الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

10258 21
الدرس الثامن

عمدة الأحكام 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية (هداة) والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في البدء}.
نعم، على بركة الله تعالى
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عن البَراء بن عازِب -رضي الله عنه- قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ- فَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ، تُنَادِي: يَا عَمُّ، يا عم، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّك، فَاحْتَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي، وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: بْنَتُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا النبي لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ» وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «أَنْتَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْك». وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي». وَقَالَ لِزَيْدٍ: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فنستكمل -إن شاء الله عز وجل- ما ذكره المصنف -رحمه الله- في (كتاب الرضاع)، وقد ذكر فيه حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-، وهذا الحديث وإن كان المصنف -رحمه الله- قد أورده في (كتاب الرضاع) إلا أنه أصل في (كتاب الحضانة)، ولكن بحكم أنَّ كتاب المصنف -رحمه الله- قائم على الاختصار؛ فإنه يُدرج بعض الأبواب ضمن بعضها، فهذا الحديث من عمد الأحاديث الواردة في (باب الحضانة)، فعمدتها هو حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- في قصة ابنة حمزة.
والحضانة: هي القيام بحق المحضون، بجلب مصالحه ودفع المضار عنه، هذا هو الأصل في الحضانة، والمحضون هو الطفل، سواء كان ذكرًا أو أنثى.
فالحضانة هي رعاية الصبي والقيام بمصالحه، وحفظه عما يضره في دينه ودنياه، والحضانة لا يراد بها مجرد الأكل والشرب فقط، وإنما تشمل التربية والتعليم أيضًا، وهذه كلها معان في الحضانة توازي الطعام والشراب.
قال: (عن البَراء بن عازِب -رضي الله عنه- قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ، يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ)، وكان ذلك في عمرة القضاء، أي: في السنة السابعة من هجرة النبي ، فإنَّ النبي قد كان قابل قريشًا في الحديبية، على أن يرجع من عامه الذي هو العام السادس، ويعتمر في العام السابع، فكانت تسمى عمرة القضية، يعني: عمرة القضاء، أو العمرة المكتوبة التي كان قد قضى عليها قريشًا، وقد قاضاهم على أن يقيم بمكة ثلاثة أيام، وألا يحمل فيها السلاح، فدخلها النبي وأقام فيها ثلاثًا ثم خرج.
فلمَّا خرج (تَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ) وهي على ما قيل: عمارة، (تُنَادِي: يَا عَمّ، يا عم)، وكانت أمها هي: "سلماء بنت عميس"، يحفظ هذا الاسم جيدًا، تبعت تنادي النبي يا عم يا عم، وهذا من جهتين، من جهة أن النبي عمها من الرضاع، فهو أخو حمزة، وهو أيضًا من عادات العرب في تسمية الكبير، حيث يسمونه بالعم، كما قالت خديجة لورقة: "يا عم"، وفي بعض الروايات "يا ابن العم".
وكما ينادون أيضًا الصغير بقولهم: يا ابن الأخ، أو يا ابن أخي.
أخذت تنادي (فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا)، وكانت صغيرة، ومن اللطيف أنَّ عليًّا -رضي الله عنه- قد تزوجها فيما بعد.
(فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّك، فَاحْتَمَلَتْهَا) أي: احتملتها فاطمة، والآن هي بين ابن عمها وابنة عمها، ولكنَّ عليًا ليس محرمًا لها، ولهذا فقد تزوجها فيما بعد، وفاطمة ابنه عمها.
قال: (فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ)، الآن هذه معركة حضانة، وسنرى كيف يقضي النبي .
(فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي)، أنا أحق بها من جهة ماذا؟ من جهة إني أول من أخذها، ومن جهة أنها ابنة عمي، ومن جهة أيضًا تحتي ابنة عمتها، ابنتك يا رسول الله، وابنة عمها.
(وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي) يعني: نسبك -يا علي- مثل نسبي، وليس هناك فرق، وقال: (وَخَالَتُهَا تَحْتِي)، وهذا هو أقوى ما أحتج به جعفر، وهذه -يا إخوان ويا أخوات- من القيود التي يجب أن تُراعى في القضاء، بمعنى: أنَّ الرجل الفقيه ما يحتاج أن يُدلي بشيء يُدلي به غيره. تدلي بأنها ابنة عمك، ويأتي فلان فيدلي بأنها ابنة عمك، ما في شي يميزك عنه، ولكن انظر إلى قيد آخر، وحجة أخرى تدلي بها، فجاء جعفر وقال: (وَخَالَتُهَا تَحْتِي)، من هي خالتها؟ خالتها هي: "أسماء بنت عميس"، وذكرنا أنَّ والدتها هي: "سلماء".
(وَقَالَ زَيْدٌ: بْنَتُ أَخِي) وهو زيد بن حارثة، قال: ابنة أخي، يعني: في الإسلام.
(فَقَضَى بِهَا النبي لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ»)، فأنزل النبي الخالة منزلة الأم، وبالتالي صار الأصل أنَّ أولى الناس بالحضانة بعد الأم هي الخالة. ولكنهم قالوا: ما لم تكن أم لها موجودة، كيف؟ جدتها؛ لأنَّ الجدة أم، فما يمكن أن يكون القضاء للخالة وأم الخالة موجودة؛ لأنَّ أم الخالة أولى بها.
إذًا الأصل أنَّ الأولى في الحضانة هي الأم، ثم من فوقها، أي: الأم وإن علت، جداتها هنَّ الأولى بها، حتى لو كانت الجدة من جهة والدها فهي أولى بها من خالتها؛ لأنها أم شرعًا، ثم بعد ذلك تأتي الخالات، ثم بعد ذلك العمات، ولكنَّ الخالة مقدمة على العمة عند جماعة من العلماء، قالوا: لأنَّ النبي قضى بها لخالتها، وقال: («الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ»)، فإنَّ فيها من حنان الأم، ولهذا فعلًا يرى الإنسان أنَّ حنان الخالة على أبناء أختها أكثر من حنان العمة على أبناء أخيها، هذه فطرة فطر الله -عز وجل- عليها الناس، إلا أشياء يسيرة، فتجد أنَّ الخالة تحن عليهم، وتعامل هؤلاء الأبناء كأبنائها.
فقال النبي : («الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ»)، وأراد النبي أن يرضي الباقين، فقال لعلي: («أَنْتَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْك»)، وهذه شهادة عظيمة لعلي -رضي الله عنه-، يعني: أنا وأنت بمنزلة واحدة، فقد كان عليٌّ -رضي الله عنه- هو الذي يُبلغ عن رسول الله في الحج ونحوه، وهو أقرب بني هاشم من النبي ، فإنَّ أفضل بني هاشم على كثرة من فيهم من الفضلاء، هو علي -رضي الله عنه-، وقد كان مع النبي في فترة طويلة، وقد زَوَّجه النبي من ابنته، فكان -رضي الله عنه- أقرب الناس من قرابة النبي إليه.
(وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي») وهذا مدح عظيم، فكان -رضي الله عنه- أشبه الناس بخلق النبي وأشبه الناس بخلقه، حتى إنه كان يُدعى بأبي المساكين، كما قال أبو هريرة -رضي الله عنه-، قال: "ما رأيت أحدًا أرحم بالمساكين من جعفر، حتى كنا ندعوه بأبي المساكين، وإن كان لا يذهب بنا إلى بيته فيطعمنا ما في بيته، حتى إن كان ليأتي بالعُكة فيها السمن، فيعصرها ثم يشقها ويقول: كلوا، -رضي الله عنه وأرضاه-.
(وَقَالَ لِزَيْدٍ: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا»)، يعني: في الدين، فأنت أخي في الإسلام، وأنت مولاي، وذلك بالولاء الذي كان بين رسول الله وبين زيد -رضي الله عنه-.
فهذا الحديث كما ذكرنا أصله في باب الحضانة، وفيه أنَّ الأم مقدمة على كل أحد حتى على الأب. وكذلك كل "أُنْثَى وَذَكَرٍ" في درجة واحدة، فإذا وُجِدَ العمُّ والعمة فيقدم العم، وإذا وجد الخال والخالة، فتقدم الخالة، فكل ذكر وأنثى في منزلة واحدة؛ فإن الأنثى تقدم فيه على الذكر لماذا؟ لأنها أعلم بالحضانة ورعاية الصبي من الذكر، ولهذا لا ينبغي للرجل حقيقة أن يشتد في أمر الحضانة؛ لأنَّ الحضانة من شأن النساء، والخصومات التي تقع دائمًا بين الرجال وبين النساء في الحضانة، ليست حقيقة أمرًا مشروعًا، خاصة إذا احتدت، وأصبح الأمر أشبه ما يكون نوعا من الانتقام، نقول: هذا مخالف للشرع.
وهذا ينعكس أثره على الصبي، والأصل أن ينظر الرجل، فإن رأى أنَّ المرأة مستقيمة في دينها وفي خلقها، فليخلي بينها وبين الحضانة؛ لأنها أعلم بالصبي، وأكثر رعاية له، وهذا هو الأصل في المرأة، أي رعايتها لأهلها وقرارها في بيتها، وليس هو الأصل في الرجل.
وفي الحديث بوجه عام فضل الصحابة -رضي الله عنهم-، وما كانوا عليه من التواصي بالخير والبر.
وفيه أيضًا أنَّ الحضانة يشترط لها رضاء الزوج، بمعنى أنه إذا قلنا: إنَّ الخالة أحق بالحضانة، فلا يصح أن تحضن الخالة هذا الصبي إلا برضا زوجها، كما رَضِيَ جعفر -رضي الله عنه-، فإنَّ جعفرًا -رضي الله عنه- كان راضيًا بذلك. ولكن لو رفض الزوج وقال: ما أقبل أن تأتي بهذا الصبي عندي فتنشغلين به، وأنا لي عليك حق، فنقول: ما يجب عليها الحضانة، بل تنتقل الحضانة إلى من بعدها، أي: إلى بقية الخالات، أو تنتقل إلى العمات، أو إلى غيرهم، أو إلى حاضنة أجنبية، ولكن لا تجبر الخالة على الحضانة.
وفيه أيضًا إشارة إلى حق الخالة، وأنَّ برها كبر الأم، ولهذا جاء عن النبي أنه قال: «هل لَكَ مِن أمٍّ؟» قالَ: لا، قالَ: «هل لَكَ من خالةٍ؟» قالَ: نعَم، قالَ: «فبِرَّها» ، فبر الخالة مقاربًا لبر الأم، ولهذا جعلها النبي هي الحاضنة.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (كتاب القِصَاص.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»)}.
قال المصنف -رحمه الله- (كتاب القِصَاص)، والقصاص مأخوذ من القصِّ، والقصُّ هو الاتباع، تقول: قصصت أثرك، أي: اتبعته، ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف:64] أي أنهما يتبعان أثارهما، إذًا هو اتباع الجاني بما فعل بالمجني عليه، أن نرجع إلى الجاني فنتبعه بما فعل بالمجني عليه، هذا هو الأصل في القصاص، وهو أصل عظيم من أصول الشريعة، ومن المعاني الكبيرة في العدالة.
الآن فرغنا بحمد الله من كتاب الأنكحة وما يتبعه، وباقي القسم الأخير، والفقه أربعة أرباع ولا نقصد بالأرباع التساوي.
الربع الأول: العبادات، والربع الثاني: المعاملات التي هي البيوع ونحوها وما يجري مجراها، والربع الثالث: الأنكحة، التي بدأناها بكتاب النكاح، وأنهيناها بكتاب بأبواب الحضانة، والربع الرابع: القصاص والحدود، وما يتبعها من الديات، والإقرار، والقضاء، والشهادات، فهذه كلها تدرج في هذا الكتاب.
فهو ربع جليل، ولكنه هو أقل الأرباع حاجة، ولهذا لا تجد كثيرًا من الناس يحتاج إليه، فلو أنَّ إنسانًا قال: كيف أعلم الناس؟ نقول: علمهم بالترتيب الفقهي، وخاصة ترتيب فقهاء الحنابلة، لأنه ترتيب وفق حاجات الناس، فأول وأكثر ما يحتاج إليه الناس هو العبادة، ثم بعد ذلك إلى البيوع؛ لأن به حياتهم وعيشهم ثم إلى الأنكحة، ثم حاجتهم إلى القصاص والحدود أقل من ذلك كله.
فتجد أن من العشرة والعشرين والثلاثين من لا يحتاج إلى باب القصاص والحدود ونحو ذلك، إلا الرجل الرجلان ونحو ذلك، ممن يبتلى بها.
إذًا ذكر المصنف -رحمه الله- (كتاب القصاص)، وذكرنا أنَّ القصاص أصل عظيم يُبين كمال الشريعة وعدالتها، وفيه شفاء للنفوس، وفيه أيضًا الزجر والردع، ولهذا نرى أنه لا يُهمل هذا الباب إلا كثرت الجرائم، لأنه ليس هناك ما يقوم مقام القصاص أبدًا.
لا يظن الإنسان أنَّ السجن أو العقوبات المالية تقوم مقام القصاص، فهذه كلها ما تقوم مقام القصاص، نعم فيها شيء من الزجر ولكنه ليس هو الزجر المطلوب، كما يؤديه القصاص، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:179]، أي: يا أولي العقول، إذا أردتم الحياة الحقيقية، وأردتم أن تحولوا بين الناس وبين الجرائم، وبين أن يَعدو بعضهم على بعض كالسباع، فليس شيء أولى من القصاص.
ولهذا ما من بلد يطبق فيه القصاص إلا عَمَّ فيه العدل، وعم فيه السلام والأمن، واختفت منه الجرائم وقلت، ولا يفتقده بلد إلا كَثُرَت، حتى ولو كان هناك عقوبات أخرى بديلة، كالسجن والعقوبات المالية كما ذكرنا.
ذكر -رحمه الله- حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»)، والقصاص باب خطير، والأصل أنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات، والأصل أن لا يسفك دم امرئ مسلم إلا ببينة عادلة، فإذا كان كذلك، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- هذا الحديث كأنما يُحذر من تقحم هذا الباب، وأنه لا ينبغي أن يقتحم إلا على بصيرة.
وأيضا أيها الجاني احذر أن تجني، وأن تسول نفسك سفك دم مسلم بأي شبهة من الشبهات، إياك وسفك الدم، فإنه لا يزال المرء معنقًا فسيحًا، حتى يصيب دما حرامًا، وأول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة فيما يتعلق بحقوق الخلق هو الدم، «لَا يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» ، فالحمد لله الذي جعل الإنسان في فسحة، ما لم يصب دمًا، إذا أصاب الدم هلك.
إذًا «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ»،
الأول: («الثَّيِّبُ الزَّانِي») وهذا يقيم لا يقيم عليه الحد إلا الإمام، وذلك إمَّا بإقراره أو بشهادة الشهود الأربعة، وأن يكون ثيبًا، يعني: قد تزوج زواجًا صحيحًا من قبل ثم وقع في الزنا -والعياذ بالله- فهذا يقام عليه الحد.
الثاني: («وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ») أي أنَّ القاتل يُقتل.
الثالث: («وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ») أي: المرتد عن دين الله -عز وجل-، الذي فارق جماعة المسلمين، وخرج عن دين الله رب العالمين، هذا يقام عليه الحد، ولا يقام عليه الحد إلا بعد الدعوة، يُدعى إلى الإسلام كما قال عمر -رضي الله عنه-، يحبس ويضغط عليه بما استطاع، قال عمر -رضي الله عنه- في بعض الأحاديث، وإن كانت فيها نظر: "هلا حبستموه فأطعمتموه كل يوم رغيفًا"، قاله في الرجل الذي ارتد فقتله الصحابة -رضي الله عنهم-.
إذا ذكر المصنف -رحمه الله- أنَّ هذه الأمور الثلاثة التي يسفك فيها الدم، وأغلب الآن ما يقام فيه الدم هو النفس بالنفس، وهو (باب القصاص)، وباب القصاص هو باب النفس بالنفس؛ لأنَّ القسم الأول («الثَّيِّبُ الزَّانِي») بابه هو باب (الحدود)، وهو حد شرعي، وكذلك («وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»)، حد شرعي، وأمَّا («وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ») فإنه من باب القصاص، وقد كانوا في الجاهلية، أهل بغي وعدوان، وأهل شطط في الطرفين، فإما أن يقتلوا بالقاتل القبيلة كلها، كقصة كُليب وما حصل منه، فأنه ما كان يقبل أنه يقتل فيها بجير يذهب في دم كليب، بل يريد أن يقتل القبيلة كلها، في سبيل هذا الرجل الذي هو نفس.
وكان يُقتل غير القاتل، ما شأن غير القاتل أيضًا؟ لماذا إذا قتل من القبيلة الفلانية شخص يأتون فيقتلون منهم رجلًا آخر؟ هذا من العدوان، والبغي الذي لا يرضاه الله -عز وجل-، ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام:164].
وإمَّا أن يكون عندهم ما هو دون ذلك، وهو أنهم يرون أن غيرهم غير كفؤ لهم، فما يَقبل منه إلا أن يقتل قبيلته كلها، وربما إذا قتل الأعلى من الأدنى قال فيُسلم له القاتل فيقول: ما أقبل حتى أستوفي من القبيلة كلها، أو حتى يكون الرجل مكافئًا له.
وإذا قُتِلَ من القبيلة العليا، وطُلِبَ أن يُسلم لهم قال: ما أسلم، إمَّا أن تأخذ من الدية وإلا لا يقتل القاتل؟ كما كان حال اليهود، فإنهم كانوا على قبائل، فقبيلة إذا قتل منها أعطاهم الدية، وقبيلة إذا قتل منها فلابد من أن يقتل القاتل، فكان هذا هو حال العرب، فأنزل الله -عز وجل-: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام:164]، وأنزل الله -عز وجل- ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة:179].
والقصاص ثابت في الكتاب والسنة والإجماع، مع الوعيد الشديد على القتل ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93]
وذكر المصنف -رحمه الله- هذه المعاني، وهي قوله : («لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»).
قتل النفس بالنفس عند العلماء -رحمهم الله- محمول على الرجل والمرأة، فيقتل الرجل بالمرأة، وتقتل المرأة بالرجل، هذا هو الأصل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى﴾ [البقرة:178]، مع ذلك قال العلماء -رحمهم الله-: إنه قد انعقد الإجماع على أنَّ الذكر يُقتل بالأنثى، وذلك مأخوذ من قصة اليهودي الذي قتل جارية على أوضاح، رَضَّ رأسها بين حجرين، فأقر النبي رضَّ رأسه بين حجرين.
فقد قتل الرجل بالمرأة ويقاد منها، هذا هو الأصل، والمرأة أيضًا تقاد من الرجل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»)}.
هنا حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وهو من الأحاديث المعظمة للدماء، وقد ذكر النبي أن («أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»)، مع أنه قد جاء أنَّ «أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ»، فأول ما يسأل عنه العبد هو الصلاة، وهذا ليس فيه مقاضاة، وإنما سؤال، وأول ما يكون فيه المقاضاة هو الدم؛ لأنَّه هو أغلب الأمور، فكل الأمور قد تجبر، وقد تتدارك حتى القذف -أعاذنا الله وإياكم منه- قد يتدارك بأن يكذب الإنسان نفسه، وأن يقام عليه الحد، فيرتد خزي القذف عليه، كما كان الأمر والحال في من قذف ابنه الصديق -رضي الله عنها-، فإنهم قد أقيم عليهم الحد، وارتدَّ إثمُ وخزيُ القذف عليهم، وخرجت -رضي الله تعالى عنها- بريئة.
وأمَّا الدم فإنه لا يتدارك، ولذا فقد قال العلماء -رحمهم الله-: حتى قتل القاتل، ليس فيه شفاء للمقتول، ولهذا جاء عن بعض العلماء -رحمهم الله- أنه قال: إنَّ قَتلَ القاتل ليس فيه الكفارة، قدو لا يكون كفارة بكل الأحوال، فالمقتول يقول: ما الذي أدركته أنا من قتلك؟ لم أشتفي بقتلك ولم أرك، وما ينفعني قتلك شيئًا، وإنما قتلك إنما هو شفاء لقرابتي، ودرأ فقط لشيوع فتنة القتل، فهذا مما يدل على شدة القتل، ولهذا كان ابن عباس -رضي الله عنه- ينحو إلى أنَّ القاتل لا توبة له.
فكان يقول: إن القاتل لا توبة له، وإنَّ آية النساء ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93]، إنما نزلت في ذلك، وإن آية الفرقان، وهي: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:68-70]، إنما هي في الكافر إذا أسلم.
والحقيقة أنَّ هذا المعنى من المعاني القوية؛ لأن هذه الآية إنما نزلت في الكفار ابتداء، ويقول: إن هذه إنما هي في المسلم.
قال سعيد بن جبير: قد راجعته في ذلك مرارًا، ولكنه لا يزال مُصرًا على رأيه أنَّ القاتل لا توبة له، وهذا المعنى قوي، فالقاتل يعذب يوم القيامة، لماذا؟ لأنَّ الأمر عظيم عند الله -عز وجل-، وهذا حقيقة أمر لا يجب أن يغرس في قلوب الناس، حتى ما يتساهلون في القتل، خاصة مع وجود ما يسمى الآن بالديات المضاعفة وغيرها، التي جعلت بعض الناس يطمعون ويقنعون، يقال حتى لو أن هذا القاتل الذي تجرأ على هذا القتل ليس أهلًا لأن يشفع فيه، فمن تجرأ على القتل ليس أهلا لأن يشفع فيه؛ لأنه إذا كان جماعة من العلماء يرون أنه ليس له توبة، ويرون أنه قد قارف أعظم الذنوب بعد الشرك بالله -عز وجل-، فعلى أي شيء يشفع فيه؟ وعلى أي شيء تجمع له الأموال، التي لو أنفقت في وجوه الخير لكانت خيرًا مما يسمونه عتق الرقبة؟ وليس هذا بصحيح، عتق رقبة ماذا؟ عتق رقبة مستحقة للقتل الشرعي، وتعتقها من ماذا؟
نقول: ليس هذا هو العتق الشرعي، ولا يضمن الإنسان أنه هو العتق الشرعي، ولا يكون هذا أيضًا من أسباب تساهل الناس في سفك الدماء، والتعدي على حرمات المسلمين.
يقول الإنسان: عندي قبيلتي، وعندي أسرتي، وعندي عائلتي، وأنا من الأثرياء، ومن سفكنا دمه، أرضيناهم بعشرة ملايين، أو أقل من ذلك أو أكثر، ثم يعفون، ومن ثم يتجرأ الناس في ذلك، ولو أنَّ الناس علموا أنه سيخلى بين القاتل وأهل القتيل، فلن يجمع له أحد، ونقول لمن يجمع مثل هذه الأموال: هذه الأموال التي تجمعها لو بذلتها في وجوه الخير لكان خيرًا لك، فمثل هذه الأموال تبذل في وجوه الخير، فيمكنك أن تعتق بها أصحاب الدين والإعسار، الذين ما تسببوا في مثل هذا الإعسار، ولا أجرموا في حق أو سفكوا الدماء، نقول: هؤلاء كلهم أولى بالعتق من هذا الرجل الذي قد قال عنه ابن عباس -رضي الله عنه-: "لا توبة له".
قال: إنَّ («أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»)، وهذا فيه دلالة على خطر سفك الدماء.
ولهذا قال النبي : «مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه» ، فلابد إذًا من المحاسبة وأخذ المظالم، وقد بين النبي أنه «يُقتص لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ» ، فإذا كان هذا في حق البهائم، فكيف في حق المخلوقات؟
ولهذا ذكر النبي أنَّه «يجيءُ المقتولُ بالقاتلِ يومَ القيامةِ ناصيتُهُ ورأسُهُ بيدِهِ وأوداجُهُ تشخَبُ دمًا يقولُ يا ربِّ هذا قتلَني» ، والقتل أمره عظيم يا إخوان، وينبغي أن يحذر، ولهذا صَدَّرَ المصنف -رحمه الله- الباب بهذه الأحاديث عن رسول الله ؛ لتكون زاجرًا عن سفك الدماء المحرمة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفْنه ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «كَبِّرْ ، كَبِّرْ» وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ؟» ، أَوْ «صَاحِبَكُمْ؟» قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» قَالُوا: كَيْفَ بِأَيْمَانِ قَوْمِ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ مِنْ عِنْدِهِ.
وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ»، قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالُوا: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمٌ كُفَّارٌ.
وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ)}
هذا الحديث قد ذكره المصنف -رحمه الله-، وهو حديث جليل في مسألة مشهورة عند العلماء -رحمهم الله- تسمى: مسألة القسامة، وهي دعوة مكررة في قتل معصوم، أو أيمان مكررة على دعوى قتل معصوم، ما هو شأن القسامة؟ وما هي قصتها؟ ومن أين بدأت؟
القسامة -يا إخوان ويا أخوات- هي أن يقتل قتيل لا يعلم قاتله بعينه، ولكن يكون هناك لوث، واللوث هي القرينة الظاهرة، على أنه قد قتله فلان من الناس، بسبب ماذا؟ بسبب أننا كنا نسمعه يذكره كثيرًا، ونرى أنه قد قتل الآن في حية أو قريبًا من مكانه، فيأتي أولياء المقتول، خمسون رجلًا منهم، فيحلفون بالله العظيم أنَّ فلانًا هو قاتله، فإذا أتموا الخمسين أوتي بفلان فأعطي إليهم فقتلوه.
ولكن الأمر خطير؛ لأنك تحلف أحيانًا على شيء ما رأيته، فلا ينبغي للإنسان أن يُقدم على هذا إلا وقد استيقن، وإلا فلينجو بنفسه، وقد كانت أول قسامة -كما ذكر ابن عباس- أنَّ أول قسامة في الجاهلية كانت فينا بني عبد المطلب.
استعمل رجل من قريش وكان مسافرًا رجلا من بني عبد المطلب، أو من بني هاشم على خدمته، وقال له: تعال لتخدمني، فانطلقا سويًا، فبينما هو يعقل الإبل فقد العقال، فسأله وقال: أين عقال الإبل هذا؟ فقال: ما وجدته فرماه بعصا كانت معه فكان فيها حتفه، فسقط الرجل ميتًا أو أوشك على الموت، ثم انطلق هذا الرجل الذي هو من بني عبد الدار وأكمل طريقه، فوقف رجل من غسان على هذا الرجل الذي يُنازع الموت، فقال له الهاشمي: هل أنت مبلغ رسالة عني يومًا من الدهر؟ قال: نعم، قال: إذا أدركت الموسم فنادي يا قريش، فإذا اجتمعوا عليك، فنادي يا عبد مناف، فإذا اجتمعوا عليك فنادي يا بني هاشم، فإذا اجتمعوا عليك فنادي يا أبا طالب، فقل له: إنَّ فلانًا من بني عبد بن الدار قد قتلني في عقال، ثم مات، فرجع الداري من سفرته ولكن لم يرجع معه الهاشمي، فجاء إليه أبو طالب وكان عميد الهاشميين، فقال: أين صاحبنا؟ قال: إنه قد مرض، فقمت عليه ومرضته حتى توفي، فغسلته ودفنته، فقال: قد كان أهلًا بذلك منك، يعني: يستحق هذه العناية، ومشى.
ثم لَمَّا كان الموسم، جاء هذا الرجل الغساني فنادى، وأخبر أبا طالب بهذا الخبر، فجاء أبو طالب إلى بني عبد الدار، فقال: يا بني عبد الدار إنكم قد قتلتم هذا الرجل، فإما أن تدوه، وإمَّا أن تحلفوا خمسين يمينًا أنَّ صاحبكم ما قتله.
فتهيأ ثمانية وأربعون رجلًا فحلفوا بالله، ما قتله صاحبنا، وليس له سبب في قتله، وبقي اثنان، أمَّا أحدهما فجاء إلى أبي طالب وقال: يا أبا طالب أرأيت خمسين رجلًا حلفوا، حق كل رجل منهم بعيران، فهذه بعيران وخلِّ بيني ولا تحبس يميني حيث تحبس الأيمان، فقال: قبلناها منك. وجاءت امرأة من بن هاشم فقالت: يا أبا طالب إنَّ ابني هذا ليس لي غيره، وأنا هاشمية، يعني: أنا منكم، فلا تصدر يمين ابني حيث تصدر الأيمان، فقال: قبلنا ذلك.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، ما مرَّ عليهم الحول وفيهم عين تطرف، هلكوا كلهم بشؤم اليمين.
وكانت وقعة أخرى قد ذكرها أبو قلابة، عبد الله بن زيد الجرمي بحضرة عمر بن عبد العزيز، وهو أنَّ عبد الملك بن مروان قد قضى بالقسامة، فجاء إليه قوم، فحلفوا بالله إنَّ فلانًا هو القاتل، فدفعه إليهم فقتلوه. قال عبد الله بن زيد -أبو قلابة- فخرجوا جميعًا -خمسون رجلا- فدخلوا في غار، وانطبقت عليهم صخرة فماتوا.
وكانت هذه القصة التي هي قصة سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ في أمر القسامة التي كانت على عهد النبي ، وقد (انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ)، وعبد الله بن سهل ابن عم وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ، فانطلقا (إلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ) أي: بعدما فتحها النبي ، (فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفْنه)، أي: قد قتل في دار اليهود، (فَدَفْنه ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «كَبِّرْ، كَبِّرْ»)، يعني: قَدِّم الأكبر، وهذا فيه مشروعية تقديم الكبير، وأنَّ هذا هو الأولى.
قال: (وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ)، أي: عبد الرحمن بن سهل، (فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا) يعني: مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ، فقال النبي : «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ؟»، أي: طلب منهم النبي الحلف، وقال: ائتوني بخمسين رجل منكم يحلفون على رجل من اليهود أنه هو القاتل وأنا أدفعه إليكم، (قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟).
فقال النبي : «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا»، أي: هل تقبلون أن تحلف اليهود خمسين يمينًا أنهم ما قتلوه.
(قَالُوا: كَيْفَ بِأَيْمَانِ قَوْمِ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ مِنْ عِنْدِهِ) أي: من بيت المال.
قالوا: فيه دلالة على جواز القسامة، وهو أن يُقتل قتيلٌ في مكان فيه لوث، فيأتي أولياء المقتول فيدَّعون على قاتلٍ معينٍ بعينه، أنه هو القاتل، ويحلفون على ذلك خمسين يمينًا، أي: خمسون رجلا كلهم يحلف على هذا الرجل.
إذًا هذه القسامة خطيرة، قالوا: كيف يكون ذلك بدون بينه؟ وقالوا: لو حلف خمسون رجلا خمسون يمينًا على رجل بعينه من بين كل القرية أو كل القبيلة، يكون ذلك دلالة على تأكد أو توجه القتل عليه، فإذا حلفوا خمسين يمينًا فإنه يستحق وتأكد القتل عليه، فيدفع إليهم ليقتلوه، وإن لم يحلف هؤلاء خمسين يمينا، فإنه ينتقل إلى القوم الآخرين، وتثبت عليهم الدية.
فإذا أردوا الخروج من الدية فعليهم أن يحلفوا خمسين يمينًا، ولهذا لو حلف اليهود خمسين يمينًا سقطت دية الرجل، وذهب دمه هدرًا، ولهذا تفطن لها مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ وقالا: قَالُوا: (كَيْفَ بِأَيْمَانِ قَوْمِ كُفَّارٍ؟)، هم كفار، ولا يبالون قد يقتلوننا جميعًا ثم يحلفون أنهم لم يفعلوا.
قال: (فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ مِنْ عِنْدِهِ).
قالوا: لو أنَّ اليهود حلفوا ما عقلهم، ولكن لَمَّا لم يحلفوا كان واجبًا على الإمام أن يعقله، قالوا: هذا هو الأصل، أنَّ كل قتيل قتل وجُهِلَ قاتله، كمن هلك في زحمة أو رمي جمار أو غير ذلك؛ فإنه يشرع أن يَدِيَهُ الإمام من بيت المال، أي: يقدم ديته إلى أهله.
هذا هو باب القسامة الذي ذكره المصنف -رحمه الله-، وهو من الأبواب التي تختص يعني بجوانب خاصة في القضاء، ولو قلنا في المحاكم السعودية على سبيل المثال، فأنا ما أعلم أنَّ ثمَّ قسامة حدثت منذ سنين طويلة، بل ما هناك حادثة قسامة مسجلة؛ لأنها أمر دقيق، وليس هناك قوم يحلفون على شيء ما رأوه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قدْ رُضَّ بيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا مَن صَنَعَ هذا بكِ؟ فُلَانٌ؟ فُلَانٌ؟ حتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فأوْمَتْ برَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ فأقَرَّ، فأمَرَ به رَسولُ اللهِ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بالحِجَارَةِ.
وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ، فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ )
}.
هذا الحديث من أَجَلِّ الأحاديث ومن أعظمها؛ لأنَّ فيه الإشارة إلى مسائل مختلفة ومتنازع فيها بين العلماء -رحمهم الله-، وأول هذه المسائل قول أنس -رضي الله عنه-: (أنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قدْ رُضَّ بيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا مَن صَنَعَ هذا بكِ؟ فُلَانٌ؟ فُلَانٌ؟ حتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فأوْمَتْ برَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ فأقَرَّ، فأمَرَ به رَسولُ اللهِ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بالحِجَارَةِ)، وفيه أنه يقبل قول المقتول فيمن قتله، ولكن لا يكن هذا الكلام دليلا قائمًا بذاته في القود من القاتل، بل يكون قريبه، ولهذا أُخِذَ اليهودي فاعترف، ولو لم يعترف ما أخذ؛ لأنَ هذه شهادة قاصرة، وبناء عليه فهذه من القرائن التي قد يُتوصل بها إلى القاتل، ولكن لا يُستند عليها في القود.
الأمر الثاني: أنه مما يدل على قود الرجل بالمرأة، وهو أصح ما ورد في سنة النبي ، من قعد الرجل بالمرأة، فإنَّ القاتل كان رجلا يهوديًا، والمقتولة كانت امرأة مسلمة، ومع ذلك فقد أقاد منه النبي .
قال: وفيه (أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ) الأوضاح هي قلادة فيها شيء يسير من فضة، ولكن طمع فيها فقتلها لأجل هذه القلادة، ورضَّ رأسها بين حجرين، فأخذه النبي ، واعترف اليهودي، كيف اعترف؟ الله أعلم، قد يكون مُسَّ بشيء من العذاب؛ لأنه قد جاء في حديث الزبير -رضي الله عنه-، أنَّ النبي لَمَّا أخذ سلام بن أبي الحقيق وغيره، أمر الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن يمسهما بشيء من العذاب، يعني: شيء من التعزير البسيط، ما يجوز التعذيب، ولكن شيئًا من التعزير البسيط الذي يقال معه: استخرج ما عندك، وهذا إذا تأكدنا من القرينة، كأن تكون هناك قرينة ظاهرة، فإنه لا بأس أن يؤخذ بشيء من العذاب، وأما إذا لم تكن ثم قرائن فما يجوز أن يمس بالعذاب.
قال: (فأمَرَ به رَسولُ اللهِ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بالحِجَارَةِ)، هذه فيه جواز المعاملة بالمثل في القتل، وهذه مسألة خلافية بين العلماء -رحمهم الله-، فمذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أن القاتل يقتل بالسيف مُطلقا، سواء قتل به أو قتل بغيره.
والوجه الثاني في المذهب أنه يفعل به كما فعل، وهذا هو الأصح والله أعلم، وهو الذي يدل عليه، لأنه في القول الأول قالوا: لأنَّ النبي قال: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ» ، ونقول: من إحسان القتلة المعاملة بالمثل، وإنما عدم إحسان القتلة هو المجاوزة.
وقالوا هناك حديث رواه ابن ماجه، وفيه: «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسيفِ» ، ونقول هذا الحديث لا يصح، ولا يثبت عن النبي .
والوجه الثاني: أنه يفعل به كما فعل، وهذا هو الأصح والله أعلم، ويدل عليه حديث الجارية، والمصنف -رحمه الله- قد ذكر هذا الحديث في هذا المعنى، فإنَّ هذا اليهودي قد رض رأس هذه الجارية، فَرَضَّ النبي رأسه، وهو تطبيق لقول الله -عز وجل-: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل:126]، وقد نزلت كما ذكر بعض العلماء في التمثيل الذي كان بقتلى أحد، فإنَّ النبي لَمَّا رأى حمزة غاظه ذلك، وأقسم إن أمكنه الله من قريش ليمثلن بخمسين منهم، فقال الله -عز وجل-: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل:126]، فإذا مثَّلت فمثِّل بواحد وليس بالخمسين، ولكن ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل:126]، فصبر النبي ، ولم يُمّثِّلَ بأحد منهم.
إذًا هذا حديث كما ذكرنا هو أصل في مسألة جواز القتل بمثل ما قتل به القاتل.
قالوا: إلا أن يكون قد قتله بأمر أو بفعل محرم وقبيح ومنكر، فإنه لا يُقتل بمثل هذا، وإنما يُقتل بغيره.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا فَتَحَ الله تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خزاعةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ النبي فَقَالَ: «إنَّ الله -عز وجل- قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ: حَرَامٌ، لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يُودِيَ».
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، اُكْتُبُوا لِي. فَقَالَ رَسُولُ الله : «اُكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ». ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إلاَّ الإذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله : «إلاَّ الإِذْخِرَ»)}.
هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفي الباب حديث أبي شريح الخزاعي -رضي الله عنه-، وهو قريب أيضًا من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصة القتيل الذي قتل في فتح مكة، فإنَّ "هذيل" قد قتلت رجلًا من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية، وقد قتلوه في مكة لَمَّا فتح الله -عز وجل- على رسوله في السنة الثامنة من الهجرة.
وقد اغتنمت هذيل هذه الفرصة، وقد كانت هذيل مع النبي ، فاغتنمت هذه الفرصة وقتلوا رجلًا من بني ليث، فقام النبي فقال: («إنَّ الله -عز وجل- قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ»)، فقوله: («قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ») كما جاء في قصة ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾، وأمَّا («وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ»)، بمعنى أن الله -عز وجل- قد أذن لرسوله ساعة من نهار.
قوله: («وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ: حَرَامٌ، لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاهَا»)، وهذا يدل على حرمة مكة، وأن الله -عز وجل- قد رخص لرسوله ما لم يرخص لأحد قبله ولا لأحد بعده، فإنَّ الله -عز وجل- قد أذن لرسوله في تلك الساعة من النهار، في رمضان من العام الثامن من هجرة النبي ، ثم عادت محرمة بحرمة الله -عز وجل- إلى يوم القيامة، فلا يجوز فيها القتل، ولا ما قارب القتل وشابهه.
فقد نهى النبي وأضفى على الحرم خصائص منها: تحريم القتل فيه بكل حال، لهذا قال العلماء -رحمهم الله-: لا يقتل فيه، حتى قالوا: القود يشرع أن يخرجه خارج الحرم فيقاد منه، ولا يقتل داخل الحرم.
وقد قال بعض العلماء بجواز القتل في القصاص داخل الحرام، كما هو مذهب عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- الذي كان أميرًا على مكة.
قال: («وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ: حَرَامٌ، لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا»)، ويعضد شجرها أي: قطعه، فما يجوز قطع شجر مكة لا للاحتطاب ولا لغيره.
(«وَلا يُخْتَلَى خَلاهَا») لا يُحَشُّ حشيشها، ما يجوز حشه أو قطعه للبهائم، بل يجوز أن تخلي بين البهائم وبين الحشيش ترعى كما تشاء، ولكن ما يجوز قطعه.
(«وَلا يُعْضَدُ شَوْكُهَا») حتى الشوك الذي يظن فيه الإيذاء ما يجوز قطعه.
(«وَلا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ») قد يقول قائل: قد مضى معنا في أبواب اللقطة أنه يجوز التقاط اللقطة إذا كان الإنسان سيعرفها، طيب ما الفرق بين مكة وبين غيرها؟
نقول: مكة تعرف أبدًا، ولا ما تملك، هذا هو الفرق بين مكة وبين غيرها، غيرها بعد السنة تملكها، وأمَّا مكة فلا تملكها البتة، ولهذا جاء عن النبي أنه قال: «لقطة الحاج حرق النار»، يعني ما فيها فائدة، تحرقك، ما الذي تصنع بها؟
ما يجوز لك أن تأكلها، وستبقى تعرفها أبدًا، فدع هذه اللقطة حتى يعثر عليها صاحبها، أو تؤخذ وتسلم إلى الأماكن المعدة لتعريف اللقطة، كما في أماكن المفقودات ونحو ذلك.
قال: («وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ»)، يعني: بعد هذه الكلمة من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، («إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يُودِيَ») يعني: إما القتل، وإما الدية، وهذه إنما هي متروكة إلى أولياء الدم.
(فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، اُكْتُبُوا لِي. فَقَالَ رَسُولُ الله : «اُكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ»)، أي: اكتبوا له هذه الخطبة، وفي هذا دلالة على كتاب حديث رسول الله ، وهو من أقوى ما استدل به على مشروعية ذلك.
قال: (ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إلاَّ الإذْخِرَ)، والإذخر نبات طيب الرائحة كانوا يجنونه فيضعونه في أماكن مواقد النار وعلى القبور، وفي أسقف البيوت حتى يمنع الماء، ويمنع نزول الروائح، ويبقي رائحة جيدة على البيوت ونحو ذلك.
(فَقَالَ رَسُولُ الله : «إلاَّ الإِذْخِرَ»)، وهذا استثناء من النبي للإذخر.
ولعلنا نتوقف هنا ونكمل -إن شاء الله عز وجل- ما تبقى من أحكام هذا الحديث في المجلس القادم، وفقنا الله وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم، ورضي عنكم، وشكر لكم.
وشكر الله لكم مشاهدينا الكرام على حُسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك