الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ،
أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيُّها المشاهدون الكرام في لقاءٍ جديدٍ مِن لقاءاتِنا في قراءةِ كتابِ
المحرَّر للحافظِ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- نتدارسُ فيه شيئًا مِن أحاديث
الأحكامِ التي أوردها المؤلِّف في كتابِ الصِّيامِ.
وكنَّا قد أخذنا عددًا مِن الأحاديثِ في لقائِنا السَّابق منها حديث ابن عمر عَنْ
حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيامَ، قَبْلَ الفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ».
وكان مِن الفوائد التي يُمكن استقاؤها مِن هذا الحديث: أنَّ عبادة الصِّيام لكلِّ
يومٍ مِن أيامِ رمضان عبادةٌ مستقلَّةٌ عن بقيَّةِ الأيامِ، ولذا لابدَّ مِن نيَّة
لكلِّ يومٍ من أيَّامٍ رمضان، ولا تكفي النيَّة الإجماليَّة لجميعِ الشَّهر.
والنيَّة مبناها على العلمِ بأن غدًا مِن رمضان، وجزمِ الإنسان بأنه يصوم غدًا، ولا
يصح أن يتلفَّظَ بالنِّيَّة، لأنَّ التَّلفُّظَ ليسَ مِن أجزاءِ النيَّة، وكذلك لو
حصلَ مِن الإنسان شيء مِن نواقض الصَّومِ بينَ نيَّته وبينَ وقتِ بدء الصِّيام
فإنَّه لا يؤثِّر، كما لو أكلَ، أو شربَ، أو جامعَ؛ لأنَّه قد بيَّت الصِّيامَ في
اللَّيلِ.
ولعلَّنا في هذا اليومِ أن نبتدئَ ببابِ قيامِ شهرِ رمضانَ.
قيامُ اللَّيلِ عملٌ صالحٌ، ومِن أفضل الأعمال التي ينال الإنسان بها الأجور
الكثيرة، وقد وصف الله -عزَّ وجلَّ- المتَّقين أصحاب الجنَّة بأنَّهم ﴿كَانُوا
قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: 17]، وهكذا أيضًا ذكر ربُّ
العزَّةِ والجلالِ في صفاتِ أهل الجنَّة أنَّهم ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 16].
وكانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يحافظ على قيامِ اللَّيلِ في رمضان وفي غيرِ
رمضان، وكانَ مِن شأن النَّاس في رمضان أن يُصلُّوا معَ إمامٍ، فإذا صلَّى
النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صلاة العشاء دخلَ، وتفرَّق الناس مع أئمة متعدِّدين
في المسجدِ، فكانَ الرَّجلُ يصلِّي، ويُصلِّي بصلاته الرَّجلُ والرجلان، والخمسة
والستَّة، ونحو ذلك.
وقد رغَّب النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ في أن يستمرُّوا مع إمامهم حتى
ينصرف، فقال: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ
لَيْلَةٍ»[80].
ولعلَّنا أن نأخذَ شيئًا مِن الأحاديث الواردة في قيامِ شهرِ رمضان.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ
وصحبِهِ وسلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعينَ، وللمشاهدينَ، ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى: (بَابٌ فِي قِيامِ شَهْرِ رَمَضَانَ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ»، المراد بالقيام: أداء صلاة
الليلِ.
وقوله: «إِيمَانًا واحْتِسَابً»:
الإيمان: أي: التَّصديق بأنَّ ذلك مِن عندِ الله، والتَّصديق بوعدِ اللهِ فيما
رُتِّبَ على قيامِ رمضان.
واحتسابًا: أي: رغبة في تحصيل الأجر الأخروي.
ولذلك على الإنسان أن ينطلق في أعماله من هاتين الصفتين:
- إيمان بالله.
- ورغبة في الأجر الأخروي.
من فعل ذلك «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وقد اختلفَ العلماءُ في المراد بذلك، هل ينحصر في صغائر الذُّنوب كما قالَ
الجماهير، أو أنَّه يشمل الكبائر؟
الأوَّلونَ قالوا: إنَّ الكبائر لابدَّ فيها مِن توبةٍ.
والحمدُ لله الذي فتحَ للعبادِ بابَ التَّوبة، جعلني الله وإيَّاكم من أهلها.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي
الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا،
فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُم فَصَلُّوا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ
فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى صَلَاتَهُ،
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ
حَتَّى خَرَجَ لصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى
النَّاسِ فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ:«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لم يَخْفَ عَلَيَّ
مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُم فَتَعْجِزُوا عَنْهَ»،
فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْأَمْرُ عَلَى
ذَلِكَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ)}.
قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ). جوف الليل هو: آخر الليل، وهذا
كان في العشر الأواخر، ممَّا يدلُّ على أنَّ العشر الأواخر يستحبُّ لها قيام آخر
الليل جماعة، بخلاف العشرين الأولة فإنَّه لم يكن ذلك مِن شأن النَّاس في الزَّمان
الأوَّل.
قولها: (فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ)، أي: أنَّه صلَّى صلاة قيامَ اللَّيلِ في
المسجدِ.
قالت: (وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ)، فيه دلالةٌ على مشروعيَّة صلاةِ الجماعة في
صلاةِ آخر اللَّيلِ في العشرِ الأواخر، ومشروعيَّة أن يُفعل ذلك في المسجدِ.
قالت: (فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُو)، أي: أخبر بعضهم بعضًا بأنَّ النَّبيَّ
-صلى الله عليه وسلم- صلَّى بهم صلاةَ اللَّيلِ.
قالت: (فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُم) يعني في الليلة الثَّانية ينتظرون صلاة
النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فَصَلُّوا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُو)، فيه إخبار الإنسان
لغيره من النَّاس بطرائق الخير من أجلِ أن يُقبلوا على الطَّاعة ويَكثر ثوابهم
بذلك.
وفي هذا أيضًا: مشروعيَّةُ قصدِ المسجدِ آخرَ اللَّيلِ في رمضان مِن أجلِ الصَّلاة.
وقد استدلَّ بعضهم بهذا الحديث على جوازِ تجاوزِ الإنسان للمسجدِ المقاربِ له مِن
أجلِ أن يصلِّيَ معَ مَن يخشع في صلاته معه، فإنَّ هؤلاء المصلِّينَ كثير منهم لم
يكن مِن أهلِ المسجد النَّبويِّ، وإنَّما كانَ مِن غيرهم.
وإن كان لفظ (فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ) قد يُشعرُ بخلاف هذا.
لكن كلمة (أَهْلُ الْمَسْجِدِ) يعني: مَن يجتمعون في الليل.
قالت: (فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى صَلَاتَهُ)، يعني صلاة
الليل، وصلَّى الآخرون بصلاته.
قالت: (فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ
أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لصَلَاةِ الصُّبْحِ)، يعني أنه لم يُصلِّ صلاة القيام جماعة
في اللَّيلة الرَّابعة.
وفيه دلالة على أنَّ مَن صلَّى بعضَ ليالي العشر لا يلزمْه أن يصلِّيَ جميعَ
الليالي؛ بل يجوزُ له أن يصلِّيَ البعض، ويجوزُ له أن يصلِّي البعض في المسجد وبعض
الليالي في البيت.
قالت: (عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ)، أي: كثرُ مَن رغبَ في صلاةِ الليلِ.
قالت: (حَتَّى خَرَجَ)، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- لصَلَاةِ الصُّبْحِ، وكان
-صلى الله عليه وسلم- يعتكف في العشر الأواخر.
قالت: (فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ)، يعني فَرِغَ مِن صلاةِ الفريضةِ.
قالت: (أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ)، يعني وجَّه وجهَهُ، بدلَ أن يكون جِهةَ القِبلة
كانَ جِهةَ المأمومين بعد أن أدَّى الصَّلاة.
قالت: (فَتَشَهَّدَ)، أي: أقرَّ بشهادةِ التَّوحيدِ وشهادةِ الرِّسالة.
قالت: (ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ»)، وفي هذا استحبابُ وَعظِ الإمامِ للمأمومين
فيما يلاحظه عليهم، أو فيما يرغبهم فيه من الخير.
وفيه أيضًا بدء الخطب والمواعظ والكلمات والقراءة بالشَّهادة.
ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ»، أي: مهما يكن مِن أمرٍ بعدُ.
قوله: «فَإِنَّهُ لم يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ»، أي: كنتُ مطلعًا وعالمًا بوجودكم
في المسجد.
قال: «وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُم»، يعني صلاة اللَّيلِ في رمضان،
فإنَّه حينئذٍ ترك صلاةَ الجماعة بهم في ليالي رمضان مِن أجلِ هذا المعنى، وهذا
المعنى الآن زالَ، فإنَّ الفرائض قد استقرَّت، وحينئذٍ نقول: إنَّ الأمرَ يُربط
بعلَّتِهِ وجودًا وعدمًا، فمتى ارتفعت هذه العلَّة فإنَّنا نعودُ إلى إثباتِ الحكم
بمشروعيَّة صلاةِ اللَّيلِ جماعة.
وقوله: «فَإِنَّهُ لم يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ»، فيه اعتذارُ الإنسانِ عن غيره،
وفيه بيان الأسباب التي تجعل الإنسان تخلَّف عن شيءٍ من الطَّاعاتِ.
قولها: (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْأَمْرُ
عَلَى ذَلِكَ)، أي أنَّهم لم يعد -صلى الله عليه وسلم- يصلي بهم صلاة اللَّيل
جماعةِ، لأنَّ الأمر والعلَّة لا زالت موجودة، فلمَّا تُوفي ارتفعَ المعنى الذي مِن
أجلِهِ تركَ صلاةَ الليلِ جماعة.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
أنَّ الإنسان يحرص على مَن يكون مِن أصحابِ العلمِ وأصحابِ العبادةِ ليؤدِّيَ
الصَّلاة معهم، ليكون هذا مِن دواعي قبول صلاتهم، وقبول ما يدعون به.
ولم يُذكر عدد الركعات التي كانَ يفعلها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وقد
اختلفَ العلماءُ فيها:
الجمهور: يستحبون أن تكون بعشرين ركعة.
وهناك مَن رأى أن تُصلَّى بثمانٍ.
وهناك مَن رأى أنَّها تُصلَّى بستٍّ وثلاثين.
والأمر في ذلك واسع، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «صَلاَةُ اللَّيْلِ
مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً
تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى»[81].
{(وعَنها رَضي اللهُ عَنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ
أَهْلَهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قالت عائشة -رَضي اللهُ عَنها: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِذا دَخَلَ الْعَشْرُ)، تريد العشر الأواخر من شهر رمضان.
قولها: (شَدَّ مِئْزَرَهُ)، أي: لم يكن يأتي أهلَه لانشغالِهِ بالطَّاعة والصَّلاة.
قولها: (وَأَحْيَا لَيْلَهُ)، أي: بأنواعِ الطَّاعات، ومنها صلاة اللَّيلِ.
قولها: (وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)، أي: رغبهم في صلاة اللَّيلِ، وجعلَهَم يستيقظونَ
آخرَ الليلِ مِن أجلِ صلاةِ اللَّيلِ.
وهذا فيه دلالةٌ على مَشروعيَّة الإكثارِ مِن العبادةِ في العشرِ الأواخرِ من شهرِ
رمضانَ.
وفي هذا الحديث: جواز السَّهر مِن أجلِ فعلِ العبادات كما فعلَ -صلى الله عليه
وسلم- في هذه العشر.
وفي هذا الحديث: أنَّ الإنسان يتفقَّد أهلَ بيته في الطَّاعاتِ والعباداتِ مِن أجلِ
أن يكونَ ذلك مِن أسبابِ رضى الله عنهم وصلاحهم.
وفيه أيضًا: جواز أن يتركَ الإنسان جِماع أهلِه في الأيَّام الفَاضِلَةِ مِن أجلِ
أن يشتغلَ بأنواع الطَّاعاتِ كما كانَ -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر يشدُّ
مئزَرَه.
{(بَابٌ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ
عَنْ أَبي قَتَادَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلِ عَنِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ
السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ والبَاقِيَةَ»، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟
فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ»، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ
الْإِثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَو
أُنْزِلَ عَلَيَّ- فِيهِ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قول المؤلف: (بَابٌ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ).
المراد بالتَّطوع: النَّوافل والمستحبَّات والمندوبات من الأيام التي يُشرع للنَّاس
أن يصوموها، وذلك أنَّ الصِّيام ينقسم إلى قسمين:
- صيام واجب: ويشمل صيام رمضان، وصيام القضاء، وصيام النذر، وصيام الكفارة.
- صيام تطوع، وهو على نوعين:
* صيام نفل مطلق: مثل أن يصوم الإنسان يومًا يريد به التقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ.
* صيام تطوع مقيد: كصيام يوم عاشوراء، ويوم عرفة.
وهناك صيام له جانبان: جانب تقييد وجانب إطلاق، مثل: صيام ستٍّ من شوال، فإنَّه
مقيدٌ بالشَّهرِ، ومطلقٌ في جميعِ أيَّامِهِ.
وصيام التَّطُّوع يقصد الإنسان به الحصول على الأجر، وقد وردَ في الحديث أنَّ الله
-عزَّ وجلَّ- قال: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ»[82]، وهكذا يكمِّلُ النَّقصَ الذي يكون عنده في الفرائض، فإنَّ
العبد يعتريه ما يعتريه في أدائه للفريضة ممَّا ينقِّص أجره، وهكذا يكون سببًا مِن
أسبابِ استمرار الإنسانِ على الطَّاعة.
أوردَ المؤلِّف حديث أبي قتادة -رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلِ عَنِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ)، يوم عرفة هو اليوم
التاسع من شهر ذي الحجَّة.
(فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ والبَاقِيَةَ»)، يعني: السَّنَة
الزَّائلة، والسَّنَة الآتية.
وهل المراد بذلك السَّنَة التي تبدئ من شهر محرم أو أنَّ المراد سنة من يوم عرفة
إلى ما يقابله من الماضية أو الآتية؟
الأرجح هو القول الثَّاني، فإنَّه لم يكن تقييد السَّنَة ببداية المحرم في عهد
النُّبوَّة، إنَّما كان ذلك في عهد عمر -رضي الله عنه.
والمراد بذلك: صغائر الذُّنوب -على ما تقدَّم- إذ الكبائر تحتاج إلى توبة.
قوله: (وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ)، يوم عاشوراء هو اليوم العاشر مِن
شهر محرم، ويوم عاشوراء قد وردَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه
ويُرغِّب في صيامِه، وكانَ واجبًا في أوَّلِ الإسلامِ، فلمَّا أوجبَ الله صيامَ
رمضانَ ارتفعَ وجوبُ صيامِ يومِ عاشوراء.
فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ»، فصيام
يوم عرفة أفضل مِن صيامِ يومِ عاشوراء، وكلٌّ فاضلٌ.
وقد وردَ في الحديثِ التَّرغيب في أن يُصامَ يوم التَّاسع مع اليومِ العاشر.
قال: (وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ)، يوم الاثنين هو وسطَ الأسبوع.
فَقَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَو أُنْزِلَ عَلَيَّ-
فِيهِ»، وفي هذا فضيلة يومِ الاثنين، وقد وردَ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-
أخبر أنَّ يوم الاثنين والخميس يومان تُعرض فيهما الأعمال على الله -عزَّ وجلَّ-
وكان يُحب أن يُعرَض عمله وهو صائم.
وكان صيامُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الغالبِ لهذين اليومين، وكان -صلى
الله عليه وسلم- في أيَّام يستمر في الصِّيامِ حتى يُقال لا يُفطر، ويُفطر حتى
يُقال لا يصوم.
وقوله: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ»، استدلَّ به بعضُ النَّاس على جوازِ
الاحتفالِ بيومِ المولدِ النَّبويِّ، وليس في الحديث دلالةٌ على ذلك، فإنَّه لم
يأمرهم باحتفال، ولا بجلسة قراءة، ولا باجتماع، وإنما رُغِّبَ في الصَّوم ليوم
الاثنين، ولم يُرغِّب في صيام يومِ المولدِ بعينه.
ومِن القواعد المقررة عند علماء الشريعة: أنَّه متى وُجد الدَّاعي للفعل الذي
يُتعبد به الله -عزَّ وجلَّ- ثم لم يدعُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إليه
فإنَّه لا يكون مشروعًا.
وقوله: «وَيَوْمٌ بُعِثْتُ»، أي: أرسله الله -عزَّ وجلَّ.
قوله: «أَو أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ»، يعني أوَّل ما نزل القرآن.
{(وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ: أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا
يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ بَعْضُهُم: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَيْسَ بِصَائِمٍ
فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
ذكر المؤلف هنا حديث أم الفضل بنت الحارث، وفيه (أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْ)، يعني:
وَقَعَ بينهم المراء والجدال، هل كانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في سَنَة
الحجِّ -حجَّة الوداع- صائمًا في يوم عرف؟
لأنَّ صوم يوم عرفة فاضلٌ، وفيه أجرٌ عظيمٌ، ولكنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-
كانَ حاجًّا، ولذا تماروا هل كان صائمًا أو لا؟
فقال بعضهم: هو صائم.
وقال آخرون: ليس بصائم.
فأرسلت أم الفضل -رضي الله عنها- إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بقدح لبنٍ،
وكان واقفًا في عرفة على بعيره.
وفيه فضيلة أن يقف الإنسان في عرفة يدعو.
والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إنَّما دخلَ عرفة بعدَ الزَّوال، ووقفَ على بعيره
يدعو الله إلى أن غربت الشَّمس، ثم بعدَ ذلك ذهبَ إلى المزدلفة.
قال: (فَشَرِبَهُ)، استُدلَّ بهذا على استحبابِ صومِ يومِ عرفة لمن لم يكن واقفًا
بها، لأنَّه من شأنِه أن يصومَه، وإنَّما تركه هنا لكونه حاجًّا، وفيه دلالةٌ على
أنَّ الأفضل في حقِّ الحاجِّ ألا يصوم يوم عرفة من أجل أن يتمكَّن من الدعاء
والذِّكر، ومن أجل ألا يُجهَد لعدم طعامه وشرابه.
{(وَعَنْ أَبي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ
سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ». رَوَاهُ مُسلمٌ، وَقَدْ رُوِيَ
مَوْقُوفً)}.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه مِن طريق سعدٍ بن سعيد عن عمر بن ثابت عن
أبي أيوب، وقد تكلَّم بعضهم في سعد بن سعيد، وهو أخو يحيى بن سعيد، ولكن سعدًا هذا
من الرواة الذين تُقبل روايتهم، فلا مجال للطَّعنِ في حديثه، وأخرجه آخرون من طرقٍ
أخرى تعضد طريق سعد هذا، ومِن ثَمَّ فلا مَطعَن للخبر ِبذلك.
وبعضهم قال: إنه رُويَ موقوفًا على أبي أيوب، ولكن الأكثر يروونه مرفوعًا للنَّبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- وبالتَّالي فإنَّ الصَّواب صحَّة هذا الخبر الذي أخرجه الإمام
مسلم في صحيحه.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ صَامَ
رَمَضَانَ»)، أي: أكمل صيام الشَّهر إما أداءً وإما قضاءً.
قال: «ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ»، فيه فضيلة
صيام ستٍّ من شوال، وأنها مِن الأيَّامِ المستحبَّةِ.
وقوله: «كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ»، لأنَّ الحسنةَ بعشرةِ أمثالها، فمَن صامَ
رمضانَ كأنَّه صَامَ عشرة أشهر، ومَن صَامَ ستَّة أيَّام مِن شوال كأنه قد صَامَ
شهرين -ستين يومًا- فيكون بمثابة مَن صام الدَّهر.
قوله: «ثُمَّ أَتْبَعَهُ»، فيه دلالةٌ على أنَّه لا يصح أن يُصامَ ستّ شوال إلا بعد
أن يُكمل صيامَ رمضان أداءً وقضاء.
فإن قال قائل: إذا كانت امرأة نفساء، فلا تتمكَّن من الصَّوم.
فنقول: مَن كانت كذلك وكانت راغبة في صيامِ ستِّ شوال فإنَّها يُكتب لها الأجر
تامًّا، لأنَّها إنَّما تركت هذا الصِّيام لأمرٍ خارجٍ عن قدرتِها وإرادتِها.
وقد يقول بعضهم: إنَّ عائشة لم تكن تَصُمْ قضاءها إلا في شعبان، فكيف تترك صيام
ستٍّ من شوال؟
فنقول: إنَّ صيام ستٍّ من شَوال مِن المستحبَّات، ومراعاة حال النَّبيِّ -صلى الله
عليه وسلم- والقيام على شؤونه بالنِّسبَة لعائشة مِن الأمورِ المتأكِّدة، وقد تكون
مِن الواجبات، ولذلك قدَّمت مراعاة الواجب على فعل المندوب.
وجمهور أهل العلم على استحباب صيام ستٍّ من شوال.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يستحب هذا الصَّوم.
ولكن الحديث ثابت، ومعارضته بعمل أهل المدينة لا يصح، فإنَّهم قد يُخفون هذا
الصيام.
ثم قوله: «ثُمَّ أَتْبَعَهُ ستًّا مِن شَوَّال»، لم يشترط أن تكون بعد يوم العيد
مباشرة، ولم يشترط أن تكون الأيَّام متتابعة، بل قد تكون مقسَّمه، أو يصوم اثنين
وخميس، ونحو ذلك.
وهكذا لم يشترط في هذه الأيَّام أن يصومها في كلِّ عامٍ، فلو صامها في عامٍ ولم
يصمْها في العام الآخر فإنَّه يُقبل صيامه الأوَّل.
{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي
سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ
سَبْعِينَ خَرِيفً». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللفْظُ لمسلمٍ)}.
هذا الحديث متَّفق عليه، قال: (قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ»)، وهذا يشمل الذكر والأنثى.
قال: «يَصُومُ يَوْمً»، "يوم" نكرة، والمراد به هنا صوم التَّطُّوع، وقد يشمل صوم
الفريضة.
قوله: «فِي سَبِيلِ اللهِ»، قال بعضهم: إنَّ المراد به أن يصومَ في أوقاتِ الجهاد.
ولكن الصَّواب أنَّ المراد به: أن يقصد به التَّقربَ إلى الله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ
المشروع في حقِّ المجاهد أن يتقوَّى في بدنِهِ مِن أجلِ أن يتمكَّن مِن مقابلَةِ
العدوِّ.
قوله: «إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ
خَرِيفً»، أي: مقدار مسيرة سبعين سنة، وفي هذا فضيلة صيام أيَّام التَّطُّوع
وعِظَم الأجرِ المرتَّب عليها.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى
نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ
فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيامًا فِي شَعْبَانَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ, وَهَذَا
لَفْظُ مُسلمٍ)}.
قوله: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ:كَانَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ)، "كان" فيه دلالة على الاستمرار
والتَّكرار.
(يَصُومُ)، أي: يُتابع صوم أيَّام الفطرِ.
(حَتَّى نقُولَ: لَا يُفْطِرُ)، مِن كثرة تتابعه في الصِّيام.
قال: (وَيُفْطِرُ)، في وقتٍ آخر، ويُتابع الأيَّام التي يُفطر فيها حتى كانوا
يقولون: إنَّه لا يصوم.
قالت عائشة: (وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ)، وهذا لا يعني عدم مشروعيَّة
صيامِ شهر كامل، وذلك أن ترك النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- له لا يدلُّ على عدم
مشروعيَّته، وقد قال النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ
رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ»[83].
قالت عائشة: (وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيامًا فِي شَعْبَانَ)
فيه استحباب إكثار صيام التطوع في شهر شعبان، ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يستكمله في الصيام، وقد عورض هذا بما ورد أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه
وسلم- نَهى عن الصَّومِ في شعبان بعدَ انتصافِهِ، كما وردَ مِن حديثِ أبي هريرة
«إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُو»[84]، ولكن المراد هناك ألا تبدؤوا
الصِّيام بعد منتصفِ شعبان، وليس المراد به النَّهي عن استمرارِ مَن كانَ يصوم.
ولذلك تقدَّم معنا أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَقَدَّمُوا
رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا
فَلْيَصُمْهُ»[85].
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا
شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَلأَبي
دَاوُد: «غَيْرَ رَمَضَانَ»)}.
قوله: «لَا يَحِلُّ»، أي: لا يجوز؟
قوله: «لِلْمَرْأَةِ»، المراد به: المرأة المتزوجة -كما سيأتي- وقد ألحق بها بعضهم
الأمَة المملوكة.
قوله: «أَنْ تَصُومَ»، يعني صيام التَّطوع، أو الصِّيام الذي لم يتعيَّن بعدُ.
ومِن أمثلة ذلك: صيام رمضان؛ فهذا لا يُشترط فيه إذن الزَّوج، وهكذا صيام القضاء
إذا كانَ في أواخرِ شعبان، فلا يُشترط فيه إذنُ الزَّوجِ.
قوله: «وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ»، فيه دلالةٌ على أنَّ الزَّوج إذا
كان مسافرًا جازَ للمرأةِ أن تتطوَّع بالصِّيام، ولا تحتاج إلى استئذانِهِ.
وفي هذا: بيانُ حقِّ الزَّوج على زوجته.
{أحسن الله إليك..
لو نذرت المرأة صوم يومٍ. فهل لها أن تصوم دون إذن زوجها؟}.
إذا نذرت أن تصوم يومًا:
- إن كانَ مطلقًا فلا تصمْه إلا بإذنٍ مِن الزَّوجِ، أو حالَ غيابه.
- أما إن كانَ مقيَّدًا بيومٍ معيَّن فإنَّه لا يحقُّ لها أن تنذر صومَ يومٍ
معيَّنٍ وزوجها شاهد إلا بإذنه، فلا تنذر إلى بإذنِهِ حتى لا تتمكَّن مِن الصَّومِ
بعد ذلك.
{(بَابٌ فِي الْأَيَّامِ الْمنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَا
عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ
وَيَوْمِ النَّحْرِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله (بَابٌ فِي الْأَيَّامِ الْمنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَ)، صيام التَّطوُّع قُيِّد
بعددٍ مٍن الأيَّامِ لا يجوز صومها، وذلك لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى
عن صومِ الدَّهرِ، فخشيةً مِن أن يُصامَ الدَّهرُ كلُّه خُصِّصَ النَّهي عن
الصِّيام في أيَّامٍ بعينِهَا.
وقد يكون هناك معانٍ خاصَّة، ومِن ذلك: أنَّه نُهي عن صومِ يومي العيدين، لأنَّها
أيَّام ضيافة الرحمن، ومِن أجلِ أن يُفرَّق بينَ يوم العيدِ ويوم الصَّوم، فإنَّ
هذين اليومين -يوم الفطر ويوم النَّحر- قد جاءا بعد موسمين مِن مواسم العبادة،
فإنَّ العشرَ الأواخر مِن رمضان أيَّامُ عبادة وأيَّامُ صومٍ، فشُرعَ للعبادِ أن
يُفطروا بعدها على سبيل الإيجابِ مِن أجلِ أن يُفرَّق بينَ يوم الفطرِ ويوم
الصَّوم، ويوم الفطر هو الأوَّل من شوال.
وهكذا في يوم النَّحر، وهو اليوم العاشر مِن شهر ذي الحجَّة، فلا يجوز صومه، وهو
بعد موسم مِن مواسم تأكُّد الصِّيام وهو صيام يوم عرفة، وأيَّام عشر ذي الحجَّة.
وقوله هنا: (نهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ)، فيه دلالةٌ على أنَّه لا يجوز للإنسان
أن ينذرَ صوم هذين اليومين، لأنَّه لا يجوز له صومهما.
فإذا نذر صوم هذين اليومين. فما حكم نذره؟
قال الجمهور: هو نذرٌ باطلٌ، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يمتثله، ولا يجب عليه قضاء ذلك
اليوم، لأنَّه منهيٌّ عنه.
وبعضهم أوجب فيه كفَّارة يمين.
وقال الحنفية: يلزمه أن يصوم يومًا مكانه.
وهذا مِن ثمراتِ مسألة التَّفريقِ بين الفاسدِ والباطلِ:
فالجمهور يقولون: لا فرقَ بينهما، وصيامُ يوم العيد فاسدٌ باطلٌ، ولذلك لا يصحُّ
نذر صومه.
وقال الحنفيَّة: الصِّيام مشروع بأصله، لكن النَّهي إنما ورد عن وصفٍ، وهو كونه في
يوم العيد.
ولذلك قالوا: هذا الصَّوم فاسد وليس بباطل، والفاسد يمكن تصحيحه بأن يُصام مكان يوم
آخر.
{(وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيق أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ
وَذِكْرٍ للهِ» رَوَاهُ مُسلمٍ)}.
قوله: «أَيَّامُ التَّشْرِيق»، المراد بأيام التَّشريق: اليوم الحادي عشر والثَّاني
عشر والثَّالث عشر من ذي الحجَّة، فهذه الأيَّام الثَّلاثة يُقال لها أيَّام
التَّشريقِ.
لماذا سُميت بهذا الاسم؟
لأنَّ الأضاحي والهدي تُذبح فيها، ثم يقومون بأخذِ اللحم فيقدِّدُونَه، ويضعونَه في
الشَّمسِ مِن أجلِ أن ييبسَ ليَبقى مدَّةً، فهذا يُقال له "تشريق".
وقد جعلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام الثَّلاثة أيَّام أكلٍ وشربٍ،
بمعنى أنَّه لا يجوزُ للنَّاسِ أن يصوموها، ويحرم على الإنسان أن يتطوَّع بصومها،
إلا أنَّه قد جاء استثناء صيام ثلاثة أيَّام في الحجِّ لهذه الأيَّام لمَن فقد
الهديَ من المتمتعين والقارنين -كما سيأتي في الحديث الذي يليه.
وفي هذا دلالة على أنَّه لا يجوز صيام أيَّام التَّشريق، وفيه دلالةٌ على أنَّ
الأيَّام البيض في شهر ذي الحجَّة تُخالف غيرها من الشُّهور، فإنَّها تكون في
أيَّام الرَّابع عشر، والخامس عشر والسَّادس عشر، ولا يجوز للإنسان أن يصومَ في
شهرِ ذي الحجة اليوم الثَّالث عشر على أنَّه من الأيام البيض، بخلاف بقية الشُّهور.
وفي هذا دلالة على تأكيد مراعاة التواريخ القمريَّة مِن أجلِ أنَّ عددًا مِن
العباداتِ تتعلَّق بالتَّواريخ القمريَّة.
وقوله: «وَذِكْرٍ للهِ»، فيه استحباب الإكثار من ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في أيَّام
التَّشريق، وقد ورد أنَّ الصَّحابة كانوا يرفعون أصواتهم بالتَّكبير في أيَّام
التَّشريق.
وتنتهي أيَّام التَّشريق بغروب الشَّمسِ من اليومِ الثَّالث عشر من شهر ذي الحجَّة.
{متى ينتهي موعد ذبح الأضحية؟}.
بالنِّسبة لذبحِ الأضاحي وقع اختلاف بين العلماء فيه:
- القول الأول يقول: ينتهي باليوم الثَّاني عشر. وهذا هو مذهب أحمد وجماعة،
واستدلُّوا على ذلك بأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ادِّخارِ لحومِ
الأضاحي بعدَ ثلاثٍ، فقالوا: يذبح يوم العيد، ويومين بعده.
- القول الثاني: تنتهي بانتهاء أيَّام التَّشريقِ، وذلك لأنَّ يوم الثَّالث عشر قد
جُعلَ مِن أيَّام التَّشريق، ممَّا يدلُّ على أنَّه كان يُذبح فيه.
والقول الثاني هو أظهر القولين، ولعله يأتي بسط ذلك في كتاب الأضاحي.
{(وَرَوَى البُخَارِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهَا, وَعَنْ سَالمٍ، عَنِ ابْنِ عُمرَ، قَالَا: لم يُرَخَّصْ فِي
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لمْ يَجِدِ الْهَدْيَ)}.
هذا الحديث رواه الإمام البخاري.
قوله (قَالَا...)، يعني عائشة وابن عمر.
قوله: (لم يُرَخَّصْ)، أي: جاء الشَّرع بمنعِ الصَّيام في أيَّام التَّشريقِ.
قوله: (إِلَّا لِمَنْ لمْ يَجِدِ الْهَدْيَ)، ففاقدُ الهديِ يصومُ ثلاثةَ أيَّام في
الحجِّ، وسبعةٍ إذا رجع.
وهذه الأيَّام الثَّلاثة قد يصومها قبلَ يوم النَّحرِ، وقد يجعلها أيَّام السَّابع
والثَّامن والتَّاسع؛ ولكن إذا لم يتمكَّن صامَ أيَّام التشريق محلَّها، وبالتَّالي
فإنَّ أيَّام التَّشريقِ لا يجوز صومها إلا للمتمتِّع والقارن الذي لم يستَطِع ذبحَ
الهدي وأرادَ أن يصومَ ثلاثة أيَّام في الحجِّ ولم يتمكَّن مِن صومها قبل يوم
النَّحر، قال تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن
لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾
[النساء: 92]
{(وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَينِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بِصِيامٍ مِنْ بَينِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ
يَصُومُهُ أَحَدُكُم» رَوَاهُ مُسلمٌ. وَصَحَّحَ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ
إرْسَالَهُ.
وَعَنْ صِلَةَ بنِ زُفَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عمَّارِ بنِ يَاسِرٍ فَأَتَى
بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَقَالَ: كُلُوا، فَتنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ: إِنِّي
صَائِمٌ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ
عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ وَصَحَّحَهُ-,
وَقَدْ أُعِلَّ.
وَعَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا انْتَصَفَ
شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُو» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَقَالَ أَحْمدُ:
"هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ" قَالَ:
"والْعَلَاء ثِقَةٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ حَدِيـثِـهِ إِلَّا هَذَا".
وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا
افْتُرِضَ عَلَيْكُم فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُم إِلَّا لِحَاءَ عِنَبٍ أَو عُودَ
شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْه» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ-
وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَالْحَاكِمُ
-وَصَحَّحَهُ- وَزَعَمَ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَقَالَ مَالكٌ: هُوَ
كَذِبٌ. وَفِي ذَلِك نَظَرٌ, وَاللهُ أعْلَمُ)}.
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلِّف تذكر عددًا مِن الأيَّامِ التي نهى الشرَّعُ عن
صومها، ولعلَّنا -إن شاء الله تعالى- أن نأتي لذكرِ هذه الأحاديث، ونبيِّنَ المراد
بها، والأحكام المستقاة منها في لقائنا القادم -بإذن الله عز وجل.
أسألُ الله أن يُباركَ فيكم، وأن يوفِّقكم للخيرِ، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن
يوفِّق إخواني ممَّن يُرتِّبُ هذا اللقاء مِن فنيين ومخرج، باركَ الله فيهم، وهكذا
كل مَن يقوم على هذا البرنامج الجيد، نفعَ الله بهم، وباركَ الله فيهم، وجزاهم الله
خير الجزاء.
كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يصلحَ أحوالَ الأمَّة، وأن يُوفق أفرادَها لِما يُحب
ويرضى، وأن يجمعَ كلمتهم على الحقِّ، وأن يحقِنَ دماءهم، وأن يجعلَهم هداة مهتدينَ،
كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّق ولاة أمورِ المسلمين لِما يُحبُّ ويرضى.
هذا، والله أعلم، وصلّى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آلِهِ وأصحابِه وأتباعِهِ،
وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.