الدرس الرابع عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

5387 21
الدرس الرابع عشر

عمدة الأحكام 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله- ويشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
{أمين، نستأذنكم في البدء}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (باب النذر
عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- أنَّه قالَ: "يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً"، وفي رواية: في المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقالَ له النَّبيُّ :
«أوْفِ نَذْرَكَ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فهذا الباب الذي بوبه المصنف -رحمه الله- وهو (باب النذر) وقد سبق بيانه، فإنَّ المصنف -رحمه الله- قال في الباب السابق: (باب الأيمان والنذور)، وضابط النذر أنه إلزام المكلف نفسه وعباد الله -تبارك وتعالى- لم يفرضها الله -عز وجل- عليه. فإلزام المكلف نفسه عبادة قد ألزمه الله -عز وجل- بها لا يسمى نذرا بالمعنى الاصطلاحي، ولكن هو النذر الذي قال الله -عز وجل- فيه: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان:7]، أن تعمل العبادة التي فرضها الله -عز وجل- عليك محافظا عليها، فكأنما وفيت بالنذر الذي فرضه الله -عز وجل- عليك، وهذا داخل في قول الله -عز وجل-: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾، وأن تلزم نفسك بعبادة مشروعة لم يلزمك الله -عز وجل- بها، فهذا هو النذر بالمعنى الاصطلاحي.
والنذر إذا كان لعبادة؛ فإنه يجب الوفاء به، ولا يجوز نكثه ولا نقضه، والنذر شديد ليس كاليمين، فاليمين تستطيع أن تتحلل منها بالكفارة، والنذر ليس كذلك.
النذر إذا كان على عبادة نقول: تلزمك العبادة، فإذا قال الإنسان: لله عليَّ إن شفى الله مريضي، أو أنجحني في دراستي، أو قُبلت في الوظيفة الفلانية، أو رزقني المال الفلاني، أو زوجني، لله عليَّ أن أصوم الاثنين والخميس.
نقول: لزم كذلك أبد. ما تنفك منه.
قال: يا إخوان تعبت، ومضى الآن على زمن طويل، أو بعض الناس يا نذور قد يكون فيها نوع من التعدي والفجور، رب العزة والجلال الذي أنعم عليك بالنعم الظاهرة والباطنة كلها، ما كلفك إلا بالشيء اليسير، خمس صلوات في اليوم والليلة، لو جمعتها ما أخذت من وقتك أكثر من ثلاثين أو خمسين دقيقة، فتأتي أنت وتلزم نفسك على نعمة واحدة أنعم الله -عز وجل- بها عليك، أن تصلي في اليوم مئة ركعة، أو يصلي في اليوم مئتا ركعة، نقول: تلتزم هذا نظر عبادة، ونظر طاعة تلتزم به حتى يتوفاك الله عز وجل.
إذًا ينبغي للعاقل ألا ينذر، وينبغي له إن نَذَرَ أن يُقيده بأحد أمور:
الأمر الأول: أن يقيده بمدة معينة، وهذا هو الأحسن، يقول: لله عليَّ نذر إن شفى الله مريضي أن أصوم الاثنين والخميس هذا العام. نقول: ما في بأس، وكلما قصرت فهو أحسن، يعني: ما تدري ما الذي يحصل عليك هذا العام؟ هذا أمر يقيده بمدة معينة.
الأمر الثاني في النذر: إن أراد أن ينذر فعلى الأقل أن يخفف النذر، أو أن يجعله نذرًا باتًا، يعني: يفعله مرة واحدة ويستريح. فيقول: لله عليَّ نذر إن شفى الله -عز وجل- مريضي أن أصلي ليلة كاملة بتمامها. نقول: الحمد لله رشدا. هذه ليلة واحدة. صليها وانتهى، أعزم على نفسك في ليلة وصلها.
والأمر الثالث وهو وأحسنها، على الناذر أن يُقيده بالمشيئة لله -عز وجل-، كأن يقول: عليَّ نذر إن شفى الله مريضي أن أصوم -إن شاء الله-، فإنه إن قيده بالمشيئة كان الأمر كاليمين.
أو يقيده بالإعانة، كأن يقول: إن أعانني الله -عز وجل-، أو إن يسره الله، أو إن شرح الله له صدري.
وأمَّا أن يُنذر نذرًا مُطلقا فلا؛ لأنه سيعنت نفسه ويشق عليها، وسيكون مظنة الإخلاف بالنذر، ولهذا قال النبي في النذر: («إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ»).
وقوله: («لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ») كما فسرها البعض يعني: نذرك إنما نذرته لأجل أن يتحقق لك أمر ما، وهذا الأمر لا علاقة له بالنذر، وإنما هو إلى الله -عز وجل، فلا تظن أن نذرك سيجلبه، أو أنَّ عدم نذرك سيؤخره أو يرده. لا تظن ذلك؛ لأن الله -عز وجل- أفعاله وعطاياه لا تشترى بالنذر، وإنما هي منح من الله -عز وجل-، فلا يظن الإنسان أنه في سوق بيع وشراء، كأنه يقول: يا رب سأعطيك حتى تعطيني، هذا بلا شك من الأمور السيئة، وقد سبق أن تكلمنا عن هذا المعنى في مجالس ماضية.
إذًا فقد ثبت عن النبي أنه قال: («إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ») فيؤتي عليه ما لم يكن أو يعط عليه ما لم يكن يعطي على غيره، يعني: يصيبه الله -عز وجل- ببلاء. لماذا؟ لأنَّ هذا الرجل ما كان يخرج شيئا من الخير، ولا كان يخرج شيئا من البر، فهو بخيل، ما كان يأخذ شيئًا ابتلاه الله -عز وجل- بما ابتلاه به، فلما ابتلاه استخرج منه هذا المال، فقال: "لله عليَّ إن شفا مريضي أن أتصدق بنصف مالي. نقول: الحمد لله ذهب عليه نصف ماله. هذا الذي كان يضن به السنين الطويلة، ذهب بسبب هذا المرض الذي أصابه.
إذًا الأصل في النذر هو ما قررناه.
قال ها هنا: (عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- أنَّه قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً)، وإنما قَدَّمَ حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع أنَّ هناك أحاديث أولى بالتقديم منه، كحديث ثابت بن الضحاك وغيره، مثل: «مَن نَذَرَ أنْ يُطيعَ اللهَ فلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعصيَ اللهَ فلا يَعصِهِ» ، وحديث ابن عمر -رضي الله عنه- إنما قدمه لأجل أن يقرر به عظم النذر، وأنَّ النذر يلزم حتى لو كان قد صدر من رجل غير مسلم، ولكن ما يطالب به إلا بعد إسلامه؛ لأنَّ عمر قد نذر في الجاهلية قبل الإسلام، فقال: "إنِّي نذَرْتُ أنْ أعتكفَ ليلةً في الجاهليَّةِ"، وفي رواية: "إنِّي نذَرْتُ أنْ أعتكفَ ليلةً في المسجدِ الحرامِ في الجاهليَّةِ"، فقال رسولُ اللهِ : «أَوْفِ بنَذْرِكَ» وفي رواية: يوم في المسجد الحرام لأمر ما لأمر ما من الأمور التي نذرها عمر -رضي الله عنه- فقال النبي : «أَوْفِ بنَذْرِكَ» ، فدل على وجوب الوفاء بالنذر، خلافا لقول أبي حنيفة الذي قال: "إنه لا يجب الوفاء بشيء من النذر، إلا ما كان جنسه واجبا بأصل الشرع"، ويقول ما كان جنسه واجبًا بأصل الشرع يوفى به.
إذا الاعتكاف عنده واجب بأصل الشرع أو لا؟ ليس بواجب، فإذا عند أبي حنيفة هذا ما يجب. لكن الصحيح من أقوال ل العلم. إن النذر يلزم الوفاء به وإن كان أصله ثابتا أو جنسه ثابتا بأصل الشرع أو لم يكن كذلك.
الأمر الثاني: أنه يجب الوفاء بالنذر بكل حال، حتى ولو كان معقودا في حال الكفر، وهذا مما يدل على تأكيد النذر.
وفيه أيضا من الأدلة الأخرى أن الاعتكاف يصح بغير صوم؛ لأنه قال: "نذرت أن أعتكف ليلة، والليالي ما يكون فيها صيام، وهذه هي اللفظة الراجحة، وأصح ما جاء في حديث عمر أنه قال: (إنِّي نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً)، هذا هو أصح ما جاء في حديث الفاروق عمر.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: «إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ»)}.
هذا هو الحديث الذي تكلمنا عنه، وذكرناه في غير ما موضع، وهو أنَّ النبي (نَهَى عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: «إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ»)، والنذر لا يأتي بخير بمعنى أنه لا يَرُدُّ شيئًا من قضاء الله -عز وجل-، ولا يسوق شيئًا من الخير سيسوقه الله -عز وجل- إليك، هذا هو المعنى.
ومعنى آخر، أنك بنذرك فإنك ما تعلم ما الذي سيحصل بالنذر، قد لا يكون النذر خيرا لك، قد تعجز عن هذا النذر وتقع في الإثم، وقد يعنتك ويشق عليك، والأصل يا أخوان أن الخير كل الخير فيما أمر الله -عز وجل- به، وأمر به رسوله من غير أن يوجب الإنسان على نفسه شيئا لم يوجبه الله -عز وجل- ولا رسوله ، ومن غير زيادة، هذا هو الخير.
إذًا الخير هو التوسط في العبادة والاعتدال فيها، فما جاوز ذلك لم يكن من الخير، حتى ظن الإنسان أنه زيادة في الخير؛ لأنه ربما يجنح بالإنسان إلى غير هدي رسول الله ، وإلى غير السنة والقصد، ولهذا كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "اجتهاد في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في غير سبيل ولا في غير سنة".
قال: («وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ») هذه هي الخصلة المحمودة في النذر، أنَّ البخيل يخرج به أشياء لم يكن ليخرجها إلا بهذا النذر الذي ألجأه الله -عز وجل-، فلجأ إلى هذا النذر يظن أن هذا النذر سيغير من أمر الله شيئًا، أو سيغير من قدر الله شيئًا.
إذًا الأصل في النذر أنه مكروه، هذا هو الصحيح من أقوال ل العلم، والوفاء به واجب، وقالوا: هذا من غرائب العلم؛ لأن القاعدة تقول: الوسائل لها أحكام المقاصد، ولكن هذه وسيلة مكروهة، بينما الوفاء بها واجب. قالوا: لأنه إنما نهى عن عقده رحمة بالأمة ورأفة بها، وحتى ما يظن الإنسان أنها معاوضة على عطايا الله -عز وجل- وعلى نعمه، وقد يعجز عنه. فلا ولأنه لا يأتي بالخير وإنما الخير يسوقه الله -عز وجل- بلا نذر، وأوجب فعله بعد ذلك؛ لأنه من جملة العهود التي أمر الله -عز وجل- بالوفاء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة:1]، فإذًا من جملتها هذا العقد الذي عقدته بينك وبين الله -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ: «لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ»)}.
حديث عقبة بن عمر -رضي الله عنه- هو من الأحاديث الجليلة، وهو من أحاديث العجز عن فعل النذر، وهذه من الأحاديث التي يقع فيها كثير من الناس، بل عامة من ينذر لا يخلو أن يقع في حد؛ لأنَّ من ينذر حقيقة هو ضع غالبا من يندر هو ضعيفا، ولهذا ما وردت النذور عن أصحاب العزائم من كبار الصحابة -رضي الله عنهم-، وإنما وردت عمن فيه ضعف، فتجد أن نفسه تتعب من المصيبة، أو من البلاء أنه سيرفعه إن نذر، فهذا عقبة بن عامر -رضي الله عنه- يحكي أن أخته قد نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، إن حقق الله -عز وجل- لها شيء ما، قد يكون هذا الأمر اجتهاد منها، استغرقت مرة من المرات في العبادة، وتلذذت بها فنذرت مثل هذا النذر، وكثيرا ما يقع هذا أيضا لبعض العباد، نذرت أن تحج إلى بيت الله أو تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، سواء حاجة أو معتمرة، فعجزت عن ذلك، قال: فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله ، المرأة تريد أن تمشي حافية من المدينة إلى مكة، هذه ما يستطيعها الرجال، فكيف تستطيعها النساء؟
قال: (فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ ) وكأنها ندمت على ذلك، وشق عليها مشقة جديدة.
قال: (فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ: «لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ») أمرها النبي إذا عجزت عن النذر بتمامه، ألا تعجز عن بعضه، هذا هو الأصل في النذر؛ لأن الأصل هو الوفاء به بتمامه، فإن عجزت عن الوفاء به بتمامه، فلا يصح أن يقال: يسقط عنك النذر.
وعلي قول بعض العلماء عليك وانتهى الأمر نقول: لا، إذا نذر إنسان أن يصوم، قال: لله عليَّ أن أصوم يومًا وأفطر يومًا، ثم أتى يستفتي فقال: شق عليَّ ذلك مشقة عظيمة، ما هي المشقة؟ قال: أني أعمل في الدوام، أداوم عندي خمسة أيام، نقول: إن شق عليك وما تستطيع، فعليك أن تفطر الأيام الخمسة هذه، وصم الجمعة مع الاثنين مع الخميس، وصوم السبت، وصم ما تستطيع من الصيام عليه. ولا نسقط عنه النذر بتمامه، ونقول له: الحمد لله ما دام أنه قد شق عليك في جانب فاتركه، لا، بل يأتي منه بما استطاع.
فيسأل ما الذي تستطيعه؟ قال: أستطيع أني أصوم الخميس والجمعة والسبت، نقول: صم.
قال: لا أستطيع أني أصوم يومي الاثنين والخميس، نقول: صم ما سوى ذلك.
فيه خلاف بين العلماء -رحمهم الله- فيما عجز عن الوفاء به هل عليه كفارة أو لا؟ الصحيح منها أن عليه كفارة، فإذا كان كذلك، فما كان من نذر الطاعة، فإنه يجب الوفاء به، وما عجز عنه من نذر الطاعة، فإنه يجب الوفاء بما عليه منه، وما لم يقدر فإن عليه فيه كفارة يمين.
والنذر المباح الأصل فيه أنه يجب عليه الوفاء به، فإن لم يفعله فإن عليه أيضا كفارة. فلو نذر الإنسان وقال: لله عليَّ إن شفى الله -عز وجل- مريضي أن أخرج فأتمشى في الشارع مثلا، أو أن أخرج أصنع كذا. نقول: هذا مباح من المباحات، وعليك فعله، وإن لم تفعله فإن عليك كفارة يمين، مع أنه لا ينبغي للإنسان أن ينذر المباحات؛ لأنها ليست من أبواب النذر، والنذر هو إلزام المكلف نفسه بطاعة لم يفرضها الله -عز وجل- عليه.
ولهذا قال بعض العلماء: يدل حديث عقبة بن عامر أنَّ الإنسان إذا نذر نذرا كان فيه طاعة لله -عز وجل- واجتمع بالطاعة والمباح. الآن عنده الطاعة التي هو ماذا؟ الذي هو العمرة هذه طاعة أليس كذلك؟ والمباح الذي هو ماذا؟ الركوب أو المشي. هذه مباحة لكنك تركض. فكونك تندر المشي أنت نذرت ماذا؟ نذرت أمرا مباحا، فإنك تكون مأمورًا بالطاعة. وإتمامها، الذي هو الحج والعمرة، ما قال خلاص ما دام إنها ما تمش سقط عنها سقط عنها الحج والعمرة لا أمرها بالحج والعمرة. ولكنه أسقط عنها المشي بتمامها وأمرها أن تمشي يا أحيانا وأن تركب أحيانا.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَباسِ -رضي الله عنهما- أَنَّه قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ الأنْصَارِيُّ رَسولَ اللَّهِ ، في نَذْرٍ كانَ علَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أنْ تَقْضِيَهُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ : «اقْضِهِ عَنْهَا»)}.
هذا حديث سعد بن عبادة -رضي الله عنه- في قصة وفاة أمه، وكانت قد نذرت نذرًا، وهذا الأمر حقيقة مما يكثر السؤال عنه، وذلك أن الإنسان قد ينذر نذرًا فيعجز عنه، أو يدركه الموت قبل ذلك، فيذكره ورثته من بعده، ولذا يقال: الأصل في ذلك إن يتم قضاؤه عنه، فإن كان له مال، وكان قد أوصى به، فقضاؤه من ماله ما لم يبلغ الثلث. هذا هو الأصل.
وإن لم يكن له مال، كان من الأولى -ولا نقول من الواجب-، بل كان من المسنون بورثته أن يقضوه عنهم، ولا يجب عليهم ذلك. لماذا؟ لأنَّ النبي قال للمرأة التي سألته عن أمها، فقالت: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فقال : «أَرَأَيْتِ لو كانَ علَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟» قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: «فَصُومِي عن أُمِّكِ» .
ومن المعلوم أنَّ قضاء الدين إنما يجب إذا كان من ماله، فما دام أنَّ الميت مات وعنده مال، فيقضى منه الدين، سواء بلغ الثلث أو أكثر، وسواء أوصى أو لم يوص، يقضى عنه الدين.
وإن لم يكن للميت دين لم يلزم هؤلاء الورثة بالإجماع، لأن هذا الدين ما ينتقل للورثة، وإنما هذا الدين معلق بذمة الميت، ولكن يقال: الأولى للورثة أن يقضوه عنه.
وكذلك الحال أيضا في العبادة؛ لأنَّ النبي قد قاس العبادة على الدين، ولذا يقال في هذا النذر: ينظر كان هذا الرجل قد ترك مالا وأوصى به فيقضى منه، وإن لم يترك مالا كان ذلك إلى ورثته، إن شاءوا أن يقضوا عنه كان ذلك برا به وصلة له، وإلا فانهم لا يكلفون ذلك، وهذا هو الأصل في العبادات.
وعلى هذا الحديث -أعني حديث ابن عباس- بنى الإمام أحمد -رحمه الله- هذه المسألة، فإنه قال: لا يُقضى الحج ولا الصوم عن الميت إلا إذا كان نذرًا، فإما أن واجبا بأصل الشرع، فإنه لا يقضى عنه. كيف؟ قال: لو أنَّ إنسانا أدركه رمضان فما صامه، أو لم يحج، فإنه لا يُقضى عنه. لماذا؟ يقول الإمام أحمد: لأنه إن كان معذورًا. فما الحاجة أن يُقضى عنه وقد عذره الله -عز وجل-.
وإن كان غير معذور لم يكن قضاؤك عنه يُغني عنه شيئا، فهو مفرط، فما يرفع عنه الإثم.
هذا قول الإمام أحمد، ولعل حديث ابن عباس -رضي الله عنه- يشهد له ويقويه.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»)}.
حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- هو نوع من النذر، فإنَّ كعب بن مالك -رضي الله عنه- لِمَا جاء في قصته العظيمة المشهورة، التي قد رواها الإمام البخاري -رحمه الله- في قصة التوبة، وفيها أنَّ الله -عز وجل- أنزل قوله: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ [التوبة:118]، وجاء الناس يبشرونه، فقال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: فخلعت ثوبين كانا عليَّ، فأعطيتهما من جاء بالبشارة.
قال: ثم خرجت حتى جئت المسجد فصليت ركعتين، ثم جئت إلى رسول الله ، فإذا وجهه يتهلل كأنه مذهبة. قال: فجلست بين يديه. فقال لي النبي : «أبْشِرْ بخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ» ، فقال كعب: (إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ)، وقد ظنَّ كعب أن من تمام التوبة أن ينخلع من ماله كله صدقة لله -عز وجل-.
وهذا قد قاله كعب -رضي الله عنه- مع رجاحة عقله، فكيف الشأن بغيره؟
قد يكون الإنسان أحيانا في لحظات من الصفاء والإقبال على الطاعة والعبادة، فإذا به يكلف نفسه أمرا ما كلفه الله -عز وجل- به، ولهذا يقال: ليس أحد أعلم من الله -عز وجل- بالخلق، فانظر إلى ما ألزمك الله -عز وجل- به فالتزمه.
فإذا نظرنا إلى الصلاة نجد أن الله ألزمك بخمس صلوات خفيفات.
وإذا نظرنا إلى الزكاة ألزمك الله -عز وجل- باثنين ونصف في المئة، وإذا جاوزت وبلغت ما بلغت، فتكون عشرة في المئة، التي هي زكاة الزروع والثمار، إذا كانت مما سقتها السماء. هذا هو أعلى ما يجب في الزكاة. ولا يجب في مالك شيء. دل ذلك على أن المال محبوب للإنسان ﴿إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد:37].
لو أن الله -عز وجل- سألك مالك بقدر ما أعطاك لاحفاك، والاحفاء هو كثرة السؤال عليك، ولو أن الشرع يطالب منك مالك في كل صغيرة وكبيرة كما يطالبك الخلق، تماما لو أن الخالق -سبحانه وبحمده- يتعامل معك في المال كما يتعامل معك الخلق في أموالهم، فهم ما يقدمون لك خدمة إلا بمال، فكل شيء تطلبه لا يقدم لك إلا بمال. أليس كذلك؟ لو أن الله -عز وجل- عاملك بذلك لاحفاك وأهلكك، لأنَّ حاجتك إلى نعم الله -عز وجل- أعظم من حاجتك إلى ما بيد الخلق ﴿إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد:37]. فيخرج الله -عز وجل- ما بدواخلكم من حب المال، وسترى الفسق العظيم، فإذا كان اثنين ونصف في المئة قد امتنع عنها كثير من الخلق، وضنوا بها، ومنعوها شحًا، فكيف لو طلب من الإنسان أكثر من ذلك، طلب منه الخمس مثلا أو طلب منه الثلث، أو نحو ذلك.
ولذا نقول: إذا أردت النذر فاعتدل في نذرك، يعني إذا كنت عندك نفس تنازعك على النذر فاعتدل في النذر، وانظر إلى ما أمرك الله -عز وجل- به، فأنذر بقدره.
ولهذا لما قال: (إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ).
قال العلماء -رحمهم الله-: "من نذر الصدقة بماله كله لم يلزمه ذلك"، وذلك أخذًا بفعل كعب -رضي الله عنه-.
وقالوا: بل يمسك بعضه. لماذا؟ لأنَّ النذر بالمال كله فيه إتلاف للنفس، أو إسقاط عليها غاية ما يكون من المشقة، خاصة لَمَّا إذا كان للإنسان عيال، كما كان حال كعب -رضي الله عنه-، فإن كعبًا كان ذا زوج وعيال. فمن أين ينفق عليهم؟ وفي هذا إضاعة لهم.
فقال النبي : «أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ؛ فَهو خَيْرٌ لَكَ»، واختلف العلماء -رحمهم الله- في قدر ما يمسك من المال إذا نذره؟ قال: لله على نذر، الآن كعب -رضي الله عنه- إنما كان في الاستشارة. إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.
قال بعض العلماء: إنه كان يستشيره، وقال بعضهم: لا، بل هو عَقَدَ عَقْدَ النذر الآن، فأخبره النبي أن يمسك بعض ماله.
فإذا قال إنسان: هذا القول فما الذي يلزمه أن يمسك؟ قال بعض العلماء: الصحيح أنه يتصدق بالثلث، ويمسك الثلثان قياسا بحاله. ألم يقل النبي لسعد -رضي الله عنه-: الثلث والثلث كثيرا؟ قالوا: فكذلك أيضا في هذا المعنى، إنما يلزمه ها هنا أن يمسك ثلثي المال، وأن يتصدق بثلثه.
وقال بعض العلماء: بل العكس، يمسك الثلث ويتصدق بالثلثين؛ لأنَّ الثلث كثير أيضًا في حقه، وهذا هو المشهور من المذهب.
وقيل: بل يمسك منه ما يكفيه، وما يكفي مؤونة عياله، ما قدامك نذرت أمسك السلم. هذا قول المذهب.
قال بعض العلماء: امسك الثلث، وقال بعض العلماء: بل امسك مؤونة عيالك وما يكفيهم، يعني: نفقة عام. ولكن يقال في ذلك كله: إنه ليس من الخير للإنسان أن ينذر مثل هذا النذر.
قوله: («أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ؛ فَهو خَيْرٌ لَكَ») فيه دلالة وبينة جلية على أنَّ المال قد يكون خيرا من الصدقة؛ لأنه قال: («فَهو خَيْرٌ لَكَ»). يتصدق الآن ويتصدق ويقول له: لا أمسك فالإمساك ها هنا في هذه الحال خير لك.
ومتى يكون ذلك؟ إذا كان في هذا المال الذي يمسكه ما يعينه وأهله على إعفاف أنفسهم، وعلى عدم السؤال، وعلى الاستغناء عن الخلق، وعلى طاعة الله -عز وجل-، فإنه ها هنا يكون المال خيرا لهم، ولهذا كان النبي يقول لعمر -رضي الله عنه- «نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ» . وقال لحكيم بن حزام: «إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فِيهِ، ومَن أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ» . وأين لا يريد البركة. البركة كما تكون في الإنفاق، فتكون أحيانا في الإمساك بقدر، أي: يعتدل الإنسان في النفقة الإنسان وفي الإمساك. فكما أن الإنسان يقال له: الأصل في النفقة أنها محبوبة وممدوحة، ويقال له: قيظ قد يكون أيضا الأصل في الإمساك أحيانا أن يكون ممدوحا ومحمودًا، فإذا كان بقدر، وإذا كان معتدلا.
والأصل في ذلك قصة صاحب البستان الذي كان يأكل هو وعياله ثلثه، ويرد فيه ثلثه، ويتصدق بثلثه، تدبير حسن للمال، يدبر الإنسان المال بأمرين:
الأمر الأول: ما يفوته وبعيلة ويكفيه ويكفي وكل ما يعني كبر قدر الإنسان كل ما كثرت حاجته. يكون الإنسان في أوائل العمرة قد ما يكون عنده إلا شخص أو شخصين أو ثلاثة هو من يعولهم. لكن كل ما تقدم بالإنسان عمره كل ما كثر من يعوله. وكل ما توزعوا وأصبح له قرابات له وأخوات وربما أعمام وعمات وأخوال وخالات كلهم يعولهم. وهذان أولى بالبر والنفقة من البعيد.
لكن ينبغي للإنسان أن يحتسب بهم النية الصالحة. فإذا تدبير المال يكون بأمرين. الأمر الأول. أي ينظر الإنسان إلى نفقته وإلى من يعوله فيحبسها. ما يفرط فيها ولا يتساهل فيها. ما يأتي ينفق يأتي إنسان يعيش على الراتب. فينزل الراتب فيدعى إلي خيرا أو مكرمة. فيتصدق بماله كله. ثم يذهب إلى البيت فلا يجد شيئا. ثم يذهب فربما أشكل ذلك عليه. وادخله في ديون ليس لها معنى. هذه ليس من التدبير الحسن. وليس مما يؤجر الإنسان عليه. هذا معنى.
المعنى الثاني أن يدبر المال بما يعود على نماء الأصل، ما تأتي فتنفق، يأتيك رزق ومال فتأتي تقسمه لقسمين.
قسم تنفق به على نفسك، وقسم تتصدق به. نقول: لا. اجعل قسمًا ثالثا ها هنا يعود عليك هذا المال الذي قد جاءك، وهذا مما يفتقده كثير من الناس، أي: يفتقدون حسن التدبير في المال، ولهذا أثنى النبي على صاحب هذا البستان. لماذا؟ لاعتداله وموازنته.
ترى -يا إخوان- كما أنه له أجر في نفقة على أهله، وأجر في صدقته، فإنه ربما لا يقل أجره فيما أنفقه على بستانه عن أجره في هذين. لماذا؟ لأن هذه العملية ستتكرر. أليس كذلك؟ والسبب فيها هو القسم الثالث. وهو ما حبسه من هذا المال على بستانه.
فإذا هذه من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يستشعرها، أن يستشعر أنَّ طلب المال ليس مذموما، ولكنه يكون باعتدال، فلا يطلب الإنسان المال بفجور، ولا يطلبه ببغي، ولا يطلبه بجشع وإشراف نفس، كما قال النبي لعمر -رضي الله عنه- لَمَّا أعطاه من عمالة الصدقة، أو من عمالة الزكاة، مع أنه يُمنع منها الأشراف، ومع ذلك لَمَّا ردها عمر -رضي الله عنه- قال: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك».
إذا هذا هو الأصل في استعمال المال.
{أحسن الله إليكم.
{قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» )}.
قال المصنف -رحمه الله-: (باب القضاء) هذا هو جزء من الربع الرابع، الذي هو أبواب الحدود والديات، نصفه في مسائل الحدود والديات، والأيمان والنذور، والنصف الثاني منه في باب القضاء والشهادات والإقرار، وهذا الباب هو من الأبواب التي لا يحتاج إليها إلا خاصة الناس، ولهذا نرى أن العلماء -رحمهم الله- يؤخرونه دائما في كتبهم، وهو من الأبواب الجليلة، التي يحتاج إليها الخاصة من الناس، ومسائله مسائل دقيقة؛ لأنها تحتاج إلى مزيد فقه.
والقضاء الأصل فيه الفراغ من الشيء، ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت:12] يعني: فرغ منهن، هذا هو الأصل في القضاء، والفراغ من الشيء وأحكامه.
والقاضي هو من يبين الحكم الشرعي ويلزم به، فإذا القضاء هو بيان الحكم الشرعي، والإلزام أو الفصل بين الناس والخصومات. هذا هو الأصل في القضاء.
والقضاء مندوب إليه، فإن الله -عز وجل- قد مدح سليمان -عليه السلام- بفهمه في القضاء. ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء:79]، ويدل على أنه من الفهم المحمود الذي يمدحه الله -عز وجل- ويحبه.
وقد استعمل النبي بعض أصحابه في القضاء، فإنه قد عَيَّنَ معاذًا -رضي الله عنه- قاضيا في اليمن، وعين أيضا رضي الله عنه قاضيا في اليمن، وتتابع على أولئك الصحابة -رضي الله عنهم- من بعدهم، فإنَّ الصديق -رضي الله عنه- لَمَّا ولي الخلافة عَيَّنَ عمر على القضاء، ولَمَّا ولي عمر عَيَّنَ عليًّا -رضي الله عنه- على القضاء.
إذا هي وظيفة شريفة، من أشرف الوظائف وظيفة القضاء، ولكنها من الوظائف التي لا ينبغي أن يستشرف لها، أي: لا يتطلع الإنسان إليها، فإنه إن يتطلع إليها لم يُعن عليها، وإن جاءته من غير استشراف أُعين عليها، وما جاء من ذَمِّ القضاء أو ذم القضاة فإنما هو محمول على القاضي بغير حق، أو على من يأخذ القضاء لأجل الوجاهة والمنصب والزعامة، كما هو الحال، أو على من يقضي بغير شرع الله -عز وجل-، وهذا هو شر القضاة.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» )، فساق المصنف -رحمه الله- حديث عائشة -رضي الله عنها- والحقيقة أنَّ وجود الحديث في هذا الباب هو من السياق الحسن، مع أن الأصل في هذا الحديث في أغلب الأبواب؛ لأنه من الأحاديث التي تدخل في جملة كبيرة من الأحكام.
على سبيل المثال: يدخل في أبواب الشروط في البيع، فيقال: إن الشروط التي تُنافي مُقتضى البيع، أو تنافي كتاب الله -عز وجل- مردودة بقول النبي : («مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»). هذا نص عام. فالبدع كلها ترد بهذا الحديث، ولهذا جاء عن طائفة من أهل العلم أنهم قالوا: إن هذا الحديث نصف العلم، فنصف العلم الأول هو: الإخلاص، وفيه حديث عمر رضي الله عنه.
ونصفه الثاني: هو المتابعة، وفيه حديث عائشة -رضي الله عنها-.
وبعض العلماء قال: بل العلم ثلاثة أثلاث، حديث عائشة في المتابعة، وحديث عمر في الإخلاص، وحديث النعمان بن بشير في الحلال والحرام، وهو توق من الشبهات.
وبعض العلماء يزيد ذلك فيجعل العلم أرباعًا، وبعضهم يجعلها أحراشا.
المهم أن هذا الحديث من الأحاديث الجليلة التي عليها مدار كثير من الأحكام، والأصل أنَّ مَا أُحدثَ مما لم يشرعه الله -عز وجل- ولا رسوله ؛ فإنه ملغى، وهذا الأصل إنما هو في الأحكام الشرعية، فأما في الأحكام الدنيوية فإنَّ الأصل فيها سعة يقال ما قال في الأحكام الدنيوية إنها بدعة. ما يأتي رجل مثلا يقول على سبيل المثال في طريقة سير الناس في الشوارع: إن هذه بدعة، أو أنَّ وقوفهم عند الإشارات من البدع!
نقول: هذه لا متعلق لها بالبدعة، ولكن إذا حصل ثم نزاع بسببها، فإنما يحتكم فيها إلى الأصول العامة في الشريعة، وقد حددتها الشريعة وبينتها.
إذًا كل ما كان من الأعمال ليس على مراد الله -عز وجل-، وليس على مراد رسوله ، فإنه مردود، وبناء عليه فإنه إن ظهر أنَّ حكم القاضي مخالف لحكم الله -عز وجل- وحكم رسوله ، اعتبر كأن لم يكن.
قال الفقهاء -رحمهم الله-: عندهم قاعدة مشهورة، قالوا: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، قاعدة مشهورة بالمعنى، بمعنى أن اجتهاد القاضي القديم أو السابق لا يُنقض باجتهاد القاضي الجديد. كيف؟
لو أنَّ القاضي الأول كان يرى توريث الإخوة مع الجد، فحسن في هذه المسألة، وجاء من بعده قاض آخر في نفس المدينة، بل هو في نفس المحكمة، يرى أنَّ الإخوة لا يرثون مع الجد، وأنَّ الجد مقدم عليهم. فرفعت إليه قضية فحكم فيها، فلما حكم فيها قال المحكوم عليه: أنت حكمت في هذه القضية. قال: نعم. قال: القاضي الذي كان قبلك قد حكم بخلاف حكمك.
قال القاضي ما دام كذا فأمر كذلك وحتى تتسق الأحكام وتنتظم؛ سأرجع إلى حكمه فأنقضه. قال: ما يجوز. لماذا؟ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهو قد حكم في هذه المسألة. بناء على الاجتهاد، ولكن لو كان اجتهاد القاضي الأول ليس فيه أحد صحيح، وإنما هو اجتهاد مخالف لنص أو إجماع؛ جاز نقضه.
مثال: لو أنَّ القاضي الأول حكم بالمساواة بين الذكر والأنثى من الأولاد. فقال: لا يتساوون كحال الإخوة لأم. ما الفرق بين الإخوة والإخوة والأم؟ الإخوة لأم ليسوا يتساوى ذكورهم وإناثهم. قالوا: نعم.
قال: بناء عليه الإخوة لأم يتساوى في الميراث ذكورهم وإناثهم، فإن الأبناء أو الأولاد من الصلب أولى بذلك هو، وقد حكمت بمساواة الذكر بالأنثى فإن هذا الاجتهاد اجتهادا باطلا ويجوز نقضه، وهذا بقول النبي : («مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»).
نقول: اجتهادك مردود عليك. قال من أين؟ قلنا: من قول النبي : («مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ») وأنت قد أحدثت في أمر الله -عز وجل- ما ليس منه.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ»)}.
هذا الحديث من الأحاديث التي أدخلها المصنف -رحمه الله- في باب القضاء، مع أن المسألة متنازع فيها. هل هذا الحكم الصادر من النبي كان على وجه القضاء أم على وجه الفتيا؟ لأنه في هذا الحديث أن هند بنت عتبة أتت إلى رسول الله، وهند امرأة من سروات النساء، جاءت إلى رسول الله فقالت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ)، والرجل الشحيح فسرته هي بقولها: (لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ) يعني لا يجود بالمال.
قالت: (بَنِيَّ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ) الأصل يا أخوان أن الإنسان يحتسب في النفقة التي ينفقها على أهله، وأن أولى الناس بالبر والنفقة هم بنوك، قرابتك، الأولى بالنفقة الزوجة والأبناء ومن كان معك في بيتك ممن تعوله. ثم بعد ذلك القرابة كل بحسبه، ثم بعد ذلك يتوسع الإنسان، فهؤلاء هم أولى الناس بالنفقة والبر.
ولا يجوز للإنسان أن يقصر على أحد منهم وهو قادر على أن يرفع هذا التقصير، ما يجوز للإنسان يقصر، بل يجب عليه أن يعطيهم ما يكفيهم بالمعروف، وأن يحتسب ذلك، فإن هذا من أعلى وجوه البر. فإذا لم يكن الإنسان كذلك وكان مقترا على أهله، بمعنى أن الأصل في ذلك والمرجع إليه العرف.
فإذا كانت المرأة تنظر إلى من حواليها في المال، وإلى من حول زوجها في المال، فترى أنها لا تأخذ كما يأخذون، وأنه قد قصر بها عن نفقتها، فإنه يجوز لها ها هنا أن تأخذ من ماله بالمعروف.
قالت: (إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ) يعني: عنده مال، ولكنه يبخل عليه، قد حدد لها مبلغا معينا لا تزيد عليه.
قالت: (فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟) يعني هل عليَّ إثم إن أخذت من هذا المال، مما لم يعطينه، ومما أنفق به على نفسي وعلى بني؟
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ») أي: ما يكفيك ويكفي بنيك.
هذا الحديث في الحقيقة كثير المسائل، وكثير الفوائد، ومما استدل به بعض العلماء أنهم قالوا: هذا الحديث فيه دلالة على جواز القضاء على الغائب، وهذا هو ما أورده المصنف -رحمه الله- ها هنا. فإنه حينما أورد هذا الحديث أورده في باب القضاء، وما أورده في باب النفقات، ولو أورده في باب النفقات لقلنا: إنه ما يريد به القضاء ها هنا، وإنما يريد به الفتيا، ولكنه أورده في باب القضاء، فدل على أنه -والله أعلم- يريد أن يستدل به على جواز القضاء على الغائب، وهذا هو المذهب، أنه يجوز القضاء على الغائب، إذا غاب الإنسان، فإنه يجوز القضاء عليه، وهذه مسألة خلافية أيضا بين العلماء رحمهم الله.
فجوز فيه بعض العلماء -رحمهم الله- القضاء على الغائب، والحقيقة أنه لا دلالة فيه؛ لأن هذا في الصحيح ليس بقضاء، وإنما هو من باب الفتوى؛ لأنه لا يُقضى على الغائب إلا بشروط، من ضمنها:
تعذر حضور المدعى عليه، وها هنا لم يتعذر حضور أبي سفيان، وما ذكر لنا أنَّ أبا سفيان امتنع، بل ما ذكر لنا أن النبي قال لهند: اطلبيه، أو أحضريه، كما كان النبي يقوله في بعض الأحيان، كما قال: «واغْدُ يا أُنَيْسُ علَى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . ولكن ها هنا لا النبي أفتاها فتيا وليس قضاء. هذا أمر.
والأمر ليس من الغيبة ذكر ما في الإنسان من الأمور التي تعد نقصًا فيه، إذا كان ذلك على سبيل الفتيا أو على سبيل الحاجة، أو كان الإنسان محتاجا إلى ذلك، فلا بأس أن يذكر صاحبه بما فيه.
ومثل هذا ما يقع كثيرا في الخصومات، فإنَّ الإنسان في الخصومة قد يرفع صحيفة الدعوة، أو يتكلم عند القاضي فيقول: فلان فيه كذا، وفيه كذا، وفيه كذا، ولا يكون فلانا حاضرا، فلا يكون هذا من باب الغيبة، وفيه أيضا أنَّ الأصل، أن العادة محكمة، هذه القاعدة المعروفة، والأصل في أن العادة محكمة.
وإذا قيل: إن الأصل أن العادة محكمة، فالمعنى أنَّ الرجوع في الأمور غير المقدرة في الشرع إنما هو إلى عرف الناس، وعرف الناس يتغير بتغير الزمان والمكان وبتغير الأحوال، وهذه يتغير بها أعراف الناس، فما كان يكفي الناس من النفقة على سبيل المثال قبل خمس وعشرين سنة وثلاثين سنة، لم يعد يكفيهم الآن. وما كان يفرض لهم كان يفرض قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة مثلا إلى الصبي ثلاثمئة ريال. أو مئتي ريال الآن ما تصنع شيئًا، حليب الطفل الصغير ونحو ذلك من حاجياته قد تجاوز الخمسمئة ريال، فتتغير النفقة بتغير الزمان، وتتغير النفقة بتغير المكان، فما يكفي الناس مثلا في هذا البلد، قد لا يكفيهم في بلد آخر، يعني: حينما يفرض مثلا للإنسان خمسمئة ريال ها هنا، فخمسة ريالات ها هنا مثلا تعد مبلغا طائلا إذا ما قورنت بالخمس مئة ريالا مثلا أو بما يعادلها في بعض البلدان، وتعد مبلغا منخفضا إذا قورنت بما يقابلها في البلدان الأخرى.
فإذًا تتغير بتغير الزمان، وبتغير المكان، وهذه من تغير المكان، وهذه الله -عز وجل- وتيسيره. إنه ما حدها بحد واضح، فيتعذر على الإنسان، وقد كان السلف يقولون مثلا في الزمان الأول في الكسوة، لأن الرجل يجب عليه إطعام أولاده وكسوتهم، إنها كسوة في الشتاء، وكسوة في الصيف، والحقيقة أنَّ هذا ليس معمولا به في هذا الزمان، فالكسوة في الشتاء والصيف ما تكفي، بل تحتاج المرأة إلى أكثر من ذلك، فالمرأة بحاجة إلى ثياب تكون في بيتها، وبحاجة إلى ثياب إذا خرجت، وإذا كانت المرأة تدرس فقد تكون بحاجة إلى ثياب للمدارس، وإذا كانت المرأة مثلا في دار من الدور أو في حلقة من الحلقات أو في غير ذلك قد تحتاج إلى ثياب.
إذا حاجة المرأة تختلف باختلاف الزمان وباختلاف المكان، ومنها من المسائل المتعلقة بها مسألة الظفر، وهي مسألة مشهورة عند الفقهاء -رحمهم الله- وهي من كان له حق عند إنسان. فمنعه فتمكن من أخذه منه بغير علمه. فهل يجوز له أن يأخذه أو لا؟
هذه مسألة خلافية، بعض العلماء أجازها مطلقا، وبعض العلماء منعها مطلقا، والصحيح التفصيل.
فيقال: إن من كان سبب حقه ظاهرا جاز له أخذها، مثل: نفقة الزوجة، والسبب ظاهر، إنك أنت زوجته وهو ما أنفق عليك، فيجوز لك أن تأخذي منه.
كذلك أيضا الذرية، يجوز لهم أن يأخذوها. هؤلاء الشباب ظاهر ومنع الوالد لهم أو منع الزوج لهم بغير وجه حق.
وأما من كان السبب فيها خفيا، فإنه يحتاج فيه إلى القضاء؛ لأنه لا يؤخذ أو لا يجد للإنسان يأخذ. لماذا؟ لأن هذا من سبيل أو من أو مما يفتح باب عليه يتهم بالخيانة.
يقول: يا أناس أنا أطلبه بكذا وكذا وكذا. ما قال: أين الحكم القضائي الذي صدر لك؟ كيف تأخذها؟ ما الذي يخبرنا ويعلمنا بأن هذا حق لك. ولكن المرأة لو أخذت من مال زوجها فهذا ظاهر قات يا إخوة يا جماعة أنا هذا حق لي. حق لي لكن منعني منه، ولو فتح الباب على مصراعيه وقلت قيل كل لكل إنسان يرى أن له حقا على غيره أخذه منه، إذا بصرت به لوقعت بذلك شر عظيم، ولهذا كان الأصح في هذا هو التفصيل.
نتوقف عند هذا الحد، والله -تبارك وتعالى- أعلم وأحكم.
{أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، وشكر الله لكم على حسن الاستماع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك