الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ،
أمَّا بعدُ:
فأرحبُ بكم إخواني وزملائي، ممَّن يتدارس معنا في هذا الكتاب العظيم، كتاب
"المُحرَّر" للحافظِ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى- الذي جمع فيه أحاديث
الأحكام، وتدارسنا في اللقاءين السَّابقين مَا يتعلَّق بأوائل باب صلاة التَّطوع،
وذكرنا أحكام الإمامة، ولعلَّنا بإذن الله -عزَّ وجلَّ- في هذا اللقاء "الثالث" في
هذا الفصل نتدارس بقيَّة هذا الباب، فلعلنا نستمع لأحاديث هذا الكتاب، تفضل يا شيخ
سعيد.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلى الله وسلَّم على
نبيِّنا مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمُستمعين، ولجميعِ المسلمين.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى- في باب صلاة الجماعة، وذكر أحاديث: (وَعَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
«لِيَلِنِي مِنْكُم أُوْلُوا الأَحْلَامِ والنُّهَى، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُونَهُمْ
ثَلَاثًا، وَإِيَّاكُمْ وهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ» رَوَاهُ مُسلمٌ أَيْضً)}.
قوله في هذا الحديث: «لِيَلِنِي» أي: ليكون الموالي لي، والذي يكون بعدي في أثناء
الصَّلاة أُوْلُوا الأَحْلَامِ.
أُوْلُوا: أي أصحاب، وقوله: «الأَحْلَامِ والنُّهَى» المراد به: أصحاب العقول؛ لأن
الحِلم يوقف صاحبه عن أن يُقْدِم على الأفعال غَير المَرغوب فِيها، والنُّهى لأن
العقل يَنهى صَاحبه عن الأخلاق السيئة، وسفاسف الأمور والتَّعجُّل، وبالتَّالي يكون
متأنِّيًا في أموره.
قال: «ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُونَهُمْ» أي: في هذه الصفة.
ولاشكَّ أنَّ الإمام يحتاج إلى أن يكون مَن وراءه ممَّن يُنبِّهه على الخطأ في
صلاته وقراءته، ولا يكون ذلك إلا مِن أصحاب العقول، وهناك معنًى آخرًا وهو: أنَّ
أصحاب العقول إذا قُدِّموا في صف الصَّلاة، كان هذا أدعى لأن يُقبل منهم في غير
الصَّلاة، وبالتَّالي تستقرُّ أمورُ النَّاس، ويكونون على تآلفٍ ومحبةٍ؛ لأنَّ صاحب
الحلم يورثه حلمه أن يكون مُتصافيًا مع الخلق، مُتخلِّقًا مَعهم بأحسن الأخلاق.
قال: «وَإِيَّاكُمْ» أي: لا يكون ورائي مباشرة، وإيَّاكُم في مَن يليني.
«وهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ» الأَسْوَاق: مَواطن البيع والشِّراء، والمراد
بالهَيْشَاتِ: أي اختلاط الأصوات والمنازعات والخصومات، فإنَّ الأسواق محلٌّ لهذا
الأمر، وذلك لأنَّهم يستعجلون، فتقع بينهم الخصومات.
وهذا الحديث يدلُّ على: تقديم مَن كان بهذه الصفة، ليكون خلفَ الإمام.
والأصل في الفِعل المضارع المسبوق بلام الأمر أن يكون للوجوب، ولكن لمَّا وجدنا
أنَّ هذا لم يكن الشَّأن في جميع الأحوال في صلاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم
والصَّلاة في مسجده، فحينئذٍ حُمل هذا اللفظ على الاستحباب.
وبعضُ العلماء أبقاه على الوجوب، وقال: يجب تقديم مَن كان كذلك، ومِن ذلك بعضُ
فقهاء الشَّافعيَّة، وغيرهم، والجمهور على أنَّ الأمر هنا على الاستحباب.
وقد يُؤخذ مِن هذا الخبر جَواز تقديم أصحاب هذه الهيئات، بحيث يُقدِّمهم الإنسان
على نفسه، فإذا جاء ووجد مَن هو أفضل منه في العلم والعقل، قدَّم صاحب الفضل على
نفسِه، وحينئذٍ يُقال: إنَّه لا مانع مِن الإيثار في هذه القُربة، والقول بجواز
الإيثار في القُرَب هُو المشهور عند فقهاء الحنابلة، أَمَّا فُقَهاء الشَّافعية
فيمنعون منه، وقد يُلحقون صاحبه بالإثم، وقد جاءت أدلَّة أخرى تدلُّ على القول
الأوَّلِ، منها عموم قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَيؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بنِ مَالك رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: «رُصُّوا صُفُوفَكُم، وقَارِبُوا بَيْنَهَا وحَاذُوا
بالأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأرَى الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ
مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّان البُسْتِيِّ، والحَذَفُ بِالتَّحْرِيكِ: غَنَمٌ
سُودٌ صِغَارٌ منْ غَنَمِ الحِجَازِ, الوَاحِدَةُ حَذَفَةٌ، قَالَهُ
الْجَوْهَرِيُّ)}.
قوله هنا: «رُصُّو» أي: قاربوا بين الصُّفوف، بحيث يكون بعض المصلين عند بعضهم
الآخر، ولا يكون بينهم الفُرَج، وهذا معنى قوله: «وقَارِبُوا بَيْنَهَ»، يعني بين
الصُّفوف، بحيث لا يكون هناك فراغ كبير بين الصَّف والصَّف الآخر.
ثم قال: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأرَى» هذه هي العِلَّة في الأمر
بِرَصِّ الصفوف والمقاربة بينها، «إِنِّي لأرَى الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ مِنْ
خَلَلِ» أي: مِن الفَجوات التي تكون في الصَّفِّ، «كَأَنَّهَا الْحَذَفُ» أي: الغنم
الصِغار التي تدخل بسرعة في الفجوات التي تكون في الجدر ونحوه.
وفي الحديث: التَّرغيب في رَصِّ الصُّفوف، وعدم ترك فجوات فيما بينها.
وفي الحديث: استحباب أن يكون ما بين الصَّف والصَّف الآخرِ متقاربة، بحيث لا يكون
هناك فجوة كبيرة بين الصَّفين، ولذا نجد أنَّ المسجد النَّبوي في عهد النُّبوَّة
كان صغيرًا، مع كثرةِ المصلين فيه، وما ذاك إلا أنَّهم طبَّقوا مَا وَرَدَ في هذا
الخبر.
قوله: «وحَاذُوا بالأَعْنَاقِ» أي: اجعلوها على وِزَانٍ واحدٍ، بحيث لا يتقدَّم
بعضها على بعضها الآخر، وذلك من أجل أن يكون الصَّفُّ مُستويًا، لا اعوجاج فيه، وفي
هذا وُجوب تَسوية الصُّفوف.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وشَرُّهَا آخِرُهَا،
وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وشَرُّهَا أَوَّلُهَ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَ» قيل المراد بها:
أنَّها أفضل أجرًا وثوابًا، وقيل أنَّ المراد به: أفضليَّة مَن يصلي فيها، وذلك
لأنَّ المصلي قد رغب في الخير، فتقدَّم في الصفوف.
وقوله: «وشَرُّهَا آخِرُهَ» الشَّرُّ هنا ليس شرًّا مطلقًا، وإنَّما المراد:
أنَّها أقل أجرًا وثوابًا، وإذا بَعُدَ الإنسان عن الإمامِ، كثُرَ ما يطرأ على ذهنه
ممَّا يشغله عن تدبُّر معاني صلاته، ولذلك قيل فيها هذا اللفظ.
ثم إنَّهم كانوا في الزَّمان الأوَّلِ يصلُّون في المسجد، صفوف الرِّجال متقدمِّة،
وصفوف النِّساء متأخرة، فحينئذٍ تكون الصفوف المتأخرة قريبة من صفوف النِّساء.
وقوله: «وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَ» أمَّا بالنَّسبة للرِّجال فمحل
اتفاقٍ أنه في جميع الجماعات، سواءً انفردوا أو كانوا مع النِّساء، وأمَّا
بالنَّسبة للنِّساء، فإذا كُنَّ مع الرِّجال، فهذا حكمهنَّ بلا إشكال، وهو محلُّ
اتفاقٍ، أمَّا إذا صلَّى النِّساء وحدهنَّ، أو كنَّ في مَعزلٍ عن الرجالِ بحيث لا
يمكن وقوع الاختلاط فيما بينهم، أو وقوع تداخل فيما بينهم، فحينئذٍ هل يُقال: آخر
صفوف النِّساء هو الأفضل؟ أو نقول هو الأول؟
فإنَّه مثلًا يكون محلُّ النِّساء في بعض المساجد في محلٍّ منفصلٍ عن محلِّ
الرِّجال، فيكون في الدور الأعلى، أو في الدور الأسفل، يتميَّزون بدورٍ خاصٍّ بهم،
فحينئذٍ هل نأخذ بعموم الخبر؟ أو نقول: إنَّ المعنى حينئذٍ انتفى، وبالتَّالي يكون
أوائل صفوف النِّساء أفضل؟ هذا من مواطن الخلاف بين العلماء.
ولهم ثلاثة أقوال في المسألة:
منهم مَن جرى مع ظاهر لفظ الحديث، وقال: إنَّ قوله: «وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ
آخِرُهَ» عام؛ لأنَّ كلمة النِّساء عامَّة، وصفوف جمع مضافة إلى معرفة عامة، فتفيد
العموم، سواءٌ صلينَّ وحدهنَّ، أو صلينَّ مع الرجال.
وهناك مَن قال: إنَّ هذا يُستثنى مِنه إلا إذا صلَّى النِّساء وحدهنَّ بإمامٍ
منهنَّ.
وهناك مَن قال: وأُلحق بهذا مَا إذا صلَّى النِّساء في مكانٍ مُتميزٍ عَن الرجالِ،
فمَن لحظ اللفظ أجرى اللفظ على عمومه، ومن لحظ المعنى من جهة البُعد عن الرجال، ومن
جهة عدم الاشتغال بالنظر في ما أمامهنَّ، وقالوا إنَّ هذا الخبر خاصٌّ بما إذا صلى
النِّساء مع الرجال.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ
الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
حديث ابن عباس، قال ابن عباس: (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
ذَاتَ لَيْلَةٍ) فيه جواز أداء صلاة الليل جماعةً، لكن إذا كان ذلك على غير ترتيبٍ
مُسبق، ولا على تكرار مؤقَّت، فإذا وقع اتفاقًا فلا بأس به، كما هو فِعلُ النَّبيِّ
صلى الله عليه وسلم وأما أن يُرتَّب ذلك في غير رمضان، فليس من شأن النَّبيِّ صلى
الله عليه وسلم فعله.
وقوله: (فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ) أي صَفَّ ابن عباس عن يسار النَّبيِّ صلى الله
عليه وسلم، وهو الإمام.
(فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي فَجَعَلَنِي
عَنْ يَمِينِهِ)، فيه: أن المأموم الواحد يكون عن يمين الإمام، لا يكون عن يساره،
ولا خلفه.
وفيه: أنَّه إذا كبَّر الإنسان تكبيرة الإحرام في موقفٍ خاطئٍ ثم صحَّح وضعه، لم
يؤثر ذلك على صحة صلاته، ولذلك من كبَّر تكبيرة الإحرام قبل أن يدخل في الصَّف،
وكان وحده ثم دخل في الصَّف، فإنَّه يجزئه ذلك.
وفيه: أنَّ المأموم هو الذي يغيِّر وضعه عندما تقتضي الصَّلاة ذلك، بخلاف الإمام،
فلو كان هناك اثنان والمأموم عن يمين الإمام، فجاء ثالث، فإنَّ الإمام يبقى في
مكانه، والمأموم يتأخَّر ليصلِّي مع مَن دخل معهم، كما هو حال ابن عباس هنا، فإنَّ
الإمام لم يتغيَّر من موقفه، وإنَّما الذي غيَّر هو المأموم.
وفي هذا الحديث: جواز انقلاب صلاة الرجل من كونه يُصلي مُنفردًا إلى كونه يُصلي
إمامًا، كما هو فِعلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث أيضًا مِن الأخبار: أنَّ الحركة اليسيرة في الصَّلاة لمصلحتها لا
تُؤثِّر على صحَّة الصَّلاة، فقد أخذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بيد ابن عباس،
فجعله عن يمينه.
وفيه: أنَّ سُترة الإمام سُترة لمَن خلفه، ولذا لم يجعل النَّبيُّ صلى الله عليه
وسلم ابن عباس ينتقل مِن أمامه؛ لأنَّه هو الإمام، وإنما جعله ينتقل من خلفه.
وفي هذا الخبر أيضًا: تصحيح وضع المُصلي بالإمساك بيده أو تحريك بدنه متى شاهدناه
مُنحرفًا، مثلًا: لو صَلَّى مُنحرفًا يَسيرًا عَن القِبلة، أو لم يدخل مع الصَّف،
فلا بأس أن يُعدَّل بتحريكه من قِبَل غيره.
{أحسن الله إليكم.
بالنَّسبة لصلاة الرجل في بيته مع أهله، لو المكان ضيِّق، هل يمكن يصلي وامرأته
بجنبه؟}.
لعلنا نأتي هذا في الحديث القادم. تفضَّل.
{(وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه-قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي
بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقُمْتُ ويَتِيْمٌ خَلْفَهُ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَلمسلمٍ: صَلَّى بِهِ
وبِامْرَأَةٍ، فَجَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ خَلْفَهُ)}.
قوله هنا: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ)
يظهر أنها صلاة نافلة، ولم تكن من صلاة الليل.
وفيه: جواز وجود الجماعة في صلاة النافلة، ما لم يكن ذلك على جهة التَّرتيب
المُسبق.
قوله: (فَقُمْتُ ويَتِيْمٌ خَلْفَهُ) فيه: أنَّ الاثنين إذا صليا مع إمامٍ يكونانِ
خلفهُ، كما قال بذلك الجمهور، خلافًا لبعض الحنفيَّة.
وقوله: (وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَ)، أُمُّ سُلَيْمٍ، هي أُمُّ أنسٍ رضي الله عنه
وقيل إنَّها جدته، فالمصلِّية هنا جدَّته، وعلى كلٍّ، فالحديث فيه: أن المرأة
المنفردة لا تصف مع الإمام، وإنما تصفُّ وراءه.
وقد قال الحنفيَّة: إنَّ هذا دليل على أنَّ المرأة لو صلَّت مع الرجل في صفِّ واحدٍ
تبطل صلاة الرجل، وقد استدلوا على ذلك بما ورد مِن أثر عن ابن مسعود:
"أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ"[13].
والجمهور: على أنَّ صلاة المأموم لا تبطل بذلك، وتصح صلاته؛ لأنَّه إنما أُرشد هنا
إلى الصِّفة المطلوبة في الصَّلاة، ولم يأتِ الدليل ببطلان الصَّلاة في هذه الحال،
ومن ثَمَّ فإنَّ الأصل أن تُصلي المرأة -ولو كانت وحيدة- خلف الصَّف.
وفيه: استثناء النِّساء من حديث: «لَا صَلَاةَ لِفَذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ»[14].
وقوله هنا: (صَلَّى بِهِ وبِامْرَأَةٍ، فَجَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ
خَلْفَهُ).
فيه: أنَّ المأموم الواحد يصلِّي عن يمين الإمام، ولا يُصلِّي عن يساره، ولا من
خلفه.
وفيه: أنَّ المرأة تُصلِّي خلفَ الإمام، ولو كانت وحدها، ولذلك: إذا صلَّى الرجل مع
أهلِ بيته، فإنَّ المرأة تصلِّي خلفه، والأصل أن تكون خلفه بالكليَّة، لكن لو
صَعُبَ أو قَصُرَ المكان -كما ذكرتَ- فإنَّها لو تأخرت عنه قليلًا، فإنَّها قد
تُعَدُّ قد صلت خلفه، ولو كانت أطراف قدميها خلف عقبه.
{(وَعَنْ أَبي بَكْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذكَرَ
ذَلِكَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «زادَكَ اللهُ حِرْصًا، وَلَا
تَعُدْ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبي دَاوُد: أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ جَاءَ وَرَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاكِعٌ، فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إِلَى
الصَّفِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ قَالَ:
«أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ,ثمَّ مَشَى إِلى الصَّفِّ؟» فَقَالَ أَبو
بَكْرَةَ: أَنَا, فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «زادَكَ اللهُ
حِرصًا وَلَا تَعُدْ»)}.
نعم. قوله: (وَعَنْ أَبي بَكْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ) كان يُصلي بالجماعة، والنَّبيّ صلى الله عليه
وسلم كان راكعًا.
قال: (فَرَكَعَ) يعني أَبَا بَكْرَةَ رضي الله عنه (قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى
الصَّفِّ).
وفيه: جواز أن تكون تكبيرة الإحرام قبل الصَّفِّ، واستدلَّ الجمهور على هذا الخبر
على صحَّة صلاةِ المُنفردِ خَلفَ الصفِّ، قالوا: لأن أَبَا بَكْرَةَ كبَّر تكبيرة
الإحرام وركع قبل أن يدخل في الصفِّ.
والحنابلة قالوا بعدم صحَّة صلاة مَن صلَّى خَلفَ الصفِّ وحده، وقالوا: إنَّ خبر
الباب إنَّما هو فيما كان أقل مِن ركعة، ولذلك قالوا إنَّه لو وقع منه أقل من ركعة
خلف الصَّفِّ وحده لم تبطل صلاته بذلك.
وقوله: «زادَكَ اللهُ حِرْصً» لمَّا رأى مِنه حِرصه على إدراك الجماعة.
«وَلَا تَعُدْ» أي: لا تفعل هذا مرة أخرى.
وقيل: إنه أراد ألا يتأخَّر عن الصَّلاة في المرة الأخرى.
وقيل: إنَّه قصد أن لا تكبِّر وأنت راكع.
وقيل: إنَّه أراد أن لا تكبِّر قبل دخولك في الصفِّ.
وهذه هي الرواية التي وردت في الصَّحيح، وورد في غير الصَّحيح بغير هذه اللفظة،
ورد: «وَلَا تُعِدْ»[15]، أي: لا تقضِ صلاتك مرة أخرى، وورد برواية: «وَلَا
تَعْدُ»[16]، أي: لا تُجري مُسرعًا، ولكن الحديث إنَّما وقع مرة واحدة، وبالتَّالي
يلزمنا أن نُرجِّح بين الروايات، والرواية التي وَرَدَت في الصحيح بلفظ: «وَلَا
تَعُدْ».
والرواية الأخرى لِأَحْمَدَ وَأَبي دَاوُد، قال: (فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ
مَشَى إِلَى الصَّفِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ
قَالَ) فيه تفقُّد الإمام لأحوال المأمومين، قال: («أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ
الصَّفِّ, ثمَّ مَشَى إِلى الصَّفِّ؟» فَقَالَ أَبو بَكْرَةَ: أَنَا، فَقَالَ
النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «زادَكَ اللهُ حِرصًا وَلَا تَعُدْ»).
{(وَعَنْ هِلَالِ بنِ يِسَافٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ رَاشِدٍ، عَنْ وَابِصَةَ بنِ
مَعْبَدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ
الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. رَوَاهُ أَحْمدُ
-وَحَسَّنَهُ- وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِه"،
وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ"-, وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
"ثَبَّتَ الحَدِيثَ أَحْمدُ وَإِسْحَاقُ"، وَقَالَ أَبُو عُمر بْنُ عبدِ الْبَرِّ:
"فِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ")}.
هذا الحديث اختلف أهل العلم في إسناده، وجمهور أهل الحديث على تَحسين هذا اللفظ،
وَقَد وَرَدَ فِي حديث آخر، أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا صَلَاةَ
لِفَذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ»، وَمِن هُنَا ذهب الإمام أحمد أنَّ صلاة الرجل وحده حلف
الصف لا تصح، ومن المعنى في هذا: أن مثل هذا يعوِّد النفس على الشُّذوذ والانفراد
عن الجماعة.
وقال الجمهور بصحة صلاة الرجل وحده، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكرة السَّابق،
وتقدَّم الجواب عنه، والأصل بقاء اللفظ على مَدلوله، وبالتَّالي فإنَّ الأرجح:
القول بعدم صحَّة صلاة الرَّجل خلفَ الصَّفِّ وحده.
ولكن مَن صلَّى وهو جاهل، أو متأوِّل، فإنَّه حينئذٍ يُعفى عن صلاته، فإن كان في
الوقت فإنَّه يُعيد، وإن كان بعد الوقت فهل يُعيد؟ قولان لمَن يرى عدم صحَّةِ مَن
صلَّى خلفَ الصفِّ وحده.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«إِذا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ
السَّكِينَةِ وَالوَقَارِ وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُم فَصَلُّوا، وَمَا
فَاتَكُمْ فَأَتِمُّو» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَفِي لفظٍ لمسلمٍ: «صَلِّ مَا أدْركْتَ واقْضِ مَا سَبَقَكَ»، وَرَوَاهُ أَحْمدُ
عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سعيدٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ:
«وَمَا فَاتَكُم فَاقْضُو».
وَقَدْ وَهِمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الـمُصَنِّفِيْنَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَفْظَ
الْقَضَاءِ مُخَرَّجٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ يُونُسُ والزُّبَيْدِيُّ، وَابْنُ أَبي ذِئْبٍ،
وَإِبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ، وَمَعْمَرٌ، وَشُعَيْبُ بنُ أَبي حَمْزَة عَنِ
الزُّهْرِيِّ: «وَمَا فَاتَكم فَأَتِمُّو»، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنِ
الزُّهْرِيّ وَحْدَهُ: «فَاقْضُو».
وَقَالَ مُسلمٌ: أَخطَأَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذِه اللَّفْظَة، وَلَا أَعْلَمُ
رَوَاهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُهُ.
وَفِي قَولِ أَبي دَاوُد وَمُسْلمٍ نظرٌ! فَإِنَّ أَحْمدَ رَوَاهَا عَنْ عبدِ
الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقدْ رُوِيَتْ مِنْ غَيرِ وَجْهٍ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالَّذين قَالُوا «فَأتِمُّو» أَكْثَرُ وأَحْفَظُ
وأَلْزَمُ لأَبي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَوْلَى.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَين اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ؛ فَإِنَّ الْقَضَاءَ هُوَ
الإِتْمَامُ لُغَةً وَشَرْعً)}.
حديث أبي هريرة متَّفق عليه، ولفظه: «إِذا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ»، خطابٌ لأهلِ
الإيمان بأنَّهم إذا سمعوا الإقامة، أي: إقامة الصَّلاة.
«فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ»، والأمر هنا على جهة الوجوب، وظاهره نهي عن غيره
ممَّا يضاده، كالبقاء، وعدم الذَّهاب إلى الإقامة، واستدلَّ بهذا على وجوب صلاة
الجماعة، وأنَّها مِن الأمور المتعيِّنة.
وقوله: «وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةِ وَالوَقَارِ»، وفي بعضِ الألفاظ: «وَعَلَيْكُمْ
بِالسَّكِينَةِ»[17]، وفي بعضها: «وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ»[18]، أي: الزموا
السَّكينة، فتكون "السَّكينة" مفعول به لفعلٍ محذوفٍ، كأنَّه قال: أوريكم
السَّكينة.
قال: «وَلَا تُسْرِعُو» فيه النَّهي عن الإسراع في المشي إلى الصَّلاة.
قال: «فَمَا أَدْرَكْتُم»، أي: أيَّ جزءٍ أدركتموه فصلُّوا. وفيه: أنَّ المأموم
يدخل مع الإمام في أيِّ جزءٍ من أجزاءِ الصلاةِ وجَدَهُ عليها، وإذا وجَدَهُ راكعًا
دخل معه، وإذا وجده ساجدًا دخل معه، وإذا وجده يتشهَّد دخل معه، حتى في التَّشهدِ
الأخيرِ يدخل مع الإمام، ولا يقول أنتظر الجماعة الأخرى؛ لعموم هذا الخبر: «فَمَا
أَدْرَكْتُم فَصَلُّو» يشمل لو لم يبقَ إلا الجزء القليل.
قوله: «وَمَا فَاتَكُمْ»، أي: ما صلَّاه الإمام قبلكم.
«فَأَتِمُّو»، أي: قوموا بأدائه، وبالتَّالي يكون مَا يُصليه المَأموم المسبوق بعد
سلام الإمام هو آخر الصَّلاة.
لكن وَرَدَ في بعض الروايات، قال: «وَمَا فَاتَكُم فَاقْضُو»[19]، فلفظة
«فَاقْضُو» معناها أنَّ مَا يفعله بعد سلام الإمام هو أوَّل الصَّلاة.
ويترتَّب على ذلك: هل يقرأ سورة أخرى مع السُّورة إذا لم يبقَ عنده إلا ركعة أو
ركعتان؟ ومتى يجعل جلسات التَّشهد؟ فإنها تختلف باختلاف ما إذا كانت الرواية
«فَأَتِمُّو»، أو «فَاقْضُو»، وأكثر الرُّواة رووا: «فَأَتِمُّو».
ولذلك مَا يُصَليه المأموم المسبوق بعد سلام الإمام يكون مِن قبيل آخرِ صلاته، وليس
مِن أوائل الصَّلاة.
وأشار المؤلِّف إلى أنَّ ابْنُ عُيَيْنَةَ انفرد في رواية «فَاقْضُو»، ثم ذكر أنَّ
هناك روايةً أخرى عَنْ عبدِ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وفيها
أيضًا «فَاقْضُو»، وهي في مسند أحمد، وقد رواها الإمام أحمد مرتين، مرةً بلفظ
«فَأتِمُّو»، ومرةً بلفظ: «فَاقْضُو»، ولعلَّ مَن رواها بلفظ «فَاقْضُو» رواها
بالمعنى.
ولذا أشار المؤلِّف إلى أنَّ اللفظتين بمعنًى واحدٍ، وليس بينهما فرق، وإن كان أكثر
الرُّواة وأحفظهم قد رووه بلفظ: «فَأتِمُّو».
وبهذا نكون قد أنهينا هذا الباب، وإن شاء الله في اللقاء القادم نأتي لأحكام صلاة
المريض، بارك الله فيكم، ووفَّقكم الله جميعًا، وجعل الله وأهل الإسلام يحرصون على
الصلاة في المساجد مع الجماعة، كما أسأله -جلَّ وعلا- أن يُنزل التقوى في قلوبهم
جميعًا.
هذا والله أعلم، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا
كثيرًا.
----------------------
[13] قال الشيخ ابن باز في مجموع الفتاوى: "إنه موقوف على ابن مسعود. وله شاهد في
صحيح مسلم" (26/211).
[14] صححه الألباني في كتاب الإيمان لابن تيمية (12).
[15] حكى هذا القول الإمام بدر الدين العيني الحنفي في (عمدة القاري شرح صحيح
البخاري / باب إذا ركع دون الصف/ 114).
[16] المعجم الصغير للطبراني (1028).
[17] صحيح البخاري (638).
[18] سنن أبي داود (573)، سنن الترمذي (327)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
[19] مسند أحمد، وصحهه أحمد شاكر (14/80).