الدرس التاسع

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7057 24
الدرس التاسع

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فهذا لقاء جديد، نتدارس فيه شيئًا من أحاديث كتابِ "المُحرَّر" للحافظِ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا فيما مضى قد ابتدأنا بأحاديثِ كتاب العيدين، ولعلَّنا نُواصل الحديثَ في ذلك، فنقرأ حديثَ أمِّ عطيَّة في هذا الباب، فليتفضَّل الشَّيخُ مشكورًا.
{قال المؤلِّفُ -رحمه الله: (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الفِطْرِ والأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ, فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ ودَعْوَةَ الـمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابَهَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمسلمٍ)}.
قوله هنا: (قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) ظاهرُ هذا الأمر أنَّه على الوجوبِ، ولذلك استدلَّ الحنفيَّة بهذا اللَّفظِ على وجوبِ صلاة العيدِ، والجمهورُ على أنَّها ليست بواجبةٍ على الأعيانِ، فبعضُهم قال: إنَّها من المستحبَّاتِ، وحَمَلَ الأمرَ هنا على الاستحبابِ، واستدلَّ على ذلك بما ورد أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن الواجبِ مِن الصَّلواتِ، فقال: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»[41]، ولم يذكر منها صَلاةَ العيدِ.
وآخرون قالوا: إنَّ صلاةَ العيدِ مِن فروضِ الكفاياتِ، وحَمَلوا الأمرَ هنا على أنَّه أمرٌ للمجموعِ، وليسَ أمرًا لكلِّ واحدٍ مِن الأفرادِ، ولعلَّ هذا القولَ هو الذي تجتمعُ عليه الأدلَّةُ.
وقوله: (أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الفِطْرِ والأَضْحَى) يعني أنَّهن يذهبنَ لمواطنِ الصَّلاةِ في عيدِ الفطرِ والأضحى. وقوله: (الْعَوَاتِقَ) أي النِّساءُ كبارُ السِّنِّ، (وَالْحُيَّضَ) أي المرأةُ التي عليها عادةُ الحيضِ، (وَذَوَاتِ الْخُدُورِ) أي الشَّابَّات التي مِثلهنَّ تَستحي مِن الخروجِ أمامَ النَّاسِ.
وقد وردَ في الحديثِ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان أشدَّ حياءً مِن العذراءِ في خِدرِها.
قال: (فَأَمَّا الْحُيَّضُ) الحُيَّضُ لا يصحُّ منهنَّ صلاةً، ولا يجوزُ لهنَّ أن يصلينَ، ولذلك أُمِرنَ أن يَعتزِلنَ المُصلَّى -أي مَوطِنَ الصَّلاةِ- وفي هذا دَلَالةٌ على أنَّ الحائضَ لا يجوزُ لها أن تُصلِّيَ -كما تقدَّم- وقولُه: (فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ) أي يَأتينَ في مكانٍ ينفردنَ به عن بقيَّةِ النِّساءِ.
واستُدلَّ بهذا على أنَّ مُصلَّى العيدِ له أحكامُ المساجدِ مِن جهةِ أنَّ المرأةَ الحائِضَ لا تلبث فيه، وقد وَرَدَ في بَعضِ الألفاظِ: (فَيَعْتَزِلْنَ المُصَلَّى).
ومِن المعلومِ أنَّ الحائضَ لا تلبث في المسجدِ، لِما وردَ في سُننِ أبي داود، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ»[42]، وليسَ المرادُ بِه الاجتياز، وإنَّما المرادُ به الجلوسُ واللَّبثُ.
وقوله: (وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ) أي يحضرنَ خُطبةَ العيدِ التي فيها مواعظَ يَستفدنَ فيها في حياتِهنَّ، وفي هذا إطلاقُ اسمِ "الخير" على المَوعِظَةِ، لِما يكونُ لها مِن الأثرِ الحميدِ على النَّاس في صَلاتِهم.
قال: (ودَعْوَةَ الـمُسْلِمِينَ) أي: يَشهدنَ الدُّعاءَ الذي يَدعو بِه الخطيبُ في صلاةِ العيدِ.
وفي هذا دَلَالةٌ على مشروعيَّة وجودِ خُطبةِ للعيدِ، وتكون مشتملةً على موعظةٍ وعلى دعاءِ.
وفيه دَلَالةٌ على أنَّ الدُّعاءَ ينبغي أن يكونَ على جهةِ العمومِ.
وقولُه: (ودَعْوَةَ الـمُسْلِمِينَ) يحتملُ أنَّ الدَّعوةَ هنا مضافةٌ إلى الفاعلِ، أي أنَّ المسلمينَ الحاضرينَ يدعونَ بِتأمِينِهِم على دعاءِ الإمامِ، ويحتملُ أن يكونَ لفظُ المسلمينَ المضاف إليه هنا منسوبًا للمفعولين، أي: الدَّعوة التي يُدعَى بها لِلمُسلِمينَ.
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ) تقوله أمُّ عطية -رضي الله عنها- (إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ؟) المرادُ بالجلبابِ: العباءة، تُسمَّى المِلحَفَة، وفي هذا دَلَالةٌ على أنَّ النِّساءَ في عهدِ النُّبوَّة كنَّ يلبسنَ الجلبابَ. والعلماءُ على أنَّ الجلبابَ واجبٌ على المرأةِ أن تلبَسَه عندَ خروجِها عندَ الرِّجالِ الأجانبِ، وكان ممَّا استدلُّوا به: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 59]، وقوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ [النور: 60]، فالمرادُ بالثِّيابِ هنا: الجلباب.
ويدلُّ عليه هذا الحديثُ، فإنَّه قيل له: (إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ؟)، فقال: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابَهَ» ولو كانَ الجلبابُ غيرَ واجبٍ لقالَ: تخرجُ وإن لم يكن عندها جلباب.
وفي هذا الأمرُ بتعاونِ النَّاسِ على ما فيه الخير، وإعانَةُ بعضِهم لبعضِهم الآخر على أداءِ العباداتِ، لقوله: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابَهَ» أي: تشتركَ امرأتانِ في جلبابٍ واحدٍ.
{(وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمرُ يُصَلُّونَ العِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
في هذا الحديث: أنَّ صلاةَ العيدِ لها خُطبةٌ، وأنَّ صلاةَ العيدِ يُبتدأُ بِها قبلَ الخُطبَةِ، وهذا هو المشروع، ويُلحَق بذلكَ صلاةُ الاستسقاءِ، فإنَّها تماثلُ صلاةَ العيدِ في كيفيَّتِها وهيئتِها، وسيأتي البحثُ فيها بإذنِ الله -عزَّ وجلَّ.
وقوله: (قَبْلَ الْخُطْبَةِ) ظاهره أنَّ العيدَ ليسَ له إلا خُطبةٌ واحدةٌ، وأهلُ العلم يقولون: إنَّ العيدين يُشرعُ لهما خطبتانِ، واستدلُّوا على ذلك بأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ عِندَ الرِّجالِ، وخَطَبَ عندَ النِّساءِ، أي خَطَبَ خطبتين، كما في حديثِ بلال، واستدلُّوا عليه أيضًا بقياسِه على الجُمُعَة، واستدلُّوا عليه بأنَّه هو المتوارَث بالتَّواتُرِ مِن عملِ المسلمين مِن عَهدِ النُّبوَّة، ولم يُؤثَرْ عنهم الاكتفاءُ بخطبةٍ واحدةٍ. وقالوا: إنَّ لفظةَ (الْخُطْبَةِ) ليسَ المراد بها الخطبة الواحدة، وإنَّما الألف واللام هنا للاستغراق، أي: جميع ما يخطب به.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَها وَسِخَابَهَا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلمٌ -وَعِنْدَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يَوْمَ أَضْحَى -أَوْ فِطْرٍ- فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الـمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَها وسِخَابَها-)}.
قوله هنا: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ) المرادُ به صلاةُ العيد. قوله: (رَكْعَتَيْنِ) فيه أنَّ صلاةَ العيدِ تكونُ مِن ركعتين، فمَن أدَّاهَا في وقتِها معَ الإمامِ أدَّاها بركعتينِ، ولكن مَن فاتته صلاةُ العيدِ قيل أنَّه يُشرع له قضاؤها. وهل يفعلها بأربعِ ركعاتٍ كما قالت طائفةٌ أو بركعتينِ؟
الظَّاهرُ أنَّه يفعلها بركعتين؛ لأنَّ القضاءَ يُماثِلُ الأداءَ، ولأنَّ القضاءَ هنا لم يُشرع إلا مِن خلالِ النُّصوصِ التي جاءت بالأمرِ بصلاةِ العيدِ أداءً، وهي لم تأتِ إلا بركعتين.
وقوله: (لم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَ) أي أنَّه لا يوجد نافلة قبلَ صلاةِ العيدِ، ولا بعدَ صلاةِ العيدِ.
أمَّا مِن جهةِ مَوطنِ الصَّلاةِ -مُصلَّى العيدِ- فإنَّه محلُّ اتِّفاقٍ ألا يُصلِّيَ نافلةً قبله ولا بعده، وبعضهم قال: يُستحبُّ إذا عادَ إلى مَنزلِه أن يُصلِّيَ ركعتين؛ لورود ذلك عن بعضِ السَّلفِ، والظَّاهرُ أنَّ فعلَ السَّلفِ كانَ لصلاةِ الضُّحَى، لا لكونِها سُنَّةٌ تابعةٌ لصلاةِ العيدِ.
وقوله: (لم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَ) الظَّاهرُ أنَّ هذا يشملَ المأمومين؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ أفعالَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يُشرعُ الاقتداءُ بها، إلا ما وردَ الدَّليلُ بالخُصُوصيِّة أو بإثباتِ كونِه ليسَ مِن العباداتِ.
قوله: (ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ) هنا حَذفٌ في الخبر، وأصله أنَّه -صلى الله عليه وسلم- بعدَ الصَّلاةِ خَطَبَ الرِّجالَ، (ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، وكن في أواخر الناس في صلاة العيد، وَمَعَهُ بِلَالٌ) وهذا فيه دَلَالةٌ على أنَّ النِّساءَ يكنَّ في موطنٍ منعزلٍ عن موطنِ الرِّجالِ في الصَّلاةِ.
قال: (فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ) أي: رغَّبهنَّ فيها، وظاهرُ هذا أنَّها صدقةُ تطوُّعٍ.
قال: (فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ) أي يُلقينَ الصَّدقاتِ، وكانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قد أمرَ بلالًا أن يجمعَ هذه الصَّدقاتِ.
قال: (تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَه) الخُرص: نوعٌ مِن أنواعِ الحُليِّ يُوضع في الأذُنِ، وبعضهم قد يسمِّيه "الحَلَق"، وقد يُسمَّى بغيرِ ذلك.
قوله: (وَسِخَابَهَ) المرادُ بِه القِلادَة التي تُوضع على الصَّدرِ، إذا كانت مِن خَرزٍ منظومٍ في خيطٍ، هذا يُقال لها السِخَاب، والغالب أنَّه يلبسه النِّساءُ.
قال: (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلمٌ -وَعِنْدَهُ) يعني عند مسلم (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يَوْمَ أَضْحَى -أَوْ فِطْرٍ- فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَ) روايةُ البُخاري فيها تحديدُ ذلكَ بيومِ الفطرِ، وروايةُ مُسلمٍ على الشَّكِّ بينَ الفطرِ والأضحَى، وفي هذا دَلَالةٌ على أنَّ صلاةَ العيدِ لا تُصلَّى إلا في هذينِ اليَومينِ، وأنَّها لا تُشرعُ أن تُصلَّى في غيرهما.
وفي هذا دَلَالةٌ على أنَّ الأعيادَ تقتصرُ على هذينِ اليومينِ، وقد وردَ في الحديثِ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جاءَ إلى أهلِ المدينةِ، وهم يحتفلونَ بيومين لهم، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ»[43].
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقيلٍ، عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَا يُصَلِّي قَبْلَ العِيْدِ شَيْئًا، فَإِذا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وابْنُ عَقيلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ)}.
هذا الحديث يُؤكِّد ما سَبَقَ مِن أنَّه لا يُشرعُ أن يُصلَّى قبلَ العيدِ ولا بعدها في المصلَّى، وإنَّما البحثُ في أن يتنفَّلَ الإنسانُ بعدَ العيدِ في منزلِه، وحديثُ البابِ فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختَلَف فيه، والصَّواب أنَّه ضعيفُ الإسنادِ، وبالتَّالي فإنَّ هذا الحديثَ لم يَثبُتُ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وما وردَ عن بعضِ السَّلفِ مِن كونِه يُصَلِّي في بيتِه الركعتين بعدَ صلاةِ العيدِ؛ فالظَّاهر أنَّه يُصلِّيهما على أنَّهما صلاةُ ضحى، وليسَ على أنَّهما سُنّةٌ تابِعةٌ لصلاةِ العيدِ.
{(وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَبَّرَ فِي عِيْدٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سَبْعًا فِي الأُولَى، وخَمْسًا فِي الآخِرَةِ، وَلم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ، وَقَالَ: "أَنا أَذهَبُ إِلَى هَذَا"- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَلَفظُهُ: قَالَ: قَالَ نَبِيُّ الله -صلى الله عليه وسلم: «التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الأولَى، وَخَمْسٌ فِي الآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيهِمَ» وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ صَحَّحَ هَذَا الحَدِيثِ)}.
هذا الحديثُ يتعلَّق بالفرقِ بينَ صلاةِ العيدِ وغيرِها مِن الصَّلواتِ، فإنَّ صلاةَ العيدِ تُؤدَّى بركعتينِ، لكنَّها تمتازُ بوجودِ تكبيراتٍ بعدَ تكبيرةِ الإحرامِ، وبعدَ تكبيرةِ الانتقالِ للرَّكعةِ الثَّانيةِ.
وقد أخرجَ المؤلِّفُ هنا مِن حديثِ عمرو بن شعيب عن أبيه، الذي هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن جده، الذي هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا الإسنادُ حسنٌ، فإنَّ شعيبًا صدوقٌ، وبقيَّة رجالِه ثقاتٌ.
قالَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَبَّرَ فِي عِيْدٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً) الإمامُ أبو حنيفة يقول: يُكبِّرُ في الأولى خمسًا، ويُكبِّرُ في الثَّانية ثلاثًا، ولكنَّه محجوجٌ بحديثِ البابِ.
وقوله: (كَبَّرَ فِي عِيْدٍ) يعني في إحدى صلواتِ العيدِ، (ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً)، أي بعدَ تَكبِيرةِ الإحرامِ، (سَبْعًا فِي الأُولَى) قالَ مالك وأحمد: إنَّ هذه التَّكبيرات السَّبعُ تشتَمِلُ على تكبيرةِ الإحرامِ. وقال الإمامُ الشَّافعي: سبعُ تكبيراتٍ مِن غيرِ تكبيرةِ الإحرامِ، فعندَ الشَّافعي أنَّها ثمانِ تكبيرات -تكبيرة الإحرام وسبع بعدها- وعند مالك وأحمد سبعٌ متضمِّنة لتكبيرَة الإحرامِ.
قوله: (الأُولَى) يعني الركعة الأولى، وقوله: (وخَمْسًا فِي الآخِرَةِ) أي في الرَّكعةِ الثَّانية.
وقوله: (وخَمْسً) أي بدونِ تكبيرةِ الانتقالِ، فاتَّفقوا على أنَّ الخمسَ هذه بدونِ تكبيرةِ الانتقالِ، لا تُحسَب تكبيرةُ الانتقالِ مِن هذه الخمس.
ويَنتظرُ قليلًا بينَ كلِّ تكبيرةٍ وتكبيرةٍ، وإن سبَّحَ وحَمِدَ وكبَّرَ بينَ كلِّ تكبيرتين فلا حَرَجَ عليه في ذلك.
قال: (وَلم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَ) فيه دَلَالةٌ على أنَّ صلاة العيدِ لا يُشرع لها سُنَّة لا قبلها ولا بعدها.
وهنا مسألة: وهي إذا صُلِّيت صلاةُ العيدِ في مساجدِ الأمصارِ، فحينئذٍ هل يُشرعُ لها تحيَّةُ مسجدٍ كما قال الشَّافعيُّ؟ أو لا يُشرع لها تحيَّةُ مسجدٍ كما قالَ الجمهورُ؟
ومَنشَأُ هذا البحثِ هو في ذواتِ الأسبابِ، هل تُفعَل في أوقاتِ النَّهيِ المُوسَّعِ أو لا يجوزُ فِعلُها في أوقاتِ النَّهيِ المُوسَّعِ؟
ولعلَّ الأظهر أنَّ ذواتَ الأسبابِ تُفعلُ في أوقاتِ النَّهيِ المُوسَّعِ، وأنَّه لا حَرَجَ في ذلك.
وقوله هنا: (وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيهِمَ) فيه دَلَالةٌ على أنَّ القراءةَ لا يُشرعُ البداءةُ فيها إلا بعدَ إنهاءِ التَّكبيرِ.
{(وَعَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الأَضْحَى وَالفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يقْرَأُ فيهمَا ب﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾، و﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ رَوَاهُ مُسلمٌ، وأَبُو وَاقِدٍ اسْمُهُ: الْحَارِثُ بنُ عَوْفٍ)}.
قوله: (أَنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ) فيه أنَّ الفَاضلَ قد يَسألُ المفضولَ عمَّا خَفِيَه مِن العلمِ.
وقولُه: (مَا كَانَ) أي: ما الذي كانَ يَقرأ بِه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم؟ وهذا ظاهرُه أنَّه كانَ يستمرُّ على ذلك؛ لأنَّ لفظ "كان" تُفيدُ الاستِمرَارَ والتَّكرارَ.
(فَقَالَ) يعني أبا واقد الليثي: (كَانَ يقْرَأُ فيهمَ) يعني في الصَّلاتين -صلاة الأضحى وصلاة الفطر. (بـ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾، و﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾) وفي هذا دَلَالةٌ على أنَّ صلاةَ العيدِ يُشرعُ الجهرُ بالقراءةِ فيها؛ لأنَّه كانَ يُخبرُ بما قرأ فيها.
{(وَعَنْ جَابرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذا كَانَ يَوْمُ عِيْدٍ خَالفَ الطَّرِيقَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ )}.
هذا الحديث قال: (إِذا كَانَ يَوْمُ عِيْدٍ خَالفَ الطَّرِيقَ) أي ذهبَ لصلاةِ العيدِ مِن طريقٍ، وأتى مِن طريقٍ آخرٍ غيرَ الطَّريقِ الذي ذَهَبَ به إلى صلاة العيدِ. وفي هذا مشروعيَّة مخالَفةِ الطَّريقِ.
وقد اختَلَفَ العلماءُ في المعنى في هذا، فقال طائفة: إنَّ مراده أن يَكثُرَ مَن يمرُّ عليهم مِن النَّاسِ، فيَكثُرَ تسليمُه عليهم.
وقال آخرون: أرادَ أن يُهنِّئَ النَّاسَ بيومِ العيدِ.
وقال آخرون: أرادَ أن تَكثُرَ البِقاعُ التي تَشهدُ لَه بالطَّاعَةِ يومَ القِيَامَةِ.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «دَعْهُمَ»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيْدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بالدَّرَقِ والحِرَابِ، فإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ,خَدِّي عَلى خَدِّهِ,وَهُوَ يَقُولُ: «دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ» حَتَّى إذَا مَلَلْتُ قَالَ: «حَسْبُكِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ, قَالَ: «فَاذْهَبِي» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قولُ عائشة -رضي الله عنها- (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ) يحتملُ أن يكونَ المرادُ: صغيرتان، ويحتمل أن يُراد: مملوكتان.
وقوله: (تُغنِّيَانِ) أي تجمِّلانِ الصَّوتَ، وتنتظِمَانِ فيه (بِغِنَاءِ بُعَاثٍ) "بُعاث" هو يومُ معركةٍ في الجاهليَّة، كانَ بينَ الأوسِ والأنصارِ، وقعَ عندَ حصنٍ للأوسِ، يُسمَّى بهذا الاسم، فبَعدَ المعركةِ قالوا الأشعارَ الحماسيَّة، فكانت هاتانِ الجاريتانِ تُغنِّيانِ بهذه الأشعار.
قالت: ( فَاضْطَجَعَ) يعني النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- (عَلَى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ) وفي هذا جوازُ الغِناءِ في أيَّامِ الأعيادِ، ولم يُذكر فيه أنَّهما استخدمتا شيئًا مِن أدواتِ المَعازِفِ،
قال: (وَحَوَّلَ وَجْهَهُ) يعني: عَن هاتينِ الجاريتينِ، (وَدخَلَ أَبُو بَكْرٍ) يعني على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
قالت: (فَانْتَهَرَنِي) أي تكلَّمَ عليَّ، ورفعَ صَوتَه عليَّ مُنكرًا كَونِها تُقرُّ هذا الفعلَ.
وقال أبو بكر: (مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم؟!) يريدُ صوتَ الغِناءِ، (فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «دَعْهُمَ») فإنَّ هذا فعلٌ مباحٌ، هذه اللَّفظة تَعني أنَّ هذا الفعلَ مباحٌ، فقيل إنَّه مباحٌ مطلقًا، وأنَّهما إنَّما غنَّتِ الأشعارَ ولم تستخدما شيئًا مِن المعازفِ، وقيل: بل ذلك لأنَّه يومُ عيدٍ، وأيَّامُ العيدِ يُستَثنَى فيها ما لا يُستَثنَى في غيرِها.
قالت: (فَلَمَّا غَفَلَ) يحتمل أن يكونَ المراد هو: النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ويحتملُ أن يكونَ المرادُ أبا بكر الصِّديق -رضي الله عنه- والظَّاهر هو الأوَّل، قالت: (فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَ) يعني: الجاريتين، وذلكَ مراعاةً لأبي بكرٍ الصِّديق -رضي الله عنه- وفيه دَلَالةٌ على أنَّ الإنسان قد يَتركَ شيئًا مِن المباحات مراعاةً لغيرِه.
قالت عائشة: (وَكَانَ يَوْمَ عِيْدٍ) يعني في واقعةٍ أخرى كانَ يومُ عيدٍ، والأظهرُ أنَّه عيدُ أضحى، فكان (يَلْعَبُ السُّودَانُ بالدَّرَقِ والحِرَابِ)، الدَّرقِ والحِرَابِ: أسلحة، والدَّرَق هو التُّرسُ الذي يُوضعُ على البدنِ مِن الجِلدِ ونحوِه، وليسَ فيه خشبٌ.
فقال لها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: (وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟») فيه جوازُ اللَّعبِ في أيَّامِ العيدِ، وفيه جوازُ اللَّعبِ بأدواتِ السِّلاحِ في هذا اليوم، ما لم يخشَ على الحاضرينَ منه.
قالت عائشة: (فإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟») فيه جوازُ نظرِ المرأة للرِّجالِ الأجانبِ، حتى في وقتِ لَعبِهم ولهوهِم، ما لم يكن هناكَ معصيةٌ أخرى.
(فَقُلْتُ: نَعَمْ) يعني أشتَهِي أن أنظُرَ، وفيه أنَّ الهوى والشَّهوةَ إذا كانت في أمرٍ مباحٍ، فلا يَلحقُ الإنسانُ حرجٌ بسببِ ذلكَ.
قالت عائشة: (فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ, خَدِّي عَلى خَدِّهِ, وَهُوَ يَقُولُ: «دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ») يعني مهلًا في أموركم.
(حَتَّى إذَا مَلَلْتُ) يعني مِن كثرةِ مُطالعتِهم، ورؤيَتِهم، قالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُكِ؟» أي هذا الذي شاهدتِ فيه القوم يكفيكِ؟ وهذا الزَّمان الذي رأيتِ فيه قومَكِ يكفيكِ؟
قالت عائشةُ: (قُلْتُ: نَعَمْ) أي: يكفيني.
فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «فَاذْهَبِي» أي: لإنهاء أعمَالَكِ الأخرى، ولا تبقينَ مُشاهِدَةً لهؤلاءِ القومِ الذين يَتَغَنَّونَ فيما بينهم بِغنَاءِ بُعاث.
هذا شيء من الأحكام المتعلقة بكتابِ العيدين.
{(بَابُ مَا يُمْنَعُ لِبْسُهُ أَو يُكْرَهُ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامرٍ -أَو أَبُو مَالكِ- الْأَشْعَرِيُّ، -وَاللهِ مَا كَذَبَنِي- سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِم بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهُمْ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُم اللهُ وَيَضَعُ العِلْمَ، وَيمْسَخُ آخَرِيْنَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ.
فَقَالَ: قَالَ هِشَامُ بنُ عَمَّار: حَدَّثنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَزِيدَ، عَنْ عَطِيَّةَ بنِ قَيسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن غَنْمٍ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى ابْنِ حَزْمٍ فِي رَدِّهِ لَهُ، وَزَعْمِهِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ فِيمَا بَينَ البُخَارِيِّ وَهِشَامٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الإِسْمَاعِيلِيُّ وَالبَرْقَانِي فِي صَحِيْحَيْهِمَا الـمُخَرَّجَيْنِ عَلى الصَّحِيحِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَفْظهمَا: «ويَأْتِيْهم رَجُلٌ لِحَاجَةٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَيَأْتِيْهم طَالِبُ حَاجَةٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامرٍ الأَشْعَرِيُّ وَلم يَشُكَّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُوسَى بنِ سَهْلٍ الْجَونِي الْبَصْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَلَفظُهُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الخَزَّ وَالْحَرِيرَ» وَذَكَرَ كَلَامًا، قَالَ: «يُمْسَخُ مِنْهُم آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»- والخَزُّ هُنَا: نَوعٌ منَ الحَرِيرِ)
}.
قولُ المؤلِّفِ هنا: (بَابُ مَا يُمْنَعُ لِبْسُهُ أَو يُكْرَهُ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ) الأصلُ في الألبِسَةِ أنَّها جائزةٌ، وأنَّها مباحةٌ وطَاهرةٌ، ولا يُقال بمنعِ شيءٍ منها إلا عندما يَرِدُ له دليلٌ يدلُّ على المنعِ منه.
وقد ذكرَ المؤلِّفُ هنا حديثَ عَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قال: (حَدَّثَنِي أَبُو عَامرٍ -أَو أَبُو مَالكِ- الْأَشْعَرِيُّ) وكلاهما مِن الصَّحابةِ، قال: (وَاللهِ مَا كَذَبَنِي) وهذا دليلٌ على الجزمِ بهذه الرِّواية.
(سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي») أي سيحدثُ في أمَّتي طائفةٌ مِن النَّاسِ «أَقْوَامٌ» أي فئامٌ «يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» الحِرَ: المراد به الفرجُ الحرام، وفي بعضِ الروايات أنَّه قال: «الخَز»، وهو نوعٌ مِن أنواعِ الحريرِ.
قالَ: «يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ» معناها أنَّها غير مباحة، ولكنهم يستحلونها، والاستحلالُ على نوعين:
-       بفعلِ المحرَّمِ، وهذا لا يخرج به الإنسان من دين الله، وإنما يكون من العاصين.
-       وقد يكون الاستحلال بالاعتقادِ والقولِ، بحيثُ يجعل الأمرَ الحرامَ مباحًا حلالًا.
قالَ: «الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ»، فيه دَلَالةٌ على تحريمِ هذه الأشياء، ومنها: أخذِ الفرجِ الحرام، ولُبسِ الحرير، والمراد به هنا الرِّجال، والخمرِ وهذا عام، والمعازفِ، وفي هذا دَلَالةٌ على تحريمِ استعمالِ المعازفِ، وظَاهرُهُ أنَّه يُمنع مِن استِعمَالها مطلقًا حتى في الأعراسِ، وحتى في أيَّامِ الأعيادِ، وفي غيرِها مِنَ الأيَّامِ، إلا مَا وردَ دليلٌ باستثنائِه، كضربِ الدُّفِّ للنِّساءِ في يَومِ العيدِ.
قال: «وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِم بِسَارِحَةٍ لَهُمْ» يضرب في هذا مثلًا لما هم فيه، «وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ»، أي يسكنونَ فيه، «يَرُوحُ عَلَيْهِم بِسَارِحَةٍ لَهُمْ» نوعٌ مِن أنواعِ البهائمِ، أي أنَّ هناكَ راعٍ يقومُ بِرَعْيِ أغنامِهم، «سَارِحَةٍ» يعني: الغنم التي ترعى.
«يَرُوحُ عَلَيْهِم بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهُمْ لِحَاجَةٍ» أي يطلبُ حاجةً مِن حَاجَاتِه، فهو لم يَقدم إليهم مِن أجلِ أنَّه يَستحلَّ هذه الأمور معهم، وإنَّما لمَّا قدِمَ معهم، ولم يُنكر عليهم أصبحَ واحدًا منهم، فَلَحِقَه حُكمُهم.
«فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدً» أي: في الحاجة التي يَطلبُونها، هو جاء إليهم لحاجة، لم يعطوه إيَّاها اليوم، فيقولون له: «ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدً».
«فَيُبَيِّتُهُم اللهُ» أي: يُنزلُ عليهم العقوبة وهم بائتون باللَّيلِ، «وَيَضَعُ العِلْمَ» أي الرَّاية المنصُوبَة، «وَيمْسَخُ آخَرِيْنَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ»، وفي هذا بيانٌ أنَّ العقوبةَ على المعاصي ليست خاصَّة بالآخرةِ، بل قد يُعاقَب الإنسانُ عليها في الدُّنيا.
وقد أشارَ المؤلِّفُ إلى بحثٍ في هذا، وهو أنَّ البُخاري قالَ فيه: (قَالَ هِشَامُ بنُ عَمَّار) فظَاهرُه أنَّه مُعلَّقٌ -أي سَقَطَ بعضُ الإسنادِ بينَ البخاري وبين هشام- ولكن هذه اللَّفظة لا يرتضيها أهلُ العلم هنا؛ لأنَّ هشامًا مِن شيوخ الإمامِ البخاري، وبالتَّالي لا يصحُّ أن يُضعَّفَ الخبر بها، وابنُ حزم حاولَ أن يردَّ هذا مِن أجلِ قوله في المعازف لأنَّه يُبيحُهَا.
ولكنَّ الحديثَ صريحٌ في الدَّلالَةِ على المنعِ مِن مثلِ ذلك، ففي الحديث تحريمُ هذه الأشياء، ومنها الحِرَ، والحريرَ، والخمرِ، والمعازفِ، ومنها ما ذُكر مِن إتيانهم لغيرِ حاجَةٍ.
المقصود: أنَّ الشَّريعةَ قد جَاءت بتَحريمِ هذه الأشياء، والقولِ بعدمِ جوازِها، بل والتَّشديدِ والتَّغلِيظِ فيمن أبَاحَاهَا.
أسألُ اللهَ -جلَّ وعلا- أن يُوفِّقَنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، كما أسألُه -جلَّ وعلا- أن يَستعمِلَنا وإيَّاكم في طَاعتِه، وأن يجعلَنا وإيَّاكم مِن أهلِ عبادَتِه.
باركَ الله فيكَ على هذهِ القراءة، ووفَّقكَ لخيريِ الدُّنيا والآخِرَة، هذا واللهُ أعلمُ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ، وعلَى آلِهِ وصحبِه أجمعينَ.
--------------------------
[41] صحيح البخاري (46).
[42] أخرجه أبو داود (232) واللفظ له، وابن خزيمة (1327)، والبيهقي (4495).
[43] مسند أحمد (13212).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك