الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ،
أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيَّها الإخوةُ الأعزَّاء في لقاءٍ جديدٍ نتدارسُ فيه شيئًا مِن أحاديثِ
كتابِ المحرر للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا في لِقائنا السَّابق قد قرأنا عددًا مِن الأحاديث مِن بابِ الصَّلاة على
الميِّتِ، وذكرنا أنَّ الصَّلاةَ على الميِّتِ قد أمر بها النَّبيُّ -صلى الله عليه
وسلم- ِوهي من فُروضِ الكفايات، وإذا قام بها البعض كفى ذلك عن الباقين، وإذا تركها
الجميع فإنهم يأثمون.
وقد ذكرَ المؤلِّف عددًا مِن الأحاديثِ التي أدرجها في بابِ الصَّلاةِ على
الميِّتِ، فلعلَّنا أن نقرأ بعضَ هذه الأحاديث.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالينَ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه
وسلِّم.
اللهمَّ اغفر لنا وليشخنا، وللمشاهدين وللمستمعينَ، ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى: (بَابٌ فِي الصَلاةِ عَلَى المَيِّتِ.
عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْمَعُ بَينَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى
أُحُدٍ فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ، ثمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا
لِلْقُرْآنِ؟» فَإِذا أُشيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ،
وَقَالَ: «أَنا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَأَمَرَ
بِدَفْنِهِم فِي دِمَائِهِمْ، ولمْ يُغَسَّلُوا وَلم يُصَلَّ عَلَيْهِم. رَوَاهُ
البُخَارِيُّ)}.
قوله هنا: ( كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْمَعُ بَينَ
الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ)، وذلك أنَّهم في يومِ أحدٍ
كانت الأكفانُ عندهم قليلة، ولذلك احتاجَ إلى أن يجمعَ بينَ أكثر مِن ميِّتٍ في
ثوبٍ واحد.
وقال بعضهم: إنَّ المراد به الكفن الثَّاني، وذلك أنَّ الشُّهداء يُكفَّنونَ في
ثيابهم التي ماتوا فيها، ثمَّ بعد ذلك يُلفُّ عليهم بثوبٍ ونحوه.
وقوله هنا: (ثمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟»)، أي: أيُّهم
أكثر حفظًا للقرآن.
وفي هذا فضيلة حِفظِ القُرآن، وأنَّ صاحبَ القرآنِ يُقدَّمُ على غيره، فكما يُقدَّم
في الصَّلاة يُقدَّم في اللَّحد، فهكذا يُستحب تقديمهم مُطلقًا.
قوله: (فَإِذا أُشيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَ)، استُدلَّ به على جوازِ الاعتماد على
الإشَارَةِ.
وقوله: (قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ)، قالَ طائفةٌ مِن أهلِ العلم: إنَّ المراد
باللَّحد هنا: ما يُقابل الشِّق، وذلك أنَّ حفرَ القبر قد يكون على هيئتين:
النَّوعُ الأوَّلُ: اللَّحد، وذلك بأن يُحفر، ثم بعد ذلك يُوضع حفرة جانبيَّة يُوضع
الميِّتُ فيها، ثم تُسدُّ باللَّبِنِ.
النَّوعُ الثَّاني: الشَّق، وهو: أن توضع حفرة في أسفلِ القبرِ لا على جانبه، ثم
بعدَ ذلك تُنصَب اللَّبِنَة عليه، الواحدة بجوار الأخرى.
وفي هذا: تفضيل اللَّحدِ على الشَّقِّ في القبرِ.
وقوله -صلى الله عليه وسلم: «أَنا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»،
يعني: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يشهدُ لهم بأنهم قد ماتوا في سبيل الله.
قوله: (وَأَمَرَ بِدَفْنِهِم فِي دِمَائِهِمْ، ولمْ يُغَسَّلُو)، فيه أنَّ شهيدَ
المعركةِ الذي يموت فيها لا يُشرع تغسيله، وذلك أنَّ هذه الدِّماء إنَّما أصيبَ بها
في سبيلِ الله تعالى، فشرع إبقاؤها على الميِّت الشَّهيد.
وقوله: (وَلم يُصَلَّ عَلَيْهِم)، فيه أنَّ شهيدَ المعركة لا تُشرع الصَّلاة عليه
كما هو فِعْلُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وبذلك قال الجمهور خِلافًا للإمامِ
أبي حنيفة.
وقد وَردَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قد جاء إلى شُهداء أحدٍ بعدَ ثمانِ
سنينَ فصلَّى عليهم كالمودِّع لهم، ولكن لفظة (فَصَلَّى) تحتملُ أن يُراد بها
الدُّعاء، والعادة أنَّ الميِّتَ يُصلَّى عليه بعد موتِه، ولا تؤخَّر الصَّلاة عليه
مثل هذه المدَّة الطَّويلة، ولذلك فإنَّ الصَّوابَ هو قول الجمهور بأنَّ شهيدَ
المعركةِ لا يُصلَّى عليه.
وأمَّا مَن نُقلَ مِن موطنِ المعركة جريحًا، ثم بقيَ في المدينة بعد ذلك، فإنَّه
يُشرع أن يُصلَّى عليه وأن يُكفَّن، كما فَعَلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مع
سَعد بن معاذ وقد أصيبَ في غزوة الخندق ثم نُقل إلى المدينة فبقي مدَّة، ثم مات.
{(وَعَنْ عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صلَاتَهُ
عَلَى الـمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرفَ إِلَى الـمِنْبَرِ، فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطٌ
لَكُمْ وَأَنا شَهِيدٌ عَلَيْكُم» الحَدِيث. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ
للْبُخَارِيِّ.
وَلهُ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَتْلَى
أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كالـمُوَدِّعِ للأَحْيَاءِ والأَمْوَاتِ)}.
هذا هو دليل الحنفيَّة في قولهم: إنَّ شهيدَ المعركةِ يُصلَّى عليه.
وكما تقدَّم أنَّ الجمهور يرون أنَّ المراد بهذا الحديث: هو الدُّعاء لِشُهَدَاءِ
أُحد.
وفي هذا الحديث: فضيلة شهداء أحد، حيث خرجَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ليدعو
لهم.
وقوله: «إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ»، أي: سابق إلى الجنَّة أو إلى الخيرات.
«وَأَنا شَهِيدٌ عَلَيْكُم»، أي: أشهد لكم يوم القيامة بأنَّكم قد متم في سبيل
الله.
{(وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ
عَنهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ
أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «آحْصَنْتَ؟» قَالَ: نَعمْ، فَأَمَرَ بِهِ
فَرُجِمَ بِالـمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ فَرَّ فَأُدْرِكَ،
فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خَيرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ. هَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ جَابرٍ، قَالَ: وَلم يَقُلْ يُونُسُ
وَابْنُ جُرَيجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَصَلَّى عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالُوا: وَلم يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَصَحَّحهُ
التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَالصَّحِيحُ عَنْ مَعْمَرٍ، كَرِوَايَة
غَيرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَاللهُ أعْلَمُ)}.
هذا الحديث في الصَّلاة على المَحدُودِ في حدِّ الزِّنا، هل يُشرع أن يُصلَّى عليه
أو لا يشرع أن يُصلَّى عليه؟
قال المؤلِّف: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ)،
وهو ماعز.
(جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاعْتَرَفَ
بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى
شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ)، وفيه: أنَّ الإقرارَ بالزِّنا لا يَثبُت
بِهِ الحدُّ حَتَّى يتكرَّر أربع مرات.
وقد قال بعضُ أهلِ العلم: إنَّه لا يكون هذا الإقرار في موطنٍ واحدٍ؛ لأنَّه قال
هنا: (فَأَعْرَضَ عَنهُ). وفي الاستدلال بذلك حاجة إلى اعتضاد بدليل آخر.
قوله: (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يعني: بعد
الاعتراف الرابع.
قوله: «أَبِكَ جُنُونٌ؟»، مِن أجل أن يعرفَ هل هو ممَّن انطبقت عليه شروط إقامة
الحدِّ أو لا.
(قَالَ: لَا، قَالَ: «آحْصَنْتَ؟»)، أي: هل سبقَ لك الزَّواج والوطء فيه؟
(قَالَ: نَعمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ)، وفي هذا جواز التَّوكيل في إقامَةِ
الحدودِ.
وفي هذا أيضًا: أنَّ المحصَن الزَّاني حدُّه الرَّجم.
وقوله: (بِالـمُصَلَّى)، هو جانب مِن جوانبِ المدينة كانت تقام فيه صلاة العيدِ
والاستسقاء.
قال: (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ)، أي: وجدَ حرَّها وقَلِقَ منها.
قوله: (فَرَّ فَأُدْرِكَ)، يعني: أنَّهم لحقوه.
قوله: (فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ) رضي الله عنه. (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيرً)، أي: لم يقدح فيه، ولم يذكر معايبه، وإنما أثنى
عليه.
هنا في هذا الحديث قال: (وَصَلَّى عَلَيْهِ)، فيه أنه يُصلَّى على مَن مات
مَحدُودًا.
لكن لأهلِ العلم في هذه اللَّفظة كلام، حيث قد اختُلِفَ في هذه الرِّواية:
فقال بعضهم: إنَّ لفظة (وَصَلَّى عَلَيْهِ) انفرد بها معمر، وقد رواها محمود بن
غيلان عن عبد الرَّزاق، فجاء بهذه اللفظة (وَصَلَّى عَلَيْهِ)، بينما بقية الرواة
لم يذكروها، فإنَّ يونس وابن جريج رووها عن الزهري ولم يذكروا (وَصَلَّى عَلَيْهِ)،
بينما رواه جماعة بالتَّصريح بعدم الصَّلاة عليه، وهو الذي صححه الترمذي،.
وحينئذٍ قالَ طائفة مِن أهلِ العلم: إنَّ الإمام ومَن له مكانةٌ ومنزلةٌ ولا
يصلُّون على مَن تُقام عليه الحدود، وإن كان بقيَّة النَّاس يُصلُّون عليه.
لكن قد وردَ في حديث آخر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على
الغامديَّة.
والذي يظهر أنَّ هذا الذي جاء مُعترفًا مُقرًّا بالزِّنا تائبًا منه، وأرادَ أن
يُطهِّر نفسه مِن هذا الذنب؛ لا شكَّ أنَّه على حالٍ حسنة، وأنه يُرجى له المغفرة،
ولذلك فإنَّه يُصلَّى عليه.
{(وَرَوَى مُسلمٌ فِي حَدِيثِ الغَامِدِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ: ثُمَّ
أَمَرَ بهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا ودُفِنَتْ)}.
في هذا مَشروعيَّة دفنِ الأمواتِ ممَّن أقيمت عليهم الحدود، ومثل هذا أيضًا مَن
أقيم عليه حدُّ الحرابة، أو قتلٍ في القوَدِ والقِصَاصِ.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلمْ
يُصَلِّ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
المشاقص: هي نصل السَّهم.
وقوله هنا: (أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ قَتَلَ
نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ)، في هذا أنَّ قتل النَّفس مِن عَظَائِم الذُّنوب، ولذلك
امتنع النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِن أن يُصلِّي عليه.
وقوله: (فَلمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ)، فيه دلالة على أنَّ الإمامَ ومَن لهم مكانة مِن
أهلِ العلمِ والوجاهةِ لا يُصلُّون على أصحابِ الذُّنوبِ، ومنهم قاتل نفسه إذا لم
يثبت له التَّوبة، وأمَّا بقيَّة النَّاس فإنَّهم يُصلُّون عليه.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ
تَقُمُّ الْمَسْجِدَ -أَو شَابًّا- فَفَقَدَها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَسَأَلَ عَنْهَا -أَو عَنهُ- فَقَالُوا: مَاتَ؟ فَقَالَ: «أَفَلا
كُنْتُم آذَنْتُمُونِي؟» قَالَ: فَكَأَنَّهُم صَغَّروا أَمْرَهَا -أَو أَمْرَهُ-
فَقَالَ: «دُلُّوني عَلَى قَبْرِهِ؟» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:
«إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ
يُنَوِّرُهَا لَهُم بِصَلاتِي عَلَيْهِم» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ،
وَآخرُ حَدِيثِ البُخَارِيِّ: فَصَلَّى عَلَيْهَ)}.
قوله هنا: (أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ)، فيه مشروعيَّة
تنظيف المساجد وفضل ذلك، فإنَّ هذه المرأة مع كونهم ظنُّوا أنَّها لا يؤبه لها؛ إلا
أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وضعَ لها مكانًا ومنزلة.
وقوله: (فَفَقَدَها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَ عَنْهَا
-أَو عَنهُ- فَقَالُوا: مَاتَ)، يعني مات الشَّاب أو ماتت المرأة.
فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم: «أَفَلا كُنْتُم آذَنْتُمُونِي؟»، أي: هلا أخبرتموني
بوفاة هذه المرأة!
وفي هذا جواز إخبار الآخرين بموتِ الميِّتِ مِن أجلِ أن يدعوا له، وأن يصلُّوا
عليه، وهذا قد يسميه كثيرٌ من النَّاس "نعي" ففي هذا جواز النَّعي.
وأمَّا ما ورد مِن الأحاديثِ من النِّهي عن النَّعي فإنَّها لم تثبت عن النَّبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- وقد وردَ في الصَّحيح مِن حديث ابن عباس أنَّ النَّبيَّ -صلى
الله عليه وسلم- نعى النَّجاشي يوم موته.
قوله: (قَالَ: فَكَأَنَّهُم صَغَّروا أَمْرَهَ)، أي: قلَّلوا من شأنها.
فَقَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «دُلُّوني عَلَى قَبْرِهِ؟»، وفي هذا
مشروعيَّة مَعرفة نسبة القبرِ إلى ساكنه.
قوله: (فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَ)، وفي هذا جواز الصَّلاة على الميِّتِ بعدَ
أن يُدفن.
وبعضُ أهلُ العلمِ خَصَّ ذلك بمَن مَات قريبًا؛ لأنَّ الصَّلاة في القبورِ مَنهي
عنها، وقد جعل الحنابلة الحدَّ في ذلك إلى شهر، لما وردَ مِن حديثِ سعيد بن المسيب
مرسلًا: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلى على امرأة في قبرها إلى شهر[48].
ثُمَّ قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً
عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُم بِصَلاتِي عَلَيْهِم»، في هذا
فضل الصَّلاة على الميِّتِ، وأنَّها من أسباب نورِ القبرِ.
{(وَعَنْ بِلَالٍ العَبْسِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ كَانَ إِذا مَاتَ لَهُ
مَيِّتٌ، قَالَ لَا تُؤْذِنُوا بِهِ أَحَدًا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكونَ نَعْيًا,
إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينْهَى عَنِ
النَّعْيِ. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ
-وَحَسَّنَهُ)}.
قوله: (أَنَّهُ كَانَ إِذا مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ، قَالَ لَا تُؤْذِنُوا بِهِ
أَحَدً)، أي: لا تخبروا به الآخرين، وهذا الحديث -كما تقدَّم- ضعيف الإسناد، وإن
كان قد حَسَّنه الترمذي، ولكن في وراته مَن هو ضعيف، وبالتَّالي لا يَصحُّ أن يُبنى
عليه الحكم.
وقد وَردَ عَن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه أخبرَ بموتِ النَّجاشي، وعَابَ
على أصحابِه حينما لم يُخبروه بموت المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسلِمٍ يَمُوتُ،
فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ
شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ»)}.
قوله هنا: «إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ»، أي: قبل شفاعتهم ودعاءهم له.
وفي هذا الحديث: مشروعيَّة الاجتماع لصلاةِ الجنازةِ، وأنَّه كلَّما كان عدد
المصلِّين فيها أكثر كان ذلك أفود وأصلح لحالِ الميِّتِ.
وفي هذا الحديث: فضل التَّوحيد، وأنَّ مِن أسباب إجابة الدُّعاء أن يكون الإنسان
مِن أهل التَّوحيد، لقوله: «لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئً».
وفي هذا الحديث أيضًا: دلالة على أنَّ صلاة الجنازة تكون قيامًا، وأنَّه لا يُجلَس
فيها لقوله: «فَيَقُومُ».
وصلاة الجنازة -كما تقدَّم- مِن فروضِ الكفاياتِ، والفروض لابدَّ أن تُؤدَّى
والمصلِّي قائمٌ، ولا يجوزُ أن يجلسَ في الصَّلاة إلا مَن كانَ عاجزًا عن القيامِ.
{(وَعَنْ أَبي النَّضْرِ، عَنْ أَبي سَلَمَة بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لـمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بنُ أَبي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- قَالَتْ: ادْخُلُوا بِهِ الـمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ،
فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ابْنَي بَيْضَاءَ فِي الـمَسْجِدِ:
سُهَيْلٍ وأَخِيهِ. رَوَاهُمَا مُسلمٌ، وَقَالَ: سُهَيْلُ بنُ دَعْدٍ: هُوَ ابْنُ
الْبَيْضَاءِ، أُمُّهُ بَيْضَاءُ)}.
توفي سعد بن أبي وقاص وهو مِن العشرة المبشرين بالجنَّة، وأرادت عائشة -رضي الله
عنها- أن تُصلِّي عليه، وظاهر هذا أنَّه كان قبلَ وفاةِ عمر، أي: قبل أن تنتقلَ،
وإن كانَ بعضُ أهل ِالعلمِ قال: إنَّ سعدًا لم يمت إلا بعدَ وفاةِ عُمر، وحينئذٍ
قالوا: إنَّ عائشة في ذلك الوقت قد انتقلت مِن سُكنى حجرتها إلى سُكنى غيرها.
فقالت عائشة: (ادْخُلُوا بِهِ الـمَسْجِدَ)، أي: ادخلوا بالجنازة داخل المسجد
ليصلَّى عليه داخل المسجد.
وفي هذا: جواز فعل صلاة الجنازة داخل المسجد، كما هو مذهب الجمهور، خلافًا للإمام
أبي حنيفة الذي قال: إنَّ صلاة الجنازة إنَّما تكون في المصلَّى ولا تكون في داخل
المسجد.
فقالت عائشة -رضي الله عنها: (وَاللهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ابْنَي بَيْضَاءَ فِي الـمَسْجِدِ)، وفي هذا دلالة على
جواز أن تؤدَّى صلاة الجنازة داخل المسجد.
وابنا بيضاء: نُسِبَا إلى أمِّهما -رضي الله عنه وعنهما.
{(وَعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّيتُ وَرَاءَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي
نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ
للْبُخَارِيِّ)}.
هنا هذا الحديث يتكلَّم عن موقف الإمام مِن الجنازة إذا أرادَ أن يصلِّي صلاة
الجنازة.
قال سمرة (صَلَّيتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وفيه
أنَّ المأمومين في صلاة الجنازة يقفون خلف الإمام.
وقوله: (عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَ) أو
(عَلَى وَسَطَهَ)، فيه دلالة على أنَّ الإمام يقف مِن الميِّتة على وسطها عند
أدائه لصلاة الجنازة.
وأمَّا بالنِّسة للرَّجل:
فقالت طائفة: إنَّه يقفُ عند رأسِهِ.
وقالَ آخرون: يقفُ عند صدرِهِ.
ولعلَّ شيئًا مِن الأحاديث يأتي في ذلك.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ،
وَخرَجَ بِهِم إِلَى الـمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّر عَلَيْهِ أَرْبَعَ
تَكْبِيرَاتٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله: (نَعَى النَّجَاشِيَّ)، فيه جوازُ النَّعيِ.
والمرادُ بالنَّعيِ: الإخبار بموتِ الميِّتِ.
وفي هذا الحديث: فضلُ النَّجاشِي، حيث صلَّى عليه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
وفيه: مَشروعيَّة الصَّلاة على الغائبِ، مع أنَّ الأصلَ أنَّ الصَّلاةَ على
الميِّتِ إنَّما تكون للحاضرِ، ولكن هنا في حديثِ النَّجاشي صلَّى عليه وهو غائب،
فقالَ طائفة: كلُّ غائبٍ يجوزُ أن يُصلَّى عليه.
وقال آخرون: يَخْتَصُّ هذا بالميِّت الغائبِ الذي له مكانةٌ وفضلٌ، كالأئمَّة
والعلماء ونحوهم.
وقال آخرون: إنَّ النَّجاشي لم يُصلَّى عليه لكونه كان يكتُم إيمانَه، فقصروا
الصَّلاة على الميِّت الغائب بما إذا كان لم يُصلَّى عليه.
وقال آخرون: هذا خاصٌّ بالإمامِ الأعظمِ، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم
يأمر المساجد القريبة مِن المدينة أن تُصلِّي على النَّجاشي.
قوله: (فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ)، فيه معجزة مِن معجزاته -صلى الله عليه
وسلم- حيث عَلِمَ بموتِه في يومِ وفاتِه.
وقوله: (وَخرَجَ بِهِم إِلَى الـمُصَلَّى)، فيه مشروعيَّة أداء الجنازةِ في
المصلَّى.
قوله: (فَصَفَّ بِهِمْ)، فيه مشروعيَّة إقامة الصُّفوف في صلاةِ الجنازةِ.
وقوله: (وَكَبَّر عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ)، فيه بيانُ أنَّ تكبيرات الجنازة
تكون على أربعِ تكبيراتٍ، وقد وردَ زيادتها إلى خمسٍ وإلى ستٍّ، ولعلَّه سيأتي شيء
من ذلك، وإلا فإنَّ الأصلَ أن تكونَ على أربع تكبيرات.
وظاهر هذا: أنَّ الثَّلاث تكبيرات لا تُجزِئ، وهذا هو قول الجمهور خلافًا لبعضهم.
أمَّا التَّكبيرتان فإنَّهما لا تُجزئان، فلابدَّ أن يأتي بعدهما بتكبير.
{(وَلمسلمٍ عَنْ عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَخًا لَكُم قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا
عَلَيْهِ». يَعْنِي النَّجَاشِيَّ)}.
قوله: «إِنَّ أَخًا لَكُم»، فيه إسلام النَّجاشي وفضيلته.
قوله: «فَقُومُو»، فيه دلالة على وجوب القيام في صلاة الجنازة.
وقوله: «فَصَلُّوا عَلَيْهِ»، فيه أنَّ صلاة الميِّت مِن الفروضِ، وقد وردت
الأحاديث أنَّها من فروض الكفايات.
وفيه أيضًا: مشروعيَّة صلاة الجنازة على الغائب، وقد تقدَّم البحث فيها.
{(وَلَهُ عَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبي لَيْلَى قَالَ: كَانَ زَيْدٌ يُكَبِّرُ
عَلَى جَنَائِزِنا أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا,
فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يُكَبِّرُهَا، وَزَيدٌ هُوَ ابْنُ أَرْقَمَ)}.
قوله: (كَانَ زَيْدٌ يُكَبِّرُ)، فيه دلالة على أنَّ هذا هو الأمر المستمر، وهو أن
يصلِّي صلاة الجنازة بأربع تكبيرات.
وفي هذا الحديث: جوازُ الزِّيادةِ إلى تكبيرة خامسة، وقد وردَ عن النَّبيِّ -صلى
الله عليه وسلم- أنَّه كان يفعل ذلك، لكنَّ الحال المستمرَّ أنَّه يُكبِّر أربعًا.
{(وَعَنْ طَلْحَةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيتُ خَلْفَ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ، فَقَالُوا: لِتَعَلَّمُوا
أَنَّهَا سُنَّةٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: (صَلَّيتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ)، فيه: تقدُّم أصحاب الفضلِ
في الصَّلاة على الجنازة، وأنَّ صلاةَ الجنازة تُفعل جماعة بإمام.
وقوله: (فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ)، فيه: مشروعيَّة قراءة سورة الفاتحة في صلاة
الجنازة.
وقد اختلفَ أهلُ العلم ِفي حكمِها:
فقال طائفة: إنَّها ركنٌ، ولا تتمُّ صلاة الجنازة إلا بها، لحديث «لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»[49].
وقالَ آخرون: إنَّها مُستحبَّة، واستدلُّوا على ذلك بقوله: (لِتَعَلَّمُوا أَنَّهَا
سُنَّةٌ).
ولكن لفظ "السُّنَّة" يراد بها الطَّريقة المتَّبعَة، وليس المراد بها المستحب كما
في حديث «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي»[50].
وقال آخرون: إنَّ فاتحة الكتاب واجبٌ مِن الواجبات في صلاة الجنازة، لكنها ليست
ركنًا.
وفائدة هذا القول: أنَّ مَن تركها نسيانًا أو سهوًا لم تبطل صلاته لذلك.
{(وَعَنْ عَوْفِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جِنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ
وَهُوَ يَقُول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وارْحَمْهُ وعَافِهِ واعْفُ عَنْهُ،
وَأكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، واغْسِلْهُ بِالْمَاءِ والثَّلْجِ
وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ
مِنَ الدَّنَسِ، وأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ
أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الجنَّةَ، وأَعِذْهُ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ، أَو مِنْ عَذَابِ النَّارِ» قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ
أَكُونَ أَنا ذَلِكَ الْمَيِّتَ؛ لِدُعاءِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَفِي لَفْظٍ: «وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ
وَعَذَابَ النَّارِ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
في هذا الحديث: أنَّ صلاة الجنازة لابدَّ أن يكون فيها دعاء، وليس في الدِّعاء شيء
محدَّد مؤقَّت لا يجوز تركه، وإنَّما يدعو بما تيسَّر له مِن الأدعية التي تكون
للميِّت.
وفي هذا أيضًا: أنَّ الدعاء للميِّت ينبغي أن يُطال به في صلاةِ الجنازةِ كما هو
فعل النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
وظاهر هذا الحديث: أنَّ الإمام قد يرفع صوته بالدُّعاء في صلاةِ الجنازةِ مِن أجلِ
أن يُسمع عنه، وأن يُسار على طريقه، وإلا لَمَا سمع عوف بن مالك دعاء النَّبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- في صلاة الجنازة.
قوله: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ»، أي: استر عيوبه، ولا تجازِه بها.
قوله: «وارْحَمْهُ وعَافِهِ واعْفُ عَنْهُ، وَأكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ
مُدْخَلَهُ»، يعني: المكان الذي يدخل منه القبر أو نحوه.
قال: «واغْسِلْهُ بِالْمَاءِ والثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا
كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا
مِنْ دَارهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيرًا مِنْ زَوْجِهِ،
وَأَدْخِلْهُ الجنَّةَ، وأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَو مِنْ عَذَابِ
النَّارِ».
وفي قوله: (حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنا ذَلِكَ الْمَيِّتَ؛ لِدُعاءِ
رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ الْمَيِّتِ) استدلَّ
به بعضهم على جوازِ تمني الموت إذا كان لأمرٍ شرعيٍّ كما تمنَّاه عوف من أجل أن
يدعوَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- له.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا صَلَّى عَلَى جِنَازَة يَقُولُ:
«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وشَاهِدِنا وغَائِبِنا، وَصَغِيْرنا
وَكَبِيْرِنَا، وَذَكَرِنَا وأُنْثَانا، اللَّهُمَّ مَن أَحْيَيْتَهُ مِنَّا
فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى
الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمِنَا أَجْرَهُ وَلَا تُضِلَّنا بَعْدَهُ»
رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ -وَاللَّفْظُ لَهُ-،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْم وَاللَّيْلَة", وَقَالَ
البُخَارِيُّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: "هَذَا هُو غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَأَصَحُّ
شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عَوْفِ بنِ مَالكٍ"، وَقد رُوِيَ هَذَا
الحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلَى عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ)}.
قوله: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا صَلَّى عَلَى
جِنَازَة يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ»)، هذا فيه دلالة على مشروعيَّة الدُّعاء في
صلاةِ الجنازة، والجماهير على أنَّ الدُّعاء مِن الواجبات في صلاةِ الجنازةِ، لأنَّ
النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان قد استمرَّ عليه.
وقد وردَ في بعضِ الأحاديثِ إيجاب الصَّلاة على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في
صلاةِ الجنازةِ، ولذلك قال العلماء: إنَّه بعدَ التَّكبيرة الأولى يقرأ بفاتحة
الكتاب بدون دعاءِ استفتاحٍ، وإنَّما يُباشر قراءة الفاتحة مباشرة، ولا يقرأ سورة
بعدها لعدم ورود ذلك عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثم يقرأ الصَّلاة
الإبراهيميَّة، ثم بعد التَّكبيرة الثَّالثة يدعو للميِّت.
ومِن الدُّعاء: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وشَاهِدِنا
وغَائِبِنا، وَصَغِيْرنا وَكَبِيْرِنَا، وَذَكَرِنَا وأُنْثَانا، اللَّهُمَّ مَن
أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ»، استُدِلَّ بهذه اللفظة على
جوازِ أن يدعو الإنسان في صلاة الجنازة لشخصٍ آخرٍ غير الميِّتِ، وذلك مِن قوله:
«اللَّهُمَّ مَن أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ
تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ».
وفي هذا الحديث جواز أن يدعو المصلِّي في صلاة الجنازة لنفسه؛ لأنَّه قد دعا هنا
فقال: «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمِنَا أَجْرَهُ وَلَا تُضِلَّنا بَعْدَهُ»، أي: لا
تجعل هناك شيئًا مِن الأسباب التي تؤدِّي إلى حصولِ الضَّلالِ عندَ الإنسانِ.
وبهذا نعلم شيئًا مِن أحكامِ صلاةِ الجنَازةِ:
- فهناك تكبيرةٌ أولى: بعدها قراءة الفاتحة بدونِ استفتاحٍ، ولا بأسَ أن يستعيذَ
ويُبسملَ.
- ثم يكبِّر الثَّانية: فيصلِّي على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاةَ
الإبراهيميَّةَ.
- ثم إذا كبَّر الثَّالثة: دعا للميِّت بهذه الأدعية الواردة أو بغيرها.
- ثمَّ يُكبِّر التَّكبيرة الرَّابعة ويُسَلِّم بعدها.
هذه هي صفة صلاة الجنازة.
{(بَابٌ فِي حَمْلِ الجِنَازَةِ والدَّفْنِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَسْرِعُوا بالجِنَازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً
فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَها، وَإِنْ تَكُ سُوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ
رِقَابِكُمْ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ, وَعندَ مُسلمٍ:
«تُقَدِّمُونَها عَلَيْهِ»، وَفِي لفظٍ لَهُ: «قَرَّبْتُمُوهَا إِلَى الخَيْرِ»)}.
قوله: «أَسْرِعُوا بالجِنَازَةِ»، فيه مشروعيَّة تهيئة الجنازة وحملِها إلى القبرِ،
وفيه استحباب الإسراع بتجهيز الميِّت ليُصلَّى عليه.
قوله: «فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً»، يعني إذا أدَّت عملًا صالحًا وكانت مِن أهلِ
الصَّلاحِ فحينئذٍ ستقدُم على ربٍّ غفورٍ، وتُقدِم على جنَّةٍ عرضها السَّماوات
والأرض، لهذا قال: «فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَه»، أي استعجلتم بها مِن أجلِ أن تَلقَى
ما وعدها الله به مِن أنواعِ الخيراتِ.
قوله: «وَإِنْ تَكُ سُوَى ذَلِكَ»، أي: إذا كانت الجنازة ليست صالحة، فحينئذٍ تكون
شرًّا قد وضعتموه عن رقابكم وارتحتم منه.
{(وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاطٌ،
وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ»، قِيلَ : وَمَا
القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيْمَيْنِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ،
وَلمسلمٍ: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ»، وَلهُ: «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ».
وللبُخَاريِّ: «مَنْ تَبِعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيْمَانًا واحْتِسَابًا، وَكَانَ
مَعَهُ حَتَّى يُصَلِّى عَلَيْهَا ويُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا, فَإِنَّهُ يَرْجِعُ
مِنَ الْأَجْرِ بِقِيْرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى
عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيْرَاطٍ»)}.
قوله: (وَعَنهُ) يعني عن أبي هريرة -رضي الله عنه.
قوله: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ» المراد بالجنازة هنا:
قيل: الجثَّة التي ماتَ صاحبها.
وقيل المراد به: السَّرير الذي عليه الميِّت.
وقوله (شهد): يعني حضرها.
قوله: «حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاطٌ»، وفي هذا مشروعيَّة الصَّلاة على
الميِّت، وعِظَم الأجر المترتب على ذلك.
والقيراط: قيل إنه شيء كثير، فقيل إنه على مقدار أربعة وعشرين ضعفًا ممَّا يهتم له
الإنسان.
قال: «وَمَنْ شَهِدَهَ»، أي: شهد الجنازة، والمراد: اتبعها وسار معها حتى تُدفَن.
قال: («فَلَهُ قِيرَاطَانِ» قِيلَ : وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ
الجَبَلَيْنِ العَظِيْمَيْنِ») لكثرة الأجر فيهما. قال: (وَلمسلمٍ: «أَصْغَرُهُمَا
مِثْلُ أُحُدٍ»).
قوله: «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ»، في هذا جوازُ وضع القبرِ على شكلِ اللَّحدِ،
وجوازُ دفنِ الموتَى فيه.
وقوله: (وللبُخَاريِّ: «مَنْ تَبِعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيْمَانًا واحْتِسَابً»):
إيمانًا: رغبة فيما عند الله، وتصديقًا لوعد الله.
واحتسابًا: أي انتظارًا للأجرِ المترتَّب على هذا العمل -وهو اتِّباع الجنازة.
قوله: «وَكَانَ مَعَهُ»، يعني: مع الميِّت.
قوله: «حَتَّى يُصَلِّى عَلَيْهَ»، يعني على الجنازة.
قال: «ويُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا, فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْأَجْرِ
بِقِيْرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ
رَجَعَ قَبلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيْرَاطٍ»، في هذا:
- مشروعيَّة مواساة أهل المصائب.
- ومشروعيَّة اتِّباع الجنازة حتى يُدفن صاحبها.
- وأنَّه ينبغي للإنسان عند تشييع الجنازة أن يكون مستعجلًا في أموره.
وقوله: «كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ»، فيه فضيلةُ هذا العمل العظيمِ مِن الصَّلاة
على الميِّت وتشييع الجنازة.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أُتيَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِفَرَسٍ مُعْرَوْرَىً، فَرَكِبَهُ حِينَ
انْصَرفَ مِنْ جِنَازَة ابْنِ الدَّحْدَاحِ، وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ. رَوَاهُ
مُسلمٌ)}.
قوله: (أُتيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِفَرَسٍ
مُعْرَوْرَىً)، يعني ليس فيه شيء مِن السُّرج.
قوله: (فَرَكِبَهُ) أي النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم. وفيه: جواز الرُّكوب عندَ
الرُّجوعِ مِن المقبرةِ.
قال: (حِينَ انْصَرفَ مِنْ جِنَازَة ابْنِ الدَّحْدَاحِ)، في هذا فضيلةُ ابن
الدَّحداحِ، وفيه مشاركة الإنسان مهما عَلَت منزلتُه مَع المسلمينَ في تشييع
الجنائزِ.
وقوله: (وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ)، فيه جوازُ الرُّجوع مِن المقبرةِ مشيًا.
أسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خير، وأن يجعلَنا وإيَّاكم مِن
الهداةِ المهتدين.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، على آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.