الدرس الثاني والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4424 24
الدرس الثاني والعشرون

المحرر في الحديث (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد،،
فأرحب بكم أيُّها الإخوة الكرام في لقائنا الثاني من لقاءاتنا في قراءة كتاب "الصِّيام" من كتاب المحرَّر للحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
كنَّا فيما مضى أخذنا ما يتعلق بوجوب صوم رمضان، وبتعليق هذا الواجب برؤية الهلال إفطارًا وصومًا، كما أخذنا ما يتعلق بأحكام النِّيَّة، وهل يجب تبييت النِّيَّة أو لا، وأخذنا أيضًا ما يتعلق بأحكام الإفطار، واستحباب التَّبكير به، واستحباب تناول وجبة السَّحور، وماذا يُفطر عليه، وأحكام الوصال، ولعلَّنا -بإذن الله عز وجل- أن نواصل الحديث في ذلك من خلال قراءة عدد من الأحاديث النَّبويَّة الواردة في كتاب الصِّيام.
{الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمشاهدين يا رب العالمين.
قال المصنف -رحمه الله: (وَعَنْ أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ تَعَالَى حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
في هذا الحديث تأكُّد الأمر بترك قول الزُّور والعمل به بالنِّسبَة للصائم، فإنَّ قول الزور والعمل به يُنهى عنه المسلم في كل أوقاته، ويُتَأَكَّد هذا في وقت الصَّوم، وذلك لأنَّ من علل مشروعيَّة الصوم: زرع التَّقوى في القلوب، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
ولهذا فإنَّ المؤمنَ يحرص على استفادة التقوى في شهر رمضان من خلال الإكثار من ذكر الله -عزَّ وجلَّ- وأنواع الطاعات.
قوله هنا: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ»، المراد بقول الزور: القول المجافي للحقيقة، مثل: الكذب، ومثل: اللغو، ومثل: ما يكون معارضًا للحق مجانبًا له.
قوله: «وَالْعَمَلَ بِهِ»، أي: العمل بالزُّور، وهو أنواع المعاصي والذنوب؛ لأنَّ المؤمنَ مُطالب بأن يُطيع الله -عزَّ وجلَّ- في كل أوقاته، فمعصيته زورٌ وانحرافٌ عن المقصد الذي مِن أجله خُلق.
قوله: «فَلَيْسَ للهِ تَعَالَى حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، ليس المراد بالحاجة هنا ما يعود إليه -سبحانه وتعالى- فإنَّ الله غني عن العباد وعن طاعتهم، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15]، وإنما المراد: المقصود الذي قصده الشَّرع بما يعود إلى المُكلَّفين، فإنَّ مقصد الشَّرع من إيجاب الصِّيام هو تحصيل العباد للتَّقوى، فمن لم يُحصِّل التَّقوى في أثناء الصِّيام وكان يعصي الله -عزَّ وجلَّ- بقول الزور والعمل بالزور؛ فحينئذٍ لم يتحقق في حقِّه المقصود الشَّرعي لله -عزَّ وجلَّ- في إيجاب الصِّيام عليه، فليس مقصود الشَّارع مجرد ترك الطَّعام والشَّراب، وإنما مقصوده تربية النُّفوس على التَّقوى.
{(وَعَنْ زيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» رَوَاهُ الإِمَام أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمً»، كلمة: "صائم" هنا نكرة في سياق الشَّرط، فتعمُّ صائم التَّطوع وصائم الفريضة، مع تفاوت الأجر في حقهما، فإنَّ أجر الفرائض أعظم من أجر النَّوافل.
وقوله: «مَنْ فَطَّرَ»، يحتمل أمران:
الأول: أنَّ يكون المراد به جميع وجبة الإفطار.
الثاني: يحتمل أن يُراد به أول ما يُفطر به الصائم.
والاحتمال الأول أقرب؛ لأنَّه هو الحقيقة في هذا اللفظ، فإنَّ التَّفطير يُراد به أن يتناول الإنسان ما يكون مُفطر به، أو ما يَكون قد أَروَى نفسه وأشبعها.
وإن كان آخرون رجَّحوا أن يكون المراد به أوَّل وجبة يتناولها الصائم، وقالوا: إنَّه يُعدُّ مُفطِرًا بذلك.
وقوله: « كُتِبَ لَهُ»، أي: كُتِبَ للمفطِّر.
قوله: «مِثْلَ أَجْرِهِ»، أي: أجر الصائم.
وظاهر هذا: أنَّه أجر أصل الصِّيام، وإن كان بعضهم يقول: إنَّه أجر جميع الأعمال التي أدَّها في أثناء صومه.
قوله: «إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ»، ذلك أنَّ الله لم يأخذ من أجره شيء، وإنَّما جعل مثله في حقِّ المفطِّر.
وفي هذا: أنَّه لا حرجَ على الإنسان في أن يُفطر من الصوم من طعام غيره، وأنَّ ذلك لا يُنقص من أجره شيئًا، ويُكتَب لصاحبه مثل أجره، ومتى قصد الإنسان أن ينال أخوه أجرًا يُماثل أجره في تفطيره؛ فإنَّه يُرجى لمَن نوى هذه النِّيَّة الأجر والثَّواب.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، ويُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلكنَّهُ كَانَ أَمْلَكُكُم لِإِرَبِـهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ. وَله عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ)}.
هذا الحديث اشتمل على عدد من الأحكام:
أولها: حكم التَّقبيل بالنَّسبة للصائم.
وتقبيل الزَّوجة بالنِّسبة للصائم اختلف العلماء فيه على أقوال متعددة، أشهرها:
الأول: لا يجوز للصائم أن يُقبِّل؛ لأنَّه قد يُنزلُ بسببِ ذلك.
الثاني: يجوز التَّقبيل مُطلقًا.
الثالث: يُفرِّق بين الشَّيخ والفتى، فيمنع الفتى من التَّقبيل؛ لأنَّه مظِنَّة شهوة دون الشَّيخ.
الرابع: مَن كان يغلب على ظنِّه أنَّه سيُنزل متى قبَّل حرُمَ عليه حينئذٍ أن يُقبِّل، وإن غلب على ظنِّه أنَّه لن يُنزلَ بالقُبلَةِ فلا بأس في حقِّه أن يُقبِّل، ولعل هذا هو أقوى الأقوال.
وقد ورد في القُبلَة للصائم أحاديث كثيرة، فجاء في حديث عمر أنَّه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القُبلَة للصائم، فقال: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ»[76]، وورد أنه سُئِلَ -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: «إِنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ، أَنَا وَهَذِهِ»[77]، وأشار إلى بعض نسائه.
وقول عائشة: (ويُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ)، أي: يضع جلده وجسمه مباشرة لجسم المرأة حال صيامه.
والمباشرة بالنِّسبَة للصائم على نوعين:
النَّوع الأوَّل: ما كان فيما كان أعلى من السرَّة وأدنى من الرُّكبَة، فهذا جائز باتِّفاق أهل العلم أن يُباشره الصائم.
النَّوع الثَّاني: ما بين السُّرَّة والرُّكبة، واختلفوا فيه:
- فذهب أحمد إلى جوازه.
- وذهب الجمهور إلى كراهته.
ولعلَّ قول أحمد أرجح، وما ورد أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر عائشة فتتَّزر ثم يباشرها وهو صائم ليس فيه منع من المباشرة بدون الإزار، إنما فيه فعل المباشرة مع الإزار.
وقولها: (وَلكنَّهُ كَانَ أَمْلَكُكُم لِإِرَبِـهِ) أو (لِأَرَبِـهِ):
الإرب: الحاجة.
 الأرب: العضو.
وهذا فيه إشارة إلى المأخذ الذي ذكرته قبل قليل من تعلق الحكم لكون الإنسان يغلب على ظنِّه أنَّه لن يُنزلَ متى قبَّلَ.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: (احْتَجَمَ)، المراد بالحجامة: إخراج الدَّم من الرأس، وكانوا يستشفون به في الزَّمان الأوَّل -بإذن الله عز وجل- ويرون أنَّه من أسباب العلاج.
والحجامة تكون في الرأس، وأمَّا ما في البدن فإنَّه يسمى الفصد.
وبعضهم قال: الحجامة والفصد نوعان من أنواع أخذ الدِّماء يختلفان في طريقة أخذ الدَّم.
قوله: (وَهُوَ مُحْرِمٌ)، فيه دلالة على أنَّ المحرم يجوز له أن يحتجم، وليس من محظورات الإحرام ألا يسحب الإنسان من نفسه الدَّمَ.
وفي هذا دلالة على جواز أن يُحلِّل المُحرم دمَه، وعلى جواز أن يتبرَّع بدمه متى وُجد مَن احتاج إلى الدَّم.
وظاهر هذا: أنَّه لم يأخذ شيئًا من شعره، لأنَّه لم يُذكر ما يتعلق بالشَّعر، وذلك أن المحرم ممنوع من أن يأخذ من شعره أثناء الإحرام كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة:196].
قوله: (وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ)، هذه اللفظة رواها الإمام البخاري، ولم يروها الإمام مسلم، ولذلك طعن بعضهم في هذه اللفظة وقالوا: إنَّ الصَّواب أنَّه احتجم وهو مُحرِم، وليس فيه ذكر للصوم.
وآخرون: قالوا: هذه اللفظة قد رواها الإمام البخاري، وإسناده فيها إسناد صحيح، وبالتَّالي قالوا: يجوز للصائم أن يحتجم، ولا يؤثر ذلك على صومه.
وذهب الإمام أحمد وجماعة إلى أنَّ الاحتجام يُمنَع منه الصَّائم، ويُفطر به، واستدلوا على ذلك بالحديث الآتي: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»[78]، وقالوا عن حديث الباب أنَّه كان في حال سفر النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمسافر يجوز له أن يُفطر، فقد يبتدئ الصوم وهو مسافر، ثم يحتجم، فاحتجامه هنا لأنَّه يجوز له الفطر، فأفطر بالحجامة، لا أنَّ الحجامة لا تؤثر على الصوم، وذلك لورود هذا اللفظ «أفطر الحاجم والمحجوم»، في عدد من الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي.
{(وَعَنْ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالبَقَيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ -وَهُوَ آخِذٌ بِـيَـدِي لِثَمانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ- فَقَالَ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ ظَاهِرٌ صِحَّتُهُ"، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا أَحْمدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَعُثْمَانُ الدَّارمِيِّ وَغَيرُهُم، وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: ثبَتَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ»)}.
هذا الحديث قد ورد من حديث جماعة من الصَّحابة -رضوان الله عليهم- بأسانيد مختلفة متعدِّدة يُقوي بعضها بعضًا، ولذلك فإنَّ أهل العلم من أهل الحديث يرون أنَّ هذا الخبر خبرٌ صحيح.
ولكن وقع عندهم الإشكال في كيفيَّة الجمع بين هذا الخبر وخبر ابن عباس السابق (احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ):
- القول الأول: إنَّ حديث «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ» منسوخ؛ لأنَّ ذهاب النبي -صلى الله عليه وسلم- للإحرام كان في أواخر عمره.
وهذا القول يحتاج إلى دليل، لأنه لا يصح لنا أن نثبت النَّسخ إلا بدليل.
- القول الثاني: حديث «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ» على أسباب، وليس لذات الحجامة، ففطرهم كان لأسباب أخرى، فكأنه قال: أفطر هذا الحاجم وهذا المحجوم لتناولهم شيئًا من المفطِّرات، وليس لكونهم احتجموا.
واستدلُّوا على ذلك بأنَّ المحجوم وقد أُخِذَ دمه فلا إشكال فيه، ولكن كيف يُقال عن الحاجم أنَّه أفطر.
وأجاب آخرون وقالوا: إنَّ الحاجم يدخل في جوفِه شيء مِن أبخرة الدَّم وآثاره، ولذلك مُنعَ الصَّائم مِن أن يكونَ حَاجِمًا.
وقالوا آخرون: إن حديث «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ» باقٍ على أصله، وبالتَّالي نُثبت الفطر بذلك، والأصل في الأحاديث النَّبويَّة أن نعمل بها متى صحَّ إسنادها، وأن نحاول أن نجمع بينها وبين ما يُعارضها، ولا نصير إلى التَّرجيح أو القول بالنَّسخ إلا عند وجود الدليل، أو عدم إمكانيَّة الجمع بين الأخبار المتعارضة، والجمع بينها ممكن -كما تقدَّم- بأن يراد بقوله: (احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ) أي أنه كان مسافرًا صائمًا فأفطر بواسطة الحجامة، وبذا تأتلف الأخبار الواردة في هذا الباب وتجتمع.
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الْحِجَامَةُ للصَّائِمِ: أَنَّ جَعْفَرَ بنَ أَبي طَالبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَفْطَرَ هَذَانِ» ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدُ فِي الْحِجامَةِ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ أَنسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: "كُلُّهُم ثِقَاتٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً"، وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ)}.
هذا الحديث رواه الدارقطني -كما ذكر المؤلف- وقد تُكلِّمَ في بعض رجاله، كما تُكلِّمَ في متنه، فإنَّ في المتن ما يُشعر بأن هذه الواقعة وقعت يوم الفتح، وجعفر -رضي الله عنه- قد توفي قبل يوم الفتح، ولذلك طعن بعضهم في هذا الخبر.
 
قوله: (أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الْحِجَامَةُ للصَّائِمِ: أَنَّ جَعْفَرَ بنَ أَبي طَالبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَفْطَرَ هَذَانِ») يعني: الحاجم والمحجوم.
قال أنس: (ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدُ فِي الْحِجامَةِ لِلصَّائِمِ)، استدلَّ بهذا بعضهم على أنَّ الصائم يجوز له أن يحتجم، لكن هذا الحديث -كما تقدم- في ثبوت إسناده للنبي -صلى الله عليه وسلم- نظر، وهو محل اجتهاد، وبالتالي فالصواب أنه لا يُعوَّل على هذا الخبر.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وسَقَاهُ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ مُسلم، وللبخاريِّ: «فَأَكَلَ وَشَرِبَ»، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ -وَصَحَّحَهُ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ»)}.
قوله: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ»، النسيان المراد به: غفلة الإنسان عمَّا كان يعرفه ويتذكره.
والنسيان على نوعين:
- قد يكون لفعل المأمورات.
- وقد يكون في ترك المنهيات.
فالنِّسيان لفعل المأمورات لا يُسقطها، كما في حديث: « فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلاَةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ، لا كفار لها إلا ذلك»[79].
أمَّا النِّسيان في فعل المنهيَّات فإنَّه يُعفى عن الإنسان فيه، ولذا فمَن تحدَّثَ في الصلاة ناسيًا فإنَّه لا تبطل صلاته بذلك، بخلاف مَن ترك الرُّكوع ناسيًا ولم يأتِ به؛ فإنَّه تبطل ركعته.
وقوله: «فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ»، ظاهره اقتصار العفو عن النِّسيان في الأكل والشُّرب.
وقد اختلف العلماء في نسيان الجماع، فمَن جامع في نهار رمضان ناسيًا وهو صائم، هل يُتم صومه أو لا؟
الجمهور قالوا: لا يُتمُّ صومه، وإنَّما يقتصر العفو عن الأكل والشُّرب.
وذهب بعضهم إلى أنَّه يُكمل صومَه، واستدلوا على ذلك بالرواية الأخرى التي أشار المؤلف في قوله: «مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ».
وقد اختلف العلماء أيضًا في أصل المسألة، وهو فيمَن أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم، فهل يبطل صومه بذلك أو لا:
الجمهور قالوا: لا يبطل صومه بالأكل والشُّرب ناسيًا، لحديث الباب وما ماثله من الأحاديث.
وذهب الإمام مالك إلى أنَّ مَن أكلَ أو شربَ ناسيًا؛ فإنَّ صومه يبطل بذلك، بل إنه قد وردَ عنه أنَّه يجب عليه الكفارة المغلظة بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين.
ومذهب الجمهور: القول بأن نسيان الأكل والشرب لا يؤثر على صحَّة الصوم أقوى وأولى لظاهر خبر الباب.
وقد قال الإمام مالك: إنَّه حديث آحاد، فهو مخالف للقياس.
ولكن الصواب أنَّ أخبار الآحاد المخالفة للقياس يجب العمل بها.
{(وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة وَمَنِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيهِ الْقَضَاءُ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد، وقَالَ: "سَمِعْتُ أَحْمدَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ ذَا شَيْءٌ"، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ" وَقَالَ: قَالَ: مُحَمَّدٌ- يَعْنِي البُخَارِيَّ- لَا أُرَاهُ مَحْفُوظًا-, وَالدَّارَقُطْنِيُّ -وَقَالَ فِي رُوَاته: "كُلُّهُم ثِقَاتٌ"، وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا"، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا، وَقد رُوِيَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَيْءِ: لَا يُفْطِرُ)}.
قوله: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ»، المراد بالقيء: الطعام يخرج من الجوف بعد إدخاله فيه من طريق الفم، والقيء إذا كان كثيرًا فإن طائفة من أهل العلم قالوا: ينتقض الوضوء به.
ولكن الكلام في أحكام الصوم، قال: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ»، أي: مَن جاءه القيء بدون اختيارٍ منه «فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ»، فإنَّ صومه صحيح ويُتمُّ صومه ولا يجب عليه القضاء.
وفي هذا دلالة على أنَّ مَن ذرعه القيء فإنَّه يُتمُّ صومه ولا حرج عليه في ذلك.
قال: «وَمَنِ اسْتَقَاءَ»، المراد: مَن طلبَ خروج القيءِ فقاءَ، لأنَّه لو استقاء ولم يخرج القيء فإنَّ صومه لا يتأثَّر بذلك، وبالتَّالي يكون هنا دلالة اقتضاء بتقدير لفظٍ يحتاج إليه هذا الخبر، وتقديره: "ومن استقاء -أي طلب خروج القيء- فقاءَ فعليه القضاء"، فإن صومه يفسد بذلك.
وهذا الخبر قد تكلم فيه بعضهم من جهة أن هذا اللفظ وقع فيه اختلاف، فمرَّة بعضهم يرويه موقوفًا، ومرة يرويه مورفوع، كما أنَّه قد وردَ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه قال في القيء "لا يُفطِّر"، ولم يُفرِّق في ذلك بين كثير وقليل، وبين ذرع القيء وطلب خروجه.
{(وَعنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ,فَقَالَ: «أُولئِكَ العُصَاةُ, أُولئِكَ العُصَاةُ», وَفي لَفْظٍ: فَقِيْلَ لَهُ: إِنَّ النَّاس قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيام، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ, فَدَعَا بَقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ)، وعام الفتح كان في السنة الثَّامنة، وخروجه في عام الفتح كان فِي رَمَضَانَ.
قال: (خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ)، فإن فتح مكَّة كان في السَّابع عشر من شهر رمضان.
قال: (فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ)، أي: استمرَّ في صيامه حتى بلغ "كُرَاعَ الغَمِيمِ" وهي منطقة مجاورة للمدينة على طريق الذهاب إلى مكة. والمراد بها: المكان المستطيل الذي يكون من الحرَّة؛ لأن المدينة كانت مُحاطَة بالحِرار.
قوله: (فَصَامَ النَّاسُ)، أي: أن الناس رأوه قد صامَ فماثلوه في العمل.
قوله: (ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ)، فيه جواز فطر الصائم، خصوصًا إذا كان يذهب للجهاد ليتقوَّى بدنه.
وفي هذا: جواز الفطر على قدحِ الماء.
قوله: (فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ)، فيه أنَّ مَن يُقتدى به ينبغي به أن يُلاحِظَ موافقة السُّنَّة ليقتدي الناس به في ذلك.
وقوله: (ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ)، فيه إزالة ما قد يكون من رواسب في النَّفس تجاه ترك بعض الطاعات لمقتضٍ شرعي.
وفيه أنَّه ليس الأفضل دائمًا أن تُفعل العبادة الأشق، فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا ترك الصَّوم نجزم بأنه فعل الأفضل؛ ليتقوَّى هو وأصحابه على قتال عدوِّهم.
وفيه أن الإنسان قد يترك بعض العمل المستحب الذي يُحبه الله -عزَّ وجلَّ- مراعاة لأحوال الناس.
وقوله: (فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ)، أي: رفع قدح الماء يريد بذلك أن يُقتدى به في ذلك.
قال: (ثُمَّ شَرِب)، أي: أمامهم.
قوله: (فَقِيْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ,فَقَالَ: «أُولئِكَ العُصَاةُ، أُولئِكَ العُصَاةُ»)، أي: المخالفون لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقته.
وفي هذا أنَّه ينبغي الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب الفضل فيما يرونه من الطاعات والعبادات.
قوله: (وَفي لَفْظٍ: فَقِيْلَ لَهُ: إِنَّ النَّاس قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيام)، أي: صعُبَ عليهم وعسُرَ عليهم.
قوله: (وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ, فَدَعَا بَقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ)، ظاهره أنّه شرِبَ بعد ذلك.
{(وَرَوَى أَيْضًا عَنْ حَمْزَةَ بنِ عَمْرو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيام فِي السَّفَرِ فَهَل عَلَيَّ جُناحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»)}.
هذا الخبر رواه الإمام مسلم (حَمْزَةَ بنِ عَمْرو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ)، أي جاء مستفتيًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه مشروعيَّة سؤال أهل العلم عمَّا يُشكل من المسائل التي تقع على الناس.
وفيه استحباب اختيار الإنسان مَن يرى أنَّه الأوثق والأعلم، كما اختار حمزةُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ليسأله.
وفيه أنَّ الإنسان لا يقتصر على أي كلمة تُقال من أفراد الناس؛ بل لابدَّ أن يرجع إلى أهل العلم ليسألهم عن حكم الله -عزَّ وجلَّ.
قال: (أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيام فِي السَّفَرِ)، أي: أنني متمكِّن من الصِّيام في السَّفر، ولا يؤثِّر عليَّ في سفري.
قال: (فَهَل عَلَيَّ جُناحٌ؟)، أي: إذا صمت وأنا مسافر؟
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ»، أي: الفطر في نهار رمضان للمسافر رخصة من الله ومنٌّ منه سبحانه.
قوله: «فَمَنْ أَخَذَ بِهَ»، أي: أَفْطَرَ في نهار رمضان وهو مُسافرٌ «فَحَسَنٌ»، أي: يكون بذلك قد أخذ الأمر الأفضل.
قوله: «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»، أي: لا حرج عليه عندما يصوم والحال كذلك.
وفيه جواز الصوم والفطر في نهار رمضان بالنِّسبة للمسافر.
وفيه أنَّ المسافر إذا أفطر فإنَّه يجب عليه القضاء.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رُخِّصَ للشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ -وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ)}.
قوله: (رُخِّصَ)، المراد بالرُّخصة: التَّخفيف الذي جاء من الشَّارع، بحيث وُجدت علَّة الحكم وسببه، ومع ذلك زالَ الحكم عن المكلَّف، فإنَّ سبب الحكم وعلَّته هو رؤية الهلال، والهلال قد رُؤِيَ ومع ذلك رُخِّصَ للشَّيخ الكبير، فالرخصة هنا: ارتفاع الحكم مع وجود سببه.
قوله: (للشَّيْخِ الْكَبِيرِ)، أي: كبير السِّن الذ يُتعبه الصوم، فرُخِّصَ له أن يُفطرَ، ولا يجب عليه القضاء في هذه الحال، وإنَّما يُطعم عن كلِّ يومٍ مسكينًا، وهو ظاهر قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة:184].
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَينِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيْنًا؟» قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَ»، فَقَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟! فَمَا بَيْنَ لابَتَيْها أَهْلُ بَيتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا! فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ أَنْيابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ. وَقدْ رُوِيَ الْأَمرُ بِالْقضَاءِ مِنْ غَيرِ وَجهٍ، وَهُوَ مُخْتَلفٌ فِي صِحَّتِهِ)}.
هذا الحديث ورد في الجماع في نهار رمضان، والجماع في نهار رمضان حرام، لأنَّ الجِماع من المُفطِّرات، وبالتَّالي لا يجوز للصَّائم أن يُجامع أهله، ومَن جامع وجبت عليه الكفَّارة المغلَّظة الواردة في هذا الخبر، وهذا الخبر قال فيه: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: هَلَكْتُ) لفظ "هلكت" تُشعر بأن هذا الرَّجل كان مُتعمِّدًا للجماع، وإلا لَمَا وصف نفسه بالهلاك لو كان ناسيًا.
وفيه دلالة على أنَّ كفَّارة الجماع لا تجب إلا على المتعمِّد للجماع.
قوله: (هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟»)، فيه إثبات الإنسان لنفسه حُكمًا بغالب ظنِّه.
قوله: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟»، أي: ما السبب الذي جعلك تهلك؟
قَالَ: (وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتي فِي رَمَضَانَ)، قوله: (وقعت)، أي: جامعتُ، وفيه دلالة على أنَّ الكفَّارة المغلَّظة لا تكون إلا على الجماع، وبذلك قال الشَّافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة ومالك: كلُّ مَن انتهكَ حرمَة الشَّهر بشيءٍ من المفطِّرات فإنَّه يجب عليه الكفَّارة المغلَّظة فيصوم شهرين.
فمثلُا لو أنَّ شخصًا أفطر في نهار رمضان بالأكل متعمِّدًا:
فعلى مذهب مالك وأبي حنيفة: يجب عليه أن يصوم شهرين إذا لم يجد الرَّقبة.
وعلى مذهب أحمد والشافعي: فسد صومه وعليه قضاء ذلك اليوم، وعليه التَّوبة إلى الله -عزَّ وجلَّ.
قوله: (عَلَى امْرَأَتي)، لفظ "امرأتي" هنا ليس مرادًا، وإنَّما هنا لو جامع أمتَهُ، أو جامع على طريق الحرام، أو على طريق الخطأ والشُّبهةِ؛ فحينئذٍ يدخل في هذا الحديث ويجب عليه الكفارة المغلظة.
قال: (وَقَعتُ عَلَى امْرَأَتي فِي رَمَضَانَ)، فيه دلالة على أن الكفارة المغلظة تجب لانتهاك حرمة الشهر، كما قالت طوائف من أهل العلم، منهم أبو حنيفة وأحمد.
وصورة هذه المسألة: أنَّ هناك مسافر جاء في أثناء النَّهار وكان مفطرًا في أوَّله، فدخل بلده فوجد امرأته؛ فهل يجوز له أن يُجامعها؟
قال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز، لأنَّه يلزمه الإمساك، ولو جامع لوجبت عليه الكفَّارة المغلَّظة.
وقال الشافعي ومالك: يجوز له، لأنَّ الشارع قد أباح له أن يُفطر في أول يومه، والصوم بمثابة الوحدة الواحدة لا تتغير أحكامه.
قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟»، فيه دلالة على أن المجامع في نهار رمضان يجب عليه إعتاق رقبة.
وقد ورد في الأحاديث أنها لابد أن تكون مؤمنة، وأن تكون سليمة من العيوب، قادرة على العمل.
قوله: (قَالَ: لَ)، أي: لا أجد رقبة أعتقها.
قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَينِ؟»، فيه أنَّ مَن جامع في نهار رمضان فلم يجد الرقبة؛ وجب أن يصوم شهرين متتابعين.
والمراد بالمتتابعين: أي: أنه يستمر في الصِّيام بحيث لا يُفطر في أثناء أيام الصِّيام.
قوله: (قَالَ: لَ)، أي: لا أستطيع، وفيه دلالة على أن المفتي يكتفي بإفادة المستفتي فيما يتعلق بأحواله، ولا يتقصَّى في ذلك.وعدم الاستطاعة إمَّا لمرض، وإمَّا لكبر أو نحو ذلك.
قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيْنًا؟»، فيه أنَّ مَن لم يجد الرَّقبة ولم يستطع الصوم وكان قد جامع في نهار رمضان؛ وجب عليه أن يُطعم ستِّينَ مسكينًا.
وهنا قولة: «تُطْعِمُ» دليل على أن الإطعام مقصود، فلا يكفي إخراج القيمة، بل لابدَّ من أن يكون هناك طعام.
وقوله: «سِتِّينَ»، فيه دلالة على أنَّ العدد معتبر، فلو أطعم مسكينًا ستين مرة لم يُجزئه إلا عن مرة واحدة.
وقوله: «مِسْكِيْنً»، فيه دلالة على أنَّ إطعام الكفارات يكون للمساكين، ولا يكون لبقيَّة أصناف الزكاة أو للإغنياء، إنَّما يقتصر على المساكين، وإذا أجاز ذلك في المساكين فمن باب أولى أن يجوز في الفقراء لأنَّهم أشد حاجة منهم.
قال الرجل: (لَ)، أي: لا أجد ما أُطعم به ستين مسكينًا.
قوله: (ثُمَّ جَلَسَ)، أي جلس الرجل المُجامِعُ لأهله
قوله: (فَأُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: قام أحد الصحابة بإحضار عَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. العرق: إناء من خوصٍ، أو يسميه بعضهم "زمبيل"، ويؤخذ من أوراق النخيل فيُرتَّب ويُهيَّأ.
والعرق: قرابة الثلاثين صاعًا، وهو مطالب بإطعام ستين مسكينًا، وهذا يعني أنَّ كل مسكين سيُعطى نصف صاع، ولذلك فإنَّ الصواب في الكفارات أنَّه لابدَّ فيها من إطعام نصف صاع، ونصف الصاع: مُدَّين.
فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقْ بِهَذَ»، أي: في كفارة الجماع عنك.
فَقَالَ: (عَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟!)، أي نحن أفق من في المدينة، وبالتالي فنحن أولى بهذه الصَّدقة من غيرنا.
ثم قال الرجل: (فَمَا بَيْنَ لابَتَيْه)، المراد باللابة: الحرَّة التي فيها حجارة سوداء، وكانت في أطراف المدينة.
قال: (فَمَا بَيْنَ لابَتَيْها أَهْلُ بَيتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا!)، فقد بلغوا من الفقر وشدَّة الحجاة مبلغه.
قوله: (فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تعجُّبًا من حال هذا الرَّجل، ففي أول الأمر كان قلقًا ويقول "هلكتُ" وفي آخر الأمر يُطالب لنفسه بهذه الصَّدقة.
وقوله: (فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ أَنْيابُهُ)، وهي الأسنان التي تكون في طرف الفم.
 ثُمَّ قَالَ للرجل: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»، أي: خذ هذا التَّمر فأطعمه أهلك.
واستدل بهذا الحنابلة على أنَّ مَن عجز عن الكفارة فإنَّها تسقط عنه، والجمهور على أنَّها تبقى في ذمَّته، متى أيسرَ أخرجها.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الإِمَامُ أَحْمدُ بنُ حَنْبَل)}.
قوله هنا (مُتَّفقٌ عَلَيْهِ) أي: أخرجه البخاري ومسلم.
وقوله: (وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الإِمَامُ أَحْمدُ بنُ حَنْبَل)، الظاهر أنَّه أوَّله، وقال: إنَّ المراد به صوم النَّذر دون غيره.
قوله -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَامٌ»، لفظة "صيام" هنا مطلقة، فتحتمل صيام الكفارة، وصيام النَّذر، وصيام رمضان قضاءً.
وظاهر هذا أنَّه في الواجبات دون المستحبات، فقال: «مَنْ مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، أي: ليُبرئ ذمَّته.
والقول بأنَّه يُصام عن الميت هذه مسألة من مواطن الخلاف:
- هناك مَن يقول: الميت لا يُصام عنه أبدًا، وذلك أنَّ الصِّيام لا تدخله النِّيابة.
- وهناك من قال: يُصام عنه مطلقًا.
- والأرجح: أنَّ الصِّيام عن الغير عبادة، والعبادات الأصل فيها أنَّها توقيفيَّة، فلا نثبت حكمًا فيها إلا بناءً على دليل، ومن ثَمَّ قالوا: لا يُشرَع الصِّيام عن الغير.
ولكن حديث الباب صريح في جواز الصِّيام عن الغير، فقال: «مَنْ مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَامٌ» لفظة "صيام" ظاهرها أنَّها عامَّة؛ لأنَّها في سياق الشَّرط، فتشمل صيام القضاء، وصيام النَّذر، وصيام الكفَّارة، ولم نُدخل صيام التَّطوع لأنه قال: «وَعَلَيه»، ممَّا يدلُّ على أن هذا اللفظ المراد به الصِّيام الواجب دون الصِّيام المستحب.
قوله: «صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، الصِّيام هنا على سبيل الاستحباب؛ لأنَّه لا يؤاخذ الإنسان بعمل غيره.
وقوله: «وَلِيُّهُ»، قالت طائفة: إنَّ المراد قرابته ممَّن يتولاه.
وقيل: المراد أولياؤه في الدَّم وعصبته.
والفرق بين القولين: أنَّه على القول الأول أن المرأة قد تصوم لقريبها؛ لأنَّه من قرابتها، وعلى القول الثاني لا تدخل المرأة في هذا الخبر لأنَّها ليست من العصبة، وإن كانت من القرابة.
وفي هذا دلالة على أنَّ مَن كان عليه صيام واجب فإنَّه يُستحب لقريبه أن يصوم عنه، خصوصًا إذا كان ذلك فيما يتطاول مثل صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة القتل، وكفارة الظِّهار، ونحو ذلك من الكفَّارات.
ولعلنا نقف على هذا، أسأل الله -عزَّ وجلَّ- لي ولك التَّوفيق لكل خير، كما أسأله -جلَّ وعَلا- لإخواننا ممَّن يُرتِّب معنا هذا اللقاء أن يكونوا من الهداة المهتدين، وأن يكونوا من أسباب الهدى والتَّقوى والطَّاعة، وأسأله -جلَّ وعَلا- صلاحًا لأحوال الأمَّة، وحقنًا لدائها، واجتماعًا لكلمتها.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك