الدرس السادس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4406 24
الدرس السادس

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلام على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فأرحبُ بكم إخواني المشاهدينَ الكرام في لقاءٍ جديدٍ متجدِّدٍ مِن لقاءاتنا في قراءة كتابِ المُحرَّر للحافظِ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
وفي لقائنا السَّابق ابتدأنا بدراسةِ أوائل الأحاديث الواردة في بابِ المساجد، وكان مِن آخرها: حديث (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَو يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، وَالتِّرْمِذِيُّ)، وحسنه.
وعندنا في هذا اليوم -بإذنِ اللهِ عزَّ وَجلَّ- تكمِلَةً لأحاديثِ بابِ المساجدِ، فلعلَّنا نستمعُ لهذه الأحاديث، ثمَّ أتكلَّمُ عنها بما ييسِّرُ الله -عزَّ وَجلَّ- فتفضَّل يا شيخ سعيد -بارك الله فيك.
 
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعينَ، اللهمَّ اغفر لنا ولشيخِنا وللمشاهدين ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد، وَفِي إِسْنَادهِ انْقِطَاعٌ)}.
هذا الحديث ذكرَ المؤلِّف فيه علَّةً، ألا وهي الانقطاع، ذلك لأنَّ مِن رواته زُفر بن وثيمة، وقد رواه عن حكيم بن حزام، وأكثرُ أهلِ العلم على أنَّه لم يلقَه، ولذلك حكموا على هذا الخبر بأنَّ فيه انقطاعًا، إلا أنَّه وردَ عندَ الإمامِ أحمد بإسنادٍ آخرٍ من طريقِ العباسِ بن عبد الرحمن المدني، وهو مجهولٌ، وبالتَّالي لا يصحُّ أن يُقوَّى بروايته، ثم إنَّ هذا الخبرَ قد اختَلف رواته، فبعضُهم رواه عن حكيم بن حزام موقوفًا عليه، وبعضُهم رواه عن حكيم بن حزام مرفوعًا إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فإنَّ هذا الخبر لأهلِ العلم فيه توقُّفٌ، والخبرُ قد اشتملَ على شيئينِ مِن أحكامِ المساجدِ:
الأوَّلُ: إقامةُ الحدودِ، فظاهرُ الخبرِ المنع مِن إقامةِ الحدودِ في المساجد، وهذا المعنى مُتوافقٌ مع ما جاءت به الشَّريعة مِن كونِ المساجدِ قد بُنيَت لذكرِ الله -عزَّ وَجلَّ- وإقامةِ الصَّلاة، وإقامةُ الحدودِ فيها إشغالٌ لها عن المقصودِ الذي بُنيَت من أجلِهِ.
وأمَّا الأمرُ الثَّاني فهو في قولِه: «وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَ»، المرادُ بذلك: إقامةُ القَوَدِ الذي هو قَتْل القاتل، ومِن المعلوم أنَّ مثل ذلك يكونُ فيه دمٌ ونجاسةٌ، ويكونُ فيه أعمالٌ وأفعالٌ مخالِفة للمعنى الذي من أجلِه بُنيَ المسجدُ من ذكرٍ الله -عزَّ وَجلَّ- وطاعتِه، وإقامةِ الصَّلاة والذِّكرِ فيه.
 
{(وَعَنْ مُباركِ بنِ فَضَالةَ، عَنْ ثَابِتِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبي لَيْلَى، عَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبي بَكْرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «هَل مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الـمَسْجِدَ، فَإِذا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ، فَوجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ بَينَ يَدَيْ عبدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُها فَدَفَعْتُها إِلَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، ومُباركٌ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ضَعِيفٌ)}.
 
