الدرس الأول

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7130 24
الدرس الأول

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فأرحبُ بكم إخواني المشاهدين الكِرام في لِقاءٍ متجدِّدٍ مِن لِقاءاتنا في دراسةِ كتابِ "المُحرَّر" للحافظِ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
ونتدارسُ في هذا الفصلِ عددًا مِن الأبوابِ الفقهيَّة، التي أوردَ لها المؤلفُ أحاديثَ مِن أحاديثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، المتعلِّقة بتعريفِ الأحكامِ الفقهيَّة، ممَّا يُسمَّى عند أهلِ العلمِ بأحاديثِ الأحكامِ.
وكنَّا توقَّفنا فيما أظنُّ عندَ بابِ صلاةِ الجماعةِ، ولعلَّنا نستمعُ لقراءةِ شيءٍ مِن الأحاديثِ في هذا، ثمَّ بعدَ ذلكَ لعلَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- أن يَمنَّ علينا بشيءٍ من فِقهها وأحكامِها. فليتفضَل الشَّيخُ مشكورًا بالقراءة.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمُستمعين وللمُشاهدين، ولجميعِ المسلمين.
قال ابن عبد الهادي: (بَابُ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ: «بِخَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةً» رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَفِي حَدِيث أَبي هُرَيْرَةَ: «بِخَمْسَةٍ وَعِشْرينَ جُزْءً» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
قولُ المؤِّلفِ هنا: (بَابُ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ) أُضيفت الصَّلاة هنا إلى صفتِها؛ لأنَّ الصَّلاةَ إمَّا أن تُؤدَّى على جهةِ الإفرادِ، وإمَّا أن تُؤدَّى على جهةِ الاجتماعِ، ممَّا يُسمَّى بصلاةِ الجماعةِ، وصلاةُ الجماعةُ يُراد بها: أداءُ الصَّلواتِ المفروضةِ جماعةً، فإنَّ أداءَ الجماعةِ له ثلاثة أنواعٍ:
-       نوعٌ على جهةِ الاستحبابِ بالاتِّفاقِ، وذلك في صلاةِ التَّراويحِ، وصلاةِ الاستسقاءِ وما مَاثلهما.
-       والنَّوعُ الثَّاني: صلاةٌ تُؤدَّى جماعةً بدونِ أن يكونَ هناك اتِّفاقٌ عليها، بحيث لو حصَلَت الجماعةُ اتفاقًا جازَ، ولا يحسُنُ أن يُرتَّب ذلك، ومِن أمثلةِ هذا: صلاةُ اللَّيلِ في غيرِ رمضان، فإنَّ الأصلَ أن يُصلِّي الإنسانُ وحدَه، لكن لو اجتمعَ جماعةٌ في ليلةٍ بغيرِ اتِّفاقٍ مُسبَق، وأرادوا أن يصلُّوا صلاةَ اللَّيلِ جماعةً فلا بأسَ، فقد صلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ اللَّيالي جماعةً، لكن بدونِ أن يكونَ هناك ترتيبٌ مُسبَق، فصلَّى مرةً بابن عباسٍ، وصلَّى مرةً بحذيفة، وصلَّى مرةً بابن مسعود، في أحاديثَ وردت في ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
-       والنَّوعُ الثَّالث: أداءُ الصَّلواتِ الخمسِ المفروضةِ جماعةً، وبالاتِّفاق أنَّ صلاة الجماعة في الصَّلواتِ الخمسِ أمرٌ مشروعٌ، وأنَّه يُرتَّب عليه الأجر والثَّواب، وأنَّه مَعلمٌ مِن مَعالمِ الإسلامِ، وشَعيرةٌ من الشَّعائرِ الظَّاهرة، ولكن هل أداءُ الصَّلاةِ جماعة مِن الأمورِ الواجبةِ؟ أو هو مِن الأمورِ المستحبَّة؟
هذا ممَّا وقعَ فيه خلافٌ بينَ أهلِ العلمِ، ومُحصَّلُ الخلاف أنَّه يعودُ إلى ثلاثةِ أقوالٍ:
-       منهم مَن يقولُ: إنَّها واجبةٌ على الأعيانِ مِن الرِّجالِ القادرين، وهذا مذهبُ أحمد.
-       ومنهم مَن يقولُ: هي سُنَّة، ويريدون بالسُّنَّة أنَّه لا يُعاتَب مَن تركها مرةً أو مرتين، ولكن يَلحق اللَّومُ لمَن تركها بالكليَّة.
-       وهناك مَن قال: إنَّها على الاستحباب.
ومِن الأدلَّة التي وردت في هذا الباب: حديثُ ابن عمر الذي ذكره المؤلِّف هنا، وقد تقدَّم معنا بحثُ أداءِ الصَّلاةِ في المسجدِ، ولكن الكلام الآن في الجماعة، هل هي واجبة في الصَّلوات المفروضة؟ أو لا.
-       هناك قولٌ رابعٌ ورد عن ابن عباس، وقد اختاره بعضُ الظَّاهريَّة، يقول: إنَّ الجماعةَ شرطٌ في الصَّلاةِ المفروضةِ، ولعلَّنا نأخذ الأحاديثَ ثمَّ بعد ذلك نتدارسُ هذه الأقوال من خلال هذه الأحاديث.
أورد المؤلِّفُ حديثَ ابن عمر: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وهذا الحديثُ متَّفقٌ عليه، رواه البخاري ومسلم، وفيه: أنَّ صلاة الجماعة أمرٌ مشروعٌ، مُرَغَّبٌ فيه شرعًا، وأنَّها أفضلُ من صلاةِ المنفردِ، وفيه دلالةٌ على أنَّ صلاةَ المنفردِ صحيحةٌ، إذ لو لم تكن صحيحةٌ؛ لم تكن مفضولة، ومادامت أنَّها مفضولة، إذن فيها أجرٌ وثوابٌ، ممَّا يدلُّ على صحَّتِها، وقد استَدلَّ بعضُ العلماءِ بهذا الحديثِ على عدمِ وجوبِ صلاة الجماعة.
قالوا: لأنَّه جعلَ صلاةَ الفذِّ "المنفردِ" مفضولة، مأجورًا عليها. ولكن هذا الاستدلال فيه نظرٌ، فإنَّ هذا الحديثَ لا يدلُّ على الوجوبِ، ولا على عدمِ الوجوبِ، وإنَّما يُؤخَذُ الحكمُ مِن أدلَّةٍ أخرى، إذ إنَّ المفضول قد يُثاب عليه، وقد يكون ممنوعًا مِن أدائِه انفرادًا، لكن يُؤجَر العبدُ عليه، ولهذا صورٌ متعددةٌ في الشَّريعة، قد يكون هناك أمرٌ متعيِّنٌ وواجبٌ، ولكن إذا تركه العبدُ وفعل ما يقابلُه أُجرَ عليه أجرَ المندوبِ، وإن كان يأثمُ إثمَ تركِ الواجبِ.
وقد يُستَدلُّ بهذا الحديثِ من جهةِ أنَّه أثبتَ له أجرًا، ولمْ يُثبت له وِزرًا، وكما تقدَّم أنَّ هناك أحاديث في البابِ تدلُّ عليه، ولعلَّنا نُرجِئُ البحثَ في المقارنةِ بينَ قولي الوجوبِ والاستحبابِ لتلكَ الأحاديث.
وقوله هنا: «بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»، وفي الأحاديث الأخرى: «بِخَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ» لعلَّه نظرَ في صلاة الجماعة مرَّة إلى ذاتِ الصَّلاةِ، ومرَّة إلى ما يُقارنها، مثل الذِّهاب إلى المسجدِ، فإنَّ العبدَ يُؤجرُ على ذلك، ولم يُبيِّن نوعَ الدَّرجةِ، ولكن هذا يدلُّك على وجودِ الميزة والرُّتبة، والتَّفضيلِ لصلاةِ الجماعةِ.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لقدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَو يَعْلَمُ أَحَدُهُم أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِيْنًا أَو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ-، وَمُسلمٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ: «أَو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ»)}.
هذا الحديث مِن عمدةِ مَن يرى وجوبَ صلاةِ الجماعةِ، قال: لا يُهَمُّ بإنزالِ العقوبة إلا في تركِ واجبٍ، ولمَّا همَّ بإنزالِ هذه العقوبة، دلَّ على أنَّ صلاةَ الجماعة واجبة، واستدلَّ به على التَّعزيرِ الماليِّ، كما يقول بذلك فقهاءُ الشَّافعيَّة، وكان أكثرُ الفقهاء لا يرون أنَّ التَّعزيرَ لا يدخلُ في أبوابِ المال، لمَّا وردَ في النُّصوصِ مِن حرمةِ المالِ، وقولُ الشَّافعيَّة أظهرُ لعددٍ مِن الأدلَّة، منها حديث الباب.
وقوله: «أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤذَّنَ لَهَ»، فيه مَشروعيَّةُ الأذانِ، وفي الحديثِ جوازُ أن يُنيبَ الإمامُ غيرَه في صلاةِ الجماعةِ، مِن أجلِ أداءِ الأمرِ المشروعِ، أو مِن أجلِ القيامِ بالواجبِ الشَّرعيِّ، وفيه دلالةٌ على أنَّ مَن كانَ عندَه عملٌ يُعذرُ به، فإنَّه يجوزُ له تركُ الجماعةِ، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم همَّ أن يترك الجماعةَ في تلكَ الصَّلاة في المسجدِ، وفيه دلالةٌ على وجوبِ صلاةِ الجماعةِ في المسجد.
وقوله: «ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُم»، ورد عندَ الإمامِ أحمد، لكن بسند ضعيف، أنَّه إنَّما تركَ ذلك مِن أجلِ ما فيها مِن النِّساءِ والذُّرية، فقال بعضهم: هذا دليلٌ على عدمِ وجوبِ الجماعة على النِّساءِ.
وقوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، فيه قَسَمُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لتأكيدِ الكلامِ.
«لَو يَعْلَمُ أَحَدُهُم أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِيْنً» المرادُ به العظمُ الذي عليه لحمٌ، «أَو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ» المرادُ بهما العظمانِ اللذان يكونان في السَّاعد، «حَسَنَتَيْنِ» يعني عليهما لحمٌ يتمكَّن مِن عرشه، «لَشَهِدَ الْعِشَاءَ» وهذا فيه دلالةٌ على أنَّهم يُقدِّمون أمرَ الدُّنيا على أمرِ الآخرة.
وهذا الحديث متَّفقٌ عليه، وفيه دلالةٌ على أنَّه لم يكن في وقتِ الصَّلاةِ أحدٌ يبيع أو يشتري، وكانت الطُّرقات تخلو، وأولئك المنافقون الذين لا يشهدون الصَّلاة يذهبون إلى بيوتِهم، ولا يبقون في حَوانيتِهم، ولا في طُرقاتِهم، ممَّا يدلُّ على أنَّ الشَّأنَ في زمنِ النُّبوَّة أنَّه لا يوجد بيعٌ بعد النِّداءِ للصَّلواتِ المفروضةِ، وهذا فيه دلالةٌ على مشروعيَّة إغلاقِ المحلَّات في وقتِ الصَّلاةِ، وأنَّ هذا لا ينحصرُ بوقتِ صلاة الجمعة، بل يشملُ بقيَّة الصَّلواتِ المفروضة.
{(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلأَحْمَدَ وَأَبي دَاوُد وَالْحَاكِم -وَقَالَ: عَلَى شَرطهمَا-: «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجْنَ إِلَى المَسَاجِدِ، وبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»)}.
نعم، هذا الحديثُ متَّفقٌ عليه، قوله: «لَا تَمْنَعُو» هذا خطابٌ للرِّجالِ، بأنَّه لا يجوز لهم منعُ النِّساءِ مِن الخروجِ إلى المساجدِ لأداءِ صلاةِ الجماعة، وفيه مشروعيَّةُ أداء النِّساءِ للصَّلاة في المسجد، ومشروعيَّةُ صلاة النَّساءِ صلاة الجماعة، وفيه أنَّ المرأة لا تخرج للصَّلاة إلا بإذنٍ من الزَّوجِ، فإذا كان ذلك في الخروج للصَّلاة، فالخروجُ إلى غيرِ الصَّلاةِ مِن باب أولى، وذلك لأنَّ مِن مقتضى عَقد الزَّوجيَّة: حِلُّ انتفاع الزَّوجة في كلِّ وقتٍ، وهذا يقتضي أنَّها لا تخرج إلا بإذنِه، أو لشرطِ شَرَطته المرأةُ على الزَّوجِ في عقدِ النِّكاح، فما شرطته فإنَّها لا تحتاج معه إلى إذنٍ.
وبعضُ النِّساء قد تستأذن مِن الزَّوجِ الإذن العام، وحينئذٍ فلا بأسَ أن يأذَن الرَّجلُ الإذنَ العامَّ، وإذا حصل الإذنُ جازَ لها الخروج، ولم تحتجْ إلى استئذانِه في كلِّ خروج بعينه.
وقوله: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» استدلَّ به بعضهم على أنَّ المرأةَ يجوزُ لها أن تعتكِفَ في المسجدِ، لكن يكون بإذنِ الزَّوجِ، أمَّا إذا كانت المرأةُ ستتركُ واجبًا من الواجبات عليها فلا يُشرع لها الاعتكاف، وذلك لأنَّه لا يصح للعبد أن يفعل نافلةً تتضمَّن تركَ واجبٍ من الواجبات.
وقوله في هذا الخبر: «وبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» فيه دلالةٌ على أنَّ صلاة المرأة في البيت خيرٌ من صلاتها في المسجد، وفيه دلالة على أنَّ الأفضل في حقِّ المرأة، أن تقرَّ في بيتها، قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: 33].
{(وَعَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ إِمْرَأَةِ عبدِ اللهِ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ المَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيْبً» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
في هذا جوازُ أداء المرأة لصلاة الجماعة في المساجد، وفيه أيضًا عدم جواز التطيب للمرأة عند خروجها، بما يكون في الطُّرقات، ويمكن أن يجد الرِّجال ريحها؛ لأنَّه إذا نُهِيَ عن ذلك عند الذِّهاب إلى المسجد، فغيرُه مِن أنواعِ الذِّهاب من باب أولى.
وقوله هنا: «طِيْبً» نكرة في سياق النَّهي، فيكون عامًّا لجميع أنواعِ الطيب، سواءً كان بالبخورِ، أو كان بالعطورِ، أو بغيرِها مِن أنواعِ الطِيب.
وفي هذا دلالة أيضًا على أنَّ المرأة لا تتزيَّن في ثيابِها التي يراها النَّاسُ عليها عند خروجها للمسجدِ، فالثِّيابُ الظَّاهرةُ لا تكون محلَّ زينة، حتى ولو كانت الزِّينة بوضعِ كتابةٍ، أو بزخرفةٍ، أو بلونٍ، أو بنحوٍ ذلك، فإنَّ المرأةَ تُمنع من ذلك كله، سواءً في ذهابها للمسجد، أو في ذهابها لغيره.
{(وَعَنْ أَبي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُم إِلَيْهَا مَمْشَىً فَأَبْعَدُهُم، وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ ينَامُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ فِي جَمَاعَةٍ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُم إِلَيْهَا مَمْشَىً» فيه دلالةٌ على أن بُعدَ الإنسانِ من المسجدِ لا يمنعه مِن وجوب صلاةِ الجماعةِ عليه، ومشروعيَّة صلاة الجماعة، وفيها دلالةٌ على عِظم أجرِ مَن ابتعد عن المسجد، وقد ورد أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يَحطُّ عن المسلمِ سيئةً، ويرفعه بها درجةً في كلِّ خطوةٍ يخطوها إلى المسجد.
وقوله: «وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ» أي: يجلس حتى يأتي الإمام، وكان المرادُ في ذلك صلاة العشاء، فإنَّ الإمامَ يتأخَّر، فربَّما بعضُ النَّاس يخشى على نفسِه مِن أن يغلبه النَّوم، ولذلك إذا دخلَ الوقت صلَّى، ثمَّ ذهبَ إلى محلِّه لينامَ.
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ أهلّ الأعذارِ يجوزُ لهم تركُ صلاةِ الجماعة، لكن ليس فيه دلالةٌ على عدمِ وجوب صلاةِ الجماعةِ بالكليَّة.
وفيه أنَّ صلاة المسجدِ لا يقيمها إلا الإمام، يعني لو كان هناكَ أفرادٌ يريدون أن يصلُّوا قبلَ أن يُصلي الإمام، فيصلُّونها فُرادى، لا يصلُّونَها جماعةً في المسجد، وفيه دلالةٌ على أنَّ الصَّلاة مع الإمامَ أفضلُ وأعظمُ أجرًا، حتى ولو كان ذلك الإمام ممَّن لديه شيءٌ من المؤاخذاتِ الشَّرعيَّة، وفي هذا إشارةٌ إلى صحَّةِ إمامةِ مَن كانَ عندَه شيءٌ من المعاصي، كما يقول الجمهور، خلافًا للحنابلة.
{(وَرَوَى هُشَيْمُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرطِ مُسلمٍ، وَقد أُعِلَّ بِالْوَقْفِ)}.
نعم، هذا الحديث من أدلَّة مَن يرى أنَّ صلاة الجماعة شرطٌ في صحَّة الصَّلاةِ، ويقولون: إنَّ مَن كان مِن غيرِ أهلِ الأعذار، لم يصح له أن يُصلِّي الصَّلوات المفروضة إلا مع الجماعة، ولا يجوز له، ولا تصحُّ صلاته إذا صلَّى مُنفردًا، وهذا مذهبُ ابن عباس، وهو قولُ بعضِ التَّابعين، وقولُ بعضِ الظَّاهريَّةِ، واستدلُّوا عليه بهذا الخبر، وهذا الخبرُ قد اختُلف فيه، فظاهرُه الصِّحَّة، وأنَّه على شرطِ مسلم، فرجالُه رجالُ مسلم، لكن فيه علتان:
أولاهما: أنَّه من رواية هشيم بن بشير، وهو مدلِّس، وقد عنعن.
وثانيهما: أنَّ جماعة مِن أهل العلم يروونَه موقوفًا على ابن عباس، من قوله رضي الله عنه، وليس مرفوعًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وهناك وجهٌ ثالثٌ ردَّ به الجمهور هذا الخبرَ، وهو: قوله: «فَلَا صَلَاةَ لَهُ» لا تعني عدمَ الصِّحة، وإنَّما المرادُ: لا صلاةَ له كاملةً، لكن هذا مِن التَّأويلِ، والتَّأويلُ إن كان معه دليلٌ قُبِلَ، وإن كان بدون دليلٍ لم يُقبل، وهنا التَّأويل قد استندَ إلى الحديثِ السَّابق: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»[1]، وحينئذٍ نؤهِّلُ هذا اللفظ.
وقوله: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» ظاهره أنَّه يشمل كلَّ مَن سمعَ، ولكن خُصِّصَ أهل الأعذار، مثل المرضى، وكذلك خُصِّصَ النِّساء.
وقوله: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ»، المراد بالنِّدَاء: الأذان، وبعضُ أهلِ العلمِ قال: الإقامة، لكنَّ الأوَّلَ أشهرُ.
والمراد بسماع النِّداء: أن يسمعه حكمًا، وإن لم يسمعه حقيقة، يعني لو وُجد عندنا أصم لا يسمع، فإنَّنا نقول: يلزمْه أداءُ الصَّلاة جماعةً. لماذا؟
لأنَّ مثلَه يسمعه، ومِن هنا قال بعضُ أهلِ العلم: نُقدِّر في الواجب، واجب أداء صلاة الجماعة أن يكونَ على كلِّ مَن شَأنه أن يسمع النِّداء، وحينئذٍ نظروا إلى وقت سكون الأصوات، وبعض الفقهاء قاسه، فوجده ثلاثة أميال، قرابة الخمسة كيلو.
وقوله هنا: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ» يعني: لم يأتِ لصلاة الجماعة، الذين معهم هذا المنادي، «فَلَا صَلَاةَ لَهُ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ»، فيه دلالة على صحِّة صلاةِ أهلِ الأعذارِ إذا تركوا الجماعةَ عندما يكون عُذرهم يمنعهم مِن صلاة الجماعة.
وفيه دلالةٌ على إثباتِ الأجرِ والثَّوابِ مع الصِّحَّةِ لأهلِ الأعذارِ، فكأنَّهم ينالون جميعَ أجرَ مَن صلَّى جماعةً، لكونِهم لم يمنعهم عن صلاة الجماعة إلا ذلك العذر.
والقاعدة الشَّرعيَّة: أنَّ مَن رغبَ في الطَّاعة، وفعلَ أسبابها، ثم عجزَ عن الإتيان بها لِعذرٍ خارجٍ عن إرادتِه، كُتبَ له أجرُ ذلكَ العمل، وكما في الحديث: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا ، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ» ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ، قَالَ : «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»[2]، وكما في الحديث الآخر: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً»[3].
{(وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَأْمُرُ مُؤذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ, فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَو الـمَطِيْرَةِ فِي السَّفَرِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ البُخَارِيِّ)}.
في هذا الحديث دلالةٌ لقولِ مَن يقول بوجوب صلاةِ الجماعة؛ لأنَّه رخَّصَ لهم عند نزولِ الأمطارِ، أو وجودِ البردِ الشَّديدِ بتركِ صلاةِ الجماعة، ففي هذا بيانُ بعضِ الأعذارِ التي يسقط بها وجوبُ صلاةِ الجماعة.
وقوله: (فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ) منطقة أو مكان (ثُمَّ قَالَ) يعني في وسط الأذان، (صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ).
متى يقول ذلك؟ هل هو قبل أذانه؟ أو بعد الأذان؟ أو في أثنائه؟
الأول مستبعد؛ لأنَّه قال: (ثُمَّ قَالَ)، معناه أنَّه ليس قبل الأذان، ولذا قال طائفةٌ: إنَّ هذه اللَّفظة تُقالُ بعدَ الانتهاءِ مِن الأذان.
وقال آخرون: تُقال في وسط الأذان، بدلَ أن يقول: حيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حيَّ عَلّى الفّلاحِ، يقول هذا اللفظ: (صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ).
وقوله: (كَانَ يَأْمُرُ مُؤذِّنًا يُؤَذِّنُ) يعني النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، (ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ).
قوله: (فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ) يعني: كان ذلك في اللَّيلة الباردة أو الـمَطِيْرَةِ، وفيه ذكرُ بعضِ أسبابِ وموانعِ وجوبِ صلاة الجماعة، كالبردِ الشَّديدِ، أو الأمطارِ، وقد استُدلَّ بهذا الخبرِ على أنَّ صلاتي الظُّهر والعصر لا يُجمع بينهما في الأمطار، إذ لو كان يُجمع بينهما لجَمَعَ، وقالوا: إنَّ الجمعَ إنَّما يكونُ بينَ المغربِ والعِشاء، كما قال بذلك الحنابلة والمالكيَّة، قالوا: لأنَّ الخبر إنَّما وردَ للجمعِ بينَ المغربِ والعشاءِ في المطرِ، والقاعدةُ الشَّرعيَّة: الرُّخصُ لا يتعدى بها محالُّها.
وأمَّا بالنَّسبةِ لصلاتي الظُّهرِ والعصرِ، فإذا اشتدَّ الحالُ مِن مطرٍ أو بردٍ، فإنَّه ينادَى بمثل هذا النِّداء.
{(وَرَوَى أَبُو دَاوُد منْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذلكَ فِي المدِينَة فِي اللَّيْلَةِ الـمَطِيْرَةِ والغَداةِ القَرَّةِ)}.
ابن إسحاق، هو: محمد بن إسحاق بن يسار، صاحبُ السِّيرة، وهو ثقةٌ في روايات السِّيرة، في غيرها هو صدوقٌ، ولكنَّه مُدَلِّس، لا يُقبل مِن حديثه إلا ما صرَّح فيه بالسَّماعِ، وهنا قد رواه بالعنعنةِ.
قوله: (نَادَى مُنَادِي) يعني المؤذِّن بذلك، يعني بلفظةِ: (صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ)، (فِي المدِينَة) في المسجدِ النَّبويِّ، (فِي اللَّيْلَةِ الـمَطِيْرَةِ والغَداةِ القَرَّةِ).
القَر: البردُ الشَّديدُ.
والغداةُ: يعني الصَّباح في الفَجرِ.
{(وَعَنْ أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثُّومِ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّا وَلَا يُصَلِّي مَعَنَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
في هذا الحديث: وجوب أن يبتعدَ الإنسانُ عن الرَّوائحَ المكروهة عند ذهابِه لأداءِ صلاةِ الجماعةِ؛ لأنَّ الشَّريعةَ نهت عن إيذاء المؤمنين والملائكة، ومِن إيذائهم وجودُ الرَّوائحَ المكروهة، ولهذا يجبُ على المسلم أن يَتَنَقَّى ويتطهَّر قبلَ ذهابِه للمسجدِ مِن الرَّوائح، ومِن ذلك مثلًا رائحةُ الطَّبخِ، ورائحةُ الدُّخان، وهكذا رائحةُ بعضِ أنواعِ البويا التي يكون لها رائحةٌ نفَّاذة قويَّة.
وقوله هنا: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» يعني اليوم «فَلَا يَقْرَبَنَّ» أي لا يكون قريبًا منَّا، «وَلَا يُصَلِّي مَعَنَ»، ففيه دلالةٌ على أنَّ صاحب الرَّائحة يجبُ عليه تغيير رائحتِه قبلَ أن يقدُمَ إلى المسجدِ، ومَن لم يكن محتاجًا للثَّومِ، فإنَّه لا يجوزُ له أن يأكلَه قبل الصَّلاة؛ لأنَّ القاعدةَ الشَّرعيَّة: أنَّه يجبُ على المكلَّف تركُ ما يؤدِّي إلى تركِ الواجبِ.
وبالتالي يجبُ عليه أن يتركَ أكلَ الثَّومِ قبلَ ذهابِه للصَّلاة، إلَّا أن يكونَ مضطرًا لذلك.
{( وَعَنْ يزِيدِ بنِ الأسْوَدِ رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَدَعَا بِهِما، فَجِيءَ بِهِما تُرْعَدُ فَرَائِصُهُما، فَقَالَ لَهُما: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيا مَعَنَا؟» قَالَا قَدْ صَلَّينَا فِي رِحَالِنا، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَا، إِذا صَلَّيْتُم فِي رِحَالِكُمْ ثُمَّ أَدْرَكْتُمُ الإِمَامَ -لَمْ يُصَلِّ- فَصَلِّيَا مَعَهُ فَإِنَّهُ لَكُمْ نَافِلَةٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ-وَصَحَّحهُ-)}.
(عَنْ يزِيدِ بنِ الأسْوَدِ رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ) أي صلاة الفجر، بمنى، يعني في مسجد .. (وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ) الذي هو يزِيدِ بنِ الأسْوَدِ، ( فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا هُوَ بِرَجُلَيْنِ) يعني خلفَ القومِ ( لَمْ يُصَلِّيَ) كانا واقفين، والقومُ جلوسٌ بعد سلامهم، (فَدَعَا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بِهِم) وفيه تفَقُّدِ الإمام لأحوالِ النَّاسِ، وخصوصًا الدِّينيَّة، وأنَّه عليه أن يلاحِظ مَن كان يتَخَلَّف عن الواجباتِ الشَّرعيَّةِ.
(فَجِيءَ بِهِم) يعني بهذين الرَّجلين (تُرْعَدُ فَرَائِصُهُم) أي: ينتفضانِ بسببِ أنَّهما خشَيا أن يكون عليهما شيءٌ كبيرٌ، أو ممَّا يدلُّ عليه دعاءُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لهما، وطلبه إحضارهما.
وهناك جملة لم تُذكر هنا، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لهما: «على هونكما، إنما أنا ابن أنثى»[4]، يريد أن يسكِّنهما، ثم قال لهما: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيا مَعَنَا؟» أي: ما السَّببُ الذي جعلكم تمتنعانِ مِن الصَّلاةِ معنا؟
فقال الرَّجلانِ: (قَدْ صَلَّينَا فِي رِحَالِن) أي: قد صلينا صلاة الفجر في الرِّحالِ، أي في مواطِنِ السَّكنِ، سواءً عند الدَّوابِّ، أو عندَ الخيامِ.
وفي هذا دلالة على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلِّي صلاةَ الفجرِ في أوَّلِ دخولِ وقتِها، وأنَّه كان يؤخِّرُها قليلًا، بدلالةِ أنَّ هذين الرَّجلين صليا صلاةَ الفجرِ، ثم جاءا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَلَا تَفْعَلَ»:
يحتمل: لا تصليان في رحالِكما، وأنتم تعلمون أنَّ أمامَكم جماعة.
ويحتمل: لا تفعلان، أي: لا تتوقَّفا عن الصَّلاة إذا جئتم إلى النَّاس وهم يُصلُّون، ولو كان قد سبق منكم أنَّكم صلَّيتُما هذه الصَّلاة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إِذا صَلَّيْتُم فِي رِحَالِكُمْ ثُمَّ أَدْرَكْتُمُ الإِمَامَ -لَمْ يُصَلِّ- فَصَلِّيَا مَعَهُ»، فالأصلُ في الأمر هنا في قوله «صَلِّيَ»: أن تكون للوجوب، لكن حملناها على الاستحباب؛ لقوله: «فَإِنَّهُ لَكُمْ نَافِلَةٌ» والنَّفل الزَّيادة؛ لأنَّه زيادةٌ عن الواجبات.
وفي هذا خلاف في عَودِ الضَّميرِ في قوله: «فَإِنَّهُ»، هل يعود إلى الصَّلاة الأولى؟ أو يعود إلى الصَّلاة الأخيرة؟
والصَّواب: أنَّه يعودُ إلى الصَّلاةِ الأخيرة؛ لأنَّها هي المقصودةُ بالكلامِ، ولأنَّها هي أقربُ مذكورٍ هنا، وبالتَّالي فإنَّ الصَّوابَ أنَّ الصَّلاةَ الأولَى هي الفرضُ الواجبُ، وأنَّ الصَّلاة الثَّانية هي المستحبَّة.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ لي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ؟ فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيصَليَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «هَل تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَجِبْ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديثُ قد أخرجه الإمامُ مسلمٌ، ولا يصحُّ لأحدٍ مطعنٌ فيه، قوله: (أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى) أي جاء إليه يسألُه عن صلاةِ الجماعةِ، وقد قيل إنَّه ابن أم مكتوم، وذلك أنَّ ابنَ أمَّ مكتومٍ يحضر أوقاتَ ندائِه وأذانِه، وأرادَ أن يُرخَّصَ له في عدمِ الإتيانِ لبقيَّة الصَّلواتِ.
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ) على جهة السُّؤال (لَيْسَ لي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ؟) لأنَّه رجلٌ أعمى، يحتاج إلى مَن يُبصِّره الطَّريقَ، وقد وردَ في بعضِ ألفاظِ الخبرِ، أنَّه ذكرَ عِللًا ومَوانعَ بينَه وبينَ المسجدِ.
فسألَ الرَّجلُ الأعمى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، (أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ) أي أن يَأذَنَ له في تَركِ صلاةِ الجماعةِ، والأصلُ في الرُّخصة: التَّرخيصُ، والتَّخفيفُ على المكلَّفِ.
العلماءُ يقولون: إنَّها وجودٌ للعلَّةِ مع تخلُّفِ الحكمِ والمعلولِ، فهنا النِّداءُ قد وُجدَ، وهو الذي يُعلَّق عليه وجوبُ صلاةِ الجماعةِ، ومع ذلك أرادَ ترخيصًا في حقِّ نفسِه لوجود العمى، (فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيصَليَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ) في أوِّلِ الأمرِ (فَلَمَّا وَلَّى) أي ذهبَ عائدًا، وجَعَلَ ظَهرَه تجاهَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، (دَعَاهُ) يعني أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَبَ منه الحضورَ إليه والرُّجوعَ مرةً أخرى، (فَقَالَ: «هَل تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟») أي: هل يَصلُكَ صوتُ الأذانِ أو لا؟
وكما تقدَّم أنَّ هذا اللفظ يشملُ الأصمَّ؛ لأنَّ مثله يسمع، فقال الرجل: (نَعَمْ) يعني أنَّه يسمع النِّداء بالصَّلاة، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِبْ»، فيه دلالةٌ على أنَّ المفتي يستفصِل في حالِ المستفتي؛ حتى تكون فتواه واقعة على مسألته.
وفي هذا رجوعُ المفتي عن فتواه متى تبيَّنَ له خطأُ فتواه السَّابقة، وقوله: «فَأَجِبْ» فعلُ أمرٍ، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوبِ، ممَّا يدلُّ على وجوبِ صلاة الجماعة.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ، وَإِذا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ: فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذا سَجَدَ فاسْجُدُوا، وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإِذا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِيْنَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ)}.
"إِنَّمَا" أداةٌ من أدواتِ الحصرِ، والحصرُ هنا نِسبيٌّ فيما يتعلَّق بأحكامِ الإمامةِ، «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ» يعني إمام الصَّلاة «لِيُؤْتَمَّ بِهِ» أي: لِيُقتَدَى به في الصَّلاةِ، بحيث يفعل النُّاسُ أفعالَ الصَّلاةِ معه، ثمَّ جاءَ بفاء التَّفريع، فقال: «فَإِذا كَبَّرَ فَكَبِّرُو» هذه اللَّفظة تشملُ ابتداءً تكبيرةَ الإحرام، وكذلك تشملُ بقيَّة تكبيراتِ الصَّلاة.
وفي هذا دلالة على تعيُّنِ التَّكبيرِ في بدايةِ الصَّلاةِ، كما قال الجمهور، خلافًا لبعضِ الحنفيَّةِ، فلا يُدخَل في الصَّلاةِ إلى بلفظِ التَّكبير، وقد وَردَ أنَّه يقول: "الله أكبر"، فمعناه أنَّ قولة "الله الأكبر" لا تنعقدُ بها الصَّلاة، قال: «فَإِذا كَبَّرَ فَكَبِّرُو» الفاء هنا للتَّعقيبِ، ممَّا يدلُّ على أنَّ تكبيرَ الإمامِ يسبقُ تكبيراتِ المأمومين، ولا يجوزُ أن تُقارِن تكبيراتُ المأمومين تكبيرةَ الإمامِ.
وقوله: «وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ» تصريحٌ بهذا المعنى.
قوله: «وَإِذا رَكَعَ» يعني الإمام «فَارْكَعُو» وفي هذا دلالةٌ على أنَّه لا يجوز للمأموم أن يركعَ في وقتِ ركوعِ الإمام حتى يستقرَّ راكعًا، وفيه دلالةٌ على أنَّ ركوعَ الإمام يسبقُ ركوعَ المأموم.
قوله: «وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ» فيه تحريمُ مسابقةِ الإمامِ، بالنِّسبةِ للرُّكوعِ؛ لأنَّه منصوصٌ عليه، وبالنِّسبةِ لغيرِه؛ لأنَّه يُلحَق بِه.
قال: «وَإِذا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ: فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»، فيه دلالةٌ على أنَّ المأمومَ لا يقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، واستدلَّ به بعضُهم على أنَّ الإمامَ لا يقول: "اللَّهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ"، والصَّواب: أنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ، وما وردَ في الخبرِ فيه إثباتُ هذا اللَّفظِ للمأمومِ، وليس فيه نفيه عن الإمام.
وقوله: «فَقُولُو»، فيه دلالة على أنَّ المأموم لا يقول لفظَ التَّحميدَ حتى ينتهي الإمامُ من لفظِ التَّسميعِ "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، وجملة التَّسميع تحتمل أن يُراد بها إجابة الدُّعاء، كما في قوله واصفًا نفسه: ﴿لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: 39].
ومن هنا يؤخَذ استحبابُ حمدِ الله -عزَّ وجلَّ- في أثناءِ الدُّعاءِ.
وبعضهم قال: إنَّ "سمع" بمعنى الحفظ، وكما في قوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]، لكن الأوَّلَ أقربُ؛ لأنَّه المتوافِقُ مع السِّياقِ.
وقوله: «اللَّهمَّ رَبَّنَ» اللَّهمَّ: معناها يا الله، و"ربَّنا" على جهة التَّوسُّل، تذكيرُ بنعمِ الله التي أنعَمَ بِها عَلى العبدِ.
«لَكَ الْحَمْدُ» "لك" هنا جار ومجرور، قُدِّمت على "الحمد"، ممَّا يدلُّ على أنَّ الحمدَ ممَّا يختصُّ الله به، ولكن المراد هنا: الحمدُ الكاملُ، الذي لا يأتيه نقصٌ من وجهٍ من الوجوه، أمَّا حمدُ الغيرِ بدونِ أن يكونَ على جهةِ الاستغراقِ فإنَّه جائزٌ، ولذا قالت عائشة: "بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِ أَحَدٍ وَلَا بِحَمْدِكَ"[5]، ممَّا يدلُّ على أنَّ حمدَ الإنسانِ لغيرِه جائزٌ بشرطِ ألَّا يصفَه بما هو أعلى مِن صفاتِه، وأمَّا الحمدُ الكاملُ الذي لا يتطرَّق إليه نقصٌ، فهذا ليسَ لأحدٍ مِن المخلوقين كائنًا مَن كان، وإنَّما هو لله -عزَّ وجلَّ.
فالمراد بالألف واللام في "الحمد" هنا: الاستغراق.
وقوله: «وَإِذا سَجَدَ فاسْجُدُو»، أي: إذا سجدَ الإمام فاسجدوا، فيه دلالةٌ على وجوبِ السُّجودِ، وفيه دلالةٌ على أنَّ سجودَ المأمومِ تابعٌ لسجودِ الإمامِ، وأنَّه لا يجوزُ للمأمومِ أن يُسابِقَ الإمامَ في السُّجودِ، وقد صرَّحَ بذلك في قوله: «وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ»، واستدلَّ به طائفةٌ على أنَّه لا يجوزُ للمأمومِ البَدء في السُّجودِ، حتى ينتهي الإمامُ مِن انتقاله للسُّجودِ.
قال: «وَإِذا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامً»، فيه وجوب القيام في الصلاة، ووجوب متابعة الإمام في ذلك.
وقوله: «وَإِذا صَلَّى قَاعِدً» أي إذا صلَّى الإمامُ قاعدًا، «فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِيْنَ» والمرادُ بهذه اللَّفظة: الإمامُ الرَّاتب؛ لأنَّ الحديثَ يتكلَّم عنه، ويُراد بها مَن تكونُ علَّةُ تركِهِ للقيامِ عِلَّةً مؤقَّتةً، ليست علةً دائمةً.
 وفي هذا مشروعيَّةُ جلوسِ المأمومين في صلاة الفريضةِ متى كان الإمامُ عاجزًا عن القيامِ وصلَّى جالسًا، وقد ثبت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فعلَه، ولذا قال بذلك طائفةٌ مِن الصَّحابة والتَّابعين.
ومذهبُ الأئمةِ الثَّلاثةِ على أنَّ الإمامَ إذا صلَّى جالسًا، وجبَ على مَن خلفَه أن يقوموا، واستدلُّوا على ذلك بأنه آخر الأمرين من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى جالسًا، وصلَّى أبو بكر واقفًا، وصلَّى النَّاسُ بصلاةِ أبي بكرٍ، ولم يجلِسُوا، قالوا: فدلَّ هذا على نسخِ هذا الحكمِ.
وهذا فيه نظرٌ! لأنَّه يمكن الجمع بينهما، ولا يُصار إلى النَّسخِ إلا إذا عجزنا عن الجمعِ بينَ الدَّليلينِ، والجمعُ ممكنٌ، ومِن ذلك أن يُحمَل حديثَ صلاةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأصحابِه معَ أبي بكرِ على حالةِ مَن دخلَ الصَّلاةَ قائمًا، ثمَّ عرضَت لَه علَّةٌ فجلسَ؛ لأنَّ أبا بكرٍ هو الذي صلَّى بهم أولًا، هو الذي كبَّر بهم تكبيرةَ الإحرامِ، ثم جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فأُجلِسَ بجانبه، فهذا فيه دلالةٌ على أنَّ مَن جاءته علَّةٌ في أثناءِ الصَّلاةِ فجلَسَ، فإنَّ المأمومين لا يجلسون، ويُصلُّون قيامًا، ولكن مَن كانت فيه علَّةٌ قبل بدئه للصلاة؛ فجلس، فحينئذٍ يجلس المأمومون معه، ولا ينبغِي أن يُصلي بالواقفين مَن يَعجزُ عجزًا دائمًا عن الوقوفِ ويُصلي جالسًا؛ لأنَّ الأحاديث إنَّما وَرَدَت في مَن عرضَ له المَرضُ والعلَّة فصلَّى جالسًا، بخلاف مَن كان ذلك معه على جهةِ التَّأبيدِ.
فالمقصودُ: أنَّ مذهبَ أحمد على ظاهرِ الخبرِ، أنَّ الإمامَ إذا جلسَ صلُّوا خلفَه جلوسًا، وفيه عددٌ من الأحاديثِ القَوليَّة والفِعليَّة، وأمَّا الجمهورُ فقالوا: إنَّه إذا صلَّى الإمامُ جالسًا صلَّى مَن خلفَه قيامًا، ولكن مذهب أحمد أرجح لهذا الخبر، ولعدمِ صلاحيَّة المُعارضِ، أي: صلاحيَّة دليلِ المُعارض للاستدلالِ به في مسألةِ الخلافِ.
{(وَعَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه أَنَّهُم كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذا رَكَعَ رَكَعُوا، وَإِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» لَـمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى نرَاهُ قَدْ وَضَعَ وَجْهَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ نَتَّبِعُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
في هذا الحديث: أنَّ الصَّحابة كانوا يُصلُّون الجماعَة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لم يكن مِن شأنِهم التَّخلُّف عن صَلاةِ الجماعةِ.
وفي هذا الخبرِ: مشروعيَّةُ الرُّكوعِ والرَّفعِ مِن الرُّكوعِ والسُّجودِ.
وفيه: أنَّ ركوعَ المأمومِ يكونُ بعدَ ركوعِ الإمامِ، وهكذا بقيَّةُ أركانِ الصَّلاةِ.
قوله: (وَإِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ) أي الإمام، (فَقَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ») فإنَّ مَن خلفه يقولون: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، أو "اللَّهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ"، على ما تقدَّم.
قال: (لَـمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى نرَاهُ قَدْ وَضَعَ وَجْهَهُ بِالْأَرْضِ) أي: نستمر باقين واقفين حتى ولو أطال، حتى نراه قد وضعَ وجههَ بالأرضِ، وفيه دلالةٌ على أنَّ المأمومَ لا ينتقلُ إلَّا إذا استقرَّ الإمامُ في الرُّكنِ الذي يليهِ، قال: (ثُمَّ) و"ثم" تُفيدُ التَّرتيب والتَّراخي.
(نَتَّبِعُهُ) أي للسُّجود، وفيه دلالةٌ على أنَّه يُشرع للسَّاجد أن يضع جبهته بالأرضِ.
{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي الصَّحَابَةِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُم: «تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ»)}.
أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك، قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي الصَّحَابَةِ تَأَخُّرً) فيه دلالةٌ على أنَّ الإمامَ يتفقَّد أحوالَ المأمومين.
وقوله: (فَقَالَ لَهُم: «تَقَدَّمُو») فيه استحبابُ قُربِ المأمومين مِن الإمامِ، وفيه أنَّ المأمومين يقتَدُون بالإمامِ في أفعالِ الصَّلاةِ. وفيه أنَّ كلَّ جماعةٍ في الصَّلاةِ يلاحظون مَن يوالونَه، وفيه استحبابُ التبكير لصلاة الجماعة، والتقدُّم مع المصلين. وفيه التَّحذيرُ من التَّأخُّرِ عن أداءِ العباداتِ الشَّرعيَّة.
أسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يُوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاكم هداةً المهتدين، كما أسأله سبحانه أن يُصلِحَ أحوالَ الأُمَّة، وأن يجمعَ كلمتَها على الحقِّ، وأن يَنشُرَ فيها التَّوحيدَ والسُّنَّةَ، كما أسأله -جلَّ وعلا- أن يُوفِّق ولاةَ أمورِ المسلمين لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلّهم مِن أسبابِ الهدى والتُّقى والصَّلاحِ والسَّعادةِ، هذا والله أعلم، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
-------------------------
[1] صحيح مسلم (1044).
[2] صحيح البخاري (4096).
[3] صحيح البخاري (2790).
[4] اللفظ الوارد: " هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد"، ولم يرد تكملة لحديث صلاة الجماعة " سنن ابن ماجة (3311) وصحهه الألباني في صحيح الجامع
[5] صحيح البخاري (3853)، وردت في حديث قصة الإفك من حديث أم رومان: بَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ أَنَا وَعَائِشَةُ إِذْ وَلَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بِفُلَانٍ وَفَعَلَ، فَقَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: وَمَا ذَاكَ قَالَتِ ابْنِي فِيمَنْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، فَطَرَحْتُ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتُهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " مَا شَأْنُ هَذِهِ ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَتْهَا الْحُمَّى بِنَافِضٍ، قَالَ: " فَلَعَلَّ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ "، قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَعَدَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لَا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنْ قُلْتُ لَا تَعْذِرُونِي مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، قَالَتْ: وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهَا، قَالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِ أَحَدٍ وَلَا بِحَمْدِكَ"

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك