الدرس الثامن عشر

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7130 24
الدرس الثامن عشر

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أَفضلِ الأنبياءِ والمُرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فَأَشْرُفُ بلقائِكم هذه الليلة الطَّيبة؛ لنتدارس سويًّا عَددًا مِن الأَحاديثِ في "أحكام الزَّكَاة" بقراءة شيء من كتاب المحرر للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا قد توقفنا عند مَسألة "زكاة الْحُلِيِّ"، وَلَعَلَّنَا نُعيدُ قِرَاءةَ الأحاديثِ التي وَرَدَت في هذا البَابِ.
{(بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالينَ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم. اللهمَّ اغفر لنا وليشخنا، وللمستمعينَ، وللمشاهدين، ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى: (بَابٌ فِي الْحُلِيِّ وَالْعُرُوضِ إِذا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ
عَنْ ثَابِتِ بنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَطاءٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّها كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَسَأَلَتْ عَنْ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: «إِذا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ، وَلم يُخَرِّجَاهُ". وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "يَتَفرَّدُ بِهِ ثَابِتُ بنُ عَجْلَانَ" وَهَذا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ ثَابِتًا وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى لَهُ البُخَارِيُّ. وَاللهُ أَعْلَمُ)
)
}.
هذا الحديث فيه إيجاب الزَّكَاة في الْحُلِيِّ، وهذا الحديث قد تَكلَّم فيه أهلُ العلمِ مِن جِهتين:
الجهة الأولى: ثابت بن عجلان، وقد تفرَّد بالخبر، مع أنَّ عطاءً إمام وتلاميذه كُثُر، لكن بما أنَّ ثابتًا مِنَ الثِّقاتِ، وقد أخرج له الإمام البُخَاري في صحيحه، فبالتَّالي تَفَرُّدَه لا يَضرُّ ولا يَقدح في الحديث.
الجهة الثانية: وهي أنَّ طائفة طعنوا في هذا الخبر من جِهةِ أنَّ عطاء لم يلقَ أمَّ سلمة -رضي الله عنها- وبالتَّالي فهناك انقطاع.
وقوله هنا: (كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ)، الأوضاح: نوع من أنواع الْحُلِيِّ، سُمِّيَ بهذا الاسم لوضوحِ لَونِه وَبَيَاضِهِ.
قال: (فَسَأَلَتْ عَنْ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: أَكَنْزٌ هُوَ؟)، أي: هل يجب إخراج زكاة أو يُعدُّ كَنزًا؟ فإنَّ كان كنزًا فلابدَّ من إخراج الزَّكَاة.
فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِذا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»، فهذا الحديث ظاهره إيجاب الزَّكَاة في الْحُلِيِّ.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنَّ الْحُلِيّ المعدَّ للُّبسِ أو العاريَّة لا زكاة فِيهِ، وَهَذا مَذهب الجُمهور، ومنهم مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ، واستدلوا على ذلك بعددٍ مِن الأَدلَّة:
الدليل الأول: قياس الْحُلِيِّ على ما يستعمله الإنسان في خاصَّةِ نفسه من ثيابه وَمَركُوبِه وَمَسكَنِه، فإنَّه لا زكاة فيه؛ لأنَّها للاستعمال الشَّخصي، قالوا: فهكذا الْحُلِيِّ.
وقالوا: إنَّ الزَّكَاة إنَّما تجب في الأموال التي تنمو، والْحُلِيِّ لا ينمو.
الدليل الثاني: استدلوا بحديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ»، ولكن هذا الحديث ضعيف الإسناد، فإنَّ من رواته عافية بن أيوب وهو ضعيف، وشيخه كذلك.
الدليل الثالث: ورورد آثار عن عدد من الصَّحابة بأنَّ الزَّكَاة لا تجب في الْحُلِيِّ.
ولكن قد خالفهم غيرهم، فرأى جماعة من الصحابة وجوب الزَّكَاة في الْحُلِيِّ، ولذلك قالوا: إنَّ قول الصَّحابي لا يُحتجُّ به عند وجود الاختلاف بين الصَّحابة.
والقول الثاني: أنَّ الزَّكَاة تجب في الْحُلِيِّ، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- واستدل على ذلك بعدد من الأدلة:
أولها: عموم النُّصوص الواردة في إيجاب الزَّكَاة في الذَّهب والفِضَّة، كما في قوله تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهب وَالفِضَّة وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة:34-35].
قالوا: هذه الآية بعمومها تدلُّ على إيجاب الزَّكَاة في الذَّهب والفِضَّة، ولم تفرق بينَ ما كان حُليًّا وما كان نقدًا وما كان تبرًا وما كان سبائكًا.
واستدلوا عليه ثانيًا بورورد عدد من الأحاديث تدلُّ على إيجابِ الزَّكَاة في الْحُلِيِّ، ومنها هَذَا الحديث -حديث أم سلمة- وقد وَرَدَ عددٌ من الأحاديث فيها هذا المعنى، ففي السُّنن أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- شاهد أساور على امرأةٍ فقال: «أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟».
قالت: لا. فقال -صلى الله عليه وسلم: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟»، ونحو ذلك من الأحاديث.
وهذه الأحاديث طُعِنَ فيها بضعف إسنادها، ولكن طائفة قالوا: إنَّه يُقوي بعضها بعضًا، وظاهر الآية إيجاب الزَّكَاة في الذَّهبِ والفِضَّة مُطلقًا، ولم يفرِّق بين طريقة وطريقة في أنواع الذَّهب والفِضَّة.
ولذا فإنَّ قول الحنفية في هذه المسألة أرجح من قول غَيرهم، ومن ثَمَّ يُرَى أنَّ الزَّكَاة تجب في الْحُلِيِّ ولو كان مُعدًّا للُّبسِ أو العاريَّة.
وقد ذكر طائفة من أهل العلم استثناء عددٍ من المسائل من الخلاف السَّابق، منها:
الأول:  الْحُلِيِّ المعدُّ للتِّجارة وللبيع، فإنَّه تجب زكاته مطلقًا.
الثاني: الْحُلِيِّ الذي يُستعمل استعمالًا محرَّمًا، كما لو وُجدَ رجلٌ يستعمله.
الثالث: ما كان خارجًا على العادة والمألوف في أمور اللُّبسِ.
وبالتَّالي تتضح لنا هذه المسألة.
{(وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)}.
هذا الحديث رواه عن سمرة ابنه سليمان، وسليمان هذا مجهول، ورواه عن سليمان ابنه خبيب وهو أيضًا مجهول، ولذلك فإنَّ الأظهر أنَّ هذا الحديث لا يصح أن يُعوَّل عليه في هذا الباب.
ولذلك قال الظَّاهريَّة: "إنَّ الزَّكَاة لا تجب في عروض التجارة".
والجمهور -ومنهم الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشَّافعي وأحمد- على إيجابِ الزَّكَاة في عُروض التِّجارة ممَّا يُعدُّ للبيعِ، واستدلوا على ذلك بعموم النصوص الواردة في إيجابِ الزَّكَاة مثل قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة:103]، ومن مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة:267]، والتِّجارة من طيِّبِ ما يُكسَب، ولذا فإنَّ الظَّاهر إيجاب الزَّكَاة في أموال التِّجارة، وهي الأموال التي يُنوَى بيعها، فما نوى مالكه بيعه من أموال الزَّكَاة وجبت زكاته.
وقوله: (نُعِدُّ لِلْبَيْعِ)، فيه دلالة على أنَّ السِّلَع المعدَّة للبيع سواءً كان الإنسان قد أعدَّها ليبيعها قريبًا أو ادَّخرها ليبيعها بعد مدَّة أنَّها تجب الزَّكَاة فيها لكلِّ حولٍ.
فالمعنى فيها: الإعداد للبيع، وليس المعنى أن يكون مُرادًا بها الاتِّجار، وكونها تجارة.
{(وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمدَ بنِ حَنْبَلٍ : حَدَّثنَا حَفْصُ بنُ غِياثٍ، حَدَّثنَا عُبيدُ اللهِ بنُ عُمرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْن عُمرَ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعُرُوضِ زَكَاةٌ إِلَّا مَا كَانَ للتِّجَارَةِ)}.
المراد بالعروض: ما لا يُكال ولا يُوزَن، ومن أمثلة هذا: السَّيَّارات، والبيوت، والجواهر الثَّمينة من غير الذَّهب والفِضَّة؛ فهذه عروض لا تجب الزَّكَاة فيها؛ لأنَّها تأتي وتزول، إلا إذا أُعدَّت للتِّجارة.
إذن عندنا الأموال الزَّكويَّة أربعة:
- بهيمة الأنعام.
- الخارج من الأرض.
- النُّقود.
- العُروض إذا كانت مُعدَّة للبيعِ.
وهذا الخبر صحيح عن ابن عمر، كلُّ رواته أئمَّة ثقات في الحديث، أحمد بن حنبل، وحفص بن غياث، وعبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة، وأخوه عبد الله ضعيف، ونافع مولى ابن عمر، وابن عمر؛ كلهم ثقات.
{(بَابُ زَكَاةِ الْمَعْدِنِ وَالرِّكازِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
قوله هنا: (زَكَاةِ الْمَعْدِنِ)، المعدن: ما يُوجد في الأرض من المعادن التي يُنتفع بها، مثل: معادن الذَّهب ونحوها.
وأمَّا الرِّكازِ: فهي أموال أهل الجاهليَّة التي دُفنَت في الأرض ونُسيَت.
والفرق بينهما:
- أنَّ المعدن ليس له مالكٌ سابق معلوم.
- وأمَّا الرِّكاز فإنَّه كان مالك في الجاهليَّة، ثم بعد ذلك لم يعد له مالك.
وقد أورد المؤلف في هذا الباب حديث أبي هريرة، وهو حديث متَّفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم.
قال: «العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ»، المراد بالعجماء: الحيونات، سُمِّيَت بهذا الاسم لأنَّها لا تتكلَّم.
وقوله: «جَرْحُها جُبَارٌ»، أي: إذا أتلفت مالًا للآخرين وإن كان بجرح أو بغيره؛ فإنَّه حينئذٍ لا يجب ضمانه، فهو هدر لا يجب فيه شيء.
وقوله: «والبِئْرُ جُبَارٌ»، أي: أنَّ مَن سقطَ فيها فإنَّه لا دية فيه إذا بُنيَت في أملاك الإنسان فدخلها شخص آخر.
قال: «والمَعْدِنُ جُبَارٌ»، المراد بذلك: أنَّ مَن استأجر أجيرًا مِن أَجلِ أَن يَعمَلَ في استخراج هذه المعادن فحينئذٍ الأجير يَتَحَمَّل مَا يلحقه، ولا يجب ذلك على صاحب العمل.
وليس المراد به هنا أنَّه لا زكاة فيه.
قال: «وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ»، تقدَّم معنا أنَّ الرِّكاز هو أموال الجاهلية قد دُفنت، ولا يُعرف صاحبها.
قوله: «الخُمُسُ»، وهو مقدار (20 %) فما وُجدَ في الأرض من أملاك الجاهليَّة فإنَّ يجب إخراج الرِّكاز فيه، وإخراج الخُمُسِ فيه، ومقداره (20 %) والواجب هنا مرَّة واحدة، ليس كأموال الزَّكَاة التي تجب كلَّ سنة، وإنَّما هذا يجب مرَّة واحدة.
{(وَعَنْ رَبيعَةَ بنِ أَبي عبدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بنِ بِلَالِ بنِ الْحَارِثِ عَن أَبِيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ مِنَ المـَعَادِنِ القَبَلِيَّةِ الصَّدَقَةَ، وَأَنَّهُ أَقْطَعَ بِلالَ بنَ الحَارِثِ العَقِيقَ أَجمَعَ، فَلَمَّا كَانَ عُمرُ بنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ لِبلَالٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقْطِعْكَ إِلَّا لِتَعْمَلَ! قَالَ: فَأقْطَعَ عُمرُ بنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- للنَّاسِ العَقِيقَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَشَيْخُهُ الْحَاكِمُ، منْ حَدِيثِ نُعَيْمِ بنِ حَمَّادٍ، عَنِ الدَّرَاورْدِيِّ عَنهُ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: "احْتَجَّ البُخَارِيُّ بِنُعَيمِ بنِ حَمَّادٍ، وَمُسلمٌ بالدَّرَاورْدِيِّ, وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلم يُخَرِّجَاهُ". كَذَا قَالَ. وَالْمَشْهُورُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ غَيرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَطَعَ لِبلَالِ بنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ القَبَلِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الفُرْعِ. فَتِلْكَ المعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاة إِلَى الْيَوْمِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الحَدِيثِ وَلَو أَثْبَتوهُ لمْ يَكُنْ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا إِقْطَاعُهُ، فَأَمَّا الزَّكَاة فِي الْمَعَادِنِ دُونَ الْخُمْسِ فَلَيْسَتْ مَرْوِيَةً عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ)}.
أورد المؤلف هنا حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال.
رَبيعَةَ: إمام فقيه.
الْحَارِثُ بن بِلَالِ بن الْحَارِثِ: تكلَّم فيه أهل العلم من جهة أنَّه مجهول، لم يروِ عنه إلا ربيعة، وبالتَّالي قالوا: حديثه غير مقبول في هذا الباب.
(عَن أَبِيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)، هو بلال بن الحارث.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أَقْطَعَ بِلالَ بنَ الحَارِثِ العَقِيقَ أَجمَعَ)، وفي رواية: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ مِنَ المـَعَادِنِ القَبَلِيَّةِ الصَّدَقَةَ)، والمراد بها: ناحية من نواحي المدينة على طريق مكَّة.
وظاهر هذا أنَّه أخذَ الزَّكَاة منها.
قال: (أَقْطَعَ بِلالَ بنَ الحَارِثِ العَقِيقَ)، العقيق: وادٍ في المدينة، سُمِّيَ يهذا الاسم؛ لأنَّ حجارته تشبه نوعًا من أنواع الحجارة الكريمة.
قال: (فَلَمَّا كَانَ عُمرُ بنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ لِبلَالٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقْطِعْكَ)، أي: لم يقطعك لتحجره عن النَّاس، وإنَّما أقطعك لتعمل فيه وتستخرج المعادن.
قال: (فَأقْطَعَ عُمرُ بنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- للنَّاسِ العَقِيقَ)، وقطعه بينهم.
وهذا الخبر قد تقدَّم الكلام عن البحث في إسناده.
وعلى كلٍّ فقد ورد في موطأ مالك ما يُعارض هذه الرواية (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَطَعَ لِبلَالِ بنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ القَبَلِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الفُرْعِ. فَتِلْكَ المعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاة إِلَى الْيَوْمِ)، وبالتَّالي فإنَّ هذا الإسناد الذي رواه ربيعة عن غير واحدٍ من علمائهم هنا فيه شيء من الانقطاع، ولذلك تكلم أهل العلم في هذا الخبر.
{(بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ
عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَو صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى العَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ. وَفِي لَفظٍ آخرَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِن بُرٍّ)
}.
صدقة الفطر المراد بها: الزَّكَاة التي تجب عند فطر النَّاس بعد إكمال شهر رمضان، وهي زكاة واجبة على البدن، لمَّا أبقى الله  -عزَّ وجلَّ- البدنَ سنة كاملة وجب على صاحبه أن يُخرجَ زكاة عن ذلك البدن.
ومقدارها: صاع عند أهل العلم.
قوله: (عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ)، نُسبت هناإلى وقتها -وقت الفطر.
قال: (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)، الصَّاع وحدة للحجم يمكن مقارنتها باللِّتر ونحوه.
ثم ذكر الأشياء التي تُجزئ في صدقة الفطر (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَو صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)، وورد في بعض الأحاديث زيادة (صاع الزبيب، وصاع الأقط)، فوقع الاختلاف بين العلماء فيما يُجزئ إخراجه في صدقة الفطر على ثلاثة أقوال مشهورة:
القول الأول: لا يجوز إخراج إلا ما ورد، وهي الأصناف السابقة الخمسة (القمح، والشعير، والتمر، والأقط، والزبيب). وهو مذهب الجمهور.
القول الثاني: كل طعام يَقتَاتُه النَّاس يجوز إخراجه. وهو مذهب طائفةٌ مِن أَهلِ العِلمِ، واستدلوا عليه بما ورد في حديث أبي سعيد، قال: "كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ"[59]، واستدلوا عليه أيضًا بالحديث الآخر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن صدقة الفطر «طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، وَطُهْرَةً لِلصَّائِمِ»[60].
القول الثالث: يجوز إخراجها بالقيمة، ونُسبَ إلى مذهب أبي حنيفة -رحمه الله.
ولكن الأحاديث إنَّما ذكرت هذه الأصناف، وعمل الناس في عهد النُّبوَّة عليه.
فإن قال قائل: إنَّ حاجة الفقير للنقود أكثر.
قيل: إنَّ المصلحة في إعطائه من الطعام أكبر، لأمور:
الأمر الأول: لأنَّه لو أعطيَت من النُّقود لطلبها كثير، وإذا أعطيت من الطعام لم يطلبها إِلَّا مَن اشتدَّت حاجته.
والأمر الثاني: إذا أُعطيَت صدقة الفطر من النُّقود لم يكتفِ طالبوها باليسير منها، بخلاف ما إذا أُعطوا من الطَّعام فإنَّهم يكتفون ويقتصرون.
الأمر الثالث: مقصود الشَّارع هو ألا يسأل النَّاس في يوم العيد، وهذا لا يكون إلا بإعطائهم ما يطعمونه ويقتنونه.
ومن هنا فإنَّ الأظهر هو أنَّ قول الحنفية في هذه المسألة ليس براجح فيها، والقول الثاني هو أرجح الأقوال في المسألة.
قوله هنا في حديث ابن عمر: (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ) فيه دلالة على أنَّ زكاة الفطر فرض واجب، لا يجوز للقادر عليها أن يترك إخراجها.
وقوله: (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَو صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالْحُرِّ)، الحرُّ: يُخرجه عن نفسه وعن مَن يمونه.
والمملوك: لا يملك مالًا فيُخرج زكاة الفطر عنه سيده
قال: (وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ)، الصغير إن كان عنده مال أُخرجَت من ماله، وإن لم يكن عنده مال أخرجها وليُّه سواء من الوالد أو من القريب.
قال: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، استُدلَّ بهذه اللفظة على أن زكاة الفطر لا تجب على غير المسلمين، ولذا لو كان يملك عبدًا غير مسلمٍ لم يجب عليه إخراج الزَّكَاة.
واستُدلَّ في هذا أيضًا أنَّه لو تزوجَ امرأة غير مسلمة لم يجب عليه أن يُخرج الزَّكَاة عنها.
وقوله: (وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ)، فهذا هو أفضل أوقات إخراج زكاة الفطر، وهو أن يكون في يوم العيد بعد الفجر وقبل أداء صلاة العيد.
قوله: (فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ)، يعني: بالصَّاع من الشَّعير والتَّمر (نِصْفَ صَاعٍ مِن بُرٍّ)، ورد ذلك أنَّه من فعل معاوية -رضي الله عنه- ولكن ليس هذا بمرفوع، ولا يوافقه عددٌ من الصَّحابة، ولذا فإنَّ الظَّاهر كغيره في زكاة الفطر، أنَّه يجب أن يكون صاعًا. وهناك طائف أخذوا بهذا كأحمد وجماعة، ولكن القول الأول بأن الواجب صاع من جميع الأصناف أرجح.
{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا نُعْطِيْها فِي زمَانِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَو صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَو صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَو صَاعًا مِنْ زَبِيْبٍ. فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْراءُ قَالَ: أُرَى مَدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي لَفْظٍ: أَو صَاعًا مِنْ أَقِطٍ)}.
في قوله: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا نُعْطِيْه) بيانٌ لِما تعارف النَّاسُ عليهِ في عَهدِ النُّبُوة.
قوله: (صَاعًا مِنْ طَعَامٍ)، الأظهر أنَّ لفظةَ الطَّعام قد تخصَّصت في عُرفِهم بالبُرِّ، وبعضهم قال: إنَّها تشملُ جميعَ الأطعمة.
قوله: (أَو صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَو صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَو صَاعًا مِنْ زَبِيْبٍ)، هذه الأصناف المذكورة في الخبر.
قال: (فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ)، يعني: وقت ولاية معاوية.
قوله: (وَجَاءَتِ السَّمْراءُ)، وهو القمح الشَّامي، وكان نوعًا جيِّدًا مِنَ القَمحِ.
قَالَ: (أُرَى)، أي: من اجتهاده (مَدًّا مِنْ هَذَ) يعني: مِن السَّمراء -أو القمح الشَّامي- (يَعْدِلُ مُدَّيْنِ)، وعلى ذلك رأى أنَّ الواجبَ في زَكَاةِ الفِطر هو نصف صَاع، ولكن هذا مخالفٌ لظواهر النُّصوص التي توجب في زكاة الفِطر صَاعًا تامًّا.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: أَو صَاعًا مِنْ أَقِطٍ)، المراد بالأَقطِ: اللبن الذي يتم تجفيفه حتى ييبس، وبالتَّالي يقومون بطبخه حتى تخرج منه السوائل، ومن ثَمَّ يعرضونه ويُجفِّفونه.
{أحسن الله إليك..
هل اجتهاد معاوية بن أبي سفيان مبنيّ على القِيمة في السَّمراء، فَعَدَلَ بها مَا يُسَاوِي الصَّاع؟}.
لعلَّه أراد أنَّها لمَّا كانت حبَّتها أكبر وانتفاع النَّاسِ بِهَا أكثر رَأَى أنَّ هَذه لها مِنَ المزيَّة ما ليس لغيرها.
{(وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثنَا حَامِدُ بنُ يَحْيَى, حَدَّثنَا سُفْيَانُ, حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانٍ سَمِعَ عِياضًا قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلَّا صَاعًا, إِنَّا كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاعَ تَمْرٍ أَو شَعيرٍ أَو أَقِطٍ أَو زَبِيْبٍ، هَذَا حَدِيثُ يَحْيَى. زَادَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ فِيهِ: أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ. قَالَ حَامِدٌ: "فأنْكَروا عَلَيْهِ فَتَركَهُ سُفْيَانُ". قَالَ أَبُو دَاوُد: "فَهَذِهِ الزِّيَادَة وهْمٌ منِ ابْنِ عُيَيْنَةَ"، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "لَا أعْلَمُ أحَدًا قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث (دَقِيْقٌ) غَيرَ ابْنِ عُيَيْنَةَ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ جمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَجْلَان، مِنْهُم حَاتِمُ بنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمنْ ذَلِك الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ فِي الصَّحِيحِ وَيَحْيَى الْقَطَّان، وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، وَحَمَّادُ بنُ مَسْعَدَةَ، وَغَيرُهُم، فَلمْ يَذكرْ أَحَدٌ مِنْهُم (الدَّقِيقَ) غَيرُ سُفْيَانَ، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ)}.
هذا الحديث من أحاديث أبي سعيد الخدري، قال في أوَّله: (لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلَّا صَاعً)، أي: أنَّه لم يَرَ صحَّة اجتهاد مُعاوية في إخراج نصف الصَّاع، وإنَّما رأى البَقَاءِ على إِخراجِ صاعٍ كامل مِن جميعِ الأصنافِ.
وقوله: (زَادَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ فِيهِ: أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ)، الدقيق: حبُّ البُرِّ يتم طحنه.
وقد اختلف العلماء في الدقيق هل يجوز إخراجه في زكاة الفطر:
- فقال طائفة بعدم جوازه؛ لأنَّه ليس من الأصناف الأربعة.
- وقال آخرون: يجوز لأنَّه قَمحٌ، ولكنَّه مدقوق، واستدلوا عليه بأنَّ الدَّقيقَ مِنَ الطَّعامِ، ولذا تشتد الحاجة إليه، والذي تُكفى به مُؤنة العمل بالنسبة للقمح، والقمح يجوز إخراجه إذا كان دقيقًا.
وذكر المؤلف أنَّ لفظ (صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ) تكلَّم كثيرٌ مِن أَهلِ العِلمِ فيها، وهو أنَّ سفيان بن عُيَينَه قد وَهِمَ فيها.
{(وَعَنْ أَبي يَزِيدٍ الْخَولَانِيِّ، عَنْ سَيَّارِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً للصَّائِم مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وطُعْمَةً للْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن ماجَهْ، وَالْحَاكِم -وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرط البُخَارِيِّ، وَلم يُخَرِّجَاهُ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِن سَيَّارًا وَأَبا يَزِيدَ لمْ يُخَرِّجْ لَهُما الشَّيْخَانِ، وَأَبُو يَزِيدٍ الْخَولَانِيِّ -هُوَ الصَّغِيرُ- قَالَ فِيهِ مَرْوَانُ بنُ مُحَمَّدٍ: "شَيْخُ صِدْقٍ". وسَيَّارٌ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: "لَا بَأْسَ بِهِ". وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: "شَيْخٌ"، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ الدَّرَاقُطْنِيُّ: "رُوَاةُ هَذَا الحَدِيثِ لَيْسَ فِيْهِم مَجْرُوحٌ". وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ: "هَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ". وَاللهُ أعلمُ)}.
ذكر المؤلف هنا حديث ابن عباس، قال: (فَرَضَ)، فيه دلالة على أنَّ زَكَاةَ الفِطر واجبة.
وهذا الخبر حسنُ الإسناد ورواته ثقات، فمحمد بن عجلان أخرج له مسلم، والصَّواب أنَّه صَدوق، فيكون الحيث حَسن الإسناد.
قال: (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً للصَّائِم)؛ لأنَّ الصَّائِمَ في أثناء صيامه قد يحدث منه لَغوٌ -أي: حديث لا ثمرة له- ورفث -أي: حديث فيما بتعلق بأمور النِّسَاء.
قال: (وطُعْمَةً للْمَسَاكِينِ)، في هذا دلالة على أنَّ الحسنات يُذهبنَ السَّيئَات، وفيهِ دَلالَةٌ على أنَّ أي طعام يُقتات يجوز إخراجه في صدقة الفطر.
قوله: (للْمَسَاكِينِ)، فيه دلالة على أنَّ زكاةَ الفِطر يَنحَصِرُ صَرفها في المساكين، وأنَّها لَيست لجميع الأصناف الثَّمانية، وإذا جازت للمساكين فمن باب أولى تجوز للفُقَراءِ على الصَّحيحِ في القول بأن الفقيرَ أشدُّ ضَعفًا مِنَ المِسكِينِ كما قال أحمد خلافًا للجمهور.
وأمَّا بقيَّةُ الأصنافِ كالغَارِمِين والرِّقَابِ، والجهادِ؛ فهذه لم تُذكر في هذا الخبر.
ولذا فإنَّ الأظهر من قولي أهل العلم: أنَّ صدقة الفطر تنحصر بالمساكين والفقراء.
قوله: (مَنْ أَدَّاهَ)، أي: مَن دَفَعَهَا للمِسكينِ (قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ)، فيه وجوب أن تكون صدقة الفطر قبل الصَّلاةِ.
ولكن هنا مسائل، وهي: أنَّ بعض النَّاس قد يُعطيها لوكيله، فنقول: يد الوكيل كيد الأصيل، وليست كيد الفقير، إن كان هذا الوكيل وكيلًا عن الفَقِيرِ فلا بَأَسَ أَن يَأخذَهَا قبل الصَّلاة.
أمَّا وكيل الدَّافع فإنَّه لا يجوز أن يُكتفى بإعطائه إيَّاها قبل الصَّلاة، بل لابدَّ من دفعها للفقير.
وهنا مسألة، وهي: أنَّ بعض النَّاس قد لا يجد فقيرًا في بلده فيُخرجها في بلدٍ آخر.
فنقول: إذا لم يجد فقيرًا في بلده جاز.
لكن قد نجد مشكلة، وهي: اختلاف وقت صلاةِ العيدِ مَا بين مَكانٍ وآخَر، فحينئذٍ هل نقول العبرة بمكان الإخراج أو بمكان الوجوب؟
الأظهر أنَّها بمكان الإخراج؛ لأنَّ المعوَّل عليه عدم وجود الفُقَراء الذين يَسألونَ في يومِ العِيدِ، وبالتَّالي لابدَّ من إخراجها قبل الصَّلاة في بلدِ الإخراجِ.
قال: (وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ)، فيه المنع مِن إِخرَاجِها بعدَ الصَّلاة.
وقد قال أحمد وطائفة: إنَّ مَن أدَّاها في يوم العيدِ فهو أداء؛ لأن المقصود أن تكون طعمة للمساكين، وفيه إغناء السَّائلين يوم العيد، وهذا لازال موجودًا، ومن ثَمَّ قالوا لو دُفِعَت في يوم العيد أجزأته.
لكن مَن أخَّرها يأثم، وبالتَّالي ماذا يفعل؟
قال طائفة: يُخرجها في الحال.
وقال آخرون: يُخرجها من العام المقبل في نفس وقت إخراج الزكاة.
والأظهر هو الأول؛ لأنَّ هذه الزكاة تعلقت بذمَّة المكلف، ولا تسقط مِن ذمَّته إلا بأدائها، والأصل في وجوب الأداء أن يكون فورًا.
وبعض أهل العلم قال: إذا لم يؤدِّها قبل الصَّلاة سَقَطَت، ولم يُجزئه أن يُخرجها قضاءً، وهذا مَبنيٌ على قاعدة أصوليَّة، وهي: "القَضَاءَ هل يجب بالأمر الأول أو لابدَّ فيه من أمرٍ جديد؟"
والأظهر أنَّ الأمر إذا تعلَّق بِذِمَّةِ المكلَّف لم يُجزئه إلا إبراءٌ من الشَّارع أو أداءٌ له، وبالتَّالي إذا لم يؤدِّها فإنَّ الواجب لازال باقيًا في ذمَّته.
{(بَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ
عَنْ عَطاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لَغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعامِلٍ عَلَيْهَا، أَو لْرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَو غَارِمٍ، أَو غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَو مِسْكِيْنٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى مِنْهَا لَغَنِيٍّ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ -وَهَذَا لَفظُهُ-، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ ماجَهْ، وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهمَا، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا, وَهُوَ الصَّحِيحُ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: رَوَاهُ غَيرُ وَاحِدٍ عَنْ زيدٍ، عَنْ عَطاءِ بنِ يَسَارٍ مُرْسلًا، وأَسْنَدَهُ عبدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَالثَّوْريِّ، وَإِذا حَدَّثَ بِالْحَدِيثِ ثِقَةٌ فأَسْنَدَهُ كَانَ عِنْدِي الصَّوَاب، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عِنْدِي ثِقَةٌ، وَمَعْمَرٌ ثِقَةٌ)
}.
قول المؤلف: (بَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ)، أي: كيف نقوم بتوزيعها وتقسيمها على مَن يكون من أهلها، ففيه بيان مَن يجوز إعطاؤه من الزكاة ممَّن لا يجوز.
وأورد المؤلف فيه حديث أبي سعيد، وقد ذكر اختلافًا:
- فإنَّ طائفة ذكروا اسم الصَّحابي عن عطاء عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون الحديث متَّصلًا مُسندًا.
- بينما آخرون لم يذكروا اسم الصَّحابي، قالوا: عن عطاء بن يسار، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:...
وبالتَّالي فعندنا روايتان: رواية مُرسَلَة، ورواية مُسنَدَة، فأيُّهما يُقدَّم؟
قال طائفة: لابد من التَّرجيح، ثم رجَّحوا المرسلة.
وقال آخرون: لا يمتنع أن يُروى الخبر مرَّة مُسندًا، ومرة مُرسلًا، وبالتَّالي يكون كلٌّ منهما صحيح.
وقوله: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لَغَنِيٍّ»، هذا قد جاء ظاهره في الآية في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً﴾ [التوبة:60]، فإذن أصحاب الزَّكاة قد حُدِّدوا في الآية، فلا يجوز صرف الزَّكَاةِ في غَيرِ هَذه الأصنافِ.
وقوله: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لَغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعامِلٍ عَلَيْهَ»، المراد بالعامل: مَن يجبي الصَّدقة ويأخذها، فيرسله الإمام؛ ليقوم بجمعِ الزَّكوات من الناس، أمَّا مندوبو الجمعيَّات ومَن يماثلهم فهؤلاء ليسوا مِنَ العَامِلينَ، وبالتَّالي لا يأخذون من الزَّكَوَاتِ.
قال: «أَو لْرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ»، يعني: وجبت الزَّكاةُ على رَجُلٍ فأخرج الإبل، فقام المُصَّدِّق ببيع ما أخذه، فنقول حينئذٍ: يجوز للغني أن يشتريها إِلَّا إِذَا كانَ صاحب المال الأول لِئلا يُحابى في البيع.
قال: «أَو غَارِمٍ»، الغارم على نوعين:
الأول: غارم لحظِّ نفسه، فهذا إذا كان غنيًّا لا يُعطَى مِنَ الزَّكَاةِ، عليه دين تديَّنه لحظِّ نفسه، وعنده أموال يمكنه السَّداد، فحينئذٍ نقول: لا يجوز دَفعُ الزَّكَاةِ له؛ لأنَّه غني.
الثاني: غارم لحظِّ غيره، كمن تدخَّل للصلح بين طائفتين مختصمتين، فتحمَّل ما بينهما من الجراحات والدِّيات والإتلافات من أجل أن يكون هذا سببًا في الإصلاح بينهما، فهذا يجوز أن يُعطى مِنَ الزَّكَاةِ ما يُسدِّد بِهِ هَذه الغَرَامَات وَلو كَانَ غَنيًّا.
قوله: «أَو غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ»، فهذا يُعطى مِنَ الزَّكَاةِ تكاليف ذهابه وإيابه، وتكاليف قتاله ولو كان غنيًّا.
وفي قوله: «أَو غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ»، دلالة لمذهب الجمهور الذين يقولون إن قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يُرَادُ بِهِ الجهاد.
وبعض أهل العلم قالوا: إن هذه اللفظة يُراد بها كلُّ عمل صالح يؤدِّي إلى نشر دين الله -عزَّ وجلَّ- من بناء المساجد ونحوها.
والجمهور -وهو ظاهر مذهب الأئمة الأربعة- على القول بتخصيص قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بالجهاد، ولابدَّ أن يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله، فإن كان لغير ذلك من المعاني فإنَّه لا يكون مصرف من مصارف الزكاة.
قال: «أَو مِسْكِيْنٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى مِنْهَا لَغَنِيٍّ»، يعني: أَعطَيتَ الزَّكَاةَ للمِسكينِ، فَقَامَ المسكينُ بِإِهدَائِها، فأهدى منها لغنيٍّ.
{أحسن الله إليك..
هل طالب العلم يدخل في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؟}.
طالب العلم إمَّا أن يَكون فَقِيرًا أَو مِسكِينًا؛ فيجوز دَفعُ الزَّكَاةِ لَه لذلك، كما لَو أَشغَلَهُ طَلَبُ العِلمِ عَن الاكتسابِ؛ فحينئذٍ نقول: هو ممَّن يَدخلُ في الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ.
لو قلنا: إنَّه يَدخُلُ في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لجاز دَفْعُ الزَّكَاة لَه ولو كان غنيًّا، وهذا ممَّا وَقَعَ الاتفاقُ عَلى أنَّه لا تُدفَع له الزَّكَاة، وبالتَّالي نقول: طالب العلم الذي يَعجز عَن نَفَقَاتِه لاشْتِغَالِه بالعِلمِ يَجُوزُ دَفعُ الزَّكَاةِ لَه؛ لأنَّه مِن الصِنفِ الأول أو الصنفِ الثَّاني.
{أحسن الله إليك..
الجندي الذي يأخذ راتبًا من الدولة هل يدخل أيضًا في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾}.
الجندي يؤدي عَملًا يأخذ عليهِ راتبًا، هل يجوز أن تُدفَعَ لَه زكاةٌ؟
نقول: إن كان راتبه يكفي حوائجه؛ فحينئذٍ لا يجوز أن يَأخُذَ الزَّكَاةَ، وإِن كَانَ لَا يَكفِي حوائجه فإنَّه يَجُوزُ دَفعُ الزَّكَاةِ لَه.
{(وَعَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ فَرآهُمَا جَلْدَينِ! فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمُا أَعْطَيْتُكُمَا, وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَويٍّ مُكْتَسِبٍ» رَوَاهُ الإِمَام أَحْمدُ، -وَقَالَ: "مَا أَجْوَدَهُ مَنْ حَدِيثٍ!" وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، -وَهَذَا لَفظُهُ)}.
هذا الحديث جيد الإسناد، رواته ثقات.
قوله: (أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ)، هؤلاء الرجال من الصحابة. وعبيد الله بن هدي بن الخيار من صغار الصحابة.
قال: (أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ)، أي: يطلبان أن يعطيهما من الصدقة.
قال: (فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ)، أي: أعاده وكرَّره.
قال: (فَرآهُمَا جَلْدَينِ!)، أي: قويين.
 فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمُا أَعْطَيْتُكُمَا, وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَويٍّ مُكْتَسِبٍ»، فيه دلالة على جواز دفع الزكاة لمن يسألها، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج:24-25]، ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة:177]، لكن إن كان ظاهره الضَّعف أعطاه بدون أن يَعِظَه، وإن كان ظَاهِرُهُ القوَّة والجَلَد وأنَّه قادر على الاكتسابِ وَعَظَه وَخَوَّفَه، فإنَّه لمَّا رآهما جلدين -أي: قويين- قال: «إِنْ شِئْتُمُا أَعْطَيْتُكُمَا, وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَويٍّ مُكْتَسِبٍ»، فالقوي الذي عنده قُدرة على الاكتسابِ لا يجوزُ لَه الأخذ مِنَ الزَّكَاةِ؛ بل يجبُ عَلَيهِ العَمَلَ حَتَّى يَكتَسِب.
{(وَعَنْ قَبِيصَةَ بنِ الْمُخَارِقِ الْهِلَالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْأَلُهُ فِيهَا؟ فَقَالَ: «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرُ لَكَ بِهَ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لأَحِدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَو قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوي الحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَو قَالَ: سِدَادًا منْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبِهَا سُحْتً». رَوَاهُ مُسلمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: «حَتَّى يَقُولَ» بِاللَّامِ)}.
قوله: «حَتَّى يَقُولَ» في بعض الروايات «حَتَّى يَقُوم ثلاثة»، يعني: يشهدون له.
وحديث قبيصة بن المخارق من الأحاديث التي فيها ذكر مَن تحلُّ لهم المسألة -يعني يجوز لهم أن يسألوا- وقد انتقل قبيصة من مكانه وبلدته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ هذا الحديث الذي فيه فوائد علميَّة قد لا يتَّسع المجال اليوم لأخذها، ومن ثَمَّ نترك هذا الحديث للقائنا اللاحق والآتي -بإذن الله عز وجل.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله للخير، كما أسأله لإخواني المخرج والفني التوفيق لِمَا يُحب ويرضى، وأسأله -جلَّ وعَلا- لمن يشاهدنا ويُتابعنا العلم النَّافِعَ، والعَمَلَ الصَّالِحَ، اللهُمَّ اجعلهم هُدَاةً مُهتدين، ومن أسباب الخير والهدى والصَّلاحِ، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يُصلِحَ أحوالَ الأمَّة، وأن يجعل فَرض الزَّكَاةِ فِيهَا عَامًّا مُنتشرًا يُقوم الغنيُ بالعطفِ عَلَى الفقيرِ وَيَدفَعُ لَه زكاةَ مَالِه.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكل خير، وجعلنا الله وإيَّاكُم مِنَ الهُداةِ المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك