الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

5411 21
الدرس الثاني عشر

عمدة الأحكام 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية (هداة) والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في البدء}.
نعم، على بركة الله تعالى.

{قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فقد قال المصنف -رحمه الله-: (كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ) ، وإنما ذكر المصنف -رحمه الله- هذا الكتاب بعد (كتاب الحدود والقصاص) وقبل (كتاب القضاء) ؛ لأنَّ فيه مسائل تتعلق بجانب القضاء، فإنَّ القاضي أحيانًا قد يستحلف المدعى عليه، وإن كان هذا ليس هو الغرض الأساسي من إيراد هذا الكتاب، وإنَّما الغرض الأساسي حينما يُورد (كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ) ، إنما هو لبيان الحكم الشرعي المتعلق بالمكلف، فيما يتعلق بحكم الحنث في اليمين، وما الذي يجب عليه عند الحنث فيها؟ وما الذي يفعله؟ هذا الذي يذكره العلماء.
الأيمان هو: تأكيد الفعل أو الخبر، بذكر معظم بحروف القسم، أو ما يقوم مقامها، والمعظم هو الله -عز وجل-، وقولهم: بذكر معظم بمعنى أنه قد كان من الحلف، الحلف بغير الله، ويطلق عليه يمين، ولهذا قال النبي : «لا تحلِفوا بآبائِكم ولا بأمَّهاتِكم» ، فدلَّ على أنَّ الحلف بكل معظم يسمى يمينًا، ولكن اليمين الشرعية هي اليمين بالله -تبارك وتعالى-، وبأسمائه، وبصفاته، كأن تقول: "والله، والرحمن، والرحيم، وعزة الله، وجلال الله، وقدرة الله"، هذه هي الأيمان الشرعية، وما سواها من الأيمان، فهي هدر، ولا تعد من الأيمان الشرعية.
والأصل أنَّ الحلف قد جاء في كتاب الله -عز وجل-، وقد أنكر بعض العلماء على محمد بن داود الظاهري مرة حَلِفَه بالله -عز وجل-، فقال: كيف لا أحلف، وقد أَمَرَ الله -عز وجل- نبيه بالحلف في غير ما موضع، فقال: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن:7]، وقوله: ﴿قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ [سبأ:3]، فذكر الله -عز وجل- الحلف في غير ما موضع، وأمر نبيه بأن يحلف.
وقد جمع ابن القيم -رحمه الله- أيمان النبي ، فبلغت بضعًا وثمانين ومئة يمين، قد أقسمها النبي ، وهذا فيما وقفنا عليه، وما لم نقف عليه أكثر من ذلك.
إذًا الأصل في اليمين أنها جائزة، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يُكثر منها، وقول الله -عز وجل-: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [البقرة:224]، فليس معنى العرضة ها هنا على القول الصحيح حلف الإنسان بها في كل حين، ولكن الصواب لا تجعلونها مانعًا يمنعكم من أن تبروا وتقسطوا وتصلحوا، كما سيأتي في حديث عبد الرحمن بن سمرة، فحديث عبد الرحمن بن سمرة يعد تفسيرًا لقول الله -عز وجل-: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة:224].
وقد كان من عادة العرب أنهم يُكثرون من قول: بلى والله، ولا والله، وإي والله، إلا أنه ينبغي للإنسان ألا يجعلها في كل حديث، وإنما يجعلها في أحاديثه التي يلتفت إليها، وإلا لو أنَّ الإنسان كان ممن يقولها في لغو حديثه ما عدت عليه شيئا؛ لأنه قد جاء عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أنها قالت: «أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [المائدة: 89] في قَوْلِ الرَّجُلِ: لا واللَّهِ، وبَلَى واللَّهِ» .
فدلَّ ذلك على أنها قد كانت من عادة العرب عند رغبتهم في تأكيد الكلام، وكانت تجري بها ألسنتهم، وقد ذكرنا أنَّ النبي قد أقسم أيمانًا في مواضع كثيرة.
تحرم اليمين إذا كانت كاذبة، أو كانت تحول بينه وبين أمر واجب عليه شرعا، فاليمين الكاذبة هي اليمين الغموس، وهي أشد الأيمان، وقد جعلها النبي ثالثة الكبائر، كما في حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: «وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ»، وقول الزور هو: اليمين الزور، وشهادة واليمين الزور كلها متقاربة.
واليمين قد تكون محرمة، إذا كانت يمين زور، أو كانت تحول بينك وبين ما أوجب الله عليك، كالنفقة الواجبة عليك، تقول: والله ما أنفق عليكم. نقول: هذه يمين محرمة.
وقد تكون اليمين مكروهة، إذا كان فيها ضرر وإعنات لقرابتك ونحوهم، فإذا كانت تمنع حقا من حق الله كمن كان يضيق عليهم، يقول الإنسان: والله ما أجلس معكم شهرًا كاملا، ما أقطعكم ولكن لا أجلس معكم مثلا، فيكون فيه تضييق عليهم.
أو كمن يقول: شهر كامل لا أنفق عليكم النفقة الفلانية، كان ينفق عليهم نفقة فيها سعة، فيقول: شهر كامل ما أعطيكم إياها، نقول: هذا فيه التضييق عليهم، فهي مكروهة؛ لأنَّ فيها تضييق على من أمر الله -عز وجل- بالتوسيع عليهم.
وقد تكون اليمين مباحة، كشأن أغلب الأيمان، وتكون مباحة إذا لم تكن مُشتملة على محرم أو على مكروه. هذا هو الأصل في الأيمان.
وأمَّا النذر فهو التزام المكلف بفعل طاعة الله -تبارك وتعالى- مما لم يُلزمه بها الله -عز وجل، فالأصل في النذر أن تلتزم فعل طاعة لله -عز وجل-، ما ألزمك الله -عز وجل- بها، والطاعات التي ألزمك الله -عز وجل- بها معروفة، مثل: الصلوات خمس، فيأتي المكلف فيقول: لله علي أن أصلي في كل يوم عشر ركعات، هذا يسمى النذر المطلق، أي: النذر الغير مقيد بشيء.
أو نذر مقيد، فيقول: لله -عز وجل- عليَّ إن شفى الله -عز وجل- مريضي، أو نجحني في اختباري، أو وفقني في كذا، أو تمم علي كذا، أن أصلي لله -عز وجل- في كل يوم عشر ركعات.
فنقول: هذا هو النذر، والأصل فيه أنه مكروه؛ لأنه لا يأتي بخير، وهذا قول لبعض العلماء؛ لأنَّ النبي قال: «فإنَّ النَّذْرَ لا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ شيئًا، وإنَّما يُسْتَخْرَجُ به مِنَ البَخِيلِ» ، فالنذر لا يرد من قضاء الله شيئًا، فالمقدور عليك والمقدر عليك سيأتي، وينبغي لك أن لا تجعل النذر هو الدافع لك إلى فعل العبادات، بل يكون هذا من تلقاء نفسك، ثم إن الإنسان قد يعجز عنه وقد يضعف، ثم إن طريقة النذر خاصة إذا كانت النذر معلقًا هي طريقة ليست حسنة، وكأنما هي معاوضة بينك وبين الله، كمن يقول: اللهم إن شفيت مريضي فإني أصلي لك عشر ركعات، ما حاجة الله إلى صلاتك؟ فهذه الصيغة ليست صيغة حسنة، أو قال: اللهم إن شفيت مريضي سأتصدق بمئة ألف، فاستخرج الله -عز وجل- هذا المال بشفاء مريضك الذي كان سيقدر له، فنذرك لا تظن أنه سيغير شيئًا من قدر الله -عز وجل- البتة، ولهذا قال : «لا يأتي بخير».
وفي قول الله -عز وجل- حينما مدح الموفين بالنذر فقال: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ ، قال بعض العلماء: هذا دلالة على فضل النذر، نقول: لا. هذه دلالة على فضل الإيفاء بالنذر، وليس دلالة على فضل عقد النذر. هذا واحد.
الأمر الثاني: أنَّ النذر في معنى هذه الآية، وهو الأصح والله أعلم، ليس المراد به النذر العرفي، وإنما المراد به الإلزام الشرعي، فكل ما ألزمك الله -عز وجل- به، فهو نذر عليك، فقوله: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ يعني: يوفون بطاعة الله -عز وجل-، فهذا هو المعنى الصحيح في تفسير هذه الآية، وذلك حتى لا يقع التعارض عند بعض الناس.
وإذا كان كذلك، فإن من حلف بالله -عز وجل-، أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه، فقد انعقدت يمينه، ما لم يُعَلِّقَهَا بقوله: إن شاء الله. فإذا كان كذلك فقد وجب عليه الوفاء بهذه اليمين. فإن لم يف بهذه اليمين لغرض ما، إما لكون اليمين محرمة، أو لكونها مكروهة، أو لكونه ما استطاع. فنقول: يجب عليه عندها أن يتحلل من يمينه، وهو ما يسمى عند العلماء: بتحلة اليمين، وتحلة اليمين هي الكفارة، وهذه من رحمة الله -عز وجل- بهذه الأمة. فإنَّ الأصل في ملة إبراهيم على ما ذكره بعض العلماء -رحمهم الله- أنه لم يكن ثم شيء اسمه تحلل من القسم.
ولهذا نرى أن الصديق -رضي الله عنه- كما تقول عائشة عنه: «كانَ لا يَحنَثُ في يَمينٍ حتَّى أنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ اليَمِينِ» ، ولَمَّا حلف في قصة عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "لا أطعمه أبدًا"، فأمره النبي بكفارة اليمين، فكفر أبو بكر الصديق عن يمينه، لماذا؟ لأنه كان على ما كان عليه مما ورثه من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ونحوه، أنَّ من حلف على يمين؛ فإنه لا يجز التحلل منها حتى رخص الله -عز وجل-، ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة:89]، فرخص الله -عز وجل- و سوغ تحلة اليمين التي فيها حديث عبد الرحمن بن سمرة، والذي يعد من عمد أحاديث الباب، وفيه أنَّ النبي قال لعبد الرحمن: («يا عبد الرحمن بن سمرة: لَا تَسْأَلَ الْإِمَارَة») يعني: لا تطلب الإمارة، وهي الولاية بكل أحوالها، وبكل منازلها، فكل ولاية فإنها تدخل في هذا المعنى؛ لأنه لا يقال: إنَّ الإمارة ها هنا هي الولاية العظمى؛ لأن عبد الرحمن بن سمرة ما كان يسألها.
ومما يقرر هذا المعنى أنَّ النبي قد قال في حديث أبي موسى الذي سيأتي بعد قليل، وما ذكر المصنف نصه بتمامه، ولكن فيه أن رجلين قد أتيا من الأشعريين إلى النبي كي يستعملانه، يعني: يطلبان منه أن يعينهما عاملين له، والعامل هو الأمير، أو النائب. فقال النبي : «إنَّا وَاللَّهِ لا نُوَلِّي علَى هذا العَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عليه» ، فدل على سؤال الإمارة لا يراد به الإمامة العظمى، وعبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- ليس أهلا للإمارة العظمى، ولم يكن يسألها، وإنما المراد به كل أنواع الولايات، مثل: القضاء، الإمامة، الإمرة، النيابة، الرئاسة، كل هذه الأمور تدخل تحت قول النبي : («لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْتَ إلَيْهَا») . فإذا عَلِمَ الله -عز وجل- من قلبك حبها، وأنك تطلب هذا المنصب، فسيكلك إليه، وما وكله الله -عز وجل- إلى نفسه، فليبشر بالخيبة، وليبشر بالضياع، وهذا من نحو قول النبي : «إذَا جَاءَكَ مِن هذا المَالِ شَيءٌ وأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ ولَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وما لا فلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» ، فيا إخوان ويا أخوات، دين الله -عز وجل- يأمر المؤمن بعزة النفس، ومن عزة النفس عدم إرخاص العبد نفسه للمناصب أو للأموال، فلا تسأل المنصب، ولكن ما جاءك من هذه المناصب أو من هذه الأموال من غير سؤال، فأقبله إن رأيت نفسك به، وإلا فإنك إن سألته وكلت إليه، وكان في ذلك دونية منك، ونزول عن قدرك، سواء كان في المنصب أو في المال؛ لأنَّ سؤال المنصب يا أخوان لا يقل أبدا عن سؤال المال، ولا يعتقد الإنسان أنه إذا سأل المنصب يختلف عن سؤاله المال، بل سؤال المنصب هو بالتمام كسؤال المال.
طيب هل ينسحب هذا على الوظائف؟
يقال للإنسان لا تسأل الوظيفة ولا تطلبها، وإن كان الإنسان يستطيع أن يجد مندوحة فنعم، بمعنى أن الإنسان يُرَشَّح من غير أن يترشح فنعم، يعني يُقصد إليه، فنقول: نعم، وإن كان الأصل أنه قد أغلق هذا الباب بالكامل، ولا يمكن للإنسان أن يرشح إلى هذا المنصب أو هذه الوظيفة إلا بالسؤال أو التقديم فقد يقال إنه يسوغ له في ذلك، مع أنَّ الأفضل هو ترك ذلك.
لكن إذا كان الإنسان ما يجد الوظيفة في التعليم مثلا إلا أن يقدم، وإن لم يقدم فلن يتركوا بابه، فله فعل ذلك، لأنه في السابق مثلا قبل ثلاثين أو أربعين سنة مع قلة الوظائف كان الإنسان إذا تخرج من الجامعة ما يسأل وظيفة، بل تعرض عليه مباشرة، ويقال له: تم اختيارك للقضاء أو رشحت للقضاء، ولهذا كان إلى قبل عشرين سنة أو خمس وعشرين سنة، ولا أدري لعل هذا النظام موجودا حتى الآن، كان القاضي ما يرشح نفسه، وإنما إذا فرغ من دراسته الجامعية عُقدت لجنة فاختارت مجموعة من الطلاب، وهي التي ترشحهم، وليس هناك شيء اسمه التقديم على القضاء.
ولكن إذا وصلنا إلى مرحلة ليست موجودة هذه، فهل يسوغ للإنسان أن يتقدم لها؟ نقول: لا بأس به مع أن الأولى ترك ذلك.
قال: («فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا») ، وفيه أنه مفتقر إلى الله-عز وجل-، وأن الله عَلِمَ من نفسه عفتها، وعلم منه اتكاله عليه، وأنه ما طرق أبواب الخلق لأجل الحصول على هذه المناصب، وإنما ابتلي بهذا المنصب، فيعينه الله -عز وجل- ويكون سندا وعونًا له.
قوله: («وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ») . هذه الجملة -والله أعلم- هي مراد المصنف -رحمه الله- بذكر حديث عبد الرحمن بن سمرة، وهو ما يتعلق بجانب الأيمان منه، وفي الأعم الأغلب ما يرد كتاب الإيمان إلا ويرد معه حديث عبد الرحمن بن سمرة، وقول النبي فيه: («وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ») ، فيه دلالة من النبي على أنه يجوز عقد اليمين، وعلى أنه يجوز التحلل من اليمين، وعلى أن التحلل من اليمين أفضل من الاستمرار عليه إذا كان مخالفتها خيرا منها، كما لو قال الإنسان لزوجته: يحق لي أن لا أقربك ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ [البقرة:226] صح؟ فلله علي -إن أغضبته- آلا أقربك شهرا كاملا، فكان في هذا ضرر على الزوجة، فنقول: كَفِّر عن يمينك، وأت الذي هو خير.
أو كمن قال: والله ما تخرجين من البيت لمدة شهر كامل، وليس بمحرم منعها من الخروج ما دام أنه لم يمنعها من زيارة قرابتها! نقول: مدة الشهر يسوغ للمرأة فيه أن لا تزور قرابتها، وما يعد قطيعة، فحلف وقال: والله لله عليه تذهبين لأهلك شهرًا كاملًا. نقول: اليس زيارتها لأهلها، وتيسيرك أنت على أهلك، وتسهيلك عليهم، خير من استمرارك في يمينك؟
فإذا قال: نعم. نقول: إذاً دع يمينك وأت الذي هو خير. ما الذي هو خير؟ هو التسهيل والتيسير عليهم، وقد جاء في ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-.
إذًا يقال في هذا: («وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ») .
ومثال ذلك أيضًا لو صام الإنسان مثلا الاثنين والخميس فشق عليه، فحلف وقال: والله ما عاد أصوم الاثنين والخميس. نقول: حلفك ليس بمحرم؛ لأنَّ صيام الاثنين والخميس ليس واجبًا، ولكن التكفير عن يمينك وصيام الاثنين والخميس إذا قدرت على ذلك خير منه.
إذًا («فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ») .
قال: («فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا») سواء في دينك أو في دنياك حتى، («فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ») .
إذًا شرع النبي تحلة اليمين، فإذا كان غيرها خيرًا منها جزمًا وهي محرمة نقول: ما يجوز لك أن توفي بها. كمن قال لزوجته: والله العظيم ما تخرجين من البيت حتى يتوفاك الله. نقول: ما يجوز هذا، أين خروجها لزيارة أمها؟ أمها لن تأتي وليست مطالبة أن تزورها.
أو كمن قال لولده: والله ما تذهب معي إلى المسجد حتى يتوفاني الله، أو ما تذهب إلى المسجد حتى يتوفاك الله. نقول: ما يجوز، وهذه يمين باطلة ومحرمة، وعليه أن يحنث فيها وأن يكفر عنها.
ويجوز الحنث في اليمين حتى وإن كانت اليمين واجبة، كحال الإنسان إذا ما وقع الإنسان في الشهوة والخطأ، مثل: لو أنَّ الإنسان كان ينظر إلى المحرمات، فقال: لله عليَّ -والله العظيم- لا أنظر إلى ما حرم الله، فأدركته الشهوة ونظر إلى ما حرم الله. فنقول: عليك فيها كفارة يمين من باب أولى، إذا الحنث في اليمين سواء كان اليمين مكروهًا أو مباحا أو محرمًا جائز، وقد يجب أحيانًا.
وإذا حنث فيها فإنَّ عليه فيها كفارة اليمين، وكفارة اليمين هي التي بينها الله -عز وجل- في قوله: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة:89].
إذا كفارة اليمين مرتبتان:
المرتبة الأولى: الإطعام أو الكسوة، تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم، وإطعام عشرة مساكين هي أن تطعمهم وجبة بتمامها، غداء أو عشاء، طبعا الغداء عندهم يطلق حتى على الإفطار، تذهب وتأتي لهم بوجبة من أوسط ما تُطعم أهلك به في الأغلب، فلو سألنا وقلنا ما هي وجبتك وأهلك غالبا؟ يقول: نأكل الأرز مع الدجاج. نقول: إذا هذا هو الوسط، فأخرج لهم ما تطعمه أنت، وما يشبعك أنت. فعشرة مساكين إمَّا أن تأتي فتعزمهم وتطبخها، أو تأتي فتطعمهم في مطعم وتوزعها عليهم، وإما أن تملكهم إياها. كيف؟ تأتي وتقول: كم قيمتها؟ قلنا مثلا: قيمة العشر وجبات مئة وعشرين ريالا.
قد يقول: سأوزع على كل واحد من هؤلاء الفقراء اثني عشر ريالا، نقول: لا، الله -عز وجل- أمر بالإطعام أو الكسوة، والكسوة أن تأتي للكسوة العادية، التي تكسوها نفسك أو التي يكسو بها الناس أنفسهم، فتكسوهم بها، ملابس داخلية وقميص، تشتريها وتكسوهم إياها، أو ثوب، هذه هي الكسوة، فإن كان يلبس "الشماغ" تعطه شماغًا، هذه هي الكسوة العرفية، أي التي يأتي بها العرف. إذا هذه من الأحكام المنوطة بالعرف.
قال: ﴿أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ يعني: أن تعتق رقبة، وهذه أفضل مراتب كفارة اليمين، وهي التي كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يبادرون إليه، ومنهم عائشة -رضي الله عنها-، فإنها لَمَّا أقسمت ألا تكلم عبد الله بن الزبير في القصة المشهورة؛ أعتقت عشر رقاب، ومع ذلك ما زالت وجلة من يمينها، تقول -رضي الله عنها-: "ليتني جعلت على نفسي جعلا أعمله فأستريح" يعني: ليتني قلت: لله عليَّ أن لا أكلمك، وإن كلمتك فإني سأعتق عشر رقاب، وذلك حتى تفي وتستريح. ولكنها لما نذرت نذرًا مطلقًا ما استراحت، مع أن اليمين المطلق أسهل، لأن فيه كفارة اليمين والحمد لله.
﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ﴾ ، المرتبة الأولى لا يُنتقل عنها إلا عند عدم توفرها، أي ليس عنده قدرة على الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة، نقول: تنتقل إلى صيام ثلاثة أيام، وليس من شرطها أن تكون أيامًا متتابعة، وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله-.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إنِّي وَاَللَّهِ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا») }.
حديث أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مثل حديث: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وله قصة، فإن فيه أن أبا موسى -رضي الله عنه- قد أرسله الأشعريون إلى النبي يستحمله في غزوة من الغزوات، قيل: إنها غزوة تبوك، ويستحمله يعني: يطلبون حملانه، ويقولون: احملنا على إبل. فقال أبو موسى لما ذهب إليه: فوافقته وهو غضبان، فقال: «واللَّهِ لا أحْمِلُكُمْ، وما عِندِي ما أحْمِلُكُمْ عليه» .
قال: فرجعت إلى أصحابي، فجاء رسولُ رسولِ الله إليَّ، وقال: أجب رسول الله .
قال: فأجبته فقال النبي : «خذ هذه وهذه»، وإذا عنده سبع قلائص. فقلت: يا رسول الله، سألتك فقلت: «واللَّهِ لا أحْمِلُكُمْ، وما عِندِي ما أحْمِلُكُمْ عليه»، هل نسيت يا رسول الله؟
قال: («واللَّهِ لا أحْلِفُ علَى يَمِينٍ، فأرَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْها، إلَّا أتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ وتَحَلَّلْتُها») يعني: أن النبي قد حنث في يمينه هذه، لأنه حلف أن لا يعطيهم ولا يحملهم، ثم حملهم، ولكن تحلل من هذه اليمين لماذا؟ لأن حملانهم في الجهاد وفي الخير خير من تعطيلهم.
إذا كان ذلك خيرًا للنبي فحنث فيه النبي .
قال: («فأرَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْها») ضابطه إذا حلف على ترك واجب أو مستحب أو على فعل محرم أو مكروه، فإنه يستحب له الحنث، أو تبعا لما حلف عليه.
قوله: («إلَّا أتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ وتَحَلَّلْتُها») تحللت يعني: كفرت عنها، وهي الكفارة التي ذكرنا سابقا.
وقال بعض العلماء: إن التحلة هي الكفارة قبل الحنث، والكفارة هي أن يكفر بعد الحنث.
كيف تكفر قبل أن تحنث؟ أنت عزمت على أن تحنث، فقبل أن تقع في الحنث أو قبل أن تواقعه كَفَّرت، قلت: والله لا أعمل كذا، ثم رأيت أن هذا العمل خير. كحال من قال: والله لا أتصدق مثلا، فمنع نفسه من فعل الخير، أو قال: والله لا أكلم الرجل الفلاني من الناس، وليست قطيعة رحم، ولكن نحو ذلك من صدقاتها وقراباتها ونحو ذلك، ثم رأى أن كلامه خير له، فقبل أن يقع في الحنث ذهب وكفر. قالوا: هذه تسمى تحلة له، فإذا وقعت وبعد ذلك كفرت سموها كفارة، ولكن الظاهر والله أعلم أن التحلة والحنث بمعنى واحد.
وفي هذا الحديث والذي قبله ما يدل على أنه يجوز أداء الكفارة قبل الحلف، وقالوا: هذا من تقديم الكفارة؛ لان سبب الكفارة هو الحنث ومع ذلك جاز تقديمها. لماذا؟
قالوا: للنصوص الشرعية الواردة عن رسول الله ، ويجوز أيضا تأخيرها بعد الحدث، وهذا هو المشهور.
المشهور أنَّ الكفارة إنما تقع بعد الحنث، وبناء عليه فإنه ينبغي للإنسان أن يعجل بالكفارة، فإذا حلف في شيء؛ فإنه ينبغي له أن يعجل، فإن آخرها لأمر ما من الأمور، ما كان عنده مال أو نحو ذلك، فعليه أن يكتبها في وصيته؛ لأن هذه من حقوق الله -عز وجل-، وتدخل في حديث ابن عمر: «ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، له شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» .
إذا هذه من حقوق الله -عز وجل- التي لا ينبغي أن يتساهل فيها، وينبغي للمؤمن إذا حلف وأراد أن يؤجل الكفارة لغرض ما أن يكتبها في وصيته، وإلا فالأولى أن يؤديها. هذا أمر.
الأمر الآخر أن يعلم أن اليمين التي يجب الحنث بها هي اليمين المنعقدة، التي قال الله -عز وجل- فيها: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ﴾ [البقرة:225]، فاليمين المنعقدة هي اليمين التي يقصد بها تأكيد الفعل أو الترك، فهذه هي اليمين التي تجب بها الكفارة. وأما لغو اليمين، فإنها عند العلماء -رحمهم الله- على ثلاث صور.
الصورة الأولى: ما رواه البخاري، في «قَوْلِ الرَّجُلِ: لا واللَّهِ، وبَلَى واللَّهِ» ونحو ذلك مما يجري قصد مما يجري على لسانه بغير قصد.
الأمر الثاني: أن يحلف على شيء يظنه كذلك، ثم يتبين له غير ذلك، يعني يأتي رجل يسأله هل فلان في البيت؟ يقول: لا. ليس في البيت، وهو يظن كذلك، ثم يتبين أنه في البيت. قالوا هذه يمين غير منعقدة، وهذه من لغو اليمين؛ لأنه حلف على شيء يظنه كذلك، ولم يتبين له ذلك، وهذا متروك إلى نية الإنسان، ولو رفع في القضاء فإن القاضي إنما يحكم بالظاهر.
الأمر الثالث: وهي مسألة مختلف فيها بين العلماء -رحمهم الله- وهي ما تسمى عند الناس بيمين الإكرام، وهي من الأيمان التي تكثر عند الناس، مثل ماذا؟ يقول: والله إن عشاءك اليوم علي، أو يقول مثلا: والله ما تدفع، أو والله لأكرمك الآن، أو لتأخذ والله القهوة معي، هذه كلها تسمى يمين الإكرام، ومذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أنها يمين مُنعقدة، أي: يحصل بها الحلف، وإذا ما وفَّى فيجب عليه الكفارة.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وغير ما واحد من العلماء إلى أنها يمين غير مُنعقدة، قالوا: لأنَّ المقصود بها الإكرام والبر ونحو ذلك، فهي ليست من الأيمان المنعقدة التي يجب بها الكفارة، ولكن ذكرنا مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- وهو أحوط في مثل هذه المسألة، وينبغي للإنسان أَلا يُكثر من هذه الأيمان؛ لأنها من تعظيم حرمات الله -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ- عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ».
وَلِمُسْلِمٍ: «فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت».
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ: «فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَى عَنْهَا، ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا».
أثرًا يَعْنِي: حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا)
}.
هذا حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد ذكره المصنف -رحمه الله- للتفريق بين اليمين المشروعة، واليمين غير المشروعة، وقد ذكرنا أنَّ اليمين مشروعة هي اليمين بالله -عز وجل-، أو بأسمائه وصفاته، وأن اليمين غير المشروعة هي اليمين بغير الله -عز وجل- أيا كان هذا المعظم، ويعظم الإثم في هذا المعظم حينما يُعتقد فيه اعتقادًا دينيًا، فإنَّ النبي قد أدرك عمر -رضي الله عنه- يومًا وهو يحلف ويقول: "والخطاب" تعظيمًا له، فنهاه النبي وقال: «ألَا إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبَائِكُمْ» ، ثم قال: «فمَن كانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ، وإلَّا فَلْيَصْمُتْ»، أي: يحلف بالله أو بأسماء الله وصفاته -عز وجل- أو ليصمت، فدل ذلك على أنَّ اليمين الشرعية إنما هي اليمين بالله -عز وجل- وأسمائه وصفاته.
وبناء عليه فالحلف بالمعظم إذا كان فيه اعتقاد ديني فهو من أعظم ما يكون من الشرك، بل قد يصل إلى أن يكون شركًا أكبر، وهذا أمر مهم يا إخوان، أن تحلف برجل ما تعظمه وتعتقد فيه اعتقادا دينيا، كأن تحلف بوالدك أو فلان أو فلان من الناس ولا تعظمه اعتقادًا دينيًا، فهذا الأمر أهون من أن تحلف برجل تعظمه دينيا، يعني تعتقد فيه، كمن يحلف مثلا بعليٍّ أو الحسين ونحو ذلك، فإن هذا من أعظم ما يكون، وهو شرك أصغر بلا خلاف بين العلماء -رحمهم الله-، ولكن قد يرتقي بما يكتنف صاحبه من التعظيم إلى أن يكون شركا أكبر؛ لأنَّ كثيرًا من هؤلاء الذين يحلفون بعلي، ويحلفون بالحسين، والله ما يحلفون بهؤلاء إلا ولهم في قلوبهم من التعظيم ما ليس لله -عز وجل-، وإلا فاسم الله -عز وجل- عندك فما الذي يمنعك من أن تحلف به؟ ولهذا يحلفون بعلي والحسن والعباس، ما لا يحلفون بالله -عز وجل-، وإذا خُوِّفَ الواحد منهم بالعباس، وخوف الواحد منهم بعلي خاف، بينما إذا خُوِّفَ بالله -عز وجل- ما خاف.
فدل ذلك على ما يقع في قلوبهم من التعظيم لهؤلاء.
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ: «فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَى عَنْهَا، ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا») ، يعني: ما حلفت بغير الله -عز وجل- لا ذاكرًا لها ابتداء، أي: منشئا لها، (ولا آثرًا) ، أي: (حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا) ، أي: ناقلا عن غيري، مع أنَّ ناقل الكفر ليس بكافر، ولكن كأنَّ عمر -رضي الله عنه- يقول: قطعت هذا الباب وأنهيته.
فدلَّ ذلك على أنه لا يجوز الحلف إلا بالله -عز وجل- أو أسمائه وصفاته، وأنَّ الحلف تعظيم، ومن ثم فإنه لا ينبغي للمخلوق أن يُعَظَّم، وإنما المعظم هو الرب -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ: نِصْفَ إنْسَانٍ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ: لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ».
قوله: («فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» يعني: قال له الملك) }.
هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو أصل في الاستثناء في اليمين، والعلماء يريدون هذا الحديث في هذا الباب، مع أنَّ هذا الحديث يرد في أخبار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ونحوها، وفيه أنَّ سليمان بن داود -عليه السلام- قال: («لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً») وفي بعض الروايات: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تسعين امْرَأَةً، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»)
، في هذا الحديث فوائد:
أولها: أنَّ سليمان -عليه السلام- قد كان مُكثرًا من النساء، فإنه قد كان له -على ما قيل- ثلاثمئة زوجة، وسبعمئة سرية، وفيها أنَّه أوتي من القوة الشيء العظيم. وقد يقول البعض ما الفائدة من ذكر هذا؟
نقول: الفائدة من ذكره هو أن يعلم الإنسان، أنه إذا أوتي نبي من أنبياء الله -عز وجل- هذا في الدنيا، فما ظنك بالمؤمن في الجنة، مع أنَّ أدنى أهلل الجنة منزلة، له مثل ملك مَلِكٍ من ملوك الدنيا وعشرة أمثاله.
ومن المعلوم أن سليمان -عليه السلام- كان ممن ملك الدنيا، فإذا كان قد أُعطى قوة الطواف على سبعين امرأة من نسائه في ليلة واحدة، فالمؤمن في الجنة يُعطى قوة سبعمئة.
فإذًا هذا مما يرغب المؤمن في الله -عز وجل- وفي الجنة، ويعلم أنَّ ما فيه من الخير والنعيم لا يقاس بشيء مما أعده الله -عز وجل- له من الخير والنعيم، وأنَّ ما فاته من نعيم الدنيا؛ فإنه يستدركه بغمسة واحدة في الجنة، وأن ما يُصيبه في هذه الدنيا بلاء وفتنة ومحنة، فإنه قد انقضى، وذهب الأولون الأعظمون، والملوك والأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ذهب الصالح الطالح والمبتلى والمنعم، وإن قضت هذه الدنيا كلها، ولم يبق فيها إلا كما قال عقبة -رضي الله عنه- «وإنَّما بقي منها صُبابةٌ كصُبابةِ الإناءِ صبَّها أحَدُكم»، يعني: ما عاد بقي فيها إلا الفتات، فينبغي للمؤمن الصبر فيها على أقدار الله -عز وجل-، وعلى ما يصيبه في ذات الله -عز وجل-، وعلى أن لا يفرح بما أوتيه من الدنيا، ﴿لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص:76]، أي: لا تفرح الفرح الذي يبعث على الغرور وعلى الغطرسة، وعلى الزهد في مرضاة الله ومحاب الله -عز وجل- هذا هو الفرح القاتل، هذا هو الفرح البغيض الذي لا يحبه الله -عز وجل-.
وفيه أيضًا: أنه يشرع للإنسان أن يستصحب في عاداته النية الصالحة، فإنه متى ما استصحبها انقلبت هذه العادات إلى عبادات، ولهذا نرى أنَّ سليمان -عليه السلام- سيطوف على سبعين امرأة، سيكون له في ذلك الثواب. لماذا؟ لأنه قصد النية الحسنة. ماذا قال؟
قال: («لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ») ، وفي دلالة على محبة الإكثار من النسل، وعلى أنه مما يرغب فيه، وأنه دأب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وعلى حرصهم -عليهم الصلاة والسلام- على النسل أيضا. لماذا؟
للعمل الصالح، يعني: الرجل لا يقصد الولد لفرح في صدره أو إحياء لذكره، والحقيقة أنَّ الذكر سينقطع بعد جيل أو جيلين، ولكن ليقل: أريد ولدًا أكثر به الإسلام له، ولهذا كان من أحسن الدعوات التي يُدعى بها من رزق بمولود -طبعا الالتزام بدعوة الحسن التي دعا بها وهي: "بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، ورزقت بره، وبلغ أشده" أمر حسن، وهذه دعوة حسنة، ولكن أحسن منها أن يقال: "جعله الله صالحًا مصلحًا، وهاديًا مهديًا، ونفع به الإسلام وأهله" هذه الدعوة الحسنة، هذه الدعوة الحسنة، وما الفائدة من هذا الغلام إذا لم ينفع الله -عز وجل- به الإسلام وأهل الإسلام؟
إذًا هذه من أعظم ما يلتمس به النسل، يقول الإنسان: أنا إنما ألتمس بنسلي خدمة الإسلام وأهله، كما قال سليمان -عليه السلام-: («تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ») . ينصر الإسلام، وينصر دين الله -عز وجل-، وهذا يدل على أنَّ من أعظم وأعلى الغايات هي نصرة دين الله -عز وجل- بالجهاد في سبيل الله.
قال: («فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ») ، وقيل: إن الذي ذكره هو الملك، («فَلَمْ يَقُلْ») لعل ذلك -والله أعلم- من سليمان كان ذهولاً، أو لعله والله أعلم من سليمان كان ظنا منه أنه يريد أن يعزم في المسألة.
الشاهد أن سليمان ما قال ذلك. قال: («فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ: نِصْفَ إنْسَانٍ») يعني: أخرجت نصفه فقط، والنصف الآخر غير موجود، يعني: ولد مشوهًا، وكان هذا بلاء من الله -عز وجل-، وبه فَسَّرَ بعض العلماء قول الله -عز وجل-: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص:34]، قالوا: إن الجسد هذا هو هذا الغلام؛ لأنه كان بلاء من الله -عز وجل- له.
وقال بعض العلماء: لا بل هو إبليس، وقيل أقوالا أخرى، ليس هذا هو محلها، ولكن بعض العلماء فسر هذا الجسد بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، والشاهد أنَّ سليمان -عليه السلام- ما قال ذلك، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة فقط.
والشاهد الأول إنما هو القصة، والثاني: إنما هو الحكم، لو قال: إن شاء الله ولم يحنث لكان أدرك حاجته. هذان حكمان جليلان.
الحكم الأول: أنه يشرع لمن حلف على أمر مستقبل، وليس ماضيا -الحلف على الأمر الماضي يعد من اليمين الغموس إذا كان كذبًا، وإن كنت صادًا فاحلف بدون مشيئة- إذا سئلت هل حصلت الحادثة الفلانية أمس؟ قلت: نعم. قيل لك: قل والله، فقلت: والله. فإن كنت صادقًا وإلا كان يمينك يمين غموس.
وإنما هو الحلف على المستقبل فيقال: يشرع فيمن حلف على أمر المستقبل أن يصحبه بالمشيئة بكل الأحوال، وقد قال النبي في الغزو والجهاد: «واللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، واللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، واللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثُمَّ سكتَ، فقال: إنْ شاءَ اللَّهُ» . فيشرع في ذلك قول: إن شاء الله، لأنه من نحو قول الإنسان: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف:23]، لأنك تحلف على شيء في المستقبل، إذًا هو داخل ضمن هذه الآية، فقل: إن شاء الله، تحصل به البركة، ويعينك الله -عز وجل-، ويتحقق به سؤالك.
الأمر الثاني: أنك متى ما علقته بالمشيئة، لم يكن في ذلك حنث، وهذه مسألة جليلة، وهو أن يقال: إن الإنسان إذا حلف على شيء فقال: إن شاء الله، فخالف وأتى هذا الذي حلف عليه، لم يكن عليه بذلك كفار يمين لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- والذي هو أصل في باب الاستثناء في اليمين، وإن الاستثناء في اليمين -الذي هو قول إن شاء الله- يرفع الحنث، ويسقط الكفارة. لماذا؟
لأنك إذا قلت إن شاء الله وفعلته دلَّ على أن الله -عز وجل- ما شاءه، ومن ثم فإنه ينبغي للإنسان أن يستصحبها بلسانه في كل أحواله.
بعض الناس يقول: أنا أريد أن أبين لمن أمامي أني غاضب، أو أن هذا أحبه، أو ما أحبه. نقول: ما هي بمشكلة، قلها ولكن بصوت خافت، والله لأكرمنك، ثم قل فيما بينك وبين نفسك بصوت خافت: إن شاء الله. ما الذي يضرك؟
المهم النطق، وهذا هو القول الصحيح. وبعض العلماء يقول: يكفي عقد النية عليها؟ نقول: لا؛ لأنَّ النبي قال: لو قال فعلقها بالقول، ولم يقل: لو نوى، وبناء عليه نقول: الاستثناء إنما يكون باللسان، ولا يكون بالقلب، لا بد أن ينعقد باللسان، ولا يكفي في ذلك انعقاده بالقلب، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله- في مسألة الاستثناء. وأنه يجب فيها أن يكون باللسان. هذا أمر.
الأمر الثاني: أنهم قالوا: ينبغي ألا يطول الفصل بين اليمين وبين الاستثناء، فلا يتصور أن يكون الاستثناء بعد يوم أو يومين أو ثلاثة؛ لأنه لو كان كذلك ما حنث أحد، لأنه لو أنَّ كل شخص يريد أن يحنث يقول: إن شاء الله، والصحيح أنه مربوط باتصاله بالكلام، ولا ينفصل بالكلام، مثل: والله لتجيبن دعوتي اليوم. ثم سكت قليلا ثم قال: إن شاء الله. نقول: ما في بأس، ولكن إن قال: والله لتجيبنَّ دعوتي اليوم، فقال: ما أستطيع اليوم بل سأجيبها غدا، فيقول له: لا بل اليوم، ثم قال: إن شاء الله. نقول: هنا انقطع الكلام، لأنه حدث كلام كلام طويل، فما دام الكلام مرتبط بعضه ببعض؛ فإنه يجوز الاستثناء، وما دام أنه قد طال فلا. بل يصبح استثناءً منقطعًا لا عبرة به، وإلا لو قلنا بذلك لَمَا حَنَثَ أحد، ومما يقرر هذا المعنى حديث أبي موسى، وفيه أنه قال: «واللَّهِ لا أحْمِلُكُمْ، وما عِندِي ما أحْمِلُكُمْ عليه». أليس كذلك؟ أبو موسى ذهب ولَمَّا يصل إلى أصحابه حتى استقدمه رسول رسول رسول الله ، فحنث النبي في يمينه، ولم يقل وقتها : إن شاء الله. فدل على أنَّ الاستثناء ينبغي أن يكون متصلا بالكلام، وليس بالمجلس. لماذا؟
يقال: ما علاقة المجلس بالكلام؟ ما هناك علاقة. هذا ليس خيار مجلس حتى نربطه بالمجلس، بل هذه أمور لفظية، والعادة فيها أن يكون الكلام متصلا بعضه ببعض.
مثال: القول -يا إخوان- في الاستثناء كالقول في الإقرار، فلو أنَّ رجلاً في مجلس وقال: أقر أن لي على فلان خمسة آلاف، فقال الناس: شهدنا، فأخذوا يتكلمون، ويفيضون، وبعد قليل قال: إلا أربعة آلاف وخمسمئة.
قالوا: ما هذا الكلام. ماذا كنت تقول؟ قال: أقصد كلامي الأول، شفت الخمسة آلاف، أنقصه منها أربعة آلاف وخمسمئة، هل يُقبل منه ولا ما يقبل؟
لا يقبل منه، ويقال: غير مقبول ما لم يتصل بكلامك، فغير مقبول، لأن الكلام قد انقطع، وثبت الإقرار عليك، فكذلك الشأن في الأيمان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، وَنَزَلَتْ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إلَى آخِرِ الْآيَةِ) }.
هذا حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أصل في اليمين الغموس، واليمين الغموس هي الحلف على يمين كاذبة.
قوله: («يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ») ، هذا هو الأصل في اليمين الغموس، أن تكون اليمين كاذبة، وأن («يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ») ، فيأخذ بها المال.
بعض العلماء قال: إن اليمين الغموس إذا حلف على يمين كاذبة ولم يكن فيها اقتطاع مال مسلم لا تكون ضمن اليمين الغموس، وإنما اليمين الغموس هي اليمين التي يَقتطع بها حق مسلم، سواء كان في العرض، أو في المال، أو في الدم، ولكنه نبه بالمال الأدنى على الأعلى.
فإذا اقتطعت بها عرض أخيك، كمن حلف على يمين أن فلانًا قد قذف فلانًا، وقد كان كاذبًا في ذلك. نقول: هذه أشد من الحلف على ماله؛ لأنَّ الرجل قد يقول: أنا أعطيك مالي ولكن لا أعطيك عرضي.
فإذا قال: («مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ») ، والصبر ها هنا هو: اليمين المصبورة؛ لأنه يصبر نفسه على الإثم بهذه اليمين، والظاهر ما قاله بعض العلماء أنَّ من حلف على يمين صبر، يعني: أن تصبر الإيمان، وصبر الأيمان هي التي تكون عند القاضي أو عند نوابه، يعني: تكون مطلوبة، يعني: يطلب منه أن يحلف هذه اليمين. فيقول: والله والله كذا وكذا، فهذه تسمى يمين صبر، ومنه قول ابن عباس -رضي الله عنه- مع أبي طالب، "ولا تصبرْ يمينَهُ حيث تُصبَرُ الأيمانُ"، كأنما حبس الآن على إقامة هذه اليمين، فكأن هذا هو المعنى.
(«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ») يعني: عند القاضي، أو من يقوم مقامه من المحكمين وغيرهم، هذا هو معنى الصبر، والله أعلم.
(«يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ») يعني: يحلف بالله العظيم إما لنفسه أو لغيره. فيشهد أن لفلان من الناس على فلان من الناس مبلغا قدره كذا وكذا، ويكون في ذلك كاذب، أو يشهد ويحلف بالله أنَّ لي على فلان مبلغ كذا وكذا، فهذه اليمين الغموس التي تغمس صاحبها بالإثم.
قال: («مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ») ، وفاجر يعني: كاذبا، وقد ذكر النبي من صفات المنافق الفجور في الخصومة، والفجور في الخصومة إنما يراد به الكذب.
قال: («لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ») . هذا الوعيد الشديد على اليمين الغموس، وقد ذكر النبي في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه، «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» فذكرها وقال النبي : «ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ»، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
ومن أعظم قول الزور اليمين الغموس، وهي التي تغمز صاحبها، وبعض العلماء فسر قول الزور بالشرك. نقول: لا. الشرك قد مضى ذكره، ولكن قول الزور وشهادة الزور هي اليمين التي يقتطع بها مال امرئ مسلم، أو دمه، أو عرضه، فهي يمين فاجرة، وهي يمين قد اجتمعت فيها كل المخازي، ففيها خيانة، وفيها الجبن والضعف، لأن صاحبها جبان ما يستطيع أن يواجه، فيأكل مال غيره باليمين الكاذبة، وفيها الظلم للخلق، وفيها مخادعة لله -تبارك وتعالى، وفيها مخادعة للخصم، وفيها مخادعة للقضاء، وفيها استهانة بحرمات المسلمين، ففيها كل المساوئ.
ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: ليس فيها كفارة، وحينما يقولون: ليس فيها كفارة ليس لهوانها، بل لشدتها. قالوا: كفارتها أن يرجع الإنسان إلى صاحبه فيتحلل منها، وقد ورد في حديث النبي . «مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه».
قال: (وَنَزَلَتْ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إلَى آخِرِ الْآيَةِ) أي الآية التي في سورة آل عمران.
والله -تبارك وتعالى- أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، وشكر الله لكم على حسن الاستماع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك