{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية (هداة) والذي يُشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بَابُ العِدَّةِ.
عَنْ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ -رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ -رضي الله عنه-، وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ؛ فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِه، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ ابْنُ بَعْكَكٍ -رضي الله عنه-، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ النِّكَاحَ! وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرا، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ؛ «فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْساً أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وضَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا؛ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ) }.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد قال المصنف -رحمه الله-: (بَابُ العِدَّةِ) ، وقد مضى معنا جملةً من أحكام العدة في حديث فاطمة بنت قيسٍ -رضي الله عنها- والذي كان حريًا بالمصنف -رحمه الله- أن يورده في هذا الباب.
والعدة هي: تربص الزوجة المفارقة بحياةٍ أو موت، سواءً كانت هذه المفارقة في الحياة مثل: الطلاق، أو المفارقة بالموت، فإنها أيضًا تتربص وتعتد، يعني: ليس من شرط العدة أن تكون عدة الطلاق، بل هناك عدة الوفاة، كما سيذكر ذلك المصنف -رحمه الله- بعد قليل.
ومن أحكام العدة:
- حفظ حق الزوج، في أن يراجعها، وهذا فيما يتعلق بالمطلقة الرجعية.
- حفظ حق الله -تبارك وتعالى- من جهة تعظيم معنيين:
الأول: تعظيم أمر الطلاق، وأنه أمر خطير، حتى إنَّ المرأة تُحبس عن الزواج بالرجل الثاني؛ حتى وهي بائن، وذلك حتى تعتد بثلاث حيضات، أو تعتد بعدتها الشرعية أياً كانت.
- وحفظ أيضًا لحق الله -عز وجل- فيما يتعلق بتداخل الأنساب.
لماذا؟ حينما تؤمر المرأة بأن لا تتزوج حتى تعتد وحتى تحيض، فإنه يتبين لها هل هي حامل أو لا؟ فإذا كانت حاملاً نقول لها: لا يمكن لك أن تتزوجي حتى تضعي حملكِ، سواءً كنت مطلقة أو متوفى عنك زوجكِ، لماذا؟
نقول: كيف تتزوج ويدخل بها الزوج الثاني ويختلط الماء؟ وبالتالي قد يتنازع في هذا الطفل الزوج الثاني مع الزوج الأول.
إذًا العدة لحفظ حق الله -عز وجل-، وصيانة للماء، وصيانة للحمل؛ حتى لا يتداخل ماء الرجل الأول بماء الرجل الثاني.
وهذه كلها من الأحكام العظيمة التي متى ما أهملت حصل بذلك الشر العظيم، ونحن نعلم ما يسمى في الغرب الآن بمحاكم الأبوة، والخصومات التي تحصل بين الأزواج المتعاقبين على المرأة -نعوذ بالله- سواء كان ذلك في حلال أو في حرام، فيتعاقبون على المرأة بلا استبراء ولا عدة، والمرأة يُشتبه عليها، تقول: ما أدري هل هو للرجل الأول أو للرجل الثاني؟
وإذا كانت المرأة فاجرة، فهي لا تدري هل الحمل أو الطفل للأول أو للثاني أو للعاشر! فيتخاصمون ويأتون إلى القضاء والمحاكم؛ حتى يحللوا الحمض النووي وما إلى ذلك، ومن ثم يعرفون بذلك هل هو تابع لفلان أو تابع لفلان؟
والشرع قد حمانا وحفظ علينا أعراضنا بمثل هذه الأحكام الشرعية التي هي حدود الله، ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق:1]، هذه في سورة الطلاق، إذًا هذا من معاني العدة.
وأصل العدد هي عدة الحامل، وتسمى عندهم بأم العدات، ولهذا ذكرها المصنف -رحمه الله- لماذا؟ لأننا نقول: إن أفضل الطلاق هو طلاق المرأة وهي حامل، إذا كنت ستطلق وكنت غاضبًا على امرأتك، وقد بلغ الأمر عندك إلى حَدِّ الطلاق والحسم وعدم الرجعة، فطلقها إمَّا في طهرٍ لم تجامعها فيه، وإمَّا حاملًا؛ لأنها تعرف ما الذي أمامها؟ وتعرف أنها ستمكث حتى تبرأ من حملها ثم تتزوج.
إذًا، فأم العدات هي عِدة المطلقة في الحمل، أو المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وأصل هذا الباب كله هو حديث سبيعة، مع قول الله -عز وجل-: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:4].
ولكن حدث تعارضً عند الصحابة -رضي الله عنهم- كما ذكرنا عن علي، وعن ابن عباس، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة:234]، قال: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:4].
فعلي وابن عباس جمعوا بين الآيتين، وقالوا: تعتدين بأطول الأجلين، فإن كنت حاملا، وكانت عدة الحامل هي الأطول، كحال من توفي زوجها وهي لا تزال في الشهر الأول، فهذه تعتد بعدة الحمل.
وإن كانت عدة المرأة المتوفى عنها زوجها -التي هي أربعة أشهر وعشرًا- أطول، فتعتد المرأة بأربعة أشهر وعشرًا، كيف؟
يتوفى عنكِ زوجك أو يطلقكِ زوجكِ وقد بقي عليك يوم واحد على الوضع، قالوا: تعتدين في الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وتعتدين في الطلاق بثلاث حيضات أو بثلاثة أشهر، قالوا: أطول الأجلين.
ولكن حديث سُبيعة -رضي الله عنها- بيّن لنا بيانًا شافيًا أنَّ الأمر ليس على ما ذهب إليه عليٌ وابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-.
(أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ) ، تذكرون سعد بن خولة؟ هو الذي قال النبي ﷺ فيه: «ولكِنِ البائِسُ سَعدُ ابنُ خَوْلةَ يرثي له رسولُ اللهِ ﷺ أنْ مات بمكَّةَ»[1]، توفي -رضي الله عنه- بمكة وقد كان من المهاجرين الأول، وعلى خلاف في سنة الوفاة، هل توفي سنة ثمانية أو سنة عشر في حجة الوداع؟ والمشهور -والله أعلم- أنه توفي سنة ثمانية في فتح مكة.
وكانت زوجته سُبيعة الأسلمية، مِنْ أَسْلَم، وهي القبيلة المشهورة التي قال النبي ﷺ فيها: «أسلَمُ سالَمَها اللهُ»[2]، يعني: من القبائل الممدوحة.
(سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ -رضي الله عنه-، وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ القرشي،) قال: (وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً) يعني: من خيار الصحابة، (فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ) وهذا الحديث يُبين لنا أن قصة سعد -رضي الله عنه- كانت في حجة الوداع، وليست على ما ذُكر؛ لأنه قد وَرَدَ خلاف هل كانت في سنة ثمانية -في فتح مكة- أو كانت سنة عشرة؟
فهذا يكون دليلا ومرجحًا لقول من قال: إن واقعة سعد -رضي الله عنه- قد كانت في السنة العاشرة.
قال: (فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ؛ فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِه) ، (فَلَمْ تَنْشَبْ) يعني: لم تمكث، ونَشَبْ يعني: تعلق، وهذه ما نشبت يعني: تيسر أمرها، فلم تنشب يعني: تيسر أمرها ووضعت حملها بعد وفاته بزمن يسير، قيل: أسبوعًا، وقيل: أربعة أيام أو شيئًا يسيرًا، وجاء في بعض الروايات أنها ولدت بعده بشهر.
المهم أنها ولدت بعده بمدة يسيرة.
(فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا) ، أي: طهرت من نفاسها بعد الأربعين يوم، مع أنه يجوز لها أن تنكح الآن، قال الزهري: يجوز لها أن تنكح في لحظة الولادة، فأول ما يخرج الجنين يقف الخاطب عليها ويقول أخطبك، تقول: نعم وافقت، نقول: تم الزواج، ولكن لا يدخل بها الزوج حتى تبرأ من نفاسها.
قال: (فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ) ، وهذا الأمر ليس مذمومًا، يعني: يجوز للمرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها إذا خرجت من عدتها أن تتجمل للخطاب.
وفي المقابل لا يجوز لأهلها وقرابتها وذويها نهيها عن ذلك، بقولهم: عيب، أو لماذا تتجملين للخطاب؟ أو هل فيك تشوف للرجال؟
نقول: ما في بأس أن تتجمل للخطاب.
ويجوز للمرأة أن تذهب مثلًا للأعراس لعلها تخطب، وأن تذهب لمجامع النساء لعلها تخطب، ما في بأس أبدًا، بل عندك سبيعة الأسلمية، وأغلب نساء الصحابة كنَّ يصنعن هذا، ومن ذلك أم سلمة -رضي الله عنها- فإنها لَمَّا انتهت عدتها من أبي سلمة تجملت وتزينت للخطاب.
(فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ ابْنُ بَعْكَكٍ -رضي الله عنه- رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ النِّكَاحَ! وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ) .
كان ظنه أبي السنابك كظن عليٍّ وابن عباس -رضي الله عنهما-، حيث يرى اعتدادها بأبعد الأجلين، يعني: انتظري فقد بقي لك.
(قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي) يعني: لبست ثيابي وعباءتي وخرجت إلى النبي ﷺ.
(حِينَ أَمْسَيْتُ) ، وهذا دلالة على أنَّ الصحابيات كن يخترن في خروجهن وقت المساء، لماذا؟ لأنه أستر، تقول عائشة: «أزواج النَّبيِّ ﷺ كُنَّ يَخرُجنَ باللَّيلِ إلى المَناصعِ»[3]، قد وقتوا أنفسهن على ما يخرجون في قضاء الحاجة إلا في الليل، حتى يكون أستر.
ولهذا جاء في بعض الأحاديث: «إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ»[4]، قالوا: لأنَّ الليل أستر للمرأة، وهذا كان موجودًا في ذاك الزمان، لَمَّا لم يكن ثَمَّ أنوار وإضاءات جعلت الليل نهارًا كما هو الحال الآن.
قال: (فَأَتَيْتُ رسول الله ﷺ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ) تريد أن تستبين الحكم؛ حتى لا تكون قد صنعت أمراً منكراً بتجملها وتعرضها للخطاب وهي لازالت في العدة كما يقول: أبو السنابل.
قالت: («فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي») ، وهذا حكم صريح، وحديث متأخر؛ لأنه قد وقع بعد حجة الوداع، فهو حديث ما يتصور أن يُنسخ، وهو حديثٌ قد أتى بعد كل آيات العِدد، فإنَّ آيات العدد المذكورة في سورة البقرة أو في سورة الطلاق كلها قد نزلت قبل حجة الوداع بلا شك ولا ريب عند العلماء -رحمهم الله-.
فكان هذا الحديث قاضيًا عليها، بمعنى: أنه مُقدم عليهًا جميعًا، فإذًا كانت هذه على ما سماها العلماء بأم العدات لماذا؟ لأنها تقضي على جميع العدد. فإذا كانت حاملا فنهاية العدة بوضع الحمل، وانتهى كل شيء.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وضَعَتْ) ، يريد ابن شهاب يبين أنه ليس من شرط الزواج أن تخرج من نفاسها، ولكن يجوز لها التزويج من حين ما تضع.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا) ؛ يعني: دم النفاس (غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ) هذا حكم شرعي مقرر؛ لأنه إذا كان زوجها الأول لو كان معها ما جاز له أن يقربها وهي في النفاس، فكذلك أيضًا الحال بالزوج الثاني.
فإذًا هذا هو الحكم فيما يتعلق بالمطلقة أو المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله تعالى عنهما- قَالَتْ: تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها-؛ فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَمَسَحَتْهُ بِذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» الحَمِيمُ: القَرَابَةُ) }.
هذا الحديث من الأحاديث المتعلقة بزمن الإحداد؛ لأنه سيأتي معنا بعد قليل -إن شاء الله- حديث أم عطية المتعلق بكيفية الإحداد.
والحد بوجه عام هو: المنع، وإحداد المرأة يعني: امتناعها عن الطِّيبِ، وعن الزينة، وعن كل ما يدعو إلى نكاحها، فتمتنع عن الطيب؛ لأنه أكبر دواعي النكاح، ونقصد بالنكاح هنا: الجماع ونحوه.
الطيب والزينة ونحوهما من الأكحال، والأدهان، والأرواج، والحمرة، وغير ذلك، هذه كلها مما تمتنع عنه المرأة المحدة.
قال: (تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها) ، أم حبيبه -رضي الله عنها- هي أم حبيبه بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- واسمها رملة على ما قيل.
قالت: (فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ) ، بعد انتهاء الأيام الثلاثة؛ لأنها حدت عليه ثلاثة أيام.
والإحداد على نوعين:
إحداد المرأة على قريب لها غير زوجها، من نحوِ: أبيها، أو أخيها، أو على غير قرابتها. كأن تريد المرأة أن تحد على عالم من العلماء توفي، نقول: يجوز أن تحد ثلاثة أيام، لماذا؟ لقول النبي ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ»[5].
ما معنى الإحداد؟
الإحداد ليس من شرطه لبس السواد كما يتصوره كثير من الناس، وإنما لبس السواد قد جاء إلينا من الغرب، فتجدهم في الجنائز يلبسون السواد، ويظنونه إحدادًا.
نقول: لا تلبس المرأة ملابسًا تلبس للزينة، ولكنها تلبس ملابس أخرى عادةً تلبس لغير الزينة، حتى ولو كانت ملونة، مثل: القمصان وغيرها، قمصان البيت وهذه ما فيها بأس؛ حتى ولو كانت ملونة.
- لا تكتحلِ البتة، إلا أن تخشى على عينيها التلف.
- لا تضع الزينة على وجهها ولا تضع المساحيق.
- لا تلبس الحلي.
- لا تتطيب.
هذه كلها تمنع منها المرأة المحدة، فإذا كان إحداد المرأة على غير الزوج لم يكن لَها أن تتجاوز ثلاثة أيام بأي حال من الأحوال، فلا يجوز للمرأة أن تحد على ابنها شهرًا أو شهرين أو ثلاثة أشهر، نقول: ما يجوز، بل ثلاثة أيام وينتهي الإحداد.
ولأجل ذلك أم حبيبة -رضي الله عنها- أرادت أن تُبين؛ لأن نساء النبي ﷺ بعد وفاتهِ كُن يجتنبن الزينة، لماذا؟ لأنه لا تشوف لهن في الرجال، ولا تشوف للرجال لهن، والمرأة ما تتزين إلا إذا كان لها تشوف للرجال، أو كان للرجال تشوف إليها، وليس هذا بوجهٍ عام، ولكن هذا هو الأصل.
فأمَّا زوجات النبي ﷺ فقد كن يلبسن بعد وفاته لباس بِذلة، ليس إحدادًا، ولكن لأنهن لسن ممن يحرصن على اللباس الجميل ونحو ذلك، فلمَّا أحدت أرادت أن تُحدث فارقًا بين حالها في الإحداد، وحالها قبل الإحداد، وحالها بعد الإحداد.
فما الذي صنعته؟ (فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ) ، والصفرة هي: الورث أو الزعفران (فَمَسَحَتْهُ بِذِرَاعَيْهَا) أي: وضعتها على ذراعيها، وقالت: والله ما لي بالطيب حاجة، وما لي بالزينة حاجة، ولكن سمعت النبي ﷺ يقول: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فإنها تحد عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» كما في بعض الروايات.
هذا يا إخوان فيه دلالة على أنه يجب الفصل بين حدود الله -عز وجل-، فإذا كان ثم عبادات مؤقتة أو أمور مؤقتة، فإنه ينبغي للإنسان، وربما وجب عليه، أن يفصل بينها وبين غيرها بفاصل.
لنضرب مثالاً: حينما يأتيك قول النبي ﷺ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ في يومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»[6]، نقول: إذا وصلت إلى المئة اقطع، قال أنا أريد أن أسبح، نقول: ما في بأس، قُل: لا إله إلا الله، سبحان الله، أستغفر الله، ثم ابدأ من جديد، وسبح كيفما تشاء، ولكن اقطع بالحد الشرعي ولا تزيد؛ لأن الشارع ما حدد إلا لحكمة، فلا تزيدن على الشرع البتة.
وهذا ظاهر وجلي في الشرع من حيث قول النبي ﷺ: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رَمَضَانَ بصَوْمِ يَومٍ أوْ يَومَيْنِ»[7]، ما يريد أن يدخل في العبادة ما ليس منها؛ حتى ولو كان على وجه التطوع، لأنها إذا كانت على وجه التطوع ابتداءً، فإن الشيطان سيحولها إلى أن تكون عبادة مرتبطة بهذه العبادة، فتضيع حدود الله -عز وجل-.
ومن أعظم ما جاء به الشرع، تمييز حدود الله -عز وجل- بعضها عن بعض، لابد أن تتميز معالم الشريعة تمييزًا ظاهرًا، ولهذا قال النبي ﷺ: «الصومُ يومَ تصومون، والفطرُ يومَ تفطرون»[8]، ما يريد النبي ﷺ أن يكون كل رجل يجتهد بطريقته، لا، هناك منهج عام وطريقة عامة وهناك أيام محددة تصام ثم تفطر.
إذًا صنعت أم حبيبة -رضي الله عنها- ذلك لأجل أن تفرق بين حالها في الإحداد وحالها بعد الإحداد، وهي بلا شك لم تكن تعد على زوج؛ لأنها لم يكن لها زوجٌ إلا رسول الله ﷺ، وقد أحدت عليه حينما توفي ﷺ.
قال: («إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً») ، هذه هي القاعدة العامة في المرأة المتوفى عنها زوجها؛ لقول الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة:234].
وقد كان الأمر متاعًا إلى الحول غير إخراج، قد كان الأمر في أول الإسلام أن المرأة تُحد على زوجها عامًا كاملًا، ثم إن الله -عز وجل- قد خففها بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة:234].
ولهذا لَمَّا جاءت المرأة تشكو إلى النبي ﷺ الرمد الذي في عينيها، وتمزق شعر الجارية وقالت: إنَّ زوجها قد توفي فهل نكحلها؟ قال النبي ﷺ: «قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تمكث فِي شَرِّ ثيابها حولًا»[9]، وهذا بلا شك يدل على أنَّ الشرع قد جاء بالتخفيف عن المرأة.
إذًا هذه العدة هي العدة الثانية، وهي عدة المرأة المتوفى عنها زوجها إذا لم تكن حاملًا، والمرأة إذا لم تكن حاملًا؛ فإنها تعتد بأربعة أشهرٍ وعشرًا.
وفيه دلالة على عِظم حق الزوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا أكثر مما تحد على والدها وعلى إخوانها، وهذا دلالة على أنَّ حق الزوج مُقدمٌ بعد حق الله -عز وجل- فيما يتعلق بالمرأة، فأعظم حقوق المرأة بعد حق الله -عز وجل- هو حق زوجها عليها، ثم تأتي بعد ذلك الحقوق بعضها دون بعض.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيباً؛ إِلَّا إِذَا طَهَرَتْ؛ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»، العَصْبُ: ثِيَابٌ مِنَ اليَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ) .
قال: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا، أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا» قالها مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالبَعَرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ».
فَقَالَتْ زَيْنَبُ -رضي الله عنها-: "كَانَتِ المَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشاً، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيباً وَلَا شَيْئاً حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَيْرٍ؛ فَتَفْتَضُّ بِهِ؛ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ".
الحِفْشُ: البَيْتُ الصَّغِيرُ، وَتَفْتَضُّ: تَدْلُكُ بِهِ جَسَدَهَا)}.
هذا حديث أم عطية -رضي الله عنها- ويليه حديث أم سلمة –رضي الله عنها- وكلاهما جاء في صفة الإحداد.
ذكرنا فيما مضى مدة الإحداد، وأنها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إحداد المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً، فعدتها حتى تضع حملها، وأمَّا إحدادها فإنه أربعة أشهر وعشرا، وغير الحامل فإنها أيضًا تحد أربعة أشهر وعشرا، والإحداد غير العدة، والمرأة التي توفي لها قريبٌ، أو حميمٌ، أو رجلٌ تحبه من غير زوجها، فإنها تحد عليه ثلاثة أيام، ولا تسمى هذه عدة، وإنما هذه المدة تسمى إحدادًا.
ما هي صفة الإحداد؟
إذا قالت المرأة لا بأس بالإحداد، فهو حكم شرعي، ولكن ما هي صفته؟
نقول: صفته على ما جاء في حديث أم عطية، وهو يدور أي: هذا الحديث على تجنب الزينة، وكل ما يدعو إلى النكاح.
فكل ما كان من الزينة فإنه يُتجنب؛ حتى ولو كان ثوبًا أسودًا فاخرًا.
فإذا قالت المرأة سألبس فستانًا أسود اللون، نسألها ونقول: هل هذا الفستان مما يلبس للزينة، فإذا قالت نعم، قلنا: لا يجوز.
«لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ» على ما ورد في حديث أم سلمة، «إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً» وفي بعض الروايات: «وَلَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ» والثوب المصبوغ هو الثوب الملون.
ثوب العصب هو نوع من الثياب التي تأتي من اليمن بغير زينة، وهو نوع من القمصان، وهو من الثياب التي تُلبس عند العامة في البيت، وتسمى عندهم ثياب البذلة، والثوب المعصوب هو الثوب السادة كما نسميه نحن أو نحوه.
ما في بأس أن تلبس المرأة ثوبًا فيه رسومات أو ما إلى ذلك، ما هناك منكر، ولكن المعيار هل هو مما يقصد للزينة أو لا؟ فإذا كان يقصد للزينة فنقول: لا، هناك بعض الجلابيات مثلاً الفاخرة التي تُلبس للزينة، نقول: لا. ولكن جلابية تقليدية تُلبس في البيت نقول: ما في بأس أن تلبسها المرأة، دراعات ونحوها، أو القمصان؛ هذه كلها مما يجوز للمرأة أن تلبسها في إحدادها.
«وَلَا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ»؛ لأنَّ الكحل هو أساس زينة أساس المرأة، وهو الأمر الذي أجمع عليه الأوائل والأواخر.
كثير من الزينة في الزمن الأول نُسيت، فقد أدركنا مثلًا الجدات يتزينون بما يسمى بالديرب، وهذا شيء معروف يضعونه على شفاههم؛ حتى تبدو الشفة بلون أحمر أو برتقالي، وأصبح الآن مهجورًا، بل الآن يصنعن الأرواج وما إلى ذلك.
قد كانوا يضعون مثلًا ما يُصفر الوجه، وقد تُرك هذا. كانوا يضعون نوعا من الورث يشد الوجه ويصفره، والآن كثير من النساء تركوه وما يعرفونه، لأنه قد جاءت أمور بديلة ومعايير جديدة للزينة أيضًا، ولكنهم متفقون جميعًا على معيار الكحل.
فإذًا «وَلَا تَكْتَحِلُ» هذا من أعظم المعاني التي تلتزمها المرأة المحدة، أن تجتنب الكحل.
«وَلَا تَمَسُّ طِيباً»؛ لأنَّ الطيب هو أعظم ما يدعو إلى النكاح، وهو من أعظم الزينة، خاصة أن طِيب النساء في الأعم الأغلب هو ما يظهر لونه ويخفى ريحه.
فإذًا إذا قلنا: لا تمس الطيب، أي: لا يجوز لها أن تتزين بالزعفران، ولكن يجوز لها أن تشربه مع القهوة ونحو ذلك، ولكن تصبغ به أو نحو ذلك؟ نقول ما يجوز، مع أنه ما عاد يصبغ الآن بالزعفران إلا قليلًا، لكن ما يجوز، وكل الأطياب تجتنبها.
إلا ما لا تجري العادة بتسميته طيبًا، مثل: مزيلات الروائح، ونحو ذلك فليس فيه بأس، وسيأتي الدليل أنه قال: «وَلَا تَمَسُّ طِيباً؛ إِلَّا إِذَا طَهَرَتْ؛ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»، النبي ﷺ رخص للمرأة إذا طهرت من محيضها أن تأخذ نُبذة أي: شيئًا يسيرًا من القسط أو الأظفار.
القسط نوع من الطيب، والأظفار أيضًا نوع من الطيب، وهو معروف في الزمن الأول، وهو أشبه ما يكون بالطيب الأبيض، ونوع من أنواع المسك، فكانت المرأة إذا طهرت من محيضها أخذت هذا فتتبعت به مكان الرائحة أو مكان الدم.
ولهذا قال النبي ﷺ: «تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بهَا» وأشاح بوجهه حياءً، فقالت فاطمة: كيف أتطهر بها؟ فقال: تطهرين بها، قالت: كيف؟ فَقالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، تَطَهَّرِينَ بهَا»[10] فَقالَتْ عَائِشَةُ: فَاجْتَبَذْتُهَا إلَيَّ، لأنها فهمت مقصد النبي ﷺ، ثم قالت: "تَتَبَّعِينَ بها أثَرَ الدَّمِ"، يعني: تضعينها في أماكن الدم؛ حتى يزول عنك أثر الرائحة بهذا الطيب.
فدلَّ ذلك على أنَّ الطيب الذي يُقصد من ورائه قطع الرائحة السيئة هو مما يرخص فيه.
المرأة قد تقول حاليا: لا أعرف ما هو القسط؟ وما أعرف ما هي الأظفار هذه؟
نقول: ما في بأس، استخدمي ما يقابلها، فإذا طهرت المرأة تستخدم مثلًا نوعًا من المسك الخفيف، تستخدم نوعًا من المنظفات ذوات الرائحة العطرية، المنظفات النسائية الموجودة في الصيدليات ونحوها، ما في هذا بأس؛ وهذه كلها جائزة، حتى لو كان فيها رائحة إلا أنها ليس فيها بأس، تضع مثلاَ مزيلاً للعرق لإزالة رائحة العرق وما شابه، فليس في هذا بأس.
إذًا من باب أولى ألا تلبس الحلي، فما يجوز للمرأة إذا كانت محدةٌ أن تلبس الحلي، نقول: ممنوع عليها أن تلبس الحلي، وعليها أن تخلع كل الحلي؛ حتى خاتم الزواج؛ لأنه نوع من الحلي، مع أننا لا نرى مشروعيته، أي مشروعية ما يسمى بالدبلة ونحوها، ولكن إذا لبسته المرأة فعليها أن تخلعه، وتبقى المرأة عاطلا، أي: مجردة عن الحلي، «وَلَا تَمَسُّ طِيباً؛ إِلَّا إِذَا طَهَرَتْ؛ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ».
قال: (العَصْبُ: ثِيَابٌ مِنَ اليَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ) ، الشاهد أنها ثياب عندهم أشبه ما تكون بالثياب التي نسميها نحن الآن الثياب السادة، أو القمصان السادة التي ليس فيها جماليات ونحو ذلك، وإنما هي تلبس في البيت ونحو ذلك.
ثم ذكر بعد ذلك حديث أم سلمة -رضي الله عنها- وهو مكملٌ لحديث أم عطية السابق، وفيه: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا» وفي بعض الروايات تقول: «خشينا على عينها»، يعني نخشى أن تفسد، ولكن هذه الخشية ليست خشيةً متحققة، لماذا؟ لأنها ما تفسد العين وتعالج بمجرد الكحل، قد تتعب فتعالج بالكحل تعبًا شيئًا ما، ولكن أن تتلف بسبب ترك الكحل فلا.
ولهذا فهم النبي ﷺ، قالت المرأة: (أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا») . أعادة المرأة على النبي ﷺ مرتين أو ثلاثة، وهو يقول: لا، لئلا يُفتح هذا الباب، وهو باب الزينة للمرأة المحدة، وهذا أمر يا إخوان ينبغي أن نتنبه له، فإنه من أعظم المحرمات، من أعظم المحرمات أن تحد المرأة أن تلبس المرأة وتتزين في عدتها، حتى ولو كانت مُبغضة لزوجها؛ لأنَّ الأمر ليس تأديةً أو أداءً لحق زوجها وحفظًا له، وإنما هو قبل ذلك أداء لحق الله تبارك وتعالى.
وقد رأينا أنَّ كثيراً من النساء إذا تُوفي عنها زوجها وكانت مضارةً له ومشاقة له؛ لم تبال بالإحداد، وأخذت تتزين وتخرج وتذهب، نقول: هذا ما يجوز الآن، ما لكِ علاقة وليس لها أن تدخل المشاكل التي كانت بينها وبين زوجها في هذا الأمر؛ حتى ولو كان قد أساء إليها.
والمرأة التي تراعي حق الله -عز وجل- في مثل هذا المعنى الجليل تُحفظ في بقية عمرها، يحفظها الله -عز وجل-، فقال رسول الله ﷺ: («لَا» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لَا») ، ثُمَّ قَالَ: («إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرا») ، يعني: التربص والمكث والإحداد مدة يسيرة، أربعة أشهر وعشر.
(«وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالبَعَرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ») ، بمعنى: أنها تمكث في حفش، والحفش هو البيت القديم، أو البيت الصغير، تمكث كاملةً فيه ولا تخرج، تبول وتتغوط ولا تمس ماءً.
قالت هنا زَيْنَبُ -رضي الله عنها-: (كَانَتِ المَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشاً) البيت الصغير، (وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيباً وَلَا شَيْئاً حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَيْرٍ؛ فَتَفْتَضُّ بِهِ) كيف تفتض به؟
إذا خرجت بعد السنة، فمرَّ بها دابة من الدواب، أخذت هذه الدابة فمسحت بها جلدها، حتى ولو كان حمارًا، فإنها تقف أمام الحمار ثم تمسح به جلدها، هذا يسمونه: تفتض به، إشارة إلى انتهاء الشر عنها.
قالت: (فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ) ، لماذا؟
من قبح ونتن رائحتها، تأتي بالحمامة حية فتفتض بها، أي تمسحها على جسدها، فتموت هذه الحمامة من النتن الذي فيها.
(ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً) إذا خرجت أعطيت بعرة، وقيل لها: ارمها، فإذا رمتها راجعت بعد ذلك (بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ) .
ما المفهوم من رمي البعرة؟
يقولون: كأنها تقول: كل ما صبرت عليه هذه السنة إنما هو في حق زوجي كهذه البعرة، أي شيئًا يسيرًا، كهذه البعرة التي رميتها، وكأنها تقول: زوجي يستحق أكثر من ذلك
فجاء الشرع وخفف عن المرأة، وجعل العدة عليها أربعة أشهر وعشرًا، ولكن تصحيحًا لِمَا سبق: الحامل تعتد حتى لو طالت بها المدة، فالعدة التي هي أربعة أشهر وعشرًا هي لغير الحامل؛ لأن عدة الحامل كما سبق وذكرنا هي أن تضع حملها.
والمرأة المعتدة على غير زوج إنما تكون عدتها ثلاثة أيام.
إذًا هذا هو الأصل في العدة، وهذا معنى قول النبي ﷺ: («وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالبَعَرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ») ، وهذا دلالة على أنَّ المرأة تمنع ويغلق عليها باب التعذر، فلا تتعذرين وتقولين: والله قد تكون رائحتي منتنة، وأنا قد يُشم مني رائحة سيئة فأريد أن أتطيب.
نقول: مزيلات الرائحة هي المرخص بها، وما سوى ذلك فلا، وأنت معذورة، قد عذرك الله -عزَّ وجل-، ولست ممنوعة من أن تغتسلي متى ما شئت، وعليك أن تحمدي الله -عز وجل، فقد كانت المرأة في الجاهلية تُمنع من الاغتسال، ولك أن تتخيل أن يمنع المرء من الاغتسال أسبوعًا أو شهرًا أو شهرين، فكيف يكون الحال إذا ما منع من مسِّ الماء عامًا كاملا؟
كيف سيكون حاله؟ ثم كيف سيكون جلده؟
ولهذا تبقى المرأة فترة طويلة بعد خروجها من هذا الحفش تعالج البشرة، بسبب ما أصابها في هذا الحفش الذي قد بُليت به، فجاءت الشريعة بهذه الرحمة.
فإذًا لا تستطرد المرأة، فإنَّ من حكمة الله -عز وجل- أنَّ القوم الظالمين من اليهود وغيرهم كانوا إذا استطردوا في أحكام الله -عز وجل- عاقبهم الله -عز وجل- بالنقيض فشدد عليهم، كما في قصة أصحاب السبت، وكما في الآصار والأغلال التي فُرضت على اليهود.
ولَمَّا جاءت الشريعة وختمت بمحمد ﷺ ثم ختمت بوفاته ﷺ، ولم يبق شيء يمكن أن يُنسخ أو يعاقب به الإنسان، يعني لو أنَّ الإنسان استرسل وأراد التوسع في الشريعة؛ كان العقاب الرباني من الله -عز وجل- له أن يُضيق عليه في أمور دنياه.
فلا تتوسع في أمر من أمور الشريعة توسعًا غير مشروع، إلا ويضيق الله -عز وجل- عليك في أمر دنياك، جزاءً وفاقا، يعني: تظن أنَّ الله يعاقب بني إسرائيل -اليهود- باسترسالهم وعدوانهم ويتركك؟!
نقول: لا. سيضيق الله -عز وجل- عليك، وإن لم يدركك هذا التضييق في الدنيا؛ فإنه سيدركك يوم القيامة.
إذًا كل من وسع ما لم يوسعه الله -عز وجل- ضَيَّقَ الله عليه، وإنما المشروع أن يوسع المرء من حيث ما وسع الله.
إذًا يقال للمرأة: لا، تلك حدود الله فلا تعتدوها، فإذا قالت: أريد أن أكتحل، أريد أن أتزين، عندي زواج أختي أو ابنتي! نقول: هذه كلها ليست مبررات كي تخالف المرأة هذه الأحكام الشرعية التي فرضها الله -عز وجل-، وفرضها رسوله ﷺ.
قال: («ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ»، الحِفْشُ: البَيْتُ الصَّغِيرُ، وَتَفْتَضُّ: تَدْلُكُ بِهِ جَسَدَهَا) وهذه من تفسيرات المصنف -رحمه الله- لهذا الحديث الوارد عن النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (كتاب اللعان.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ ﴿وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
فَقَالَ: لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَقَالَتْ: لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إنَّهُ لَكَاذِبٌ.
فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ.
ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» قالها ثَلَاثًا.
وَفِي لَفْظٍ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي؟ قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا»)}.
هذا هو (كتاب اللعان) كما قال المصنف -رحمه الله-، وما دام أنَّ العلماء -رحمهم الله- يذكرون (كتاب اللعان) بعد كتاب الطلاق، والرجعة، والعدد، ونحو ذلك، فإنه يُفهم منه أنَّ اللعان ليس متعلقًا بالحدود، وإنما هو متعلق بالزواج، فالأصل في اللعان إنما يكون بين الزوجين، ولا متعلق للعان في غير الزوجين البتة.
ما هو اللعان؟ ولماذا سمي اللعان لعانا؟
اللعان: هو أيمان مكررة من الجانبين مقرونة بلعن أو غضب، والأصل فيه قول الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور:6-10]، فقد ذكر الله -عز وجل- اللعن في حق الزوج، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله -عز وجل-، وهو حُكمٌ شرعي عظيم تدعو إليه الحاجة؛ لأنَّ الأصل في الشريعة أنها جاءت بالستر على أصحاب المعاصي، وعدم إشاعة الفحشاء، وهذا من المعاني الجليلة التي ينبغي أن يفقهها كثير من الناس الآن في هذا الزمان، بعد أن ولغوا في أعراض الناس بوسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح الإنسان أسهل ما عليه أن يقذف غيره، بمجرد شُبهاتٍ أو بمجرد قرائن لا معنى لها، وهو لم يَرَ ولم يسمع، وإنما عنده نوع من التهور والمجازفة، وعدم التعظيم لحرمات الله -عز وجل-، ويزداد الأمر شدة حينما يظن الإنسان أنه قد خفي على الناس، وهو لم يخف على الله -عز وجل-.
إذًا الأصل أنَّ الرجل المتهم بالريبة لا يجوز قذفه، وإنما يجوز للإمام أن يُعزره، وأن يعاقبه، ولكن ما يجوز قذفه، ولهذا قال النبي ﷺ في امرأة كانت تعرف بالمنكر، قال: «لَو كنتُ راجمًا أحدًا بغيرِ بيِّنةٍ لرجمتُها»[11]، وهو محمد بن عبد الله ﷺ يشك في هذه المرأة، ومع ذلك ما استطاع أن يتهمها ﷺ إلا بالبينة الشرعية، والبينة الشرعية في الرمي بالزنا على أحد أمرين:
إمَّا بإقرار الزاني، وإقراره حجة قاصرة على نفسه، ولأجل ذلك فإنَّ العلماء -رحمهم الله- ومن باب الستر، ومن باب عدم إشاعة الفحشاء في الذين آمنوا، قالوا: لو زنا رجل بامرأة فأقرَّ على نفسه لم يجز سؤاله من هي المرأة التي زنيت بها، بل يقام عليه الحد، فإن كان بكرًا جُلِدَ، وإن كان ثيبًا رُجِمَ، ويُسكت عن المرأة؛ لأنَّ الأصل هو الستر؛ ولهذا قال النبي ﷺ لماعز لَمَّا اعترف: «لو سترت نفسك لسترك الله»، فليس في الشرع تشوف إلى الفضيحة، ولا إلى إشاعة مثل هذه الأمور المنكرة عن الفحشاء.
إذًا إمَّا بالإقرار وإمَّا بما هو أشد منه، وهو شهادة أربعة شهود.
أعظم الحدود الآن في الشرع وهو القتل، فالقتل يثبت بشهادة رجلين، ولكن الزنا لا يثبت إلا بأربعة، فليعلم أولئك الخائضون في حدود الله -عز وجل- وفي أعراض الناس، أنَّ ما أقدموا عليه من الشر أمره عظيم، وهو أمر لا يثبت إلا بشهادة أربعة من الشهود، وأين تجد الأربعة من الشهود؟
ومن نظر في التاريخ الإسلامي فما نعلم أن هناك حدًّا أقيم بشهادة أربعة، ما يعلم هذا، وما سمعت عنه، بل قد كان ثَمَّ حدٌّ سيقام ولكنه سقط، وهو الحد الذي كان في عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- على المغيرة بن شعبة، حتى أتى "زياد بن أبيه" فأنكره، وقال: ما أستطيع أن أشهد. فقال عمر: الله أكبر، الحمد لله، وفرح عمر -رضي الله عنه-.
هنا وجدنا عمر بن الخطاب وهو الشديد في دين الله -عز وجل-، يرى ثلاثة من الشهود العدول يشهدون، ومع ذلك لا يقيم الحد، ويفرح بسقوطه، فدلَّ ذلك على أنَّ إشاعة الفاحشة أو التكلم بها، أو قذف المؤمنين، من أعظم الموبقات.
وإذا كان كذلك، فإنَّ الرجل إذا أراد أن يَرمي غيره، يقال له: إذا رميت غيرك فلا بد من أن يكون هناك أربعة شهود، والستر خير، فيقول: عندي أربعة شهود. قلنا: نعم ولكن «ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ»[12]، فاستر عليه.
قد يقول: لا يا أخي، فأنا مبتلى بامرأتي أمَّ أولادي، نقول: طَلِّقها. قال: هناك أمر آخر. قيل: ما هو؟ قال: أنا أشك في ولدها، فهذا الولد ليس لي.
نقول: إذا وصل إلى هذه الحال فهو بحاجة إلى اللعان، فالولد لا تنفيه عنك إلا بلعان.
لم نجد -كما قلنا- في عهد النبي ﷺ أنَّ جماعة من الصحابة شهدوا على رجل بالزنا، ولكننا وجدنا واقعتين في رجلين اتهما نساءهما بالزنا. لماذا؟ لغرض نفي الولد.
هو يقول: ما لي حاجة فيها، أنا أستطيع أن أطلقها، الرجل يملك ذلك، ولكنه يقول: هي حامل، وأنا أريد أن أنتفي ولدها فهو ليس بولدي.
قال: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) قيل: هو هلال بن أمية، وقيل: هو عويمر العجلاني، قذف زوجته، فجاء إلى النبي ﷺ، وقد استراب وشَكَّ.
ولكن ذهب بعض العلماء إلى أنه سأل عن أَمرٍ فابتلي به، وهذا من نحو قول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة:101]، ومن النهي عن السؤال قبل الابتداء، والإنسان أحيانا قد يسأل عن أمر ما وقع من نفسه، فيبتليه الله -عز وجل- به.
وقال بعض العلماء: بل ظهر -والله أعلم- أنَّ هذا الصحابي كان قد استراب من امرأته أولاً. فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟) ، وقد علمنا ما في الحد، وأنَّ من قذف امرأة محصنة، فإنه سيجلد ثمانين جلدة أليس كذلك؟
(يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ) إن تكلم جلدتموه، وإن سكت فكيف يسكت على فاحشة امرأته؟
قَالَ: (فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ) يعني: قد وقعت فيه.
لعلنا نتوقف هنا -إن شاء الله عز وجل-، ونكمل هذا الحديث الجليل، وهو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- في الحلقة القادمة، وفقنا الله وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، وشكر الله لكم مشاهدينا على حسن استماعكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------
[1] رواه البخاري (3936) .
[2] أخرجه البخاري (3513) ، ومسلم (2518) .
[3] أخرجه البخاري (146) ، ومسلم (2170) .
[4] رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنُ مَاجَهْ
[5] أخرجه البخاري (5334) واللفظ له، ومسلم (1486) .
[6] أخرجه البخاري (6405) ، ومسلم (2691) .
[7] رواه البخاري (1914) .
[8] أخرجه الترمذي (697) واللفظ له، وابن ماجه (1660) .
[9] رواه البخاري (5338) .
[10] رواه البخاري ومسلم.
[11] أخرجه البخاري (7238) ، ومسلم (1497) .
[12] أخرجه مسلم (2580) .