قوله: (وَعَنْ مُباركِ): هو مباركُ بن فضالة الذي ذكر في الخبر، وأكثرُ أهلِ العلمِ على تضعيفِه.
وعبدُ الرحمنِ بن أبي بكرٍ هو شيخُ عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد وردَ هذا الخبرَ مرسلًا، لم يُذكر صحابيَّهُ فيهِ، وقد رجَّح كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ الرِّوايةَ المرسلَة، وقد وردَ الخبرُ من طريقٍ آخرٍ من حديثِ أبي حازم الأشجعيِّ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- لكنَّ فيه اختلافًا في ألفاظِهِ، والمعنى الذي مِن أجله سِيقَ هذا اللَّفظ هو: الكلام في السُّؤالِ في المسجدِ، وهل يجوزُ للإنسانِ أن يسألَ وأن يطلبَ مِن غيرهِ مَعونةً ماليَّةً في المسجدِ أو لا يجوزُ ذلك؟
وقد وَرَدَ في الأحاديثِ أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سألَ الصَّحابةَ لِقبيصَةَ[29]، وَوَرَدَ أنَّ وفدًا مِن مُضَر لَمَّا جاؤوا إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهم مجتابو النِّمار وقد بَدَت الحاجةُ عليهم؛ جمع النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصَّحابةَ فخطبَ بهم، وطَلَبَ منهم أن يَقومُوا بمعونتِهم[30]؛ لكن هذه الأخبار فيها أنَّ السَّؤالَ كان مِن إمامِ المسجدِ، وهو النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- هنا، وإمامُ المسجدِ له ولايةٌ ليست لأفرادِ النَّاسِ.
وإذا كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «وَإِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ ضَالَّتَكَ»، وهو يسألُ مالَه، ويسألُ ما يملكه هو وقد ضَاعَ منه، ومعَ ذلكَ مَنعَ مِن هذا السُّؤال، وأمرَ بالردِّ على مَن سألَ ضالَّتَه في المسجدِ؛ ومَا ذاكَ إلا لِما يُوجد في هذا مِن رفعِ الصَّوتِ، ومِن إشغالِ المصلِّينَ والذَّاكرينَ عن العباداتِ التي يقومونَ بها.
ومِن هذا المنطلقِ قالَ مَن قالَ بإنَّ السَّائلَ ومَن يَطلب المعونةَ لا يجوزُ له أن يتكلَّم في المسجدِ برفعِ صوتِه في ذلكَ أخذًا مِن الأحاديثِ السَّابقةِ.
 
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الخَنْدَقِ فِي الأَكْحَلِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْمَةً فِي الـمَسْجِدِ يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ فَلَمْ يَرُعْهُمْ -وَفِي الـمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ- إِلَّا وَالدَّمُ يَسيلُ إِلَيْهِم، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِـيْـنَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ مِنْها -رضي الله عنه. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
 
(سَعْدٌ) هو سعد بن معاذ، وهو مِن أفاضلِ الصَّحابَةِ ومِن أفاضلِ الأنصارِ، وقد مَاتَ وهو لم يبلغ الأربعينَ سنةً من عمرهِ، وذلكَ أنَّه لمَّا خرجَ إلى غزوةِ الخندقِ كانَ جزءٌ من بدنِه قد ظهرَ فخُشيَ عليه أن يُصاب من قِبَله، فأصابَه سهمٌ غائرٌ في ذلك الموطنِ.
(الأَكْحَلِ): عرقٌ من عروقِ الدَّمِ موجودٌ في اليدِ، وذلك أنَّه قد أصيبَ بسهمٍ -كما تقدَّم- لأنَّ المشركينَ كانُوا خلفَ الخندقِ، والمسلمون كانوا داخلَ الخندقِ، وكانَ المشركون يرمونَ بالسِّهامِ مِن مواطنِهم على المسلمينَ فربَّما أصابت بعضهم.
قال: (فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْمَةً) لمَّا أصيبَ في المعركةِ نُقِلَ إلى المدينة، وقال: "اللهم إن كان هذا آخر العهد بقريش فأمتني، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة"[31]؛ لأنَّ بني قريظةَ قد نقضُوا العهدَ، وكانَ بينهم وبينَ سعدٍ محالفة في الجاهليَّة، فحقَّقَ الله -عزَّ وَجلَّ- دعاءَه -رضي الله عنه- فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعدَ الخندقِ ذهبَ إلى بني قريظةَ، فنزلُوا على حكمِ سعد، فحكمَ فيهم بقتلِ مُقاتَلتِهم؛ لأنَّ هذا مِن نقضِ العهدِ، فأقرَّ اللهُ -عزَّ وَجلَّ- عينَ سعد بذلك، ثم عادَ إلى المسجدِ فمُرِّضَ فيه.
(فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْمَةً فِي الـمَسْجِدِ) فيه جوازُ ضربِ الأخْبِيَةِ والخِيامِ في المسجدِ إذا لم تُضيِّق على المسلمين.
وقوله: (يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: ليزوره زيارةَ المريضِ، وفي هذا استحبابُ زيارةِ المريضِ كما هو فعلُ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم.
والحديثُ فيه مشروعيَّة تَكرارِ الزِّيارة للمريضِ إذا لم يكن ذلك مؤذيًا له.
قوله: (فَلَمْ يَرُعْهُمْ)، أي أنَّهم تفاجؤوا في أحدِ الأوقات وهم في المسجدِ إلا والدَّم يسيلُ عليه،
(وَفِي الـمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ)، هذه خيمةٌ أخرى. (إِلَّا وَالدَّمُ يَسيلُ إِلَيْهِم)، أي من تحتِ الخيمةِ ووصلَ إلى الخيمةِ الأخرى.
وبعضُ أهل العلم قالَ: إنَّ هذا الخبرَ فيه دلالةٌ على عدمِ نجاسَةِ الدَّمِ. وهذا ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ خروجَ الدَّم هنا ليسَ بقصدٍ منه -رضي الله عنه- ومِن المعلومِ أنَّ المسجدَ كانَ في عهدِ النُّبوَّةِ قد وُضَع مِن الحصبَاء - التَّراب- وبالتَّالي فانتقالُ الدَّمِ لهذا التُّرابِ أمرٌ معتادٌ.
(فَقَالُو) أي القوم مِن بني غفار. (يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ)، ينادون خيمةَ سعدٍ. (مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِـيْـنَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟)، أي أنبؤونا ما هو، وعرفونا بحاله.
(فَإِذا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمً) أي قد انتقضَ الجرحُ وبدأ يخرجُ منه الدَّمُ مرةً أخرى.
(فَمَاتَ مِنْها -رضي الله عنه)، أي مِن تلك الإصابَة أو الجراح. وهذه اللَّفظة في صحيحِ البخاري وليست في مسلم.
وقوله: (يَغْذُو جُرْحُهُ دَمً)، أي: يسلُ الدم، فالدَّمُ هنا انتقضَ مرةً أخرى بعدَ أن ظُنَّ أنَّه قد سَلِمَ.
 
{(وعَنْها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي وَأَنا أَنظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ، وهمْ يَلْعَبُونَ فِي الـمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُم عُمرُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُمْ، أَمْنًا بَني أَرْفِدَةَ» يَعْنِي: مِنَ الأَمْنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
 
هذا الحديثُ في الصَّحيحينِ، تقولُ عائشة: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي) وذلكَ أنَّ بيتَ عائشةَ يطلُّ على المسجدِ، فإنَّ أبيات النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كانت مُشرعَة في المسجدِ، فكانَ فيه هُوَةٌ -أو نافذة- فكانت تطَّلع مِن النَّافذة، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يسترها لئلَّا يراها الآخرون، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الحجابَ يكونُ بتغطيةِ جميعِ البدنِ، وفيهِ مساعدةُ الزَّوجِ لزوجتِه في سِترهَا مِن الأجانب.
وفي هذا دلالةٌ على فتحِ النَّافذَة ونحوِها على المسجدِ إذا لم يتضرَّر أصحابُ المسجدِ مِن مثل هذه النَّافذَة.
وقولها: (وَأَنا أَنظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ، وهمْ يَلْعَبُونَ فِي الـمَسْجِدِ)، كما تقدَّم أنَّ المسجدَ كانَ في الزَّمانِ الأوَّلِ قد وُضِعَت أرضيَّتَه مِن حصباءِ الوادي، وبالتَّالي كانوا قد اصطفُّوا وكانُوا يرفعون أيديَهم وأرجلَهم، وقد سَمُّوا ذلك لَعِبًا، وفي بعضِ الألفاظِ أنَّهم كانوا يلعبون بالرماح[32]، أي يرفعونها وينزلونها، وليس في هذا شيئًا مِن المعازفِ أو مِن الآلاتِ الأخرى، وإنَّما فيه حركةٌ يسيرةٌ منهم.
قوله: (فَزَجَرَهُم عُمرُ)، أي من اللَّعبِ في المسجدِ برفعِ أيديهم وأرجلِهم، أو رفعِ رماحِهم.
(فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُمْ»)، أي: اتركهم ولا تعتَرِض عليهم؛ لأنَّ هذا لا يَتنَافَى معَ حالِ المسجدِ بشرطِ ألَّا يكونَ في المسجدِ مِن المصلِّين مَن يُشغله هذا العملُ عن صلاتِه أو عن ذِكرِه.
ثم قال: «أَمْنً»، أي: أنتم آمنون. «بَني أَرْفِدَةَ»، نَسَبَهُم إلى جدٍّ من أجدادِهم. وفي هذا إعطاءُ الأمانِ للأفرادِ والمجموعةِ اليسيرةِ، وفي هذا نسبةُ الجماعةِ إلى جدِّهم الأعلى.
 
{(وعَنْها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ فَأَعْتَقُوهَا فَكَانَتْ مَعَهُم، قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُم عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ -أَو وَقَعَ مِنْهَا- فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهُوَ مُلْقَىً، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَت: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونِي حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُم إِذْ مَرَّتِ الحُدَيَّاة فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُم، قَالَتْ: فَقُلْتُ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ -زَعَمْتُم- وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الـمَسْجِدِ أَو حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدِّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلَا تجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلَّا قَالَتْ:
وَيَوْمَ الوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيْبِ رَبِّنَا **** أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الكُفْرِ أَنْجَانِي
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ لَا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إِلَّا قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الحَدِيثِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)
}.
 
(وعنه)، أي: عن عائشة -رضي الله عنها. (أَنَّ وَلِيدَةً)، أي: امرأةً صغيرةَ السِّنِّ. (كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ)، أي: يملكونَها بملكهم لأمِّهَا، أو بأنَّهم قد أسَروها. (فَأَعْتَقُوهَ)، أي: جعلُوها حرَّةً بعدَ أن كانت مملوكة. (فَكَانَتْ مَعَهُم)، أي: تذهب معهم وتأتي معهم، ليس لها أهل إلا هم. (قَالَتْ: فَخَرَجَتْ)، يعني في مرةٍ من المراتِ وفي سَفرةٍ من السَّفَراتِ. (خرجت صَبِيَّةٌ)، أي: طفلةٌ صغيرةٌ.
(لَهُم عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ)، الوشاح: نسيجٌ أو سيرٌ يوضع فيه شيءٌ من الزِّينَة، ويُمسكُ بطنَ المرأة.
(وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ)، السُّيور: ما يُؤخذُ مِن الجلدِ، يُقدُّ الجلدُ ويُقطَّعُ ويُوضعُ كسيرٍ، وبالتَّالي يُوضعُ على البطنِ ونحوه. (قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ)، أي أنَّ هذه الصَّبيَّة وضَعَت الوِشَاحَ على الأرضِ.
(أَو وَقَعَ مِنْهَ)، أي: سَقطَ منها، (فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ) نوعٌ من أنواع الطُّيور. (وَهُوَ مُلْقًى) يعني هذا الوشاح ملقًى على الأرض وكان لونه أحمر، فحسبته الحُدَيَّاة أنَّه لحمٌ (فَخَطِفَتْهُ).
(قَالَتْ: فالْتَمَسُوهُ)، أي: بحثوا عنه، وفتَّشُوا جميعَ الأمكنَةِ مِن أجلِ أن يجدُوه، لكنَّهم لم يجدوه. (قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ)، وظنُّوا أنَّها هي التي سَرَقته، ولم ينتبِهوا إلى أنَّ الحُدَيَّاةَ هي التي أخذته. (قَالَت: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونِي حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَ)، أي يبحثون عن هذا الوِشاح. (قَالَتْ: وَاللهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُم)، كانت في حالٍ شديدٍ، متَّهمَة وقد قرَّعُوهَا بالكلامِ، وفتَّشوا جميعَ ثِيابِها، فإذا بالحُدَيَّاة قد مرَّت عليهم فألقَت الوِشاحَ الأحمرَ فيما بينهم. (قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُم)، كلُّهم يشاهدونَه، وهذا علامةُ براءةِ هذه الوليدة.
وفي هذا لا يَحسُن اتِّهامَ الإنسانِ بشيءٍ إلا بعدَ قيامِ البيِّنةِ الشَّرعيَّةِ عليه.
(قَالَتْ: فَقُلْتُ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ)، أي: هذا الوِشَاح الذي نسبتم إلي أني سرقته (زَعَمْتُم) الزَّعمُ: يُطلَق على الحديثِ الكاذبِ. (وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ) فلم أسْرِقه. (وَهُوَ ذَا هُوَ)، قَالَتْ عائشة: (فَجَاءَتْ الوليدة إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) أي أنَّها تركَت أهلَها لأنَّهم اتَّهموها بهذه الفِريَة العظيمَة، وجاءَت إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- (فَأَسْلَمَتْ) دخلت في دينِ الله، وفي هذا صِحَّةُ إسلامِ الجارية، وصحَّةُ إسلامِ المرأة ولو لم يكن عندها ولي.
(قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الـمَسْجِدِ) أي: تسكنُ فيه، وهذا هو الشَّاهد في وضع الأخبية في المسجد.
(أَو حِفْشٌ)، نوع من أنواع الخباء. (قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي) تقولُ عائشة: كانت تَزورني، وفيه جوازَ المزاورة بين النِّساءِ. (فَتَحَدِّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلَا تجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلَّا قَالَتْ:
وَيَوْمَ الوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيْبِ رَبِّنَا ** أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الكُفْرِ أَنْجَانِي)
.
وفي هذا جوازُ قولِ المرأة للشِّعرِ، وفي هذا أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يُناصِرُ المظلومينَ، ويُبعد عنهم الاتِّهامَات الكاذِبة، ويُخلِفُ عليهم، ويَعقبُهم العاقبةَ الحميدة.
(قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ لَا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إِلَّا قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الحَدِيثِ).
 
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «البُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيْئَةٌ وكفَّارَتُهَا دَفْنُهَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
 
في هذا الحديثِ وجوبُ احترامِ المسَاجدِ وتنظيفِ المسَاجد.
وفي هذا الحديث: أنَّ النَّجاسَةَ اليَسرَة أو مَا يُستقذَر -ولو كان قليلًا- فإنَّه لا يُحسِن وضعه في المسجد، بل يُعدُّ ذلك من الذُّنوبِ والخَطَايا.
وقوله: «البُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيْئَةٌ»، هذا دليلٌ على تحريمِ البُزاقِ في المسجدِ ولو كانَ قليلًا.
وقوله: « وكفَّارَتُهَا دَفْنُهَ»، المرادُ: إزالة أثرها، وكانت المساجد في السَّابقِ من التُّرابِ، فكان إزالةُ الأثرِ بدفنِ هذا البُزَاقِ، ولكن في مثلِ عصرِنا الحاضرِ فإنَّ المساجدَ قد وُضعت فيها الفُرُش، ومحاولةُ دفنِها يزيدُ مِن انتشارِها، ولذا فإنَّ كفَّارتَها في زمنِنَا الحاضر بإزالتِها، وإزالةِ آثارِها.
 
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
 
في هذا إثباتُ صفةِ المحبَّة للهِ -عزَّ وَجلَّ- و إثباتُ فعلِ البُغضِ -وليست صِفة البُغض- وفي هذا أنَّ البلدان تَختلِفُ أحكامُها باختلافِ ما يُفعل فيها مِن الخيرِ والشَّرِّ، وأنَّه لا يستمر الحكم في بلدٍ إلا باستمرارِ الأفعالِ التي عليه، وفي هذا فضلُ المساجد وأنَّها محبوبةٌ إلى اللهِ -عزَّ وَجلَّ- وفي المقابلِ التَّحذيرِ مِن دخولِ الأسواقِ، وما ذاكَ إلا لأنَّ المساجدَ محالُّ الطَّاعاتِ، بينما الأسواق فيها انتشارُ النَّاسِ، وقد يتَسَاهلُ بعضُ النَّاسِ فيما يتعلَّق بالواجباتِ الشَّرعيَّةِ، وفيها هيشات الأسواق وأصواتها، ولذا وصفها بأنَّها أبغضُ البلادِ إلى اللهِ.
 
{(وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «لَا تقومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَه وَالنَّسَائِيُّ)}.
 
قوله: (يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ)، أي يقومُ بعضهم بالافتخارِ على بعضِهمُ الآخر بما فعله في المسجد، فيقول: مسجدنا أحسنُ مِن مسجدِكم.
والتَّباهِي الذي ذُكرَ في الحديثِ قد يكونُ تباهيًا بالبُنيَانِ، وقد يكونُ تَبَاهيًا بالزَّخارفِ، وقد يكونُ تباهيًا بالإمكاناتِ المهيَّئةِ للمصلِّينَ فيه بأنواعِ ما يُهيَّأ.
وهذا الحديث هو عند أحمد وأهلِ السُّننِ، لكن هل يدلُّ على المنعِ مِن مثلِ ذلك أو لا؟
الحديثُ فيه ذكرُ شيءٍ مِن علاماتِ السَّاعةِ، ولم يُحكَم عليه بحكمٍ، لكن وردَ في النُّصوصِ النَّهيُ عن الرِّياء، فقد قال -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ»[33]، ومن ثَمَّ يكون التَّباهي في هذه الحالِ مِن الأمور المخالِفة للحديثِ السَّابق.
 
{(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْييدِ المَسَاجِدِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ)}.
 
قوله: «ا أُمِرْتُ بِتَشْييدِ المَسَاجِدِ» فيه دلالةٌ على أنَّ تشييدَ المساجدِ ليسَ مِن الأمور المشروعَة، والتي يُتقرَّبُ بها إلى اللهِ -عزَّ وَجلَّ- ولا ينفِي ذلك إباحتها.
وتشييدُ المساجد قد يُرادُ به: بناؤها البِناءَ المُحكَمِ القويِّ، وفي الحديث أيضًا: النَّهيُ عن زخرفةِ المساجدِ، وذلكَ لأنَّ الزَّخارفَ تُشغِلُ المصلينَ وتُشغِل التَّالينَ عن التَّفكُّرِ فيما هم فيه.
وفي الحديث: النَّهيُ عن اتِّباعِ اليهودِ والنَّصارى.
 
{(وَعَنِ السَّائِبِ بنِ يزِيدٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الـمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ، فَإِذا عُمرُ بنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِني بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ وَمنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا منْ أَهلِ البَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
 
هذا الحديثُ قد أخرجَه البخاري، والسَّائب بن يزيد -رحمه الله- قال: (كُنْتُ قَائِمًا فِي الـمَسْجِدِ) أي واقفًا أرقبُ ما يكون في المسجد.
(فَحَصَبَنِي رَجُلٌ) أي قامَ بإلقاءِ شيءٍ مِن الحصَى عليه، كأنَّه يُريدُ أن يُنبِّهَهُ، وفي هذا جوازُ ذلك إذا لم يَحصل بِه مضرَّة.
قال: (فَنَظَرْتُ)، يعني إلى مصدرِ هذا التَّحصيبِ. (فَإِذا عُمرُ بنُ الْخَطَّابِ) أميرُ المؤمنين -رضي الله عنه-، (فَقَالَ) أي: قال عمرُ للسائبِ بن يزيد: (اذْهَبْ فَأْتِني بِهَذَيْنِ)، أي أقبِل إليَّ بالرَّجلين اللذين يتحدَّثان.
قال: (فَجِئْتُهُ بِهِمَ)، وفي هذا تنفيذٌ لأمرِ الإمام فيما يطلبه، (فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ وَمنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا منْ أَهلِ البَلَدِ)، يعني مِن أهلِ المدينةِ (لأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبً)، لأنَّه شاهدهما يرفعانِ الأصواتَ في المسجد، وفي هذا دليلٌ على المنعِ مِن رفعِ الصَّوتِ في المسجدِ، خصوصًا مسجد النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولكنَّه قد عذرهم بالجهلِ، وفيه دلالةٌ على أنَّ الجهلَ مِن أسبابِ العذرِ.
{(وَعَنْ أَبي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِذا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
الْمَسْجِد: اسم (مفعل) يراد به مَواطن الصَّلاة، والمراد به هنا المواطن التي خصِّصَت للصَّلاةِ فيها، وبالتَّالي يدخل في لفظ (المسجد) باحةَ المسجدِ، أو المكان الذي يصلِّي فيه النَّاس أو الأحواش التَّابعة له ما دامت مُسوَّرة بسورٍ ومهيَّأة لأن يُصلِّي المصلونَ فيها.
قوله: «إِذا دَخَلَ أَحَدُكُمُ» المرادُ هنا الدُّخول حقيقةً، وليس المراد به البدء فيه، وهذه لفظةٌ عامَّة تشملُ الرِّجالَ والنِّساءَ.
«فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»، أي: يُمنع مِن أن يجلسَ حتى يُصلِّي الركعتين، وفي هذا دلالةٌ على مشروعيَّةُ تحيَّةِ المسجدِ، وعلى أنَّ مَن دخلَ المسجد فإنَّه يُقدِّم تحيَّةَ المسجد على غيرها من الأفعال.
 
{(وَعَنْ أَنسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى القَذَاةُ يُخرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ- أَوْ آيَةٍ- أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نعرفه إِلَّا منْ هَذَا الْوَجْهِ، وذَاكَرْتُ بِهِ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ فَلمْ يَعْرِفْهُ وَاسْتَغْرَبَهُ)}.
 
هذا الحديث مِن رواية المطَّلبِ بن عبد الله بن حنطب عن أنس، والمطَّلبُ أكثرُ أهلِ العلمِ يقولون: إنَّه لا يروي عن الصَّحابة مباشرة، وإنَّما يروي عن الصَّحابَة بالواسطة، وقد رَوى هذا الخبرَ مباشرةً بدونِ واسطةٍ، ولذلك تكلَّمَ فيه بعضُهم.
وقوله هنا: (قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي»)، أي الثَّواب الذي قد نِيطَ بالأعمالِ التي عَملها أفرادُ الأمَّة.
قوله: «حَتَّى القَذَاةُ»، وهو الشَّيءُ اليسيرُ الذي تتأذَّى منه العين. قال: «حَتَّى القَذَاةُ يُخرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ»، في هذا دلالةٌ على وجوبِ تنظيفِ المساجد، وعلى ترتيبِ الأجورِ الكثيرة على مَن قامَ بذلك، والأصلُ أنَّ القذاةَ لا تُرى، يعني هي التي تُؤذي العينَ، ولكنَّه مع ذلكَ جعلَ إخراجها مِن المسجد مِن القُرباتِ والطَّاعاتِ التي يَنال الإنسانُ أجرَها يومَ القيامةِ.
قال: «وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ»، أي أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قد أوتيَ بهذه الذُّنوبِ، وفي هذا احتمال أن تكونَ رؤيةً بصريَّةً، ويحتملُ أن تكونَ الرؤيةُ مناميَّةً، ولعلَّ الثَّاني أقوى؛ لأنَّ الذُّنوبَ أعراضٌ لا يُمكن تشخيصَها، وإنَّما تشخَّصُ في يومِ القيامةِ.
قال: «وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ- أَوْ آيَةٍ- أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَ»، أي: لم أشاهد ولم أطَّلع على ذنبٍ يكونُ أعظمَ مِن رجلٍ نَسيَ سورةً مِن القرآن أو نَسيَ آيةً مِن آياتِها، وقد استدلَّ بعضُ أهلِ العلمِ بهذا الخبرِ على تحريمِ نسيانِ القرآنِ، بل استدلَّ به بعضُهم على أنَّه مِن كبائرِ الذُّنوبِ وعَظَائِمِ الآثامِ، وقد وَرَدَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَ»[34].
قال «تَعَاهَدُو»، فدلَّ هذا على أنَّ التَّعاهدَ من الواجباتِ، وحينئذٍ مَن نسي القرآنَ بعد أن بذلَ الأسبابَ لبقائِه؛ فهذا -إن شاء الله- لا إثمَ عليه، وحديثُ الباب في إسنادِه ما في إسنادِه، لكن إذا تَركَ الإنسانُ القرآنَ تهاونًا وكسلًا ولم يعد لمذاكرته؛ فحينئذٍ يُخشى عليه مِن العقوبة لأنَّه قد فرَّطَ في نِعمةِ الله -سبحانه وتعالى.
وهذا آخرُ أحاديثِ كتابِ المساجدِ، وبعده ذكرَ المؤلِّفُ بابَ صلاة الجمعة.
 
{(بَابُ صَلَاةِ الجُمُعَةِ
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ وَأَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ قُدامَةَ بنِ وَبَرَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ فِي غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِيْنَارٍ، فإنْ لَمْ يَجِدْ، فَنِصْفُ دِيْنَارٍ» رواه أَحمدُ وأَبو داوُد والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ، ورواهُ أبو داوُد مُرْسَلًا، وَفيه: «فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ، أَو نِصْفِ دِرْهَمٍ، أَو صَاعِ حِنْطَةٍ، أَو نِصْفِ صَاعٍ»، وَقَالَ البُخَارِيُّ: قُدامَةُ بنُ وَبَرَةَ عَنْ سَمُرَةَ لمْ يَصِحَّ سَماعُهُ. وَوَهِمَ منْ رَوَاهُ عَنِ الحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ)
}.
 
هذه أحاديث في مقدِّمَةِ كتابِ صلاةِ الجمعة، وصلاةُ الجمعةِ صلاةٌ عظيمةُ الشَّأنِ، قد أمرَ اللهُ -عزَّ وَجلَّ- بالاستجابة للمنادِي عندما يُنادِي إليها في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9].
ومِن هنا فصلاةُ الجمعة لها قيمتها ومنزلتها، وقد عَابَ اللهُ -عزَّ وَجلَّ- على أولئك الذين انصرفوا عن صَلاةِ الجمعةِ مِن أجلِ أمرٍ دنيويٍّ، وقد أخبرَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن شأنَ أهلَ النِّفاقِ أن يُقدِّموا أمورَ الدُّنيا على أمرِ صلاةِ الجمعةِ.
وهذه الأحاديث التي أوردَها المؤلِّفُ تؤكِّدُ على وجوبِ صلاةِ الجمعة، وأنَّها مِن الأمورِ المتعيِّنَةِ التي لا يجوز لإنسانٍ أن يَتركَها، ولكن لعلَّنا أن نتركَ هذه الأحاديث لنقومَ بشرحِها في لقائنا القادمِ -بإذن الله عزَّ وَجلَّ.
باركَ الله فيكَ، وجزاكَ الله خيرًا، أشكركَ على حسنِ قراءتِكَ لهذه الأحاديثِ، كما أسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يُوفِّقَ إخوانَنا ممَّن يقومُ على هذه اللِّقاءات لكلِّ خيرٍ، وأسألُه -جلَّ وعلا- أن يُصلح أحوالَ الأمَّةَ، وأن يَردَّهُم إلى دِينهِ ردًّا حميدًا، هذا واللهُ أعلَم، وصلَّى اللهُ علَى نبيِّنا محمدٍ، وعلَى آلِه وصحبِه أجمعين.
-----------------------
[29] جاء عند مسلم في صحيحه (1737): عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: " أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا "
[30] جاء عند مسلم في صحيحه (1697): عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: " يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وقال:َ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}، ثم قال: َصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ "
[31] سنن لنسائي (8358) ولفظه: "اللَّهُمَّ لا تُخْرِجْ نَفْسِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ"
[32] صحيح مسلم (1487) ولفظه: "وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ...".
[33] صحيح مسلم (5305).
[34] صحيح مسلم (1323).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك