{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية (هداة) والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في البدء}.
نعم، على بركة الله تعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ أُحْصِنْت؟» قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ "كُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّيْ، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ".
الرَّجُلُ: هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ، ورَوَى قِصَّتَهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أمَّا بعد، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصة ماعز ابن مالك الأسلمي -رضي الله عنه-، وهذا الحديث هو أصل في الإقرار بحد الزنا، ويقاس عليه من بعض الوجوه الإقرار في بقية الحدود، لأن هناك أمور يختص بها حد الزنا فيما يتعلق بالإقرار، وهناك أمور تشترك فيها بقية الحدود، يعني مثلا: التثبت تشترك فيه جميع الحدود، ولكن الإقرار على النفس أربع مرات، إنما يكون في حد الزنا دون غيره.
هذا الحديث -كما ذكرنا- هو أصل في الإقرار بالزنا، بمعنى: كيف يتعامل مع الإنسان إذا أقر بالزنا؟ ومن المعلوم أن حد الزنا وبقية الحدود، إنما تثبت بأمرين:
إما الإقرار، أي: إقرار الجاني بجنايته أو جريمته.
وإمَّا شهادة الشهود، وشهادة الشهود تختلف باختلاف الحدود، فأعظم الحدود هو حد الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة شهود، وما سواه من الحدود فإنه يُقبل فيه شاهدين، فيقبل في القذف شاهدان، يشهدان أنَّ فلانًا قذف فلانًا، ويقبل في السرقة شاهدان، أنَّ فلانا سرق فلانا، ويقبل في القتل الذي هو فوق حد الزنا شاهدان، وإنما ذلك لأجل أنَّ الشارع يحب الستر على الأعراض.
فوائد عامة أو في مقدمة اللقاء.
ما يؤول إليه حد السرقة مثل ماذا أن رجلاً سرق، فلم نجد عليه إلا ثلاثة شهود رجل وامرأتين فهل يثبت به الحد أو لا؟ نقول: لا يثبت به الحد.
يقول الله- عز وجل- قال: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ [البقرة"282]، نقول: إنما هذا في المال، والله -عز وجل- قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة:282]، فإذًا هاتان المرأتان اللتان تقومان مقام الرجل، إنما هذا يكون في المال أو ما يؤول إليه المال.
وبناء عليه لو أنَّ ثلاثة شهود، رجلٌ وامرأتان، شهدوا على رجل بالسرقة نقول: ما تقطع، ولكنه يغرم المال، أي: يدفع المال المسروق. لماذا؟ لأنَّه يثبت بشهادتهم الحق عليك، ولكن القطع ما يثبت عليك بتخلف الشهادة الشرعية.
إذًا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هو الأصل في هذه المسألة.
قد ذكرنا أن الحدود تثبت إما بالإقرار أو بشهادة الشهود، ومن المتقرر أنَّ حد الزنا -فيما أعلم- وقد سبق أن ذكرنا ذلك، أنه لم يقم إلا بإقرار الإنسان على نفسه، ولم يعرف أنَّ حدَّ الزنا -فيما نقل إلينا، أو فيما وقفنا عليه- أنَّه أقيم بشهادة الشهود. لماذا؟ لأنه يعسر أن يأتي أربعة شهود يشهدون على رجل أنه زنا. ويعينونه، ويصفون حالة الزنا الوصف الدقيق. لِمَاذا؟
لأنَّ الأصل في الزنا هو الستر به، فإذا جاء رجل يشهد وهو أكثر ما يقام به حد الزنا، فيقال: الأصل أنه إذا وصل إلى السلطان أن يقال له: استر نفسك، والأصل للقاضي أن يلقنه ما استطاع. يجوز؟ نقول: نعم ما لم يثبت، لأنه إذا أَقَرَّ على نفسه أربعة ثبت، ولكن الآن ما ثبت بعد.
يأتي رجل فيقول: طيب ألم تقولوا فيما بعد، «إذَا بَلَغَ الحد الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ» نقول: نعم، إنما هذا إذا ثبت، لكن الآن ما ثبت، فهو جاء فقط يريد أن يخبر السلطان أو يخبر القاضي، فيقول القاضي له: اذهب فاستر على نفسك، وهذا نفس ما حرص عليه النبي ﷺ لَمَّا جاءه ماعز، (فَأَعْرَضَ عَنْهُ)، أي: تنحى تلقاء وجهه، أعرض عنه لأجل ماذا؟ لأجل أن يذهب. يأتي فيقول: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ) ثلاث أو أربع مرات يُعرض عنه، يأتي ليخبر النبي ﷺ بالزنا وهو يتنحى عنه، ثم قال له: لا، لا لعلك لم تزن، لعلك فعلت كذا أو كذا.
فإذا أَقَرَّ على نفسه -كما قال بعض العلماء- أربع مرات، وهذا هو المذهب، أنَّ الزاني ما يقام عليه الحدَّ حتى يُقر على نفسه أربع مرات، فلو أقر على نفسه ثلاثًا ثم انصرف؛ لا يقام عليه الحد، حتى لو كان في مجلس القضاء.
وبعض العلماء قال: لا، بل لو أقر على نفسه إقرارًا واحدًا وَأصرَّ على هذا الإقرار؛ أقيم عليه الحد، وإنما فعل النبي ﷺ ذلك مع ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه- لأجل أنه أَصَرَّ، فكان يكرر على النبي ﷺ، والنبي يتنحى عنه مرة ومرة ومرة لعله ينصرف، أو لعله يذهب، ولكنه ما ذهب.
قالوا: وليس هذا لغرض أنَّ النبي ﷺ لم يكن سيقبل إقرار ماعز إلا حينما يُقر الأربع مرات.
وبعض العلماء قال: لا إنما الإقرار أربع مرات في مقام الشهود، هم قالوا: أربعة شهود، وهذا كأنما أقر على نفسه أربع مرات، فأقام كل إقرار بمقام الشاهد، ولهذا عكسوا هذه المسألة في السرقة، فقالوا في السرقة: إذا أَقَرَّ على نفسه بالسرقة، فإنه يحتاج أن يُثَنِّي الإقرار مرتين؛ لأنَّ السرقة يُكتفى فيها بشاهدين، وقالوا: هذا مستنبط من قصة ماعز الأسلمي، ولذا يقال: ما في بأس أن يعمل القاضي يعمل بذلك احتياطًا، وأن يطلب من الرجل الإقرار؛ لأنَّ الأصل في الحدود أنها مبنية على الستر والدرء. ويقال للإنسان استر على نفسك ما سترك الله.
الأصل في القاضي أن يحرص على أن يدرأ الحد ما استطاع، فإذا أصر ووجد أنَّ الْمُقِرَّ أو المذنب مُصر على إقراره، فيجب عليه أن يستنطقه بما يزيل الشبهة، يعني يقول له: هل زنيت الزنا المعروف كما قال النبي ﷺ هل أتيت؟ قال: نعم يا رسول الله أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من أهله حلالاً، وجاء في بعض الروايات أنه قال: «كما يَغِيبُ المِرْوَدُ في المُكْحُلةِ والرِّشا في البِئرِ؟» قال: نعم يا رسول الله وقال: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ أُحْصِنْت؟» قَالَ: نَعَمْ، وأمر به تشم رائحته لعله قد يكون شرب خمرًا وجاء ليعترف، وسأل عنه قومه فقالوا: ما نعلمه إلا من صالح قومنا، يعني: من العقلاء، فأقام عليه الحد النبي ﷺ.
فدل ذلك على أنه ينبغي للقاضي في إقامة الحج أن يحرص ما استطاع أن يدرأ الحد، وفي حال أنه لم يستطع درأ الحد برجوع المقر على نفسه، فعليه أن يبحث عن القرائن، فقد يكون ثم من القرائن ما يدرأ به الحد عن نفسه كما ذكرنا، فقد يكون الرجل قد شرب خمرًا فوقع في الزنا، فيدرأ به الحد، الذي هو حد الرجم، وقد يكون على سبيل المثال أُكره على ذلك، وقد يكون ما زنى، وإنما أتى بمبادئ الزنا، ولكنه استعظمها فسماها زنا.
إذا على القاضي أن يحتاط في ذلك كله، ثم يسأله هل أحصنت، حتى يُفرق في الحكم.
الآن النبي ﷺ استنطق الرجل أربعا فأقر، ثم فحص عنه فوجده على خير حال، أعني بذلك فيما يتعلق بعقله، وفيما يتعلق بجريمة الزنا، ثم بقي الآن تحديد الحكم الشرعي، أو ما يسمى عند الفقهاء والقضاة بتحديد مسار الحكم الشرعي، لأنه قد ثبتت عنده المقدمات، ويريد أن يصدر الحكم الشرعي، والحكم الشرعي مبني على حاله، هل هو محصن أو غير محصن؟
والمحصن ها هنا في باب الزنا يراد به البكر والثيب، يعني: يُراد به ما قابل البكر، فقوله: هل أحصنت؟ يعني: هل تزوجت سابقا؟ هل تزوجت امرأة حرة، وجامعتها جماعًا صحيحًا؟
قال: نعم يا رسول الله، إذا انتقل حكمه من كونه يحكم فيه بالزاني البكر، إلى كونه يحكم فيه بحكم الزاني الثيب أو الزاني المحصن، وهذا باب الإحصان في الزنا.
هناك باب الإحصان في القذف، وهو يختلف عن باب الإحصان في الزنا، فالمحصن في القذف ليس هو المحصن في الزنا.
قال: (نَعَمْ) فأقر الآن بأنه محصن، فكان حده على حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، وهو حديث العسيف، وهو الرجم. طيب أين جلد المئة؟ ما وجدناه في هذا الحديث، وما وجدناه في حديث الغامدية، فعندنا ثلاثة أحاديث جليلة كلها فعلية.
حديث عبادة -يا إخوان- حديث قولي، وفيه: «البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ والرَّجْمُ» ، هل هذا الحديث قولي ولا فعلي؟ حديث قولي، وهذه الأحاديث أحاديث فعليه مع كونها قولية أيضًا، وبذلك فهي أبلغ في الحكم.
فكان عندنا حديث ماعز، وكان عندنا حديث العسيف، وكان عندنا حديث الغامدية، ثلاثة أحاديث كلها فيها أن النبي ﷺ رجم من غير جلد؛ فدل على أنَّ حَدَّ الزاني المحصن إنما هو الرجم فحسب.
قال: (فقَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ». قالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "كُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى)،
وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "إن كان الزاني قد أقر على نفسه، كان الإمام أول من يرميه، وإن كان الزنا بشهادة الشهود، كان الشهود أول من يرميه"، وهذا حتى يُشدد عليهم، وكأنه يقال لهم: "أنتم شهدتم عليه بالرجم فارجموه، فلما استتمت شهادتهم يؤمر بهم ويكونون هم أول من يرجمه، أو أول من يرميه.
ويرجم بكل حجارة ولا يشترط فيها حجارة معينة؛ لأنه إنما يُقصد بذلك إتلافه.
قال: (فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى)، وجاء في بعض الروايات بالحرة.
قال: (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ) و (أَذْلَقَتْهُ) يعني: اشتدت عليه، وأوجعته (هَرَبَ) أي: كعادة الإنسان في الهروب.
قال: (فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ)، وجاء في بعض الروايات: فرماه بعضهم بحجر فقتله.
الشاهد: أنهم تبعوه لَمَّا فَرَّ، وهذا فيه دلالة على أنه لم يحفر له، وأنَّ ما جاء في حديث الغامدية «فحفر لها» قد يكون حالة عين لا يُؤخذ بها، ولا يقال فيها بعموم الحكم، بل يقال: إنَّ الأصل في ذلك أن يُرجم، وأن يُخلى بينه، فلو هرب جاز له ذلك؛ لأنه قد جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله -عز وجل- عليه»، وهذا هو قول الإمام أحمد -رحمه الله-، فإنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- كان يقول: "إن هربَ خُلي بينه وبين ذلك"، يعني: ما يتبع.
وقال بعض العلماء: لا، بل يتبع ما دام أنه قد أَقَرَّ على نفسه، فإنه يتبع حتى يهلك، ويرمى بكل الحجارة، سواء كانت حجارة صغيرة أو كبيرة.
هذا هو حد الزنا الذي هو أعظم الحدود وأشدها، وأشد ما جاء فيه العقاب هو حد الزنا، وأمَّا بقية الحدود كالقتل الذي هو رأسها، إنما يضرب رأس الإنسان ضربة واحدة ويهلك، وأمَّا هذا فلا، بل هو ألم متتابع قد يستمر بالإنسان فترة، عشرون دقيقة، ثلاثون دقيقة، ساعة، ساعة ونصف، وذلك حتى يتوفاه الله -عز وجل-.
وفي هذا الحديث فوائد منها:
الأول: أنَّ الزنا يثبت بالإقرار، وقد ذكرنا هل يثبت بالإقرار مرة واحدة، أو أنَّ الإقرار أربعة، وذكرنا أنَّ المذهب يشترط فيه أربع مرات.
الثاني: أنَّ المجنون ليس بمكلف، وبناء عليه إذا أتى شيئًا من الحدود؛ فإنها ترفع عنه، ومن ذلك حد الزنا، فإنه يرفع عنه فلا يرجم، ولكنه يُحدُّ بحد السرقة، ولكن الحدود المتعلقة بالخلق فلا، مثل: القتل وغيرها، فنقول: لو شرب الخمر ثم قتل فيقام عليه الحد.
ومنها: أنَّ السكران لا تعتبر إقراراته، ولهذا قال بعض العلماء -رحمهم الله-: إنَّ النبي ﷺ لَمَّا أَمَرَ باستنكاهه ونحو ذلك، أنه خشي أن يكون قد جاء يقر على نفسه وهو في حالة سكر، وقد يكون فعل المعصية قبل سكره، فدل ذلك على أنَّ إقرار السكران غير معتبر، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله-.
وقد استنبط بعض العلماء من هذا أيضًا عدم وقوع طلاق السكران، وقالوا: إذا كان إقراره على نفسه بهذا الحد العظيم لم يقع، فكيف يقع طلاقه؟ صحيح هو آثمٌ بسكره ويعاقب عليه، ولكنه لا يُؤخذ بأقواله.
ومنها: أنه يجب الاستفصال في مقام الاحتمال، فإنَّ النبي ﷺ قد استفصل من ماعز الأسلمي، وسأل عنه.
ومنها: أنَّ الحدود تدرأ بالشبهة.
ومنها: أنه ينبغي الستر على أصحاب المعاصي، وينبغي ستر صاحب المعصية على نفسه، وألا يفضح نفسه، إذا كان يعلم من نفسه حسن التوبة، والإنابة إلى الله -عز وجل-، وأنَّ الله -عز وجل- قد يقبل توبته منه.
ومنها: أن الحدود كفارة لأصحابها، ولهذا قال النبي ﷺ في حديث عبادة بن الصامت، وهو حديث جليل، رواه الإمام البخاري ومسلم: «بايعُونِي علَى أن لا تُشْرِكُوا باللهِ شيئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تقتُلُوا أولادَكُم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفتَرُونَهُ بينَ أيدِيكُم وأرجلِكُم ، ولا تعْصُوا فِي معروفٍ، فمَنْ وَفَّى منكُم فأَجْرُهُ على اللهِ، ومَنْ أَصَابَ مِن ذلِكَ شيئًا فعُوقِبَ بهِ في الدُّنْيَا فهو كَفَّارَةٌ، ومن أصابَ مِن ذلكَ شيئًا ثم ستَرَهُ اللهُ فهو إلى اللهِ، إن شاءَ عفا عنهُ، وإن شاءَ عاقَبَهُ». فإذا الحدود كفارة لأصحابه هذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم رحمهم الله.
ومنها فضل والغامدية -رضي الله عنهما- فإنهما قد صَبَرا على الحد، ولهذا اشتهر ماعز -رضي الله عنه-، وأصبحنا نترضى عنه مع كونه قد أتى هذا المنكر العظيم. لماذا؟ لصبره في ذات الله -عز وجل-، وكذلك الغامدية نقول عنها: -رضي الله عنها- ولا زالت الأمة سلفا بعد سلف تترضى عنهما، وتذكرهما بالخير، مع أنهما فعلا منكرًا، ولكنها صبرا في ذات الله -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا زَنَيَا.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَك. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ ﷺ فَرُجِمَا.
قَالَ: فَرَأَيْت الرَّجُلَ: يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ، قَالَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا)}.
هذا حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-، وهو في إقامة الحدود على أهل الكتاب، والأصل في أهل الكتاب أنهم ما لم يعتدوا على أحد من المسلمين، والمراد بأهل الكتاب هنا الذميين والمعاهدين، يعني: من يعيش في ديار المسلمين، بينما أهل الكتاب في ديارهم التي يعيشون ليس لنا شأن بهم، ولكن من يعيش في ديار المسلمين من أهل الكتاب، فالأصل فيهم أنهم يُقيمون الحدود على شرائعهم هم، فإذا كان في شرائعهم تسويغ الزنا وما إلى ذلك، فهذا الأمر إليهم وليس لنا علاقة بهم، والأهم أن لا يستعلون به.
وكذلك شرب الخمر، يشربونه وليس لنا علاقة بهم، الأهم أنهم لا يستعلون به في أسواق المسلمين وفي مجامعهم، أو يرون أن في الخمر عقوبة كذا وكذا، وفي الزنا عقوبة كذا وكذا، فيتحاكمون إلى بعضهم البعض، فنقول: ليس لنا شأن في ذلك، بل يصنعوا ما شاءوا، ويتحاكموا إلى محاكمهم الخاصة كما يشاءون، كما كان النبي ﷺ يدع اليهود يحتكم إلى ما شاءوا، ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾، فإذا جاءوا يحتكمون إلى النبي ﷺ؛ حَكَمَ بينهم بكتاب الله -عز وجل-.
فإذا كان كذلك، فإنَّ اليهود من المعلوم في شريعتهم أنهم كانوا يرجمون الزاني، والأصل عندهم رجم الزاني مُطلقا، ليس هناك تفريق بين الزاني البكر والزاني الثيب، فيرجمون مطلقا، ولكنهم على عادتهم في تحريف كتاب الله -عز وجل- الذي هو التوراة الذي بين أيديهم، عمدوا إلى كتاب الله -عز وجل- وإلى التوراة فحرفوها، وهم يُجرون تعديلات وتغييرات على التوراة، وهذه التغييرات قد مرَّت بطورين.
الطور الأول: تغييرات في التفسير والتأويل.
والطور الثاني: تغييرات في النص.
فأما التغييرات التي جاءت في التأويل، فهي ما اخترعوه مما يسمى عندهم: "التلمود"، وهو كالتفسير لكتاب الله -عز وجل-، انظر إلى تفاسير العلماء، هذا هو التلمود عندهم، فالتلمود هو تفسير علمائهم لكتاب الله لكتابهم الذي هو التوراة، فكانوا يفسرون التوراة بما يرونه، ويلوون أعناق النصوص ليًا عجيبًا، ويحرفون ويبدلون، وقد اعتمدوا هذا التلمود كأساس في التشريع وفي الحكم بينهم، فلم يكن المعتمد عندهم التوراة، وإنما المعتمد عندهم التلمود، هذا في زمن طويل، أو في طائفة من اليهود.
وطائفة أخرى من اليهود تطاول بهم الأمر وزاد، ورأوا أنَّ التلمود لا يستطيع أن يغطي على ما في التوراة من النصوص الواضحة والصريحة، فعمدوا إلى التوراة فحرفوا نصوصها تحريفًا ظاهرًا بينًا، فكان مما حرفوا معناه ولم يحرفوا لفظه آية الرجم، وسيرد ها هنا في هذا الحديث ما يدل على ذلك.
جاء اليهود إلى لنبي ﷺ برجل وامرأة منهم قد زنيا، وفي بعض الروايات أنهما قد أُحصنا، وقد تشاوروا فيما بينهم، والآن عندهم -يا إخوان ويا أخوات- نبي يعلمون نبوته، ولكنهم مكذبون له، ويعلمون أنَّ هذا النبي يُقيم الشرع، ويعلمون أنَّ هذا النبي بعث بالتَّخفيف، فقالوا: كوننا نعطل حُكم الله صعب، وعندنا هذا النبي، فلعلنا نتوسل إليه ونكلمه، فنحكم بيننا بشرعه، فنحتج على الله بهذا الشرع، ونقول: هذا شرع نبي من أنبيائك، أليس محمد نبي من أنبيائك؟!
إذًا هذا هو شرعه، وهذا هو حكمه، وهذا فيه نوع من الحيل التي يتحايلون بها على الشرع، فهم ما يؤمنون به، ولكنهم يتحاكمون إليه، مع أنَّ الله -عز وجل- قد خيره، فقال: ﴿فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المادة:42]، فجاءوا يتحاكمون إلى النبي ﷺ، وقد جاء في بعض الروايات أنَّ النبي ﷺ لَمَّا جاءوا إليه بالتوراة، نزع النبي ﷺ وسادة كان قد جلس عليها، فوضع التوراة عليها، وقال: «آمنت بك وبمن أنزلك؟» فعظمها النبي ﷺ لأنها من كتاب الله، والظاهر -والله أعلم- أنَّ التوراة التي عند النبي ﷺ لم تكن محرفة النص. لماذا؟ لتعظيم النبي ﷺ لها، ولأجل أنهم ما غيروا أية الرجم، ولهذا أخفوها، فقرأ ما قبله وما بعدها، وهو أن الزاني عندهم يحم، يعني: يسود وجهه، يُركب حمارًا مقلوبًا، كنوع من التعزير له، ويطاف به في مجامع الناس.
طيب والرجم؟ الرجم وضع الرجل اليد عليه، وقرأ ما قبله وما بعده، فسقط حدُّ الرجم، وهكذا بهذه الطريقة السهلة يلعبون بكتاب الله -عز وجل-، ﴿قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [المائدة:91]، القراطيس التي هي كتاب الله -عز وجل- يخفون ما شاءوا منها ويبدون ما شاءوا، فإذا أراد أن يطبق حكم الله -عز وجل- على عدو من أعدائه أنزل فيه حكم الله -عز وجل- الحكم القاسي.
(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ) الفضيحة بماذا؟ بالتحميم، تسويد وجه وركوبه حمارًا مقلوبًا.
(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ) وعبد الله بن سلام هو ذلك الصحابي الذي آمن بالنبي ﷺ من اليهود، والذي قال النبي ﷺ فيه وفي جماعة من اليهود: «لَوْ آمَنَ بي عَشَرَةٌ مِنَ اليَهُودِ، لآمَنَ بي اليَهُودُ» ، انظر إلى الحسد العظيم، أناس يعلمون النبي ﷺ، ويعلمون أنه نبي الله، جاءوا يتحاكمون إليه، وينشدون التخفيف منه، وما علموا أنَّ شريعة النبي ﷺ في الزنا كشريعتهم، أي: الرجم، وهذا فيه دلالة على أنَّ حكم الرجم لم يشتهر بعد، والله أعلم، وأنَّ هذا الرجل من أوائل من رُجِم، قبل الغامدية وقبل ماعز؛ لأنه لو كان كذلك لاشتهر حكم الغامدية وماعز، ثم الذي يروي أحاديث الغامدية وماعز منهم الصحابة المتأخرون، مثل: أبي هريرة وأصحابه، كبريدة، وهم ما أسلموا إلا في سنة سبعة، وفي سنة سبعة ما كان قد بقي أحد في المدينة من اليهود؛ وكان اليهود كلهم قد ذهبوا، فكان هذا -والله أعلم- قبل سنة سبع، وكان هذا من أوائل حد الرجم الذي أقيم في المدينة، وقد شاء الله -عز وجل- أن يقام على هؤلاء اليهود، فتكون فيهم العبرة، وبهم العظة.
ولو كان أقيم على أحد من الصحابة لاشتهر ذلك، وقالوا: هذا النبي قد أقام حد الزنا بالرجم على أصحابه، فهل تظنون أنه سيعفي صاحبكم من الرجم؟
فأراد الله -عز وجل- أن يكون التحاكم نقمة على اليهود وعلى صاحبهم، فلما جاءوا إلى النبي ﷺ فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على أية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها.
فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح واضحة بينة، وليست مطموسة، فدل ذلك على أنَّ هذه التوراة ما أدركها تحريف، ولكن الآن أغلب التوراة الموجودة بين أيدينا أدركها التحريف، نتكلم عن ألف وأربعة مئات عام، ولكن قد كان هناك نسخ غير محرفة من التوراة، وهذا بخلاف الإنجيل، فالإنجيل لا يوجد منه نسخة غير محرفة، بل إنَّ الإنجيل الذي أنزله الله -عز وجل- على عيسى ﷺ لا يُعلم أين هو، وهذا من العجائب، فالإنجيل الذي بين أيدي الناس من الأناجيل الأربعة، وهي: إنجيل متى، ولوقا، ومرقص، ويوحنا، ليست هي الأناجيل التي أنزلها الله على عيسى، وما يدل على ذلك أنها تحكي قصة عيسى، وتحكي كيف صلب عيسى، فإذا كانت تحكي قصة عيسى، وتحكي كيف صلب عيسى، فعلى من أنزلها الله؟
بل هي إخباريات وقصص، بخلاف التوراة، ولهذا اضطر النصارى إلى العمل بالتوراة أكثر من عملهم بالإنجيل، الذي يسمونه العهد القديم؛ لأنه كتاب قائم على الأحكام، وأمَّا الإنجيل فإنما هو كتاب قائم على القصص والمواعظ، وليس فيه أحكام شرعية، بل قصص وآداب ونحو ذلك.
الشاهد: (فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ ﷺ فَرُجِمَا) تم تنفيذ الحكم الشرعي، وعمل النبي ﷺ بقول الله -عز وجل-: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾، فحكم بينهم بالشرع، ونَفَّذَ الحكم؛ فدل على ذلك على أن أهل الكتاب إذا احتكموا إلينا كان لنا الحق في أن نحكم بينهم أو أن نردهم، وقال بعض العلماء: الأصل في ذلك أن يحكم بينهم، ما دام أنهم ترافعوا إلى المحاكم الشرعية، أو المحاكم الإسلامية، فيحكم بينهم، ويلزمون بحكم الله، لَمَّا يأتي فيحكم بينهم فيأتي اليهودي ويقول: لا، ترى الحكم بالنسبة لي ما ناسبني، ولا يلزمني الاحتكام إليك، نقول: لا، انتهي الأمر، ما يلزمك الاحتكام لو لم أقبل أنا بالحكم، وأما إذا قبلت أنا بالحكم فحكمت؛ فإنه يلزمك أن تقبل به.
وفيه دلالة أيضا على قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ لأنَّ مَن الذين شهدوا على اليهود؟ اثنان. وقال بعض العلماء: هذا من الدلالة على أن هذين الزانيان قد جهد عليهما، وذكرنا في السابق أنه ما هناك واقعة إسلامية، ولكن هناك واقعة لليهود؛ لأنه يبعد -والله أعلم- أن يأتي هذا اليهودي واليهودية فيعترفان بالزنا، وإنما يكون ذلك بشهادة الشهود عليهما، فشهد الشهود عليهما.
والظاهر -والله أعلم- أنهم -الشهود- كانوا أربعة فأكثر؛ لأن النبي ﷺ سيطبق عليهم الحكم الشرعي كله، ما يأتي ويقول: بما أنكم يهود فنحن نقبل شهادة أي واحد منكم، ولو لم يشهد عليه إلا امرأة، أو صبي.
نقول: لا، بل يجب إعمال الحكم الشرعي في ذلك، أربعة شهود، ونتحقق من أنهم قد شهدوا بالزنا، ونتحقق أن الزاني والمزني بها محصنين، يعني: ثيبين، ونتحقق أنه ليس بهما جنون.
المهم أننا نكشف كل الموانع التي تمنع وتحول بيننا وبين إقامة الحد.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا» -أَوْ قَالَ: «امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْك جُنَاحٌ»)}.
هذا من باب دفع الصائل، وقد كان حريا بالمصنف -رحمه الله- أن يذكره مع الحديث السابق، الذي هو حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-؛ لأنها كلها أحاديث تتعلق بالصائل، ولهذا ذكرنا هذا الحديث في حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-.
وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: («لَوْ أَنَّ رَجُلًا» -أَوْ قَالَ: «امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ») أي: رميته بحصاة، وقد نهى النبي ﷺ عن الخذف أو الحذف، كما في حديث عبد الله بن مغفل، وقال: «إنَّه لا يُصَادُ به صَيْدٌ ولَا يُنْكَى به عَدُوٌّ، ولَكِنَّهَا قدْ تَكْسِرُ السِّنَّ، وتَفْقَأُ العَيْنَ» والخذف أن يأتي بالحصاة الصغيرة فيضعها في أصبعه ثم يرميها، فلا «يُنْكَى به عَدُوٌّ»، أي أن العدو لا يندفع بهذه، ولا تحصل فيه النكاية بها، وكذلك «لا يُصَادُ به صَيْدٌ، ولَكِنَّهَا قدْ تَكْسِرُ السِّنَّ، وتَفْقَأُ العَيْنَ» ، فلو أنَّ امرأ اطلع عليك فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك في ذلك جناح، يسقط عنك الإثم، ويسقط عنك القود، وتسقط عنك الدية أيضا، كما في حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-، فلا قود ولا دية، أي: لا يجب عليه فيها قود ولا دية. لماذا؟ قال: لأنه صائل معتد على العرض، قد تعدى على عرضك.
وبناء عليه، فإنه يجوز لك أن تدفعه، ولكن ذكرنا أن الدفع يكون بالأسهل فالأسهل.
إذًا ما جنت فيه العين فأُتلفت؛ فإنه لا ضمان فيه، وهذه الجناية جناية مُهدرة، يعني: لا يثبت فيها شيء، وهذا من باب دفع الصائل على قول بعض العلماء، وقال بعضهم: إنه ليست داخلة أصلا في باب دفع الصائل، بل هو من باب العقوبة، هذا من باب إتلاف العضو الجاني، فهذا العضو الذي هو العين جنى، فكانت العقوبة أن تتلف.
والأمر في ذلك على ما ذكرنا -والله أعلم- أنَّ الأولى في ذلك أن يدفعه الإنسان بالتي هي أحسن؛ لأنَّ النبي ﷺ قد ثبت عنه أنه دخل عليه رجل فجعل يخاتله، يريد أن يفقأ عينه، فدلَّ ذلك -والله أعلم- على أنَّ الإنسان يدافع بالأدنى فالأدنى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (باب حد السرقة.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ»، وَفِي لَفْظٍ: «ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ».
وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»)}.
قال المصنف -رحمه الله-: (باب حد السرقة)، وحد السرقة هو أشهر الحدود وأكثرها اختلافا بين العلماء -رحمهم الله-، فكثير من الحدود متمحضة أحكامها ومعلومة، والخلاف فيها يسير، ولكن حد السرقة الخلاف فيه بين العلماء -رحمهم الله- كبير، فهو ثابت بأصل قرآني، وليس في هذا خلاف، وهو ثابت كما أن حد الزنا ثابت، وكما أن حد الحرابة ثابت، وكل هذه الحدود ثابتة بالقرآن.
ولكن حد شرب الخمر مثلا ليس ثابتا بالقرآن، وإنما هو ثابت بالسنة، وحد السرقة ثابت بالقرآن، ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة:38]، فإذا كان كذلك، فإنَّ السرقة هي: أخذ المال من مالكه في حرزه على وجه الاختفاء، هذه هي الشروط: أن يأخذ المال من مالكه، يعني: أن يكون المال المأخوذ من مالكه، وليس من غير المالك، وأن يكون المال محرزًا، وأن يكون هذا الأخذ على وجه الاختفاء، يعني: لا يدخل فيه الغصب، فالغصب هو الأخذ قوة وعنوة، كأن يأتي إلى رجل في وضح النهار فيأخذ منه سيارته، نقول: هذه ليست سرقة، بل هذا يسمى غصبًا. كأن يأتي إلى أرض فيأخذها، نقول: هذه ليست سرقة، وإنما هي من باب الغصب، فهذا هو الفرق بين السرقة وبين الغصب.
طيب ذكر في حديث عبد الله بن عمر، وحديث عائشة -رضي الله عنهما-، وحديث عائشة هو الأصل في هذا الباب، «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»، هذا هو الحد الذي تقطع فيه اليد، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يجب القطع بكل شيء كان قليلا أم كثيرا، أم أنَّ هناك حد أدنى للقطع؟
مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- والجمهور أنَّ هناك حدا أدنى للقطع، وهو ربع دينار فصاعدًا، فما كان دون ربع الدينار فلا قطع فيه.
طيب كمْ يساوي ربع الدينار؟
الدينار هو أربعة فاصلة خمسة وعشرين من الجرامات، وبناء عليه فالربع دينار يساوي واحد جرام فاصلة صفر خمسة وخمسين تقريبًا، أو واحد جرام فاصلة صفر ستين تقريبا، هذا هو ربع الدينار، والأصل في ذلك أن يُتوسع فيه، فيقال مثلا: ليكن ربع الدينار واحد فاصلة واحد.
وبناء عليه كمْ واحد فاصلة واحد؟ نسأل كمْ قيمة جرام الذهب عيار 24 الآن؟ أي: الذهب الخالص. فيقال مثلا: اليوم بمئتين وثمانين، إذًا اضرب مئتين وثمانين في واحد فاصلة واحد تطلع ثلاثمئة وعشرة. إذا نقول: ثلاث مئة وعشرة هذا هو حد القطع في السرقة، فمن سرق ثلاث مئة وعشرة فما فوق قطع، ومن سرق ما دونها لم يقطع عليه.
فإذا سرق عينًا، فإنها تقوم وتقدر، فإن قوِّمت بهذا المبلغ فأكثر قطع، وإن قومت بدونه فإنه لا قطع فيه، هذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو أنَّ للسرقة حد أدنى ما تقطع اليد فيه، وهو ما دون ربع دينار.
قالوا: ما دون ربع دينا يعد خسيسًا، ويتساهل فيه، ويتسامح فيه، وأما ما فوق ذلك فإنه يقع فيه القطع.
طيب في حديث ابن عمر ثلاثة دراهم، والدرهم الآن أقل بكثير من الدينار، فإذا أردنا المقابلة الآن بين الذهب وبين الفضة فقد نقول: إن ربع الدينار يساوي ثلاثمئة وعشرة من الريالات، ولكن لو أخذنا ثلاثة دراهم، فإنها قد لا تبلغ الآن ثلاثين أو أربعين ريالا. لماذا؟ لأنَّ قيمة الفضة منخفضة جدًا، وبناء عليه بأيهما يُقَوّم؟
قال العلماء -رحمهم الله-: الظاهر -والله أعلم- أنه يقوم بأعلاهما قيمة لماذا؟
في الزكاة يقومونها بالأدنى، وفي الحد يقومونها بالأعلى، قالوا: لأنَّ الحدود مبناها على الدرء بالشبهة، فلا نقطع حتى نتيقن أنَّ القطع واجب، وأن القطع متحقق، وبناء عليه فها هنا ينظر إلى الحد الأعلى، فيقال: ثلاثة دراهم أو ربع دينار. ما هو الأعلى منهما؟ قلنا: الأعلى الدنانير، ثلاثمئة وعشرة ريالات. إذا بناء عليه لا نقطع إلا في ثلاثمئة وعشرة ريالات.
ولا يأتي رجل فيعترض ويقول: جاء في حديث ابن عمر ثلاثة دراهم، نقول: وجاء في حديث عائشة ربع دينار، والدراهم الآن ما تساوي إلا ثلاثين ريال، والدنانير تساوي ثلاثمئة وعشرة، والأصل في الحدود عدم الأخذ بالشبهة. أليس كذلك؟ فإذا هذه شبهة، الأصل أننا لا نأخذ بالحد إلا من باب الاحتياط، هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله-.
قال: («تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا») إذًا ذكرنا أن حديث عائشة -رضي الله عنها- هو الأصل في حد القطع أو فيما يسميه العلماء -رحمهم الله- بنصاب القطع، وقد ذكرنا أنَّ حد السرقة ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، وهذه كلها من الأدلة على ثبوت السرقة.
يشترط أيضًا فيه أن يكون مأخوذا من حرز، وهذا شرط قد اتفق عليه جماعة من العلماء، وما خالف فيه إلا الظاهرية -رحمهم الله-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَيْمُ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
وَفِي لَفْظٍ: كَانَتْ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَطْعِ يَدِهَا)}.
هذا حديث المخزومية، وهو من الأحاديث المشهورة عند العلماء -رحمهم الله-، فإذا قيل حديث المخزومية، فإنما يُراد به حديث سارقة المتاع، وهذه المرأة كانت من قريش، وهي من بني مخزوم، وهم من علية قريش، أي: من أعلى قبائل قريش، فإنَّ أعلى قبائل قريش كانت قبيلتين أو فخذي بني عبد مناف، الذين منهم النبي ﷺ، ومنهم بنو أمية، وبنو مخزوم، هؤلاء هم أرفع قريش، فسرقت منهم امرأة، فأهمهم شأنها.
انظروا يا إخوان ويا أخوات إلى قولها: (سرقت)، مع أنه قد جاء في بعض الروايات أنها كانت (تجحد المتاع)، وهذه الرواية المحفوظة، أي أنها كانت تستعير المتاع وتجحده؛ لأنه لا يصور من هذه المخزومية أنها تسرق وتمارس السرقة بهذه الطريقة المتكررة، ولكنها كانت تعمل عملا كما نسميه الآن "لَبَاقَة"، فكانت تستعير المتاع، ثم إذا طلب منها قالت: ما أخذت منك شيئًا، لعلك نسيت، لعلك غفلت، ولكني لم آخذ منك شيئًا، فكان ذلك دأبها وديدنها، حتى شهد عليها شاهدين فأكثر، فجيء بها إلى النبي ﷺ، وقد ثبت عليها القطع، كأنما ترافعوا إلى أحد عمال النبي ﷺ، وهذا هو الظاهر.
فالظاهر -والله أعلم- أنهم ترافعوا إلى أحد عماله، والظاهر -والله أعلم- أنها كانت في مكة؛ لأنَّ عائشة قالت: (قريشًا) أين قريش؟ قريش كانوا في مكة، ولم يكن في المدينة أحد منهم إلا قليل، ولا زالت فيهم العصبية والحمية لقومهم.
فترافعوا -والله أعلم- إلى أحد عمال النبي ﷺ، لعله عتاب بن أسيد وغيره، فحكم بالقطع. فقالوا: فَقَالُوا: (مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟). الآن ثبت عليها.
قالوا: (وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ)، وهنا أيضًا معنى آخر في أسامة، وهو أنَّ أسامة -رضي الله عنه- قد تزوج من فاطمة بنت قيس المخزومية، فهو أيضا يمتُّ إلى بني مخزوم بالمصاهرة.
إذًا اجتمع سببان، أنَّ أسامة -رضي الله عنه- حب النبي ﷺ، وأنه قد صاهر بني مخزوم، (فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ)، فغضب النبي ﷺ وقال: («أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟») بمعنى أنَّ الشفاعة في حدود الله ما تجوز، ويُنْكَر على من يشفع في حدود الله.
أتريد أن تشفع يا أخي، اشفع في جرائم القتل، لو أنَّ رجلا قتل تشفع فيه لأولياء الدم؟
لو أنَّ رجلا قطع يد رجل، تشفع له، تشفع في الجنايات فيما دون النفس، ولكن في حدود الله ما أحد يشفع. وإذا وصلت إلى السلطان ما في شفاعة.
(«أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ») كما هو حال اليهود، («وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَيْمُ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا») فبين النبي ﷺ في هذا الحديث أن حكم جاحد المتاع هو القطع، وهذا هو مذهب الإمام أحمد، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، أنَّ من سرق المتاع وجحده، أو أنَّ جاحد العارية يقطع، والأئمة الثلاثة على خلاف ذلك.
وقول الإمام أحمد -رحمه الله- في ذلك هو الحق؛ لأنه قد جاء في هذا الحديث، وفي روايته المشهورة أنها كانت تستعير المتاع ثم تجحده؛ فدلَّ على أن هذه سرقة، وأنَّ الجاحد يسرق، ومثل الجاحد عندهم. قالوا: النباش ونحوه، وهؤلاء كلهم يقام عليهم الحد؛ لأنهم قد سرقوا من حرز، فالقبر حرز، وكل شيء حرزه بمعناه. أو بما يُحرز فيه عُرفًا، فإنَّ حرز العارية في الأصل هو تسليمها إلى المستعير.
انظر تر هذا معنى جليلا أيضا، فحرز العارية تسليمها إلى المستعير، تستعيرها مني، أنا المالك للعربية وأنت تستعيرها مني، فسلمتها لك، وحينما سلمتها لك أنت حرزها، فلما تأتي وتسرقها فأنت سرقتها من حرزها، وبناء عليه لقد أقام النبي ﷺ على هذه المرأة الحد، فدل ذلك على إقامة الحد على جاحد العارية، وهذا هو القول الصحيح الذي ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه الله-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ»
قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ)}.
هذا (بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ)، وحد الخمر هو أحد الحدود التي لم ترد في كتاب الله -عز وجل- يعني: حد القذف مثلا وارد في كتاب الله، ولكن حد الخمر هو الحد الوحيد من الحدود المشهورة الذي لم يرد في كتاب الله -عز وجل-، ولهذا اختلف العلماء -رحمهم الله- هل هو حد أو شبيه بالحد؟
قال بعض العلماء: هو تعزير شبيه بالحد، قالوا: ومما يدل عليه أنَّ النبي ﷺ قد أمر بجلد النعيمان، قال: فمنّا الضارب بيده، والضارب بسوطه، والضارب بنعله، وأمر بجلده أربعين، فقالوا -والله أعلم-: فيه دلالة على أنَّ النبي ﷺ كان يريد أن يُطبق فيه التعزير، يُعَزَّرَ الإنسان، ولهذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- قد اختلفوا فيه، كم نجلدهم؟
لهذا بين أنس -رضي الله عنه-: أنَّ النبي ﷺ جلد أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر، استشار الناس، فقالوا: اجعله كأخف الحدود، فجعله ثمانين جلدة. قال بعض العلماء: هذا دلالة على أنه حد الخمر هو أربعون جلدة، وما زاد عن ذلك فهو تعزير.
الشاهد: أن حد الخمر هو أكثر الحدود وقوعًا من حيث التكرار، فقد حدث في عهد النبي ﷺ، وفي عهد الصحابة، وقالوا بعضهم في الرجل الذي جلد "لعنه اللهُ ما أكثرَ ما يؤتى به النبيَّ ﷺ" ، فدل على أنه كان متكررا. لماذا؟
لأنه حد خفيف، وكان للناس ذاك الوقت ولع بالخمر، كانوا حديث عهد بها، وكان يشق عليهم تركها، فكانوا مقبلين عليها.
الشاهد: أن الأصل في حدِّ الخمر أنه ثابت بسنة النبي ﷺ، فقد جلد النبي ﷺ، وجلد أصحابه -رضي الله عنهم- من بعده، والأصل في الخمر أنه شُربُ مَا أَسْكر، ليس السُّكر نفسه، وإنما شرب ما أسكر، هذه مسألة مُهمة.
الأصل في تطبيق الحد متى نطبقه؟ نقول: نطبقه إذا ثبت عندنا أنَّ هذا الرجل قد شرب ما يُسكر حتى ولو لم يسكر، هذا هو الأصل، فمن شرب ما يسكر فهو قد شرب خمرًا، وقد وقع في الإثم الشرعي، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «ما أسْكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ» ، وفي بعض الروايات: «فمِلْءُ الكفِّ منه حرامٌ» .
وبناء عليه، إذا شرب منه ولو نقطة واحدة فقد دخل في حكم شارب الخمر، أعاذنا الله -عز وجل- وإياكم من ذلك.
وقد جاء الوعيد عليها أن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، «إنَّ علَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَهْدًا لِمَن يَشْرَبُ المُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِن طِينَةِ الخَبَالِ» ، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وقد ذمها الله -عز وجل- وجعلها من الخبائث، إذًا هذا هو مجمل حد الخمر، وفيه: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ»، هذا هو جلد النبي ﷺ، وقيل: إنَّ هذا الرجل هو ابن النعيمان، أو النعيمان، وقد جلده مرة بجريدة، ومرة أمر الناس أن يجلدوه، "فمنَّا الضَّاربُ بيدِهِ والضَّاربُ بنعلِهِ والضَّاربُ بثوبِهِ" ، يعني: طريقة الجلد ليست مقيدة.
قال: (قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ) إذًا هذا هو حد الخمر، ويقال فيه: إنه يجب فيه الجلد، وأنَّ الأصل فيه ثمانون على فعل الصحابة -رضي الله عنهم- وعلى ما استقر عليه عمل الصحابة -رضي الله عنهم-، فإن نقص لم يجز أن ينقص عن جلد النبي ﷺ.
وقالوا -والله أعلم-: إنَّ عمر -رضي الله عنه- لَمَّا جلد ثمانين، إنما جلد سياسة شرعية منه -رضي الله عنه-. فإنه قال: إن الناس قد تتابعوا فيه.
لعلنا نقرأ الحديث الأخير.
{قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ نِيَارٍ الْبَلَوِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»)}.
هذا حديث (أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ نِيَارٍ الْبَلَوِيّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»)، وهذا الحديث يقول فيه بعض العلماء -رحمهم الله-: إنه جاء على معنى التعزير.
وقال بعض العلماء: بل حدود الله -عز وجل- أوامره ونواهيه، فكل ما كان حدًا من حدود الله -عز وجل- بمعنى، أمر ونهي، ولو لم يكن حدًا شرعيًا ثابتًا؛ فإنه يجوز الجلد فيه أكثر من عشرة أسواط، وعلى هذا جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فإنهم قد جلدوا من وجدوه في لحاف امرأة، مع أنه ما ارتكب الزنا، جلدوه قريبًا من مئة.
فدل ذلك على أنَّ هذا المعنى: («لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ») أنَّ هذا الحد محمول على التأديب، وأنه لا ينبغي للمؤدب أن يجلد الطالب أو أن يجلد من يؤدبه فوق عشرة أشواط إلا أن يكون قد ارتكب حدًا من حدود الله، يعني: أتى بأمر محرم، أيا كان هذا الأمر المحرم، فإن اختلى بامرأة فيجلد فوق العشرة، وما يقال: لا تجلده إلا عشرة.
سرق ما دون النصاب يجلد، وجدت امرأة والعياذ بالله تساحق تجلد، ولا يقال: ما تجلد فوق العشرة؛ لأنها لم تأت بحد!
نقول: لا، الحد ها هنا المراد به حدود الله -عز وجل- التي هي أوامره ونواهيه، وإنما جاء هذا الحديث الذي يقتضي التخفيف في حق المؤَدَّبْ والْمُؤَدِّبْ، فيقال: ما لم يكن حدا شرعيًا؛ فإنه لا ينبغي للإنسان أن يجاوز فيه العشرة أسواط.
ولعلنا نكتفي بذلك، والله -تبارك وتعالى- أعلم وأحكم.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، وشكر الله لكم على حسن الاستماع، والسلام عليكم ورحمة وبركاته}.