الدرس السادس عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4430 24
الدرس السادس عشر

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد:
فأرحب بكم إخواني المُشاهدين الكِرام في لِقاءٍ جَديدٍ، نواصل فيه ما ابتدأنا به مِن الكلامِ عن أحكام الزَّكاة، والأحاديث النبويَّة الواردة في "باب الزَّكاة" من كتاب المحرَّر للحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وقد سَبَقَ لنا حديث أنس بن مالك فيما يتعلق بزكاة الإبل، وزكاة الغنم، وزكاة الفضِّة، ولعلَّنا -إن شاء الله- أن نواصل الحديث في ذلك، فنذكر أولًا حديث مُعاذَ بن جبل في زكاةِ البقر، والأموال الزَّكويَّة التي تجب الزكاة فيها أربعة أنواع:
النَّوع الأوَّل: الذَّهب والفضَّة، وما أُلحق بهما من النقود.
النَّوع الثَّاني: عروض التِّجارة.
النَّوع الثَّالث: بهيمة الأنعام، الإبل، والغنم، والبقر.
النَّوع الرَّابع: الخارج من الأرض.
ولعلَّنا -إن شاء الله- أن نأتي لذلك في ما يأتي، ونبتدئ بقراءة حديث مُعاذ في زكاةِ البقر.
{(بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعينَ وللمشاهدينَ، ولجميعِ المسلمينَ.
قالَ المصنِّفُ -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى اليَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةٍ تَبِيعًا -أَو تَبِيعةً- وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَو عَدْلَهُ مَعَافِريَّ. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ-، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَهْ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلم يُخَرِّجَاهُ))
}.
مَسروق بن الأجدع من التَّابعين، وهو لم يَلقَ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقد رَوَىَ هذا الخبر مرَّة عن معاذ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر اللفظ هنا، بينما رواه مسروق مرةً أخرى أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعثَ معاذًا؛ فيكون حينئذٍ مُرسلًا.
-       فبعض أهل العلم قوَّى الرواية المُرسلة كما فَعَلَ التِّرمذي.
-       وبعضهم قوَّى الرواية المتَّصلة.
-       وبعضهم قال: هما روايتان ثابتتان، فمسروق مرَّة ينشط فيرويه متَّصلًا، ومرَّةً يضعف فيرويه مُرسلًا، فالطريقان ثابتان.
قوله: (بَعَثَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أرسلَ معاذَ بن جبل إلى اليمن قاضيًا ومُعلَّمًا وواليًا.
قال: (فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةٍ تَبِيعًا -أَو تَبِيعةً)، فيه دلالة على أنَّ بهيمة الأنعام من الأموال الظَّاهرة التي يَجبي زكاتها وليُّ أمرِ المسلمين، أمَّا الأموال الباطنة فإنَّها توكل إلى المُكلَّف، بحيث لا يُطالب بها وليُّ أمر المسلمين.
وقوله: (يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةٍ)، فيه دلالة على نِصَابِ البقر، وهو ثلاثون، فمَن مَلَكَ أقلَّ من الثلاثين فإنَّه لا زكاة عليه.
والمراد بالتَّبيع: الذَّكر من أبناء البقر الذي له سَنَة؛ لأنَّه يتبع أمَّه.
والتَّبيعة: الأنثى منه.
وفي هذا: جواز إخراج الذَّكر من التَّبيع، وهذا ليس هو الأصل في الزكاة، بل الأصل فيها أن تُخرَج الأنثى.
قال: (وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً)، المُسنَّة: هي التي لها سنتان، فالأربعون فيها مُسنِّة.
وهكذا الفريضة تترتب على ذلك:
- فإذا مَلَكَ ثلاثين: وجب فيها تبيعًا أو تبيعة.
- وإذا ملكَ أربعين: وجب فيها مُسنِّة.
- والخمسون فيها: مسنَّة.
- والستُّون فيها: تبعان أو تبعتان.
- السَّبعون فيها: تبيع ومسنَّة.
- الثَّمانون فيها: مُسنِّتان.
- التِّسعون فيها: ثلاث تبيعات، وهكذا..
قال: (وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ)، هذا في الجزية، والمراد بالحالم: البالغ الذي بلغ سنَّ الحُلُمِ.
 قال: (وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارً)، يعني: يجب في الجزية على كلِّ بالغٍ دينار.
والدينار: عملة ذهبيَّة كانت تستعمل في الزَّمان الأول، ومقدارها من الذَّهب: أربعة ونصف جرام من الذهب تقريبًا.
قوله: (أَو عَدْلَهُ مَعَافِريَّ)، أي: يُخرج ما يُماثل الدِّينار من السِّلع التي منها الثياب، فإذا لم يجد الدَّنانير الذَّهبية أخرج مَا يُوازيها، ويكون بقيمتها من السِّلَعِ.
{(وَعَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد)}.
ابن إسحاق هو صاحب السيرة، محمد بن إسحاق بن يسار، وهو صدوق، وحديثه حسن، لأنَّه مدلِّس فلا يُقبل من حديثه إلا ما صرَّح فيه بالسَّماع، ومعنى قوله: «لَا جَلَبَ»، يعني: أنه لا يُطالَب أصحاب البهائم بأن يجلبوا بهائمهم إلى مواطن وجود المصَّدِّقين الذين يأخذون الزكاة، وإنَّما تُحصَى أموالهم في مناطقهم وفي مراعيهم، ولا يلأزَمون بجلبِ بهائمهم.
وفي قوله: «وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ»، فيبقون في مواطنهم ويأتي المُصَّدِّق جابي الزكاة في مواطنهم فيُحصي زكاتهم عليهم.
وفي هذا: أنَّ بهيمة الأنعام تُصَدَّق في مراعيها ومفاليها.
{(وَللْإِمَامِ أَحْمدَ عَنْ أُسَامَةَ بنِ زيدٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسلمينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ»}).
عَنْ أُسَامَةَ بنِ زيدٍ الليثي عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ جدِّه.
عمرو بن شعيب: ثقة. وأبوه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو: صدوق، وحديث حسن. جدّ شعيب محمد وهو عبد الله بن عمرو؛ فالإسناد متَّصل.
وقوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسلمينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ»)؛ لأنَّ المياه هي التي تحتاج البهائم إليها، فتُحصى الأموال الزَّكويَّة من بهيمة الأنعام عند المياه، لئلا يؤدي ذلك إلى تلفِ أموالهم.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلمسلمٍ: «لَيْسَ فِي العَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةَ الفِطْرِ»، وَلأَبي دَاوُد: «لَيْسَ فِي الخَيلِ وَالرَّقِيقِ زَكَاةٌ، إِلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ» )}.
هذا الحديث متَّفق عليه.
قوله: «لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»، فيه: أنَّ المماليك لا تجب الصَّدقة فيهم، ولو مَلَكَ الإنسان منهم أعدادًا كبيرة، إِلَّا إِذَا نَوَى بهم التِّجارة، فإذا نَوَى بَيعَهُم وجبت زكاة التِّجارة فيهم.
قوله: «وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»، أي: أنَّ الخيل لا تجب الزَّكاة فيها مهما بلغت، إلا أن يُنوى بها البيع والتِّجارة فتجب؛ لكونها حينئذٍ من عروض التِّجارة.
وقد قال الجمهور بهذا، فقالوا: لا زكاة في الخيل. وخالفهم الإمام أبو حنيفية -رحمه الله- والحديث من أدلة الجمهور في هذه المسألة.
قال: (وَلمسلمٍ: «لَيْسَ فِي العَبْدِ صَدَقَةٌ»)، أي: لا تجب الزكاة على رؤوس المماليك.
قال: «إِلَّا صَدَقَةَ الفِطْرِ»، لأنَّه يجب على السَّيد أن يُخرج عن مملوكه صاعًا في صدقة الفطر.
قال: (وَلأَبي دَاوُد: «لَيْسَ فِي الخَيلِ وَالرَّقِيقِ زَكَاةٌ، إِلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ» )، وهذه الزِّيادة قد جاءت من طريق رجل مجهول، وبالتَّالي لا يُعوَّل على اللفظ الأخير عند الإمام أبي داود.
{(وَعَنْ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا: مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بهَا فَلهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لآلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا شَيْءٌ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفظُهُ، وَالنَّسَائِيُّ, وَعندَ أَحْمدَ وَالنَّسَائِيِّ: «وَشَطْرَ إِبِلِهِ»، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: "صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلم يُخَرِّجَاهُ"، وَقَالَ أَحْمدُ: "هُوَ عِنْدِي صَالحُ الْإِسْنَادِ"، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ العِلْمِ بِالحَدِيثِ، وَلَو ثَبَتَ لَقُلْتُ بِهِ".
وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ بَهْزًا كَانَ يُخْطِيءُ كثيرًا، وَلَوْلَا رِوَايَةُ هَذَا الحَدِيثِ لأَدْخَلَهُ فِي الثِّقَاتِ، قَالَ: "وَهُوَ مِمَّنِ اسْتُخِيرَ اللهُ فِيهِ". وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ! بلْ هَذَا الحَدِيثُ صَحِيحٌ، وبَهْزٌ ثِقَةٌ عِنْدَ أَحْمدَ، وَإِسْحَاقَ، وابْنُ مَعِيْنٍ, وَابْنِ الـمَدِينِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيرِهِم، وَاللهُ أَعْلَمُ)
}.
بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ: من تابعي التَّابعين، وأبوه حكيم تابعي، عن جدِّه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ») السَّائمة: التي ترعى، ويقابلها: المعلوفة.
وعلى ذلك أخذ الجمهور أن الزَّكاة لا تجب إلا في السَّائمة، وأمَّا مَن لا ترعى فإنَّه لا زكاة فيها. وقول الجماهير خلاف لما ورد عن الإمام مالك.
قوله: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ»، تقدَّم معنا:
- أنَّه من أقل من خمسة وعشرين فيها شياة، كل خمس فيها شاة.
- ومن خمسة وعشرين إلى خمسة وثلاثين: فيها بنت مخاض.
- ومن ست وثلاثين إلى خمس وأربعين: فيها بنت لبون.
- والأربعون فيها: بنت لبون -كما هنا- في الحديث.
قال: «لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَ»، أي: لا يُفرِّق ويُشتِّت الإبل من أجل ألا تجبَ عليه الزَّكاة، أو يقل مقدار الزكاة الواجب عليه.
قال: «مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرً»، أي: أعطى الواجب في الزكاة طالبًا للأجر والثَّواب الأخروي.
قال: «بهَا فَلهُ أَجْرُهَ»، أي: له أجر الزكاة.
قال: «وَمَنْ مَنَعَهَ»، أي: لم يقم بدفع الزَّكاة الواجبة عليه.
وفي هذا دلالة على أنَّ بهيمة الأنعام -ومنها الإبل- من الأموال الظَّاهرة التي يأخذ زكاتها بيت المال.
قال: «فَإنَّا آخِذُوهَ»، أي: آخذون الواجب من الزَّكاة «وَشَطْرَ مَالِهِ»، أي: نصف ماله، وهذا على سبيل التَّعزير.
قال: «عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لآلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا شَيْءٌ»، يعني لا يجوز دفع الزَّكاة لأحد من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر المؤلف أنَّ الجماهير صحَّحوا هذا الخبر، وأنَّه قد قال فيه الشَّافعي: "وَلَو ثَبَتَ لَقُلْتُ بِهِ"، وابن حبان نسبَ إلى بهز أنَّه يُخطئ كثيرًا.
والظَّاهر أنَّ بَهزًا ثقة كما هو قول جماهير أهل العلم، ومن ثمَّ فقد يُقال إنَّه حسنُ الإسناد أو صحيح الإسناد.
{(وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثنَا سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ الـمَهْرِيُّ، أَخبرنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبرنِي جَريرُ بنُ حَازِمٍ -وَسَمَّى آخَرَ- عَنْ أَبي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ والْحَارثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فَإِذا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ –يَعْنِي: فِي الذَّهَبِ- حَتَّى يَكونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» -قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ: "فَبِحِسَابِ ذَلِكَ" أَو رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟- «وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ»إلَّا أَنَّ جَرِيرًا قَالَ: ابْنُ وَهَبٍ يَزِيْدُ في الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ إِلَّا أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ». قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ شُعْبَةُ وسُفْيَانُ وَغَيرُهُمَا عَنْ أَبي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَليٍّ، وَلمْ يَرْفَعُوهُ. وعَاصِمُ بنُ ضَمْرَةَ وَثَّقَهُ أَحْمدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْعِجْلِيُّ وَغَيرُهم، وَتَكَلَّمَ فِيهِ السَّعْدِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيرُهُم. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ"، وَقَالَ الثَّوْريُّ: "كُنَّا نَعْرِفُ فَضْلَ حَدِيثِ عَاصِمٍ عَلَى حَدِيثِ الْحارِث")}.
أوردَ المؤلف هنا حديثًا رواه أبو داود من طريق سلمين المهري عن ابن وهب، قال: (أَخْبرنِي جَريرُ بنُ حَازِمٍ):
- ابن وهب: من الثِّقات.
- جرير بن حازم: ثقة حافظ.
قال: (وَسَمَّى آخَرَ، عَنْ أَبي إِسْحَاقَ)، أبو إسحاق السَّبيعي وهو من الثِّقات.
قال: (عَنْ عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ) عاصم صدوق، حديث حسن، (والْحَارثِ الْأَعْوَرِ) الحارث هذا ضعيف الإسناد.
فمن طريق الحارث هو ضعيف، ومن طريق عاصم هو حسن الإسناد.
قال: «إِذا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ».
تقدَّم معنا أنَّ الدِّرهم ثلاثة جرام من الفضِّة تقريبًا، وبالتَّالي فإنَّ نصابَ الفِضَّةِ مائتا درهم، فيكون النِّصاب ستمائة جِرام من الفضة، وهو أقل مقدار تجب فيه الزكاة، فما كان أقل من هذا فلا زكاة فيه.
وبعضهم قال: خمسمائة وتسعين، وهذا متقارب.
وما زاد عن هذا المقدار ففيه زكاة، وما كان أقل فلا زكاة فيه.
وفي الحديث أنَّ الزكاة لا تجب في مال حتى يحول عليه الحول، ويُمضي سنة كاملة، إلا أنَّكم تلاحظون في هذا عددًا من الأمور:
أولها: أنَّ الخارج من الأرض لا يُشترط فيه مرور السَّنة.
والثاني: أنَّ نماء التِّجارة ونتاج بهيمة الأنعام لا يُشترط فيه مرور سنة.
والثالث: أنَّ انقلاب المال من كونه نقودًا إلى كونه عروض تجارة أو العكس؛ لا يقطع الحول.
قال: «إِذا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ»، أي: ربع العشر يعني 2.5 %، فمئتا درهم فيها خمسة دراهم، وبالتالي فالمقادر الواجب هو ربع العشر.
قال: «وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ –يَعْنِي: فِي الذَّهَبِ- حَتَّى يَكونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارً»، فنصاب الذَّهب هو عشرون دينارًا.
والدينار: أربعة ونصف جرام. وبالتالي يكون الناتج -وهو نصاب الذهب: تسعين جرامًا، فإذا كانت أقل من التِّسعين فلا زكاة فيها، وإذا كانت أكثر من التِّسعين ففيها الزَّكاة.
قال: «فَإِذا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ»، فيه دلالة على اشتراط مُرور الحول.
ونصف الدينار لأنَّه ربع العشر، وبالتالي المائة يكون فيها اثنان ونصف.
قال: «فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ»، في زكاة بهيمة الأنعام هنا وقصُ مقدارٍ ليس فيه زيادة، تزيد البهائم ومع ذلك لا تزيد الزَّكاة، فقلنا: إنَّ من خمس وعشرين إلى خمسة وثلاثين فيها بنت مخاض؛ سواء ملكَ خمسًا وعشرين، أو ستًّا وعشرين، أو سبعًا وعشرين، أو ثمانية وعشرين، أو تسعًا وعشرين، أو ثلاثين، أو إحدى وثلاثين، أو ثنتين وثلاثين، أو ثلاثًا وثلاثين، أو أربعًا وثلاثين؛ الجميع سواء، لا يجب فيها إلا بنت مخاض، فهذا يُقال له وَقْصٌ؛ بخلاف الذَّهب والفضَّة فإنه لا يكون فيهما وقصٌ. لماذا؟
لأنَّنا نُخرج ربع العشر، زادت أو نقصت.
قال: (فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ -قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ: فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَو رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فهذه اللفظة محتملة لأن تكون موقوفة أو مرفوعة، وقد ثبت معناها في غير هذا الحديث.
قال: «وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ»، فيه أنَّ الزكاة مرتبطة بالحول.
وفيه: أنَّ الزَّكاة تجب فيكل حول، فإذا كان عندك عروض تجارة فكل سنة تُزكِّيها، لا تكتفي بإخراجها في المرة الأولى، لقوله «وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ»، فإذا حال الحول وجبت الزكاة، سواء الحول الأول، أو الحول الثاني، أو الثالث، أو غيره.
{أحسن الله إليك..
هل الخارج من الأرض هو نفسه الرِّكاز؟}.
سيأتي -إن شاء الله- في الباب الذي يليه، ويشمل الثِّمار والحبوب، ويسمُّونها المُعشِّرات.
{(بَابُ زَكَاةِ المُعَشَّرَاتِ
عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّه قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» رَوَاهُ مُسلمٌ، وَفِي لفظٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعيدٍ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ»، وَفِي لفظٍ لَهُ بَدلَ «التَّمْر»، «ثَمَر» بالثَّاء الْمُثَلَّثَةِ)
}.
قوله: (بَابُ زَكَاةِ المُعَشَّرَاتِ)، أي: الأموال التي يجب فيها إخراج العُشر، ومن ذلك زكاة الخارج من الأرض، وقد أورد المؤلف في هذا الباب عددًا من الأحاديث، أولها حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فهو صحابي وأبو صحابي.
قال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ»:
الوَرِق: الفضة.
والأوقيَّة: أربعون درهمًا، قرابة المائة وعشرين جرامًا من الفضة.
فالخمس أواقٍ: مائتا درهم، خمسمائة وتسعين جرامًا من الفضَّة، فهذا فيه بيان أنَّ الزَّكاة لا تجب في المال اليسير حتى يبلغ النِّصاب.
والجمهور على أنَّ الذَّهب والفضة يُضمُّ بعضها إلى بعض في ذلك.
قال: «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ»:
خمس الذَّود: يعني: خمس جمال. فمَن ملكَ أقل من هذا المقدار لم تجب عليه زكاة، كما لو ملكَ أربعَا أو ثلاثًا.
قال: «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ»، هذا فيه دلالة على أنَّ الخارج من الأرض له نصاب، وأنَّه إذا كان المال أقل من النصاب فإنَّه لا زكاة فيه، وهذا قول الجماهير ومذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى إيجاب الزكاة في القليل والكثير من الخارج من الأرض حتى ولو كان خمسة أوسقٍ، وقال: إنَّ الحديث خبرُ واحدٍ، ولا يصحُّ أن يكونَ خبر الواحد زائدًا على ما في القرآن؛ لأنَّه يعتبر الزِّيادة على النَّصِّ من قبيل النَّسخ، فقد قال تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام:141].
قال: «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ»:
خمسة الأوسق: ثلاثمائة صاع، فمن كان نتاج أرضه أكثر من هذا المقدار ففيه الزَّكاة، وما كان أقل فلا زكاة فيه.
قال: (وَفِي لفظٍ لَهُ)، يعني للإمام مسلم. (مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعيدٍ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ»، وَفِي لفظٍ: «خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ ثَمَر»)، في هذا دلالة على أنَّ الخارج من الأرض لا تجب الزكاة فيه إلا إذا بلغ النِّصاب كما قال الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة.
وفيه أنَّ الزكاة تجب في الثمار؟، وتجب في الحبوب:
ومن أمثلة الثمار: التَّمر.
ومن أمثلة الحبوب: البُرُّ والشَّعير.
{(وَعَنْ سَالمِ بنِ عبدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيونُ أَو كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصفُ الْعُشْرِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَلأبي دَاوُدَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والأَنْهارُ والعُيونُ أَو كَانَ بَعْلًا العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بالسَّوانِي أَو النَّضْحِ، نِصْفُ العُشْرِ» وَإِسْنَادُهُ عَلَى رَسْمِ مُسلمٍ)}.
قوله هنا: (وَعَنْ سَالمِ بنِ عبدِ اللهِ)، يعني عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما.
قوله: (عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ»)، أي: يجب إخراج الزَّكاة ومقدارها فيما كان ينمو على ماء الأمطار.
قال: «والعُيونُ»؛ لأنَّ العيون ينبع الماء فيها ثم يفيض.
قال: «أَو كَانَ عَثَرِيًّ»، يعني: أنَّ له عروق في الأرض بحيث يتمكَّن من الوصول إلى الماء ولا يحتاج إلى سقيٍ، فما كان كذلك فإنَّه لا كَلَفَةَ فيه، وبالتَّالي أوجب الله فيه العشر يعني: 10 % من الخارج منه، بينما ما سُقيَ بالتَّعب والمؤنة فإنَّ الواجب فيه نصف العشر، ولذا قال: «وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ»، أي: بجلب الماء إليه وغمره «نِصفُ الْعُشْرِ»، يعني: 5 % وهو نصف الواجب فيما كان يسقي نفسه.
قال: (وَلأبي دَاوُدَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ») أي: يجب فيما سقت السماء من الحبوب والثِّمار، أو سَقَت الأَنْهارُ أو سقت العُيونُ أَو كَانَ بَعْلًا العُشْرُ، لأنَّه لا كلفة فيه.
والمراد بالبعل: أن يوضع مكان يصيبه المطر، وبالتالي ينبت بعده.
قال: «وَفِيمَا سُقِيَ بالسَّوانِي»، السَّواني: آلة تُربَط بشيء من البهائم كالبقر يُستجلَب بها الماء من الآبار، فيوضع حبلٌ طويل، وفي طرفها قربة أو ما ماثلها من أجل رفع المياة، فهذا فيه مشقَّة كبيرة، ولذلك فإنَّ الواجب فيه نصف العشر، ومثله أيضًا ما سُقيَ بالنَّضْحِ.
{(وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ يَحْيَى، عَنْ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبي مُوسَى ومُعاذِ بنِ جَبلٍ –رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُعَلِّمَا النَّاسَ أَمْرَ دِيْنِهِم، وَقَالَ: «لَا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وطَلْحَةٌ رَوَى لَهُ مُسلمٌ )}.
هذا الحديث قد اختلف فيه أهل العلم، فضعفه جماعة، وتكلم فيه بعضهم في بعض رواته، والجمهور على تقويته، لكنهم قالوا: إنَّ هذه الأصناف الأربعة هي الأصناف التي كانت موجودة عند أهل اليمن، ولذلك لم يذكر غيرها.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُعَلِّمَا النَّاسَ أَمْرَ دِيْنِهِم)، فيه بعث الإمام للدعاة والمعلمين ليُعلموا الناس ما ينفعهم في أمر دينهم، وفيه أنَّه قد يتولى هؤلاء جبيِ الصَّدقات.
وفيه استحباب أن يكون صاحب الإمرة والمبعوث إلى النَّاس من أهل العلم من أجل أن يتقيَ الله في ولاته، ومن أجل أن يَعمل بشرع الله فيها، ومن أجل أن يكون ذلك من أسباب تعلم الناس لأمر دينهم.
قال: «لَا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ»، أي: في الزكاة الواجبة.
قوله: «إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ»:
الحنطة: هي القمح.
الزبيب: ما جفَّ من العنب.
واختلف أهل العلم في الواجب في زكاة الخارج من الأرض:
فقال طائفة: هذه الأناف الأربعة فقط.
وقال آخرون: بل المراد كل ما كان قوتًا.
وقال آخرون: المراد كل ما أمكن إدِّخاره.
وبالتالي يترتب عليه ما الذي تجب فيه الزَّكاة من الخارج من الأرض.
{(وَعَنْ إِسْحَاقَ بنِ يَحْيَى بنِ طَلْحَةَ بنِ عُبيدِ اللهِ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، والبَعْلُ، والسَّيْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ»، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ والحُبُوبِ، وَأَمَّا القِثَّاءُ والبَطِّيخُ وَالرُّمَّانُ والقَصَبُ، فَقَدْ عَفَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَزَعَمَ أَنَّ مُوسَى بنَ طَلْحَةَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، لَا يُنْكَرُ أَنْ يُدْرِكَ أَيَّامَ مُعَاذٍ. كَذَا قَالَ. وإِسْحَاقُ بنُ يَحْيَى: تَركَهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيرُهمَا. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: "مُوسَى بنُ طَلْحَةَ بنِ عُبيدِ اللهِ، عَنْ عُمرَ مُرْسلًا". ومُعاذٌ تُوفِّي فِي خلَافَةِ عُمَرَ، فَرُوايةُ مُوسَى عَنهُ أَولَى بِالْإِرْسَالِ، وَقدْ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى وُلِدَ فِي عَهِدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَ أَنَّهُ سَمَّاهُ وَلم يَثْبُتْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ صَحِبَ عُثْمَانَ مُدَّةً، وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الثَّوْريُّ، عَنْ عَمْرِو بنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُوسَى بنِ طَلْحَةَ قَالَ: عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ)}.
هذا الحديث كما أشار المؤلف إلى أنَّه وقع فيه الاختلاف في اتِّصاله، فموسى بن طلحة لا يروي عن معاذ بن جبل فيكون منقطعًا، ثم في إسناد إسحاق بن يحيى -وهو مُتكلَّمٌ فيه- وقد تركه أحمد والنَّسائي، وغيرهما، وبالتَّالي فهذا لحديث فيه ما فيه من جهةِ الإيناد.
وقوله هنا: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، والبَعْلُ، والسَّيْلُ الْعُشْرُ»، هذا موطن اتِّفاق.
قال: «وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ»؛ لأنَّه فيه تعبٌ وكَلَفَة.
قال: (وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ)، فهذه اللفظة ليست من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم.
قال: (وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ والحُبُوبِ)، فهذا ظاهره أنَّ جميع الحبوب تجب الزَّكاة فيها، من مثل الذرة، والسَّنُّوت، ونحوها، وهذا مبني على العلة التي من أجلها تثبت الزَّكاة، هل العلَّة في هذا أنَّها قوت؟ أو أنَّها الإدخار؟ فما قَبِلَ أن يكون مُدَّخرًا وجبَت الزَّكاة فيه، وما لا يقبل الادخال فلا زكاة فيه.
ولهذا فإنَّ السِّلع الأخرى التي ذكرها هنا وذكر أنَّها لا تجب فيها الزكاة، منها (القِثَّاءُ والبَطِّيخُ وَالرُّمَّانُ والقَصَبُ) فهذه الأشياء لا زكاة فيها.
فقال طائفة: لأنَّها غير مكيلة، وبالتالي لا زكاة فيها، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ»، معناه أنَّ السِّلع التي تجب الزَّكاة فيها لابد أن يكون من شأنها أن تُكال.
وقوله: (وَأَمَّا القِثَّاءُ والبَطِّيخُ وَالرُّمَّانُ والقَصَبُ، فَقَدْ عَفَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني لا تجب الزكاة فيها:
فقيل: لأنها غير مكيلة.
وقيل: لأنَّها غير مقتاتة.
وقيل: لأنَّها غير مدَّخرة.
{(وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ سَهْلُ بنُ أَبي حَثْمَةَ مَجْلِسَنَا، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا ودَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَم تَدْعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِم البُسْتيِّ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: "لمْ يَرْوِهِ عَنْ سَهْلٍ إِلَّا عبدُ الرَّحْمَن بنُ مَسْعُودِ بنِ نِيَارٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ".
وَقَالَ ابْنُ القَطَّانِ: "هَذَا غيرُ كَافٍ فِيمَا يَنْبَغِي مِنْ عَدَالَتِهِ، فَكَمْ منْ مَعْرُوفٍ غَيْرُ ثِقَةٍ، وَالرَّجُلُ لا يُعرفُ لَهُ حَالُ، وَلَا يُعْرَفُ بِغَيْرِ هَذَا". كَذَا قَالَ وَفِيه نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ مَسْعودِ بنِ نِيَارٍ عَنْ سَهْلٍ وَوَثَقَهُ ابْنُ حِبَّانَ)
}.
ذكر المؤلف هنا حديث عبد الرحمن بن مسعود، قال: (جَاءَ سَهْلُ بنُ أَبي حَثْمَةَ مَجْلِسَنَ)، يخبرهم بأحديث النبي -صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث لم يروه إلا عبدُ الرَّحْمَن بنُ مَسْعُودِ بنِ نِيَارٍ، وعبد الرحمن هذا موطن اختلاف بين أهل العلم في مدى الثِّقة به.
قال: «إِذا خَرَصْتُمْ»، كانوا في الزَّكاة يبعثون الخارص فيُقدِّر كم ستأتي هذه النخلة من التَّمر، فهو شاهد الرُّطب فيها أو البسر، فيقول: إذا أصبحت هذه تمرًا وجب فيها من الزَّكاة كذا، فالخَرْصُ هذا أمر تقديري، يُحرَز ما على النخلة من البسر أو الرطب فيُقدِّر كم سيأتي تمرها، وهذا يعرفه أهل الاختصاص، ومَن لهم خبرة في ذلك.
والقول بالخرص هو مذهب الجماهير خلافًا لمذهب الإمام أبي حنيفة.
قال: «إِذا خَرَصْتُمْ فَخُذُو»، يعني: خذوا الزَّكاة الواجبة.
قالك «ودَعُوا الثُّلُثَ»، يعني: خذوا زكاة الثلثين، ودعوا الثلث، وذلك لأنَّه قد تأتيها آفة، وقد تُبذَل في سبل الخير، وقد يُريد صاحب المال أن يُخرج زكاة ماله إلى مَن يعرفهم.
قال: «فَإِنْ لَم تَدْعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ»، أي: اتركوا الربع، وليس المراد بهذا أنَّ الزَّكاة تسقط في الثُّلث أو الرُّبع، وإنَّما المُراد أنَّ صَاحِبَ المال يُخرجها بمعرفته بعدَ أن يتأكد أَنَّها قد جاءت المحاصيل كذلك.
{(وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ، عَن أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَن لَونَيْنِ مِنَ التَّمْرِ: الجُعْرُورِ ولَونِ الحُبَيْقِ، قالَ: وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمَونَ شَرَّثِمارِهِم فَيُخْرِجُونَهَا فِي صَدَقَاتِهِمْ فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَيَمَّمَوا الْخَبِيْثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة:267] رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ البُخَارِيِّ وَلم يُخَرِّجَاهُ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسلًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ الأَوْلَى بِالصَّوَابِ)}.
قوله هنا: (وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ، عَن أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَن لَونَيْنِ)، أي: نهى عن إخراج الزَّكاة من صنفين من أصناف التُّمور:
أولهما: التَّمر الجُعْرُورِ: وهو الذي نسميه الدَّقل، أو رديء التَّمر، فيكون يابسًا لا يتمكَّن الناس من أكله.
ثانيهما: التَّمر الحُبَيْقِ: نوع آخر من التَّمر الرديء.
قال: (وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمَونَ شَرَّثِمارِهِم فَيُخْرِجُونَهَا فِي صَدَقَاتِهِمْ)، لا يبحثون عن الأفضل.
قال: (فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [البقرة:267])، فدلَّ هذا على أنَّ الخبيث لا نُخرج منه زكاة أموالنا.
{(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ مُوسَى، عَنْ أَبي سَيَّارَةَ الـمُتَعِي قَالَ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لي نَحْلًا؟ قَالَ: «أَدِّ الْعُشْرَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ احْمِهَا لي، فَحَمَاهَا لِي. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَابْنُ ماجَهْ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِىَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ" وَقَالَ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ: لَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ)}.
هذا الحديث يتعلَّق بزكاة العسل. هل تجب الزَّكاة في العسل أو لا؟
إذا كان عند الإنسان مَنحل وجاء بخمسين قِربة من العسل، أو عشر قِرَب. فماذا يجب عليه أن يفعل؟
هل تجب زكاته أو لا تجب الزَّكاة في العسل؟
قال: (عَنْ أَبي سَيَّارَةَ الـمُتَعِي قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لي نَحْلً)، وبالتالي سيخرج منه العسل، فكأنَّه سأل عن زكاته حينئذٍ.
قال: «أَدِّ الْعُشْرَ»، أي: مقدار الزكاة الواجبة في العسل: العُشْرِ، يعني: 10 % لأنَّه خارج من الأرض وليس فيه كَلَفَة ولا مشقَّة، فلا يسقيها ولا يقوم عليها.
قوله: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ احْمِهَا لي)، أي: المنطقة التي فيها النَّحل اجعلها حمى لي، لا يتجاوز عليَّ أحد فيها. قال: «فَحَمَاهَا لِي».
قوله: (رَوَاهُ أَحْمدُ، وَابْنُ ماجَهْ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِىَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ")، أي: أنَّه ليس بمتَّصل.
هذا الحديث ليس بمتَّصل، فإنَّ سليمان بن موسى من تابعي التابعين، وبالتالي أبو سيَّارة ليس حديثه هنا متَّصلًا مع سليمان، وسليمان بن موسى لم يُدرك أبا سيَّارة، وبالتَّالي فهو منقطع.
وإذا تقرَّر هذا فإنَّه قد اختُلفَ في زكاة العسل، هل تجب الزَّكاة فيه أو لا؟
فمَن قال بوجوب الزَّكاة استدلَّ بفعل عمر، مع اعتضاده بهذا الخبر الضعيف.
ومَن قال بعدم وجوب الزَّكاة، قال: إنَّ الأصل أنَّنا لا نوجب الزَّكاة في مالٍ حتى يدل الدَّليل على ذلك.
لعلنا نقف على هذا، بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكل خير، وجعلنا الله وإيَّاكم من الهداة المهتدين.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك