الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ،
أمَّا بعدُ:
فَأرحبُ بكم أيُّها الإخوة المُشاهِدون الكرام في لقاءاتٍ مُتجدِّدة نتدارس فيها
شيئًا من سُنةِ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- بدراسة أحاديثِ الأحكامِ في كتابِ
"المحرر" للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا أخذنا في لقائنا السَّابق حديثَ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا جَلَبَ
وَلَا جَنَبَ وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ». وذلك أنَّ
النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يُرِد أن يَشقَّ على النَّاس في كونهم يجلبون
بهائمهم إلى محالِّ المصَّدِّقين الذين يأخذون الصَّدقات والزَّكوات من الناس،
فأمرهم بأن لا تُجلَب البهائم، وأن تبقى في مكانها، وألا تؤخذ الصَّدقات إِلَّا فِي
دُورِهِم.
وفي لفظ آخر قال: «تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسلمينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ».
ثم تكلَّمنا عن زكاة الخيلِ، وذكرنا أنَّ الجمهور لا يرى وجوبَ زكاة الخيل خلافًا
لفقهاء الحنفيَّة -رحمهم الله تعالى.
ولعلَّنا -إن شاء الله تعالى- أن نواصل الحديثَ في ذلك مِن خلالِ قراءة حديث بهز بن
حكيم عن أبيه عن جدِّه.
{(بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالينَ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه
وصحبِه وسلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعينَ، ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّفُ -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِي كُلِّ
سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ
حِسَابِهَا: مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بهَا فَلهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا
فَإنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ
وَجَلَّ لَيْسَ لآلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا شَيْءٌ»
رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفظُهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَعندَ أَحْمدَ
وَالنَّسَائِيِّ: «وَشَطْرَ إِبِلِهِ»، وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "صَحِيحُ
الْإِسْنَادِ وَلم يُخَرِّجَاهُ"- وَقَالَ أَحْمدُ: "هُوَ عِنْدِي صَالحُ
الْإِسْنَادِ"، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ العِلْمِ
بِالحَدِيثِ، وَلَو ثَبَتَ لَقُلْتُ بِهِ". وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ بَهْزًا
كَانَ يُخْطِيءُ كثيرًا، وَلَوْلَا رِوَايَةُ هَذَا الحَدِيثِ لأَدْخَلْتهُ فِي
الثِّقَاتِ، قَالَ: "وَهُوَ مِمَّنِ اسْتُخِيرَ اللهُ فِيهِ". وَفِي قَوْلِهِ
نَظَرٌ! بلْ هَذَا الحَدِيثُ صَحِيحٌ، وبَهْزٌ ثِقَةٌ عِنْدَ أَحْمدَ، وَإِسْحَاقَ،
وابْنُ مَعِيْنٍ، وَابْنِ الـمَدِينِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ
وَالنَّسَائِيِّ وَغَيرِهِم، وَاللهُ أَعْلَمُ))}.
قول المؤلِّف هنا (وَعَنْ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ)،
الصَّواب أنَّ بهز بن حكيم من الثِّقات، وأبوه حكيم من الرِّجال الرُّواة الذين
خفَّ ضبطهم قليلًا، لكن حديثه لا ينزلُ عن درجة الحسن فهو صدوق، وأبوه معاوية بن
حيدة صحابي -رضي الله عنه.
قال: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ»، في هذا
دلالةٌ على أنَّ الزَّكاة لا تجب إِلَّا في السَّائمة، وأمَّا غَيرُ السَّائمةِ فلا
تجبُ الزَّكاة فيها.
وقوله هنا: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ»، تقدَّم معنا تفصيل أحكام
الزَّكاة، وذكرنا أنَّ:
- من خمسٍ وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين فيها بنت مخاض -لها سنة.
- ومن ستٍّ وثلاثين إلى ستِّ وأربعين فيها بنت لبون -لها سنتان.
وهذا الحديث فيه ذكر الأربعين، قال: «لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَ»، في
زكاة عُروض التِّجارة وزكاة النَّقدين يكون كل مالٍ فيه زكاة ولو كان قليلًا، ولا
يوجد فيها وَقْصٌ.
والوقص: هو الجزء الذي لا تجب بالزِّيادةِ فيه زيادةٌ في الزَّكاة، بخلاف بهيمة
الأنعام، فإنَّ هناك مِقدارًا لا تزيد الزَّكاة بزيادته، فإنه لو مَلَكَ الإنسان
خمسًا وعشرين، أو ستًّا وعشرين، أو سبعًا وعشرين، أو ثمانٍ وعشرين، أو تسعًا
وعشرين، أو ثلاثين، أو إحدى وثلاثين، أو ثنتين وثلاثين؛ فإنَّ الزَّكاة لا تزيد
بذلك، ولذا قال: «لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَ».
قال: «مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بهَا فَلهُ أَجْرُهَ»، أي: مَن نوى الأجر
الأخروي بإعطاء الزَّكاة فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- يُنيله الثَّوابَ والأجر في ذلك.
قال: «وَمَنْ مَنَعَهَ»، أي: منعَ دفع الزَّكاة.
قال: «فَإنَّا آخِذُوهَ»، أي: آخذون مقدار الزَّكاة الواجب.
قال: «وَشَطْرَ مَالِهِ»، هذه اللفظة توقَّفَ فيها العلماء كثيرًا، وبعض أهل العلم
طعنَ في الحديث من أجل هذه اللفظة.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال فيها:
القولُ الأوَّلُ: مِنهم مَن ضَعَّفَ الحديث بسببها -كما أشار المؤلف إلى بعض كلام
أهل العلم في ذلك- وتقدَّم معنا أنَّ إسنادَ الحديث إسنادٌ جيِّد، ولذا قال الإمام
أحمد: "هُوَ عِنْدِي صَالحُ الْإِسْنَادِ". وقال الحاكم: "صَحِيحُ الْإِسْنَادِ
وَلم يُخَرِّجَاهُ" وإن لم يكن على شرط الشَّيخين.
إذن الموقف الأول: هو تضعيف الحديث، وذكرنا أنَّ الصَّواب أنَّ هذا الموقف لا يصح.
القولُ الثَّاني: موقف مَن يرى أنَّ هذه اللفظة مؤوَّلة، ولا يحملها على ظاهرها،
وأنَّ المراد بقوله: «وَشَطْرَ مَالِهِ»، أي: الجزء الجميل الأحسن صاحب الثَّمن
الأعلى من أمواله.
وهناك تأويلات أخرى في هذه اللفظة، ولكنها تخالفُ ظاهرَ اللفظ، والأصل أنَّنا نعمل
بظاهر اللفظِ ولا نتركه إلا لدليلٍ.
القولُ الثَّالثُ: إنَّ أخذ شطر المال يكون على جهة التَّعزير متى رأى الإمام ذلك.
وقوله: «عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ»، أي: حق من حقوق الله
-عزَّ وجلَّ- وواجب مؤكَّد أوجبه ربُّ العزَّة والجلال.
ثم قال: «لَيْسَ لآلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا شَيْءٌ»،
أي: أنَّ الزَّكاة لا يجوز صرفها لأهلِ البيتِ النَّبويِّ، وستأتي -إن شاء الله-
معنا أحاديث تُبيِّنُ مَن الذي يدخلُ في هذا الحكمِ بحيث لا يجوز إعطاؤه من
الزَّكاة.
{(وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثنَا سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ الـمَهْرِيُّ،
أَخبرنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبرنِي جَريرُ بنُ حَازِمٍ -وَسَمَّى آخَرَ- عَنْ
أَبي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ والْحَارثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَليٍّ
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«فَإِذا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا
خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ -يَعْنِي فِي الذَّهَبِ- حَتَّى
يَكونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَحَالَ
عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ
-قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ: فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَو رَفَعَهُ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- «وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى
يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ» إلَّا أَنَّ جَرِيرًا قَالَ: ابْنُ وَهَبٍ يَزِيْدُ في
الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ فِي مَالٍ
زَكَاةٌ إِلَّا أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ». قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ
شُعْبَةُ وسُفْيَانُ وَغَيرُهُمَا عَنْ أَبي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَليٍّ،
وَلمْ يَرْفَعُوهُ. وعَاصِمُ بنُ ضَمْرَةَ وَثَّقَهُ أَحْمدُ، وَابْنُ مَعِينٍ،
وَابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْعِجْلِيُّ وَغَيرُهم، وَتَكَلَّمَ فِيهِ السَّعْدِيُّ،
وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيرُهُم. وَقَالَ
النَّسَائِيُّ: "لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ"، وَقَالَ الثَّوْريُّ: "كُنَّا نَعْرِفُ
فَضْلَ حَدِيثِ عَاصِمٍ عَلَى حَدِيثِ الْأَعْوَرِ"))}.
قول المؤلِّف هنا فيما يتعلَّق بإسنادِ هذا الخبرِ، هذا الخبرُ وردَ من طريق
تابعيين:
الأوَّلُ: عاصم بن ضمرة، وقد وقعَ فيه اختلافٌ أشارَ المؤلِّف إليه، والصَّواب مِن
حالِه أنَّه صدوقٌ، وأنَّ حديثَه مِن قبيلِ الحديثِ الحسنِ.
والثَّاني: الحارث الأعور، والحارث ضعيف في الحديث، وبعضُ أهلِ العلمِ قد تَكلَّم
فيه بكلام قويٍّ، وإن كان بعضهم قال: ليس المراد الحارث، وإنَّما المراد شخص آخر
غير الأعور يُقال له الحارث بن نبهان، ولكن هذا خلاف الرِّواية المشهورة.
وهناك مَن روى الحديث من طريق عاصم بن ضمرة مَوقوفًا عَلى علي -رضي الله عنه- ولذا
قال أهلُ العلم: إنَّ الصَّواب في هذا الخبر أنَّه موقوف؛ لأنَّ رواية عاصم بن ضمرة
عن علي موقوفة، وأمَّا رواية الحارث فهي مرفوعة، لكنَّ الحارث ضعيف -كما تقدَّم.
ومِن هنا فإنَّ أكثرَ أهلِ العلمِ يُصحِّحون في هذا الخبر أنَّه موقوف على أميرِ
المؤمنين علي -رضي الله عنه.
إذا تقرَّرَ هذا فإنَّ فيه ما فيه مِن الأحكام أكثرها مُقرَّر في أحاديث أخر:
أول هذه الأحكام في قوله: «فَإِذا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ»، الدِّرهم من
الفضَّة، والدِّرهم قرابة ثلاث جرام، فمائتا درهم الأظهر أنها خمسمائة وخمس وتسعين
-ستمائة إلا قليلًا- من جرامات الفضَّة، وهذا هو النَّصاب، فمن مَلَكَ أقلَّ من هذا
المقدار فلا زكاة فيه، ومَن مَلَكَ أكثر من هذا المقدار ففيه الزَّكاة.
وقوله هنا: «وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ»، فيه دلالة على أنَّ مِن شُروط إيجاب
الزَّكاة مرور الحول.
وفيه دلالةٌ على أنَّ الأموالَ الزَّكويَّة يجبُ أن تُزكَّى في كلِّ سَنةٍ، سواء
كانت مِن عروضِ التِّجارةِ، أو كانت مِن النُّقودِ، أو ما مَاثَلَهَا ممَّا تجبُ
فيها الزَّكاة.
ووردَ عن بعضِ المالكيَّة أنَّ زكاةَ التِّجارةِ لا تجبُ إلا مرَّةً واحدةً إلا في
المال المُدَار، لكنَّ هذا تفريقٌ بلا دليلٍ، ومخالفٌ لظواهرِ الأحاديثِ الواردةِ
في بابِ اشتراطِ الحولِ وتعليقِ الزَّكاة به.
قال: «فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ»؛ لأنَّ الواجب هو ربع العشر -يعني 2.5% - و 2.5
% من مائتين يكون خمسة دراهم، وتقدَّم معنا أنَّ الدِّرهم قرابة الثَّلاثة جرام،
فخمسة دراهم يعني خمسة عشر جرامًا من الفضَّة، هذا هو الواجب في زكاة الفضَّة.
قال: «وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ -يَعْنِي فِي الذَّهَبِ- حَتَّى يَكونَ لَكَ
عِشْرُونَ دِينَارً»، الدِّينار: العملة التي تكون من الذَّهبِ، ومقدار وزنها:
أربعة ونصف جرام.
فعِشْرُونَ دِينَارًا تكون تسعين جرامًا، وبالتَّالي فإنَّ نصاب الذَّهب هو عشرون
دينارًا، يعني تسعين جرامًا من الذَّهب.
قال: «فَإِذا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ»، فيه
اشتراط الحول في الزَّكاة.
وفيه: إيجاب الزَّكاة في كلِّ حولٍ.
قال: «فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ» نصف الدِّينار يعني 2.5 % وهو ربع العشر. ونصف
الدِّينار تقدَّم معنا أنَّه 2.25 جرام.
قال: «فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» يعني ما زاد من الذَّهب والفضَّة؛ لأنَّ
الواجب هو ربع العشر.
قَالَ: (فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ: فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَو رَفَعَهُ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؟)، وقد تقدَّم معنا البحث في حكم هذا
الخبر هل هو مرفوع أو موقوف.
قال: «وَلَيْسَ فِي مَالٍ»، «مال» هنا نكرة في سياق النَّفي فتعمُّ جميع الأموال،
فمن شروط إيجاب الزَّكاةِ في الأموالِ مرور الحول عليها بعد مِلكِ النِّصاب.
والأموال النَّقديَّة يُكمِّلُ بعضها بعضًا في النِّصاب، فلو كان عنده نصف نصاب ذهب
ونصف نصاب فضَّة وجبت الزَّكاة عليه.
أمَّا بالنِّسبة للأوراق النَّقديَّة فإنَّه يُنظَر إلى مقدار قيمة الذَّهب
والفضَّة، وبالتَّالي يُنظَر إلى ما يتعلَّق بنصابها.
ومِن هنا فمَن كانَ يملك ريالات سعوديَّة نظرنا: إن كان ما يملكُه يُمكنه أن يشتري
به مقدار مائتي درهم -أي خمسمائة وخمسة وتسعين من الفضَّة- وجبت الزَّكاة فيه. وإن
كان ما يملكه يوازي عشرين دينارًا وجبت الزَّكاة فيه، الأقل من الذَّهب أو الفضَّة.
قال: «وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ»، إذن الأصل
أنَّ إيجاب الزَّكاة في الأموال الزَّكويَّة مشترط بالحول، وأنَّه كلَّما مرَّ
الحول وجبت الزَّكاة، ويستثنى من هذا الخارج من الأرض من الثِّمار والزُّروع؛ لأنَّ
ربَّ العزة والإجلال قال: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام/141]، كما
يُستثنى من ذلك نتاج بهيمة الأنعام، فإنَّ حولَها حولُ أمَّهاتها، وهكذا أيضًا ربحُ
التِّجارة فإنَّ حولَه حولُ أصلِ المالِ الذي أنتجَ تلك الأرباح.
وأمَّا بالنِّسبة لانقلابِ المال من كونه عروض تجارة إلى كونه نقودًا فإنَّه لا
يقطع الحول، وهكذا العكس.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث، ولعلنا ننتقل للحديث الذي يليه.
{(بَابُ زَكَاةِ المُعَشَّرَاتِ.
عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّه قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ
الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ،
وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» رَوَاهُ مُسلمٌ،
وَفِي لفظٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعيدٍ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ
أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ»، وَفِي لفظٍ لَهُ بَدلَ «التَّمْر»،
«ثَمَر» بالثَّاء الْمُثَلَّثَةِ)}.
قوله هنا (بَابُ زَكَاةِ المُعَشَّرَاتِ)، أي: الأموال التي تكون زكاته العُشر،
يعني 10% وتقدَّم معنا أنَّ الذَّهب والفضَّة -التي هي النُّقود- وعروض التَّجارة
يجب فيها ربع العشر، وتقدَّمَ معنا أن بهيمة الأنعام فيها زكاة محدَّدة بالنَّصِّ،
ويبقى عندنا النَّوع الرابع وهو: الخارج من الأرض، والواجب فيه إذا لم يكن فيه
مشقَّة هو إخراج العشر -أي 10 % - وإن كان فيه مشقَّة وتعب فإنَّ الواجب فيه هو نصف
العشر - يعني 5 %.
وقد أوردَ المؤلِّف هنا عددًا من الأحاديث، أولها حديث جابر، قال: «لَيْسَ فِيمَا
دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ»، والورق: هو الفضَّة.
والأوقيَّة: هذا مقدار وزن توزن به الأشياء، وهو تقريبًا أربعون درهمًا. وخمسة
أواقٍ تكون مائتي درهم، والدِّرهم ثلاثة جرام إلا شيئًا، فيكون المقدار الواجب:
خمسمائة وخمسة وتسعين جرامًا. إذن هذا هو نصاب الفضَّة -كما تقدَّم.
قال: «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ»، الذَّود:
الإبل القليلة من ثلاث إلى خمس، فأربعٌ مِن الإبلِ ليسَ فيها زكاة، وخمسٌ من الإبلِ
فيها زكاة، فهذا هو نصاب الإبل، وتقدَّم معنا أنَّ الواجبَ في خمسٍ من الإبلِ هو
شاة.
وقوله: «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ»، الوسق:
ستُّون صاعًا.
والصَّاع: وحدة لقياس الحجم وليست لقياس الوزن، فيكون نصاب الزَّكاة في الخارج من
الأرض ثلاثمائة صاع.
والعلماء اختلفوا في الخارج من الأرض هل له نصاب أو لا:
فقال الحنفيَّة: الزَّكاة تجب في القليل والكثير مِن الخارج من الأرض؛ لأنَّ الله
-عزَّ وجلَّ- قال: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام/141]، وقال: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة/267]، فقالوا: هذا لفظٌ عامٌّ يشملُ
القليلَ ويشملُ الكثيرَ، فتجب الزَّكاة في قليلِهِ وفي كثيرِهِ.
والجمهور يقولون: إنَّ الخارج من الأرض له نِصاب، ولا تجب الزَّكاة فيما هو أقل من
ذلك، فما بلغَ خمسةَ أوسقٍ أو كان أكثر وجبت فيه الزَّكاة، وما كان أقل مِن خمسة
أوسقٍ فلا زكاةَ فيه.
إذا تقرَّرَ هذا فإنَّ منشأ الخلاف: هل يَصِحُّ لنا أن نُقيِّد أو نخصِّص الآية
القرآنية بواسطة الأحاديث النَّبويَّة؟
فالتَّخصيصُ زيادةٌ على النَّصِّ، والحنفيَّة يرون أنَّ الزِّيادة على النَّصِّ
نسخٌ، وعندهم أنَّهم لا يصحُّ نسخُ الكتابِ بواسطة أخبارِ الآحادِ، ولذا قالوا:
وجبت الزَّكاة في القليلِ والكثيرِ، وأخذوا بعموم الآية.
والجمهور يقولون: الزِّيادة على النَّصِّ بيان، ولا مانع من بيان القرآن بواسطة
سنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل/44].
وقوله هنا: (وَفِي لفظٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعيدٍ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ
خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» وَفِي لفظٍ لَهُ بَدلَ
«التَّمْر»، «ثَمَر») فهذا بيان أنَّ الزَّكاة تجب في الحبوب، فكل ما كان من الحبوب
ففيه الزَّكاة، والعلماء بينهم اختلاف في العلَّة التي من أجلها تجب الزَّكاة في
الخارج من الأرض:
فبعضهم يقول: لابدَّ أن يكون ممَّا يُدَّخر.
وبعضهم يقول: لابدَّ أن يكون ممَّا يُكال.
وبعضهم يقول: لابدَّ أن يكون ممَّا يُقتات، ويكون قوتًا.
والأظهر: أنَّ اشتراط الكيل واجب لأنَّه قال: «فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ».
والأظهر أيضًا أنَّ الشَّرط هو الادَّخار، فما لا يُدَّخر ويتلَف بإبقائه فإنَّه لا
زكاة فيه، ومن أمثلة ذلك: الطماطم؛ لو أبقيتها فإنَّها تتلَف ولا يمكن ادِّخارها،
وبالتَّالي لا زكاة فيها، بخلاف ما يكون يُمكن ادِّخاره.
ومن هنا أسألكم: البرتقال هل فيه زكاة؟
الجواب: ليس فيه زكاة؛ لأنَّه ليس ممَّا يُدَّخر، وليس ممَّا يُكال.
بينما الحبَّةُ السوداء فيها زكاة؛ لأنَّها تُدَّخر وتُكال.
إذن عرفنا القاعدة في هذا الباب.
{(وَعَنْ سَالمِ بنِ عبدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ
والعُيونُ أَو كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصفُ
الْعُشْرِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَلأبي دَاوُدَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ
والأَنْهارُ والعُيونُ أَو كَانَ بَعْلًا العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بالسَّوانِي
أَو النَّضْحِ، نِصْفُ العُشْرِ» وَإِسْنَادُهُ عَلَى رَسْمِ مُسلمٍ)}.
قوله هنا: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ»، أي: يجب فيما سقت السَّماء العشر، أي ما كان
ينبت بسبب الأمطار، فهذا يجب فيه العشر -يعني: ( 10 % ) - فإن كان يخرج منه خمسمائة
صاع؛ فالواجب فيه خمسون صاعًا؛ لأنَّه لا كَلَفَةَ فيه.
وهكذا فيما تَسْقِي العُيون، فالعيونُ مياه تنبُعُ مِنَ الأرضِ، ثُمَّ تَسيحُ
عَليهَا، وبالتَّالي فإنَّه لا كَلَفَة في السَّقي بها.
ومثله ما كان عثريًّا: وهو الذي له عروق تمتدُّ في الأرضِ حتى يصلَ إلى المياه،
فهذا لا تعبَ فيه ولا مشقَّة، وبالتَّالي كان الواجبُ فيه العشر.
قال: «وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصفُ الْعُشْرِ»، المراد بالنَّضح: الأواني
والسَّواني وهي الأدوات التي يُخرَج بها الماء من الآبار، فإنَّه فيه كَلَفَة وتعب
في إخراج الماء، وبالتَّالي لم يُوجب الشَّرع فيها الزَّكاة إلا نصف العشر -يعني: (
5 % )
قال: (وَلأبي دَاوُدَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والأَنْهارُ»)، الأنهار تسيح على
الأرضِ، وبالتَّالي لا كَلَفَة في السَّقيِ بها، ومن ثَمَّ وجبَ فيما يُسقَى
بالأنهارِ العُشر كاملًا.
وهكذا قال: «أَو كَانَ بَعْلً»، البعل: هو الذي يوضع له عروق في الأرض، فإذا جاء
المطر فإنَّه يَنبت، فإنَّ الواجب فيه هو العُشر؛ لأنَّه لا كلفَة فيه ولا مؤنة.
قال: «وَفِيمَا سُقِيَ بالسَّوانِي»، السَّواني: أدوات وسيور تُربَط بالبهائمِ
بحيثُ تَرفع الماءَ، فهذا فيه كَلَفَةٌ وتعبٌ، ومن ثمَّ أوجبَ الشَّارعُ فيه نصفَ
العُشر.
{(وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ يَحْيَى، عَنْ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبي
مُوسَى ومُعاذِ بنِ جَبلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُمَا أَنْ
يُعَلِّمَا النَّاسَ أَمْرَ دِيْنِهِم، وَقَالَ: «لَا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ
إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ،
وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وطَلْحَةٌ رَوَى
لَهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث رواه الطبراني والحاكمُ مِن طريقِ أبي حذيفة عن سفيان عن طلحة بن يحيى
عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ بن جبل، وقد صحَّحه الحاكم.
وأبو حذيفة هو: موسى بن مسعود النَّهدي، تكلَّم فيه العلماءُ من جهةِ حفظه، وقالوا:
إنَّه سيء الحفظ، وبالتَّالي ضعَّفَ جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ هذا الخبر.
وأمَّا طلحة بن يحيى فإنَّ كثيرًا من العلماء رأوا أنَّه صدوق، وبعضهم ضعَّفه،
فالمقصود أنَّ هذا الخبر فيه شيء من الضعف.
وقوله: «الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ»، يبدو أنَّ هذه هي
الأصناف التي كانت تُزرَع في اليمن من الأصناف التي تجب الزَّكاة فيها.
وتقدَّم معنا الاختلاف في العلَّة التي مِن أجلها تثبت الزَّكاة في المالِ الخارج
من الأرض، وتقدَّم أنَّ الصَّواب أنَّه لابدَّ فيه من شرطين:
الأول: أن يكون مكيلًا.
والثاني: أن يكون مدَّخرًا، أي: يُمكن حفظه وإبقاؤه.
{(وَعَنْ إِسْحَاقَ بنِ يَحْيَى بنِ طَلْحَةَ بنِ عُبيدِ اللهِ، عَنْ عَمِّهِ
مُوسَى بنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ،
والبَعْلُ، والسَّيْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ»،
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ والحُبُوبِ، وَأَمَّا
القِثَّاءُ والبَطِّيخُ وَالرُّمَّانُ والقَصَبُ، فَقَدْ عَفَى عَنْهُ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ
-وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَزَعَمَ
أَنَّ مُوسَى بنَ طَلْحَةَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، لَا يُنْكَرُ أَنْ يُدْرِكَ
أَيَّامَ مُعَاذٍ. كَذَا قَالَ. وإِسْحَاقُ بنُ يَحْيَى: تَركَهُ أَحْمدُ
وَالنَّسَائِيُّ وَغَيرُهمَا. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: «مُوسَى بنُ طَلْحَةَ بنِ
عُبيدِ اللهِ، عَنْ عُمرَ مُرْسلً». ومُعاذٌ تُوفِّي فِي خلَافَةِ عُمَرَ،
فَرُوايةُ مُوسَى عَنهُ أَولَى بِالْإِرْسَالِ، وَقدْ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى وُلِدَ
فِي عَهِدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَ أَنَّهُ سَمَّاهُ وَلم
يَثْبُتْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ صَحِبَ عُثْمَانَ مُدَّةً، وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا
مَا رَوَاهُ الثَّوْريُّ، عَنْ عَمْرِو بنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُوسَى بنِ طَلْحَةَ
قَالَ: عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ)}.
هذا الحديث فيه ذكر لشيءٍ من الأصناف التي تتعلَّق بوجو بالزَّكاة في الخارج من
الأرض، وقد تضمَّن شيئين:
الأوَّل: مقدار الزَّكاة، وقد تقدَّم معنا في الأخبار السَّابقة.
والثَّاني: في أنواع الخارج من الأرض التي تجب الزَّكاة فيها.
وهذا الحديث قد تكلَّم العلماء في إسناده كثيرًا، والبحث فيه من جهتين:
الجهة الأولى: من جهة اتِّصال الإسناد، فإنَّ موسى بن طلحة لم يُدرك معاذ بن جبل،
وقد ورد في رواية أخرى أنَّ رواية موسى بن طلحة عن معاذ وِجَادَة، فقد وجدَ كتابًا
كتبَه ولم يَلقَه.
والعلَّة الثانية في هذا الخبر: أنَّ في رواته إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله،
وقد تُكلِّمَ فيه. ولذلك فإنَّ هذا الخبر لم يُثبِته أهل العلم.
وقوله هنا: (وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ) يعني: الزَّكاة.
قال: (فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ والحُبُوبِ). الحنظة: القمح. والحبوب: مثل:
الشَّعير والذُّرة.
قال: (وَأَمَّا القِثَّاءُ)، وهو قريب من الخيار.
والبَطِّيخُ: يسمُّونه الجُحف في بعض البلدان.
قال: (وَالرُّمَّانُ والقَصَبُ، فَقَدْ عَفَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ)، وذلك لأنَّ هذه إمَّا لأنَّها لا تُكالُ كالقثاء والبطِّيخ
والرُّمان، أو لأنَّها لا تُدَّخر، وكثير منها قد جمعَ الأمرين.
{(وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ سَهْلُ بنُ أَبي حَثْمَةَ
مَجْلِسَنَا، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «إِذا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا ودَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَم تَدْعُوا
الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِم البُسْتيِّ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: "لمْ يَرْوِهِ عَنْ سَهْلٍ إِلَّا عبدُ
الرَّحْمَن بنُ مَسْعُودِ بنِ نِيَارٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ" وَقَالَ ابْنُ القَطَّانِ:
"هَذَا غيرُ كَافٍ فِيمَا يَنْبَغِي مِنْ عَدَالَتِهِ، فَكَمْ منْ مَعْرُوفٍ غَيْرُ
ثِقَةٍ، وَالرَّجُلُ لا يُعرفُ لَهُ حَالُ، وَلَا يُعْرَفُ بِغَيْرِ هَذَا". كَذَا
قَالَ وَفِيه نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ مَسْعودِ بنِ
نِيَارٍ عَنْ سَهْلٍ وَوَثَقَهُ ابْنُ حِبَّانَ)}.
ذكر المؤلِّف في إسناد هذا الحديث علَّة، وهي: أنَّه من رواية عبد الرحمن بن مسعود
بن نيَّار، وقد تفرَّد بالرِّواية عنه خبيب بن عبد الرحمن، ولذلك فإنَّ كثيرًا من
أهل العلم قالوا: إنَّه مجهول، وإنَّ تصحيح الحاكم لحديثه لا يُعوَّل عليه، فإنَّ
الحاكم قد يُصحِّح أحاديث مَن هو مجهول.
وخَرْصُ الثِّمار المراد به: تقديرها، ومعرفة كم سيأتي من الثِّمار عند نضجها، وذلك
أنَّه قد يُقدَّم أخذ الزَّكاة قبل أن يتم تمام نُضجها، فيؤتى مثلًا للتَّمر
ويُقال: كم سيأتي هذا الرُّطب؟ وكم سيصبح من التَّمر؟ ليقوموا بإخراج الزَّكاة فيه،
وهكذا في الزَّبيب، يأتي الخارص وهو لا زال عِنبًا ويقول: هذا العنب سيأتي منه هذا
المقدار من الزَّبيب.
والخرصُ قال به الجمهور خلافًا للحنفية.
وقوله: «ودَعُوا الثُّلُثَ»، بعضهم قال: الثُّلُث لا نوجب فيه زكاةً.
وآخرون قالوا: إنَّ قوله: «ودَعُوا الثُّلُثَ»؛ لأنَّه قد يؤخذ قبل أن يُعمل منه ما
يُمكن ادِّخاره؛ لأنَّهم يجعلونه لأنفسهم أو للضَّيفِ أو نحو ذلك.
وتقدم معنا أنَّ هذا الخبر فيه ضعف.
{(وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ، عَن أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَن لَونَيْنِ مِنَ التَّمْرِ: الجُعْرُورِ
ولَونِ الحُبَيْقِ، قالَ: وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمَونَ شَرَّ ثِمارِهِم
فَيُخْرِجُونَهَا فِي صَدَقَاتِهِمْ فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَيَمَّمَوا الْخَبِيْثَ
مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾[البقرة:267] رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ
-وَهَذَا لَفظُهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ البُخَارِيِّ وَلم
يُخَرِّجَاهُ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسلًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ الأَوْلَى
بِالصَّوَابِ)}.
الجُعْرُورِ: نوعٌ من أنواع التُّمور، ويكون فيه يُبوسة ويكون صغيرًا.
والحُبَيْقِ: أيضًا هو نوعٌ رديء ويكون صغيرًا.
وهذا الخبر قد اختَلفَ أهلُ العلمِ في إسناده؛ لأنَّه قد وردَ من طريق الزُّهري،
ورواه عن الزهري ثلاثة:
- محمد بن حفصة: وهو ضعيف.
- سفيان بن حسب، وسليمان بن كثير؛ وهما ضعيفان في الزُّهري، إذا رويا عن غير
الزُّهري فهما ثقتان، وإذا رويا عن الزُّهر ضٌعِّفا.
وحينئذٍ هل يُقال: إنَّ هذا الحديث وردَ مِن ثلاثةِ طرق فعضَّدَ بعضُها بعضًا
وانتقلَ ليكونَ من قبيلِ الحسنِ لغيره؟ أو نقولُ هي روايات لا يُقوِّي بعضها بعضًا؟
ولعلَّ الأظهر هو الأوَّلُ، وبالتَّالي فإنَّ الحديث حسن الإسناد لغيره.
قوله: (نهَى عَن لَونَيْنِ)، أي: نهى عن أخذ الزَّكاة مِن نوعين مِن أنواعِ
التُّمورِ.
وفيه: أنَّ الزَّكاة تؤخَذ مِن أواسطِ التُّمورِ لا مِن رديئها ولا مِن أعلاها.
قال: (وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمَونَ شَرَّ ثِمارِهِم فَيُخْرِجُونَهَا فِي
صَدَقَاتِهِمْ فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَيَمَّمَوا الْخَبِيْثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [البقرة:267]).
{(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ مُوسَى، عَنْ أَبي سَيَّارَةَ الـمُتَعِي قَالَ: قُلْتُ :
يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لي نَحْلًا؟ قَالَ: «أَدِّ الْعُشْرَ»، قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ احْمِهَا لي، فَحَمَاهَا لِي. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَابْنُ ماجَهْ
-وَهَذَا لَفظُهُ- وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِىَ فِي وُجُوبِ
الْعُشْرِ فِيهِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ" وَقَالَ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ: لَيْسَ فِي
زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ)}.
هذا الحديث منقطع الإسناد -كما ذكر المؤلف- فإنَّ سليمان بن موسى لم يلقَ أبا
سيَّارة، وبالتَّالي فإنَّ الخبرَ منقطع.
وقد اختلف العلماء في زكاة العسل، هل تجب فيه زكاة أو لا؟
فأوجبها الجمهور، واستدلُّوا بهذا الحديث، كما استدلُّوا بأنَّه فعلُ عمر، فقد
فَعَلَهُ عمر -رضي الله عنه- بمحضرٍ مِن الصَّحابةِ، ولم يُنكِر عليه أحدٌ منهم
ذلك.
وذهبَ بعضُهم إلى عدمِ وجوب الزَّكاة في العسل، وقالوا: إنَّ الأحاديث الواردة في
الباب ليست صحيحة الإسناد، والأصلُ عدمُ إيجاب شيءٍ من الزَّكاة حتى يَرد فيه دليل.
والأظهر أنَّ العسل ممَّا يخرج من النَّحل، فهو مُشابه للخارجِ من الأرضِ،
وبالتَّالي فإنَّه يُحكَم عليه بمثلِ حُكمِه، فيكون الواجبُ فيه العشر، فقد وردَ عن
عمر أنَّه أمرَ بإخراج قِربَةٍ من العَسلِ من كلِّ عشرٍ، وحينئذٍ يكون الواجبُ هو
العشر في العسل، وذلك أنَّه ممَّا لا مشقَّة فيه ولا كَلَفَة.
فهذا ما يتعلَّق بزكاة المعشَّرات، وإن شاء الله يكون حديثنا في لقائنا القادم
يبتدئ من الحلي، ولكن في هذا اليوم نقرأ أخباره ونشير إلى جُملٍ في هذا الباب.
{(بَابٌ فِي الْحُلِيِّ وَالْعُرُوضِ إِذا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ
عَنْ ثَابِتِ بنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَطاءٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهَا: أَنَّها كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَسَأَلَتْ عَنْ ذَلِك
نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: أَكَنْزٌ هُوَ؟
فَقَالَ: «إِذا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَالدَّارَقُطْنِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِ البُخَارِيِّ، وَلم يُخَرِّجَاهُ". وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "يَتَفرَّدُ
بِهِ ثَابِتُ بنُ عَجْلَانَ" وَهَذا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ ثَابِتًا وَثَّقَهُ ابْنُ
مَعِينٍ وَرَوَى لَهُ البُخَارِيُّ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ
مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمدَ بنِ حَنْبَلٍ : حَدَّثنَا
حَفْصُ بنُ غِياثٍ، حَدَّثنَا عُبيدُ اللهِ بنُ عُمرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْن
عُمرَ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعُرُوضِ زَكَاةٌ إِلَّا مَا كَانَ للتِّجَارَةِ)}.
قوله: (بَابٌ فِي الْحُلِيِّ)، الحلي: ما يلبسه النِّساء من الزِّينة من الذَّهب
والفضَّة.
(وَالْعُرُوضِ) المراد به: ما يكون عارضًا، ويأتي ويزول، ويدخل فيها ما يُعدُّ
للبيع.
قال: (إِذا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ) يعني من الحلي.
ثم أورد حديث أم سلمة (أَنَّها كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَسَأَلَتْ
عَنْ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ)، الأوضاح: نوع من أنواع
الحلي من الفضَّة، سُمِّيَ بهذا الاسم لبياضه.
قوله: (فَقَالَتْ: أَكَنْزٌ هُوَ؟)، وبالتَّالي تجب زكاته. فَقَالَ: «إِذا
أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ».
ولعلَّنا -إن شاء الله- نشير إلى الخلاف في زكاة الحلِّي في لقائنا الآتي -بإذن
الله عزَّ وجلَّ.
أسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خير، وأن يجعلَنا وإيَّاكم مِن
الهداة المهتدين.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِه
وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.