الدرس الخامس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4434 24
الدرس الخامس

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم في لقاءٍ جديدٍ، من لقاءاتنا في قراءةِ كتابِ "المُحرَّر" للحافظِ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا ذَكرنا فيما سبقَ الأحاديثَ التي وَرَدَت في بابِ صلاةِ أهلِ الأعذارِ، ولعلَّنا بإذنِ الله -عزَّ وجلَّ- أن نَبتدئ في هذا اليومِ بأحاديثَ صلاةِ الخَوفِ، ثُمَّ نُعرِّجُ للأحاديث التي وَرَدَت في المساجد. فلتتفضل مشكورًا -بارك الله فيك- لقراءة أحاديث باب صلاة الخَوف.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ نبيِّنا مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم.
اللهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنَا، وللمُشاهدينَ، ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّفُ -رَحمَه اللهُ تعالى- بابُ صَلاةِ الخَوفِ: (عَنْ صَالحِ بنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةً وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَـمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِم. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
جاءت الشَّريعةُ بالأمرِ بأداءِ الصَّلاةِ جماعةً؛ ليكونَ ذلك مِن أسبابِ انتظامِ أحوالِ النَّاسِ، واجتماعِ كلمتِهم، حتى في الأحوالِ المختلفَةِ المُضطربَةِ، ومِن ذلكَ حالِ الخَوفِ، ممَّا يدلُّ على أهميَّةِ صلاةِ الجماعَةِ، وقد استَدلَّ أحمدُ بهذه الأحاديث على وجوبِ صلاةِ الجماعةِ، فإنَّ في أحاديثِ صلاةِ الخَوفِ تركًا لبعضِ الواجباتِ في الصَّلاةِ، وتركُ الواجبِ لا يكونُ إِلَّا مِن أجلِ واجبٍ، فعندما تُركَت بعضُ هيئاتِ الصَّلاةِ، وبعضُ نَسَقِهَا ونِظامِها مِن أجلِ مُراعاةِ صلاةِ الجماعةِ؛ دَلَّ ذلكَ على وجوبِ صلاةِ الجماعةِ.
وقد وردَ في صلاةِ الخَوفِ سبعُ هيئاتٍ، والعلماءُ منهم مَن رجَّحَ بعضَ الهيئاتِ على بعضِها الآخرِ، ومنهم مَن قالَ: إنَّ هذه الهيئاتِ إنَّما هي بحسَبِ اختلاف أحوالِ الجيشِ وأحوالِ العدوِّ، فإذا كان العدوُّ وُجَاهَ الجيشِ كان له مِن الأحكامِ ما ليسَ له إذا كان العدوُّ خلفَ الجيشِ.
ومِن هنا نقول: إنَّ الصَّواب أنْ تُراعى أحوالُ المصلين بالنَّسبة لعدوِّهم. والمعنى في هذا: المحافظةُ على حياة المسلمين، والحرصُ على ألا يُؤتى الإسلامُ مِن قِبل هؤلاء، ومِن هنا نستدلُّ على أهميَّةِ المحافظة على الأركانِ العظيمة، ومِن ذلك المحافظةُ على الدِّماء، والمحافظةُ على هيبةِ دولةِ الإسلامِ، والمحافظةُ على جيش هذه الدَّولة.
وقد أوردَ المؤلِّف هنا حديثَ صَالحِ بنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وهذا الذي صلَّى لم يُذكر اسمه هنا، ولا يضرُّ هذا في صحَّةِ الحديثِ، فإنَّ الحديث إذا لم يُسَمَّ صحابيَّه لم يتضرَّر بذلك، فإنَّ الصَّحابةَ كلُّهم عدولٌ، وقد عدَّلهم النَّصُّ.
قال: (يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ)، وهذه غزوةٌ مِن الغزوات التي غَزى بها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه العدوَّ، سُميت بهذا الاسم -ذات الرِّقاع- لأنَّهم أخذوا رِقَاعًا فأصبَحوا يجعلُونَها تحتَ أقدامِهم؛ لئلَّا تتخرَّق أقدامَهم مِن شدَّةِ الحرِّ في ذلك الوقتِ.
قال: (صَلَى مَعَهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ)، ثُمَّ ذكَرَ هذه الصِّفةَ، فجعلَهم طائفتين:
- طائفة صفَّت معه.
- والأخرى في وُجَاهِ العدوِّ.
وهذا معناه أنَّ العدوَّ في جِهةٍ أخرى غيرَ جهةِ القِبلةِ، فإحدَى الطَّائفتين كانت مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والطَّائفةُ الأخرى وُجَاهَ العدوِّ.
فصلَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالطَّائِفَة الأولى ركعةً، ثُمَّ ثَبَتَ واقفًا، ثُمَّ أتمَّت الطَّائفةُ لأنفسِهم الرَّكعَة الثَّانية، ثُمَّ ذهبت الطَّائفةُ إلى وُجَاهِ العدوِّ، فيكونون قد صَلُّوا ركعةً مع الإمامِ، وصلُّوا ركعة وحدهم، ثُمَّ سلَّموا وذهبوا إلى وُجَاهِ العدو، ثُمَّ جاءت الطَّائفة الأخرى، فاصطَّفت خلفَ النَّبيِّ –صلى الله عليه وسلم- فصلُّوا معه الرَّكعَة الثَّانية له، ثُمَّ جلس وثبت جالسًا وأطال جلسة التَّشهدِ حتى أتوا بالرَّكعَة الأخرى، ثُمَّ سلَّم بهم.
وفي هذا: جواز هذه الكيفيَّة في صلاةِ الخَوفِ.
وفي هذا الحديث أيضًا: جواز أن يقطعَ الإنسانُ صلاتَه، أو يقطعَ ائتمامه بالإمام لحاجةٍ تعرضُ له، فإنَّ الطَّائفةَ الأولى لمَّا أتمُّوا الرَّكعَة الأولى معه أكملوا الرَّكعَةَ الأخرى وحدهم، ثُمَّ انصرفوا قبلَ انصرافِ إمامِهم.
وفي هذا أيضًا مِن الفوائدِ: العدلُ بينَ الطائفتين الأولى والثَّانية، فلكلِّ طائفةٍ جعلَ لهم ركعةً واحدةً.
وفي هذا الحديث: أهميَّةُ استشعارِ مكانةَ الإمامِ وصاحبَ الولاية، وإلا لقال لهم: صلُّوا جماعتين، ولكن أراد أن ترتبطَ قلوبُهم بإمامِهم، فأمرَهم أن يصلُّوا صلاةً واحدةً.
وفي هذا الحديث: أنَّ مَا يفعله المسبوقُ بعدَ سلامِ الإمامِ، يُعدُّ بقيَّة صلاته وآخرها، ولا يُعدُّ أوَّلها، ولذا قال: (وَأَتَـمُّوا لأَنْفُسِهِمْ).
قوله: (ثُمَّ سَلَّمَ بِهِم) فيه: أنَّ سلام المأموم يكونُ بعدَ فراغِ الإمامِ مِن سلامِه.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَاهُم فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى العَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِهِم رَكْعَةً وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم فَرَكَعَ لنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ البُخَارِيِّ، وَلمسلمٍ: قَالَ نَافِعٌ: قَالَ ابْنُ عُمَر: فَإِذا كَانَ خَوْفٌ أَكثَرَ مِنْ ذَلِك فَصَلِّ رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا: تُومِيءُ إِيْمَاءً)}.
هذا الحديثُ فيه ذكرُ صفةٍ ثانية مِن صفاتِ صلاةِ الخَوفِ، والصِّفةُ الأولى كان الإمامُ أحمد يرجِّحُها، وأكثرُ أهلِ العلمِ ويجعلونها فيمن كان العدوُّ في غيرِ جهةِ القِبلةِ، وحديثُ عبد الله بن عمر الثَّاني هو حديثٌ متَّفقٌ عليه.
قال: (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنا الْعَدُوَّ) أي: أصبحنا على وِزانه وصَفِّه، (فَصَافَفْنَاهُم) أي: كانوا صفًّا وكانَ المسلمون صَفًّا.
قال: (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي لَنَ) فيه مشروعيَّةُ صلاةِ الجماعةِ، حتى في الأحوالِ المخوِّفة، واستدلَّ أحمدُ بذلك على وجوبِ صلاةِ الجماعةِ.
قال: (فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ)، إذن قسمهم إلى طائفتين:
- إحداهما تُصلِّي معه.
- والثَّانية أقبلت على العدوِّ.
فصلَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالطَّائفةِ الأولى ركعةً، فرَكَعَ بمَن معَه، وسجدَ سجدتين، بعدَ الرَّكعَة الأولى انصرَفوا، وذهبوا وِجَاهَ العدوِّ، في الصُّورة الأولى أكمَلوا لأنفسهم الرَّكعَة الثَّانية، وهنا انصرفوا قبلَ أن يُكملوا الرَّكعَةَ الثَّانية.
(ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لمْ تُصَلِّ) أي: بموازاةِ العدوِّ ومواجهتِهم (فَجَاءُو) أي: الطَّائِفَة الأخرى، (فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِهِم رَكْعَةً وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) يعني: ركعةً كاملة، (ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم) يعني: مِن المأمومين، (فَرَكَعَ لنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ).
ظاهرُ هذا: أنَّهم لم يُكلمِوا الرَّكعَةَ الثَّانية إلا في مواطنهم، وبالتَّالي يكونُ بين الرَّكعَةِ الأولى والرَّكعَة الثَّانية وقتٌ، ولذلك فإنَّ طائفةً مِن أهلِ العلمِ قالوا إنَّ حديثَ ابن عمر يماثلُ حديثَ صَالحِ بنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ صلَّى مع النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا إشارةٌ إلى ذكرِ حالةَ الخَوفِ عندَ التحامِ الجيوشِ، وتَصادمِ السُّيوف، فإنَّ الإنسانَ يُصلِّي على حسَبِ حاله، سواءً كان راكبًا على دابَّتِه، أو قائمًا، وحينئذٍ فلن يستطيعَ الرُّكوع، ولا السُّجود، وبالتَّالي يُقال له: أومِئ إيماءً لركوعِك وسجودِك.
والإيماءُ يُراد به: الإشارةُ بالرَّأسِ، وليسَ المرادُ به الخفضُ؛ لأنَّ الخفضَ له معانٍ كبيرة، فبعضُ النَّاس يخفِضُ، نقول: لا، يكفيكَ الإشارة.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الخَوْفِ رَكْعَةً. رَوَاهُ مُسلمٌ، وَتكَلَّم فِيهِ أَبُو عُمر ابنُ عبدِ الْبَرِّ)}.
ظاهرُ هذا الخبرِ: أنَّ في صلاةِ الخَوفِ يُكتفَى بركعةٍ واحدةٍ، كما أنَّه في صلاةِ السَّفرِ يُكتفى بركعتين، وفي الحَضَرِ بأربعِ ركعاتٍ.
وحينئذٍ للعلماءِ في هذا الحديثِ مواقفٌ:
منهم مَن قال: سمعًا وطاعةً؛ فآخذٌ به، ولكن يكون هذا في حالِ الشِّدةِ وعندَ تضايقِ الأمرِ.
بينما آخرون تكلَّموا في هذا الحديثِ، وقدَحوا فيه، وقالوا: إنَّه مِن روايةِ بُكير بن الأخنس، وهو ممَّن لا يُحتجُّ بحديثه. والصَّواب أنَّ بُكير مِن رواة الصَّحيح، وقد قَبِلَ أهلُ العلمِ روايتَه.
ومنهم مَن تأوَّل هذا الخبر، فقالوا: (وَفِي الخَوْفِ رَكْعَةً) أي: ركعة مع الإمام، وركعة ليست مع الإمام، مِن أجل أن تكونَ هذه الأحاديث متَّسقة، ويُصدِّقُ بعضُها بعضَها الآخر.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- والعَدُوُّ بَيْننَا وَبَينَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ ورَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوع وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ. فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الـمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا. ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الـمُؤَخَّرُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ. فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- السُّجُودَ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا. قَالَ جَابرٌ: كَمَا يَصنَعُ حَرَسُكُم هَؤُلَاءِ بأُمَرَائِهِمْ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذه صفةٌ ثانيةٌ، وهيئةٌ أخرى مِن صفاتِ صلاةِ الخَوفِ، وظاهرُ هذا أنَّ هذه الصِّفة فيما إذا كان العدوُّ في جهةِ القِبلة، بحيثُ يكون المأمومون يشاهدون العدوَّ، ويأمنونَ مِن غِرَّتِهم وغَدرِهم.
قال جابر -رضي الله عنهما: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنا صَفَّيْنِ) هنا الصَّلاة أضيفت إلى صِفتِها أو ظَرفِها.
قال: (فَصَفَّنا صَفَّيْنِ صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) وصفٌّ يَليهم، قال: (والعَدُوُّ بَيْننَا وَبَينَ الْقِبْلَةِ) فيه إشارةٌ إلى مَأخَذِ هذا الحكم.
قال: (فَكَبَّرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَبَّرْنَا جَمِيعً) أي أهلُ الصَّفِّ الأوَّلِ، وأهلُ الصَّفِّ الثَّاني.
وقال بعضهم: إنَّ الخبرَ دليلٌ على صحَّةِ صلاةِ مَن وافقَ تكبيرُه تكبيرَ الإمامِ، خصوصًا في تكبيرةِ الإحرامِ، ولكن لفظة الواو لا تقتضي مساواةً، وإنَّما تقتضي مشاركةً في الفعلِ، فإذا رددنا أحاديثَ البابِ إلى غيرها من الأحاديث، فسَّرت لنا ذلك؛ لأنَّ المُراد به أن يكونَ تكبيرُ الإمامِ سابقًا لتكبيرِ المأمومِ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فإذا كَبَّرَ فَكَبِّرُو»[27].
قوله: (ثُمَّ رَكَعَ ورَكَعْنَا جَمِيعً) أي: الصَّفُّ الأوَّلُ والصَّفُّ الثَّاني.
قال: (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوع وَرَفَعْنَا جَمِيعً) لأنَّهم يأمَنون مِن العدوِّ.
(ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ) وأمَّا الصَّفُّ الآخرُ فبقيَ واقفًا، (وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ. فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الـمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا. ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ) أصبحوا في الأمامِ مِن أجلِ العدلِ بينَ الصَّفينِ، ثُمَّ تقدَّم الصَّفُّ المؤخَّر، وتأخَّرَ الصَّفُّ الذي يليه، (وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-) يعني أتَى بركعةٍ كاملةٍ، فيها ركوعِها وسجودِها، وجلوسِها، وقيامِها.
قال: (وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنا جَمِيعً) فيه: وجوبُ رفعِ الرَّأس من الرُّكوع في الصَّلاةِ.
قال: (ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ -فقط- الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى) مِن أجلِ أن يَعدلَ بينَ الصَّفينِ.
(انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمْنَا جَمِيعً) أي: الطَّائِفَةُ الأولى والطَّائِفَةُ الثَّانيةُ.
(قَالَ جَابرٌ: كَمَا يَصنَعُ حَرَسُكُم هَؤُلَاءِ بأُمَرَائِهِمْ) أي في طريقةِ حفظِ صاحبِ الوِلاية مِن الأحداثِ التي قد تأتي عليه.
{(وَعَنْ ثَعْلَبَةَ بنِ زَهْدَمٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعيدِ بن العَاصِ بِطَبَرسْتَانِ فَقَالَ: أَيُّكُم صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنا، فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَلم يَقْضُوا. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ بنُ حِبَّانَ)}.
نعم، هناك أحاديث أخرى تُبيِّن كيفيَّاتٍ أخرى لكيفيَّة صلاةِ الخَوفِ، ولم يذكرها المؤلِّفُ؛ لأنَّ هذه أقوى الأحاديث الواردة إسنادًا، وأحسنُ ملائمةً للصَّلاة ونحوِها مِن الواجبات.
هنا يَعني فيه أنَّ إحدَى الطَّائفتين صلَّت معَ الإمامِ ركعةً واكتفَت بهذه الرَّكعَة، والأخرى صلَّت ركعةً واكتفوا بهذه الرَّكعَة، وتقدَّم معنا أنَّ الصَّواب أن تأتيَ كلُّ طَائفةٍ بما بقيَ مِن صلاتِها؛ لتُكمل لها الصَّلاة حينئذٍ.
{(بَابُ المَسَاجِدِ
عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدً»- قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ؛ بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
المساجدُ: جمعُ مسجدٍ، أُطلقَ عليه هذا الاسم؛ لأنَّه يكثرُ السُّجودُ فيها، والعربُ تسمِّي الشَّيءَ بِما يكثرُ فيه.
والمساجدُ هي بيوتُ اللهِ، أقيمَت ليُرفَع ذكرُ الله -عزَّ وجلَّ- فيها بالأذانِ، وليجتمع أفرادُ النَّاسِ فيه، وفيه فوائد كثيرة مِن أجلِها شُرعت العبادات في المسجد.
وأوردَ المؤلِّفُ مِن حديث عثمان -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ بَنَى مَسْجِدً» أي: أيُّ شخصٍ يبني مسجدًا، وقوله «مَسْجِدً» هنا نكرة، فتعمُّ الكبيرَ والصَّغيرَ.
(قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ») يبتغي أي: يَطلبَ ويَرجو، «بِهِ وَجْهَ» أي: فَضْلَه وإحْسَانه ونَظرَته للعَبْدِ فِي يَومِ القِيَامَة، «بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ»، أي: أنَّه لَمَّا بَنَى المَسْجِدَ الَّذِي هُوَ بَيتٌ مِن بُيوتِ اللهِ تَقرَّب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بالإرشادِ إلى بناءِ المساجدِ طلبًا في ثوابِ ربِّ العِزَّةِ والجلالِ.
ثمَّ قال: «بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ»، أي: هيَّأ له سَكنًا يقومُ بحوائجه، يُكافأ بمثلِ عملِه في هذا الحديث.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ، رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن ماجَهْ، وَإسْنَادُ بَعْضِهِم عَلَى شَرطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا ومُتَّصِلًا، وَقَالَ فِي الـمُرْسَلِ: هَذَا أَصَحُّ. والدُّورُ: الْقَبَائِلُ والـمَحَالُّ)}.
قال: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) وهذا واجب التَّنفيذِ، قال: (بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ) بحيثُ يوضع في كلِّ طَرفِ بيتٍ مكانٌ للصَّلاةِ، أو تُوضع غُرفة مستقلَّة يُصلِّى فيها.
والمعنى في هذا: أن يستشعرَ النَّاس قيمةَ الصَّلاةِ وأن يستشعِروا الاهتمامَ بها، وأن تُرَبَّى نفوسُهم على مراعاةِ مثل ذلك.
قال: (أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ) يعني في البُيوت –وهي الدُّور- فسَابقًا كانوا يُسمُّونَ مكانَ البيتوتَةِ: البيتَ، من المبيتِ، أمَّا الدُّورُ فتشمل سكنَ الإنسانِ.
وفي هذا: التَّرغيبُ في بناءِ المساجدِ، وجوازُ اتَّخاذِ موطن في المسجدِ مِن أجلِ أن تُقام فيه النَّوافل.
قال: (وَأَنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ) أي: يُستحبُّ للمساجدِ أن تجري عليها عمليَّة التَّنظيف والطِّيب، وعندما تُنَظَّف مَواطنَ الصَّلاةِ يكونُ هذا مِن أسبابِ دعايةِ الخلقِ إلى اللهِ -جلَّ وعلا.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا مِنْ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ . وَلمسلمٍ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»)}.
في هذا الحديث: جوازُ الدُّعاءِ بموتِ الغيرِ مَتى رُتِّبَ على ذلك مصلحةٌ عظيمةٌ لا تحصلُ إلا بموته، ويكونُ مقصود الإنسانِ حينئذٍ أن يقلِّل مِن الذُّنوبِ والمعاصي.
قال: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا مِنْ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» اليهود لمَّا جعلَوا القبورَ مساجدَ كانَ هذا مِن أسبابِ عبادةِ هذه القبور، ولذا نهى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن اتِّخاذِ القبور مساجد، وقبورُ الأنبياءِ مظنَّة لأنْ يُغلَى فيها، وأن تكونَ مِن أسبابِ الابتعادِ عن هَدي النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- خصوصًا إذا كانَ مَن في القبر ممَّن يُعظِّمه الإنسان وينظرون إليه.
وقوله: «اتَّخَذُوا مِنْ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» فيه: تحريمُ الصَّلواتِ في المقابر، وتحريمُ وضعِ المساجدِ في المقابر.
{(وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّه كَانَ يَنَامُ -وَهُوَ شَابٌّ عَزَبٌ لَا أَهْلَ لَهُ- فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- .كَذَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَرَوَاهُ مُسلمٌ بِنَحْوِهِ)}.
قالَ: (كَانَ يَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ) فيه دلالةٌ على جوازِ النَّومِ في المسجدِ، لمَن لم يجد مبيتًا في خارجِه.
قال: (وَهُوَ شَابٌّ عَزَبٌ لَا أَهْلَ لَهُ) فيه دلالةٌ على جوازِ العزوبيَّة، مع أنَّ الأفضل الزَّواج؛ لِما وردَ مِن النُّصوصِ في التَّرغيب في الزَّواج، والمقصودُ هنا جوازُ المبيتِ والنَّومِ في المسجدِ.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَال لَهُ: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوارِي الـمَسْجِدِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ» فَانْطَلقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله في هذا الحديث: (بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَيْلً) أي: أُنَاسًا يركبون الخيلَ، وذلك أنَّه أرادَ أن يستطلِعَ أخبارَ العدوِّ؛ لئلَّا يؤتَى على غِرَّةٍ.
قال: (فَجَاءَتْ) يعني الخيلُ التي أرسلها، (بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ) وهي قبيلة مِن قبائِل العربِ، (يُقَال لَهُ: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ) فيه فضلُ ثُمَامَةٍ هذا، وفيه أيضًا: أنَّ مَن لم يكن بينَه وبينَ أهلِ الإسلام عهدٌ ولا ذمَّةٌ، فإنَّه يجوزُ استرقاقِه.
قال: (فَرَبَطُوهُ) يعني أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَ بربطِه (بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوارِي الـمَسْجِدِ) فيه دلالةٌ على جوازِ دخولِ الكافرِ للمسجدِ إذا كان هناكَ مصلحةٌ.
قال: (فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-) ووردَ في الأخبارِ أنَّه سألَه، « مَا عِنْدَكَ؟»، وأنَّه قال له: "إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ"، فقال -صلى الله عليه وسلم: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ»[28] أي: هذا الرَّجل الذي كان سَيِّدًا في قومه.
(فَانْطَلقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ) يعني موطنَ زراعةٍ (فاغْتَسَلَ) وأخذَ مِن هذا الحنابلة: وجوبُ الاغتسالِ لمَن أرادَ الدُّخول في دينِ الإسلام، لكن في الاستدلَّال بهذا الحديث فيه ما فيه؛ لأنَّه لم يكن بأمرٍ مِن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولكن قد يُقال إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- علِمَه لِظُهوره وانتشار خبره.
قال: (ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ) بعد الاغتسال، فشَهِدَ الشَّهادَتين.
في هذا مِن الفَوائد: جوازُ ربطِ الكَافرِ في المسجد.
وفيه أيضًا: إكرامُ ذوي الهيئاتِ والمكانةِ ممَّن لهم منزلة في أقوامِهم، مهما كان عندهم من مخالفة، ولذا أمر بإطلاقِ ثمامَة.
وفي هذا: مشروعيَّةُ الاغتسالِ للدُّخولِ في الإسلام، قال أحمد وأبو حنيفة بوجوبه، والجمهورُ قالوا باستحبابِه لا بوجوبِه، وبعضُهم قالَ: إن كان قد اغتسلَ قريبًا اكتفى بغُسلِه الأوَّلِ.
قال: (ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ) هنا باختياره، (فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) فيه التَّرغيبُ في دخول المساجد، وفيه التَّرغيب في جعلِ الدُّخولِ في الإسلام عائدًا للمسجدِ، بحيثُ يتفقَّد الإنسان ممَّن يُوجد فيه مِن أهلِ العلم.
ثم شَهِدَ الشَّهادتين، وفيه دلالةٌ على أنَّ الشَّهادتين عاصمتان للرَّجل.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه: أَنَّ عُمرَ مَرَّ بـِحَسَّانَ وَهُوَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيرٌ مِنْكَ، ثُمَّ التَفَتَ إِلَى أَبي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟» قَالَ: نَعَمْ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ أَيْضً)}.
(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه: أَنَّ عُمرَ مَرَّ بـِحَسَّانَ) حسَّان بن ثابت الشَّاعر المشهور، وعمر هو ابن الخطاب -رضي الله عنه.
(وَهُوَ) يعني: حسَّان (يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ) فيه جوازُ مقولة الشِّعرِ في المساجد.
(فَلَحَظَ إِلَيْهِ) أي: شاهده، وطلَبَه عنده، (فَقَالَ حسَّان: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيرٌ مِنْكَ) يعني في عهدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
وبعضُ أهلِ العلمَ قال: هناك فرقٌ، في عهد النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قد يصلُ إلى درجةِ العلمِ، وقد يجزم بعدم ورود الدَّليل.
إذن، في هذا الحديث: جواز الإنشاد، وفيه: المفاضلة أيضًا بين النَّاس، حيثُ فاضلَ حسَّانُ بينَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وبينَ عمر -رضي الله عنه.
قال: (ثُمَّ التَفَتَ إِلَى أَبي هُرَيْرَةَ) يعني أنَّ حسَّان طلبَ شهادةَ أبي هريرة، (فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ) أي أرفعُ صوتي ونشيدي طالبًا منكَ بالله -عزَّ وجلَّ- أن تخبرني، (أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «أَجِبْ عَنِّي») أي لمَّا تكلَّم المشركون في النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وألَّفُوا فيه القصائد، أرادَ أن يكونَ هناك قصائد لتَدَرأَ عنه مثلَ هذه الدعايات، فقال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- لحسَّان: «أَجِبْ عَنِّي» أي بالشِّعر؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- ليس مِن أهلِ الشِّعرِ، كما قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾ [يس: 69]، فقال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: «أَجِبْ عَنِّي».
وفيه مشروعيَّةُ الرَّدِ على ضلالاتِ أهلِ الضَّلالِ، وفيه مشروعيَّةُ تقويةِ أهلِ الحقِّ الذين يردُّون على أهلِ الباطل.
ثم قال: «اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ» أي: انصره «بِرُوحِ الْقُدُسِ» ليكونَ هذا مِن أسباب علوِّ شأنِه، ورفعةِ مكانتِه.
{ (فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ نعم»، وهذا حديث مُتَّفقٌ عَلَيْهِ).
 وَعنهُ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
في هذا الحديثِ صيانة المساجدِ مِن رفعِ الأصواتِ واللَّغطِ فيها، ممَّا يؤدِّي إلى التَّشويشِ على المصلِّين، والذَّاكرين في المساجدِ، وفيه أنَّ رفعَ الأصواتِ ليس مِن شأنِ أهلِ الإسلامِ في المسجد.
وفي قوله: «مَنْ سَمِعَ رَجُلً» فيه دلالةٌ على أنَّ الأصلَ في النِّساء تخفيضُ أصواتهنَّ، وأنَّ رفعَ الصَّوتِ لم يكن إلا في الرِّجالِ.
قال: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ» أي يرفع صوتَه ونشيدته، طالبًا أن يتكلَّم مَن وجدَ ضالَّته.
 «ضَالَّةً» والمراد بها: ما ضَلَّ الطَّريقَ، وضاعَ مِن الدَّوابِّ، والغالب أن يُراد بها الجَمَل.
قال: مَن سمعتموه يقول ذلك؛ فقولوا له: «لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ»، لماذا؟ لأنَّ نشيدةَ الضَّالَّة ليسَ محلُّها المسجد؛ لأنَّ المساجدَ إنَّما بُنِيَت للصَّلاةِ والطَّاعة، قال: «فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَ» أي: لنشدان الضَّالَّة.
{(وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا وَجَدْتَ, إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ». رَوَاهُ مُسلمٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُتَّصِلًا ومُرْسَلً)}.
قوله: (أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ) أي: رفَعَ صوتَه طالبًا مِن النَّاس أن يخبروه إن كان واحدٌ منهم قد وَجَدَ دابَّتَه.
(فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟) أي: مَن الذي وَجَدَ منكم الجملَ الأحمرَ؟ فدعا النَّاس ليتعرَّفوا عليه.
(فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا وَجَدْتَ») هذا الدُّعاء لئلا توجد ضالَّته، وذلك لاشتغاله بالأقل، وهو نُشدان الضَّالَّةِ، وتركِهِ الأعلَى، وهو الاشتغال بأنواعِ الطَّاعات.
وقال: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ» أي السَّبب الذي دعا النَّاسَ إلى أن يَبنوا المساجدَ، هو ما ذُكر لكم، «لِمَا بُنِيَتْ لَهُ».
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَو يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ»، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ", وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ)}.
نعم، هذا الحديث يتوافَق مَع مَا مَضَى من النَّهي عَن نُشدان الضَّالَّة في المسجد، ومثله أيضًا: النَّهيُّ عن البيعِ والشِّراء في المساجدِ، وظاهرُ هذا أنَّ هذا البيعَ لا يصحُّ، كما قال بذلك بعضُ الحنابلَة، والجمهورُ يُصحِّحُون هذا العَقَدَ.
وفيه: الدُّعاء على الآخرين الذين عندَهم معصية، متى كان الدُّعاء سيبعدُهم عن معصيةِ الله، فإنَّه قال: «لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ»؛ لأنَّه اشتغلَ بالتِّجَارَة، واستعملَ المسجدَ في هذه التِّجارَة، فنَاسبَ أن يَدعوَ عليه بما يقطع ما لديه من السُّوء.
قال: «وَإِذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً» أي: يطلب مَن شاهدَ فيه الضَّالَّة، «فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ»؛ لأنَّهم رَفَعُوا أصواتَهم في المسجدِ، والمسجدُ لذكرِ الله -سبحانه وتعالى.
أسألُ اللهَ -جلَّ وعلا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلَنا وإيَّاكم مِن الهُدَاةِ المهتدين، كمَا أسألُه -جلَّ وعلا- أن يُصلِحَ أحوالَ الأُمَّةَ، وأن يُباركَ فيهم، وأن يحقِنَ دماءَهم، وأن يُوفِّقَ ولاةَ أمرهم لكلِّ خيرٍ، كما أسأله -جلَّ وعلا- أن يُوفِّقَ ولاةَ أمرِنا لِما يحبُّ ويرضى.
اللَّهمَّ وَفِّق مُخرجنَا الكريم، ومَن يعمل مَعَه في ترتيبِ هذا اللقاءِ وتهيئتِه، باركَ الله فيكَ على حُسنِ تقديمِكَ لهذا اللِّقاءِ، وغفرَ الله ذنبَكَ، هذا والله أعلم، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا مُحمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------
[27] صحيح البخاري (734).
[28] صحيح البخاري (4049).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك