أو كفارةِ
الظِّهَار، فالواجب هو اعتماد الأشهر القمريَّة في ذلك كلِّه.
وهكذا في فريضة الزَّكاة فإنَّها بالسَّنَة القمرة لا السَّنَة الشَّمسيَّة.
{(وَعَنْ أَبي بَكْرِ بنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْن عُمرَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ
بِصِيامِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "عَلَى
شَرْطِ مُسلمٍ")}.
قوله هنا: (عَنِ ابْن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ
الْهِلَالَ)، أي: طلبوا رؤية الهلال، والهلال يكون في بداية الشَّهر، ويكون مضيئًا
في جزءٍ من أجزائِه، ولا يكون هلالًا إلا إذا أضاءَ، فقبلَ إضاءته لا يكون هلالًا.
وفي هذا دلالة على استحباب تراءي الهلال لِمَا يترتَّب عليه مِن أحكامٍ شرعيَّة.
قال: (فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي
رَأَيْتُهُ، فَصَامَ)، كأنه اعتمد على قول الواحد في إثبات دخول الشَّهر برؤية
الهلال، وكما قال بذلك طائفة مِن أهلِ العلمِ.
وهذا يخصُّ على الصَّحيح بإثبات دخول شهرِ رمضان، وأمَّا رؤية الهلال في غيره من
الأشهر فلابدَّ فيها من رؤية اثنين، ولا يكفي فيها رؤية الواحد.
وقوله: (فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيامِهِ)، فيه أنَّ الإمام يطلب من النَّاس
أن يُثبتوا دخول الشَّهر، وأن يصوموا شهرَ رمضان بناءً على رؤية الشُّهود.
{(وَعَنِ ابْن عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيامَ، قَبْلَ
الفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ
مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا
إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَوْلَهُ، وَهُوَ أَصَحُّ"، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا
مَوْقُوفٌ"، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "قَدِ اخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي
إِسْنَادِهِ وَفِي رَفْعِهِ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبي بَكْرٍ أَقَامَ إِسْنَادَهُ
وَرَفَعَهُ، وَهُوَ منَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ")}.
هذا الحديث وقع الاختلاف في إسناده كما أشار المؤلف من جهتين:
- الجهة الأولى: هل هو مرفوع أو موقوف على ابن عمر
- الجهة الثانية: الاضطراب في إسناده، فمرة يُروى عن ابن عمر عن النَّبيِّ -صلى
الله عليه وسلم- ومرة يُروى عن ابن عمر عن حفصة.
وبالتَّالي تكلَّم بعضُ أهلِ العلم في هذا الخبر، والصَّواب أنَّه خبرٌ جيدٌ
الإسناد كما أشار المؤلِّف هنا بأنَّ عبد الله بن أبي بكر أقامَ إسناده ورفعه،
وكونه يُروى مرة موقوفًا لا يبعد أن يكون ابن عمر مرة يذكره عن نفسه، ومرة يذكره
مرفوعًا للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثَمَّ فالصَّواب أنَّ الخبر ثابت عن
النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
والحديث يتكلَّم عن مسألة النِّيَّة، ومِن المعلوم عندَ جمهور أهلِ العلم أنَّ
النِّيَّة معتبرة، وأنَّه لابدَّ في الأعمال من النِّيَّة، وقد قال النَّبيُّ -صلى
الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ
مَا نَوَى»[70]، ولكن وقع الاختلاف في الوقت الذي يجب أن يكون الإنسان ناويًا
للصِّيام فيه، وذلك أنَّ الصِّيام على أنواع:
النَّوع الأوَّل: صيام واجب في غير رمضان: مثل صيام القضاء، وصيام النَّذر
والكفَّارة؛ فهذا يجب على الإنسان أن يُبيِّت نيَّة الصَّوم فيه، وهذا هو مذهب
الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة، خلافًا لبعضِ الحنفيَّة.
النَّوع الثَّاني: صيام شهر رمضان، وذهب الجهور إلى أنَّه لابدَّ فيه من تبييت
النِّيَّة لهذا الخبر، وتبييت النِّيَّة بأن ينوي أن يصوم غدًا، وأن يعزم بقلبه صوم
الغد، سواء كان هذا في أوَّل الليل كبعدِ المغرب، أو في آخر الليل قبيل الفجر.
واستدلوا على ذلك بهذا الحديث وبالنُّصوص الأخرى التي أوجبت النِّيَّة كحديث
«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
وذهب الحنفية إلى أن صيام شهر رمضام يُجزئُ بنيَّة من النَّهار قبل الزَّول،
وقالوا: إن هذا اليوم متعيِّنٌ أن يكون من شهر رمضان، وبالتَّالي لم نحتج فيه إلى
تبييت النِّيَّة.
وقول الجمهور لصحَّةِ حديث الباب، ولأنَّه لا يصح أن نفرق ما بين قبل الزَّوال وما
بين ما بعده، لعدمِ ورود دليل يدلُّ على التَّفريق بينهما.
النَّوع الثالث: صيام التَّطوع، وقد اختلف العلماء في وجوب تبييت النِّيَّة فيه،
وهذا يشمل الأيام المعيَّنة، كصيام يوم عرفة، وصيام يوم عاشوراء، وصيام الخميس
والاثنين؛ فإنَّها وإن كانت معيَّنة إلا أنَّها مِن أيَّام التَّطوعِ، ومثله صيام
ستٍّ من شوال.
وقد اختلف العلماء في وجوب تبييت النيَّة على ثلاثة أقوال مشهورة:
القول الأوَّل: لابدَّ من تبييت النِّيَّة، فلابدَّ أن ينوي الإنسان مِن اللَّيل
أنَّه يصوم غدًا، وهذا مذهب المالكيَّة، واستدلُّوا عليه بحديث الباب، فإنَّه قال:
«مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيامَ»، والصِّيام لفظ عام، فيشمل صيام التَّطوع.
والقول الثَّاني: إذا نوى قبل الزَّوال جاز وصحَّ الصوم، وإذا لم ينوِ إلا بعد
الزَّوال لم يصح، وهذا مذهب كثير من أهل العلم كالحنفية.
القول الثَّالث: يجوز أن يكون صيام التَّطوع بنيَّة في أي جزء مِن أجزاء النَّهار
ولو قبيل الغروب، وقالوا: إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ثبت عنه أنَّه دخلَ
على أهلِهِ فسألهم طعامًا، فذكروا أنَّهم لا يوجد عندهم طعام، فقال: «فَإِنِّي
إِذًا صَائِمٌ»، ممَّا يدلُّ على أنَّه استأنف الصَّومَ في هذا الوقت.
وفي هذا دلالةٌ على جوازِ أن تكون نيَّة صيام التَّطوعِ مِن النَّهارِ، وهذا هو
الرَّاجح، ولكن ليُعلم بان الأجر إنَّما يكون من بداية النِّيَّة لا مِن بداية
اليوم، وذلك لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ
امْرِئٍ مَا نَوَى».
إذا تقرر هذا فإنَّه يُشترط ألا يكون قد تناول شيئًا من المفطِّرات في النَّهار قبل
نيَّة الصوم.
وقوله: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ»، البيات: هو نومُ اللَّيلِ، ويُراد به الجزم
بالنِّيَّة في أي جزء من أجزاء اللَّيلِ.
وقوله: «فَلَا صِيَامَ لَهُ»، هذا دليل على اشتراط النيَّة للصَّوم.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الـمُؤْمِنِيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: دَخَلَ
عَلَيَّ رَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «هَل
عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ»، ثُمَّ
أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ،
فَقَالَ: «أَرِنِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمً» فَأَكَلَ، وَفِي لفظٍ: قَالَ
طَلْحَةُ -وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى: فَحَدَّثْتُ مُجَاهِدًا بِهَذَا الحَدِيثِ،
فَقَالَ: ذَلِك بِمَنْزِلَة الرَّجُلِ يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ
شَاءَ أَمْضَاها، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله هنا (وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الـمُؤْمِنِيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ:
دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ)، فيه
دلالة على دخول الرَّجل على أهلِ بيتهِ في النَّهارِ.
وفيه دلالة على كيفيَّة تعامل النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في القَسمِ بين زوجاته
في النَّهار.
فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم: «هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟»، أي: هل عندكم طعام
أتناوله؟
وفي هذا دلالة على ما كانَ عليه بيت النُّبوَّة من نقص الطَّعام، وأنَّ هذا لا
يدلُّ على نقصان صاحبه عند الله -جلَّ وعَلا.
قوله: (فَقُلْنَا: لَ)، أي: ليس عندنا شيء من الطَّعام.
فقَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ»، أي: ابتدأ
الصَّوم بنيَّة من النَّهار.
وفي هذا دليل لمذهب الجمهور على جواز أن تكون نيَّة صوم التَّطوع من النَّهارِ
خلافًا للمالكيَّة.
قالت: (ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أُهْدِيَ لَنَا
حَيْسٌ)، الحيس: نوع من أنواع الأطعمة يوضع فيه تمر وسمن وأقط، او دقيق، أو فتيت،
ونحوها، وكان من الأطعمة المفضَّلة لديهم.
فَقَالَ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: «أَرِنِيهِ»، أي: اجعليني أطالعه، وذلك من
أجل أن يأكل منه.
قال: «فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمً»، أي: ابتدأ اليوم صائمًا صيامَ تطوع.
وفي هذا دلالة على جواز قطع صوم التَّطوع، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على
قولين:
القول الأوَّل: أنَّ صوم التَّطوع يجوز قطعه، ولا يجب إكمال، ولو قُدَّر أنَّ
الإنسان أفطره لا يجب عليه قضاؤه، وهذا مذهب الإمامين الشَّافعي وأحمد، واستدلوا
بحديث الباب، واستدلوا أيضًا بما ورد في قوله النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: «
الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ
أَفْطَرَ»[71].
القول الثَّاني: هو قول الحنفية والمالكيَّة إلى أنَّ عمل التَّطوع يجب المضي فيه
لمَن ابتدأه، ومن ذلك الصيام، وبالتَّالي ألزموا مَن صام تطوعًا بأن يُكمل صومه،
ورتَّبوا على ذلك أنَّه لو أفطر في أثناء اليوم الذي صام فيه تطوعًا وجب عليه
قضاؤه، واستدلُّوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:
33]، وبقول النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا سُئل عن الواجبِ غير المذكور مِن
الفرائض، قال: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»[72]، قالوا: هذا فيه دلالةٌ على أنَّه لا
يجبُ على الإنسانِ عملٌ إلا إذا تطوَّع، فإذا تطوَّع َوجبَ عليه.
قالت: ( فَأَكَلَ)، فيه دلالة على أنَّ صوم التَّطوع يجوزُ قطعُهُ ويجوزُ الأكلُ
فيه.
{(وَعَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَـزَالُ النَّاسُ بِخَيرٍ مَا عَجَّلُوا
الْفِطْرَ»)}.
في هذا فضيلة تعجيل الإفطار، وفيه أنَّ الصَّائم يتقلَّب بين أنواع العبادات حتى
فيما يتعلَّق بفطره، ويتقرَّب بذلك لله -عزَّ وجلَّ.
والمراد بتعجيل الفطر: أن يُفطر الإنسان بمجرد غروبِ الشَّمس، وقد قال النَّبيُّ
-صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ
النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»[73]،
فيه دلالةٌ على أنَّ الفطر يثبت بغروب الشَّمس، وقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187]، فيه دلالةٌ على أنَّ أوَّلَ جزءٍ مِن
أجزاء اللَّيلِ يكونُ الصَّائمُ مفطرًا فيه خلافًا لبعضِ الفِرَق.
{(وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً».
مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَ)}.
قوله: «تَسَحَّرُو»، فيه أمرٌ بأكلِ وتناولِ وجبةِ السَّحورِ، والأمرُ هنا ليس على
الوجوبِ؛ بل هو على الاستحباب، وذلك أنَّه في أوَّل الإسلام كان السَّحور ممنوعًا
منه، ومَن نامَ في الليل وجبَ عليه الإمساك إلى غروبِ الشَّمسِ مِن الغد، فنُسخَ
هذا الحكم كما في قوله -جلَّ وعَلا: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة:
187].
وقوله: «فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً» "السَّحور" بفتح السِّين، أي: الطَّعام
يُتناوَل في السَّحر -وهو آخر الليل- قيل هو: السُّدُس الأخير من اللَّيل.
وفيه إثبات أنَّ في بعضَ المطعومات والمأكولات بركة، والبركةُ من الله -سبحانه
وتعالى- يُبارك لِمَن شاء.
وفي هذا: أنَّ المؤمن يتقرَّب إلى الله بتناول هذه الوجبة، كما يتقرَّب إلى الله
-عزَّ وجلَّ- بتناول وجبة الإفطار. وفيه أنَّ الصائم يتقلَّب بين أنواع الطَّاعات
والعبادات.
{(وَعَنْ سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ الضَّـبِـيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ
فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ
طَهُورٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ-، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ
-وَقَالَ: "عَلَى شَرط البُخَارِيِّ")}.
هذا الحديث -كما ذكرَ المؤلِّف- صححه ابن حبان، وصحَّحه الترمذي، ولكن كثيرًا من
أهلِ العلم تكلَّمَ فيه مِن جهةِ أنَّ الرَّاوي عن سلمان مجهول، وبالتَّالي لم
يأخذوا بهذا الخبر.
وقد ورد في حديث آخر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يفطر على التَّمرِ أو
الماء، وقالوا: إنَّ هذا ثابت عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِن فعله، وورد
أنَّه " كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ
قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ فَإِنْ لَمْ
تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ"[74]؛ وبالتَّالي نعرف الأحكام المتعلِّقة بهذا
الخبر.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
فَإنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُواصِلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي
ويَسْقِينِي»، فَلَمَّا أَبَوْا أَن يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ
يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ: «لَو تَأَخَّرَ
الْهِلَالُ لَزِدْتُكُم» كَالـمُـنَكِّلِ لَهُم حِيْنَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قوله هنا: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ
الْوِصَالِ)، أي: عن الاستمرار في الصيام بعد دخول وقت الإفطار. والوصال على نوعين:
النَّوع الأوَّل: وِصال الأيام بعضها ببعضها الآخر، وهذا هو المنهي عنه أصالةً، وهو
المذكور في هذا الخبر، وقد اتَّفق العلماء على كراههته، وورد عن طائفة من
التَّابعين أنَّهم كانوا يفعلونه كبعض الصحابة كابن الزبير، ولكن حديث الباب صريح
في النَّهي عن ذلك، ولا يؤخذ بقول أحد مع مخالفته للخبر.
النَّوع الثَّاني: الاستمرار في الصِّيام حتى يكون آخر اليل -أي إلى السَّحر.
وقد اختلف العلماء فيه، والجمهور على جوازه، واستدلوا على ذلك بما ورد في الخبر أن
النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ
فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ»[75]، وهذا الخبر الصَّواب فيه أنَّه على الإباحة
وليس على الاستحباب.
قوله: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُواصِلُ)،
فيه أنَّ الأصل في الأفعال النَّبويَّة أن يُقتدى به فيها، خصوصًا إذا كانت من
العبادات، فالعبادات التي يفعلها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأصلُ أنَّه
يُشرَع لنا أن نقتديَ به فيها، ولذا لم يقدح النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عليه
في سؤاله، ولم يعنِّف عليه؛ فلم يقل له: لا تلفت إلى عملي، أو لا تقتدوا بي؛
وإنَّما بيَّنَ له معنًى خاصًّا في هذه المسألة.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟»،
أي: هناك فرق بيني وبينكم في هذا الباب.
قوله: «إِنِّي أَبِيْتُ»، أي: أستمر في ليلي.
وقوله: «يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي»، قيل: إنَّ هذا الإطعام إطعامٌ حقيقي وهو
ظاهر اللفظ.
وقيل: إنَّه إطعام معنوي يستغني به عن الطَّعام.
قال: (فَلَمَّا أَبَوْ)، أي رفضوا الامتثال لأمره في ترك الوِصَالِ.
قال: (وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ)، فحينئذٍ
توقَّف عن الوِصَالِ، وفي هذا دلالة على أنَّ رؤيَة الهلالِ يُعتمَد عليها في
إثباتِ دخولِ شهرِ شَوال.
فَقَالَ: «لَو تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُم»، أي: لو أنَّنا لم نتمكَّن من
رؤيةِ الهلالِ لزدتُّكم في المواصَلَةِ، وبالتَّالي يكون هذا شاقٌّ عليكم.
وفي هذا دلالة على أنَّ الفضيلةَ في الأعمالِ ليست بكثرتها، أو بوجودِ المشقَّة
فيها، وإنَّما الفضيلة باتِّباع السُّنَّة فيها.
وفي هذا: التَّرغيب في تعلُّم سنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليتمكَّنَ
الإنسان مِن الاقتداء به.
قوله: (كَالـمُـنَكِّلِ لَهُم)، أي: أنَّه استمرَّ وواصلَ مِن أجلِ أن يُنكِّلَ بهم
ويُعاقبهم على فعلهم لمخالفتهم لهدي النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حينَ أبَوْا أن
ينتهوا عن الوِصالِ.
ولعلَّنا نقفُ عندَ هذا فيما يتعلَّق بدرسنا هذا اليوم، أسألُ الله -جلَّ وعَلا- لي
ولك ولإخواننا ممَّن يرتب هذا اللقاء ولجميع مشاهدينا ولجميع المسملين التَّوفيق
لكلِّ خيرٍ، وأسألُه -جلَّ وعَلا- أن يبلغنا شهرَ رمضانَ، وأن يمكِّننا فيه مِن
صيامه، وأن يرزقنا فيه النِّيَّة الخالِصة، كما أسألُه -جلَّ وعَلا- أن يجعلَنا
وإيَّاكم مِن أهلِ طاعتِهِ وأهلِ عبادتِهِ، هذا والله أعلمُ، وصلَّى الله على
نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.