{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله- يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
{أمين، نستأذنكم في البدء، كنا قد توقفنا عند باب القضاء}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَلَا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فقد أورد المصنف -رحمه الله- حديث أم سلمة -رضي الله عنها- في كتاب القضاء، والحقيقة أن الحديث حديث جليل، وهو من أصول (باب القضاء)، من جهة أنَّ حكم القاضي لا يُغير شيئًا من حُكم الله -عز وجل-، بمعنى أنه لا يظن الظان أن حكم القاضي يُحيل الحرام حلالا، أو يحيل الحلال حرامًا، بل إنما الأمر بما في ظاهره، أو بما يعتقده الإنسان، أو بحقيقة الشيء، فعلى سبيل المثال، لو أن إنسانا كان له رغبة في أن يتزوج امرأة فلان من الناس، وما وجد إليها طريقًا، فأوحى إليه الشيطان أن عليك بشاهدين يشهدان أن فلانة من الناس قد أرضعتهما جميعا، وذلك حتى ينفسخ النكاح، فشهدا، وهذا كما نذكر ليس طلاقًا مباشرا، وإنما هو توسل إلى الطلاق، فتوسل إلى الطلاق بأن أتى بشاهدين يشهدان، أو أتى بامرأتين أو ثلاثة أو أقل أو أكثر ليشهدا أن فلانة قد أرضعت فلانا وفلانة، وبناء عليه فقد تزوج أخته من الرضاعة، فطلقت منه، وحكم القاضي بالطلاق.
فإذا به يقول: الحمد لله، الآن ها هو حكم شرعي، وها هي طلقت، وأي حكم شرعي أحسن من هذا! فهذا ليس طلاقا عرضيا، ما ندري هل وقع ولا ما وقع؟ هذا طلاق من القاضي. فالحمد لله، وتقدم إليها فخطبها.
فهل يجوز فعله أو لا؟
نقول: لا يجوز، ولهذا مما عيب على بعض المذاهب أنهم قد أجازوا ذلك، وقد ردَّ عليهم الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب الحيل، وردَّ عليهم الإمام أبو بكر بن أبي شيبة -رحمه الله- أيضا، ردَّ على المذاهب القائلة بأن هذا يحلها له. بل يقال: لا، هي حرام، ونكاحك لها كله زنا في حقك أنت، ولكنه في حقها ليس بزنا إن كانت لا تعلم شيئًا مما تم تدبيره، فإذا علمت كانت شريكتك، ووجب عليها أن تمتنع منك؛ لأنَّ حكم القاضي لا يُقدم ولا يؤخر شيئا، والدليل على ذلك حديث أم سلمة -رضي الله عنها- (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ)، أي: صوتهم، والضوضاء التي تحصل من الخصوم غالبا، وكان هذا بباب حجرة النبي ﷺ، لأنهم أراودوا القضاء إليه ﷺ.
(فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَلَا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ») يعني: لا يعلم الغيب، وقد ينساق ﷺ إلى ظاهر الكلام، وهذا هو المأمور به.
(«وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَتِهِ مِنْ بَعَض»)، وفي بعض الروايات: كما في الرواية التي معنا («أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ»)، وألحن يعني: أقدر على الإدلاء بحجته، كأن يكون الإنسان بليغا في الكلام، أو أن يأتي بمحام بارع، فهو إما أن يكون عنده قدرة كلامية، أو يكون عنده قدرة مالية، فيأتي بمحام بارع، ويقول له: ادفع وترافع عني في هذه القضية، التي يعلم أنها قضية باطلة، والعياذ بالله، وبه يُعلم أن المحامي أو الوكيل شريك لهذا في الإثم، ومتى ما علم أن هذه القضية ليست على الحق، فإنه لم يجز له أن يترافع فيها. ولا يقول: إنما أنا وكيل، ولا أقول إلا بما يقوله هو.
نقول: لا، بل متى ما استبان لك أن الحق عند غير موكلك، لم يجز لك الترافع، ولا يشفع لك عند الله -عز وجل- أن تقول: إنما أنا وكيل، وإنما أنا أبلغ هذه الرسالة، أو أتكلم بلسانه فحسب، والإثم عليه هو.
نقول: لا، بل كلاكما شريك في الإثم، وقد يكون إثمك أعظم عند الله -عز وجل- من جهة أن عندك أنت من المعرفة والعلم ما ليس عنده.
قوله: («فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ») فيه دلالة على أن مرجع القضاء في الأعم إلى النطق، وهذه مسألة مهمة، بمعنى: أن الاعتماد على الترافع الكتابي لا يُؤدي إلى النتيجة التي يُؤديها الترافع الكلامي، فالمرافعة الكتابية قد يأتي فيها حشو كثير، وما يستطيع الإنسان أن يفصح فيها، ولا يستطيع القاضي أن يستنطق الخصم استنطاقا مباشرًا، يعني مثلا: المرافعة الكتابية قد ما يخرج منها مثل ما خرج من سليمان بن داود -عليه السلا- لَمَّا قال: ائتوني بسكين لأشقه بينكما نصفين".
جملة كبيرة من الأحكام أو من طرق استبانة الحكم ما تظهر بالمرافعة الكتابية، ولكنها تظهر بالمرافعة القولية، وهذا يدل على أنَّ بعض الناس أبرع، وأن بعض الناس قد يقدر أن يقلب الحجة، أو أن يكون لا يملك قوة في دليله، ولكنه يحيله إلى أقوى ما يكون بكلامه ومنطوقه، ولأجل ذلك سمى النبي ﷺ البيان بالسحر.
فإذا كان كذلك، فإنه قد يخيل للإنسان أنَّ الحق مع الغير، وليس كذلك.
قال: («فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا») هذا حكم عام، وهو يدل على أن حكم القاضي لا يغير شيئا من حكم الله -عز وجل-، فإن حكم الله إذا كان حراما فهو حرام أبدا، وأن حكم القاضي ما يغير فيه شيئًا، وإذا كان حلالا فهو حلال أبدا.
فإذا استشعر المترافعون أن حكم القاضي لا يغير شيئا من حكم الله -عز وجل- طابت نفوسهم، ولو أن كل إنسان يترافع يعلم حديث أم سلمة، ويعلم في النهاية أنه إن حكم له، أو لم يحكم له، فإنَّ هذا الحكم لا يغير شيئًا من حكم الله -عز وجل-؛ لقنع بما له من الحق الشرعي، وإنما تقع الخصومة فيما إذا اختلفوا في تحديد الحق الشرعي، أو معيار الحق الشرعي، وهذه قد يعذر فيها الإنسان، وقد يقال له: لا بأس أن تترافع حتى تحدد معيار الحكم الشرعي فيها، وأما ما سوى ذلك فلا.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَتَبَ أَبِي وكَتَبْتُ لَهُ إلَى ابْنِهِ عَبيدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ: أَنْ لَا تَحْكُمْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»)}.
حديث عبد الرحمن بن أبو بكرة -رضي الله عنه- من الأحاديث المشهورة في أدب القاضي، وإذا ذكر أدب القاضي فإنما يكون أول المتقدمة فيه عبد الرحمن بن أبي بكرة -رضي الله عنه- وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: («لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»)، وإنما قال النبي ﷺ ذلك احتياطًا واحترازا من الذهول والخطأ، الذي يحصل من القاضي في حال الغضب، ونحن نرى أنَّ كثيرا من الأخطاء إنما تقع للإنسان بسبب أحوال، إما حال الغضب الشديد، وإما حال الفرح الشديد، وإمَّا حال الخوف الشديد، فالإنسان فيها كلها لا يكون متزنا على حالته التي يكون عليها من تمام العقل والاتزان والاعتدال، ولكنه يخالفها حينما تكتنفه مثل هذه الأمور.
فنهى النبي ﷺ القاضي عن أن يصدر حكمه في حال الغضب الشديد، ولكن إذا كان القاضي غاضبا أشد ما يكون من الغضب، فلا بأس أن يقول للمترافعين: ترفع الجلسة إلى مجلس قادم، أو إلى ما بعد ساعة أو ساعتين أو للمداولة والنظر، حتى يتروى ويتأمل، ولا يحول شيء بينه وبين الحكم الصحيح.
قالوا: ويدخل كل ما كان يُذهل القاضي عن الحكم، حتى أنهم ذكروا مثلا أن القاضي إذا كان حاقنا، فإنه لا يحكم، أو إذا كان في فرح شديد فإنه لا يحكم؛ لأنه قد تعتريه آثار هذا الفرح فتنعكس على أحد هذين الخصمين، فيكون أحدهما فرحًا ويكون الآخر ضحية.
فإن خالف القاضي وقضى بين اثنين وهو غضبان، فقد ذهب بعض العلماء في الظاهرية لنقض الحكم. قالوا: ينقض الحكم بكل حال، وقال بعض العلماء: لا. بل الأصح في ذلك أن يقال للقاضي: عليك مراجعة حكمك في حال هدوئك، وفي حال زوال غضبك، فإن رأيت أن الحكم الشرعي الذي حكمت به موافق لما كنت ستحكم به في حال الرضا، وحال الاعتدال أمضيته، وإن كان عكس ذلك رجعت عنه.
ولأجل ذلك الآن وضعت درجات التقاضي، ولكنها على الحقيقة لا تحول بين الخطأ الذي يقع فيه القاضي عند حكمه وهو غضبان، وذلك أن درجات التقاضي أو مراحل التقاضي، ربما تكون المرحلة الثانية، أو ربما لا يطلع قضاة المرحلة الثانية، على ما اطلع عليه قاضي المرحلة الأولى، فإن قاضي المرحلة الأولى أكثر مباشرة منهم في القضية، وأكثر اطلاعا عليهم، وهو ما يسمى عندهم المحكمة الابتدائية، ومحكمة الاستئناف، والمحكمة العليا، فها هنا ثلاث محاكم، وقد جرى العرف الآن في أغلب البلدان على سريان القضية فيها، ولكن أكثرهم مماسة للقضية هو قاضي المحكمة الابتدائية، هو الذي عرف القضية، وسمع الشهود ورآهم، وتناقش معهم، وهو الذي صدر، وكثيرا ما تكون أحكام من بعده إنما هي مستندة على حكمه.
إذًا لا يُعفي هذا القاضي أن يكون متزنًا في هذا الحكم، ولا يقول كما يقول بعض القضاة اليوم: الحمد لله ما دام ورائي محكمة استئناف، وما دام أن أحدهما -المدعي أو المدعى عليه- يستطيع أن يرفعها إلى المحكمة العليا إذا شاء، فما الذي يجعلني أسرع في الحكم؟
نقول: لا. العجلة في الأحكام مما يقابل الغضب، أو مما يوازيه، وعدم التروي فيها، فيصبح القاضي عنده مهمة أن ينجز في هذا اليوم خمسين أو ستين قضية، يتكفل بها، ويُعْرِضُ فيها عن التروي الذي قد أمره الله -عز وجل- به، والتريث في الحكم.
فهذا كله مما يستفاد من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه وأرضاه- في قوله ﷺ: «لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»، والحاكم هنا يشمل القاضي، ويشمل الإمام الأعظم.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قالها ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ»، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ)}.
هذا حديث أبي بكر -رضي الله عنه- وقد مضى معنا هذا الحديث وبعض معانيه في أبواب سابقة، مضى معنا في الأيمان والنذور بنحوه، ومضى معنا أيضا في باب النذر أيضًا بنحوه، وذلك في حديث ابن مسعود وفي حديث الأشعث بن قيس، وفيه أنَّ النبي ﷺ قال يومًا لأصحابه: («أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟») وهذه في الحقيقة من الصيغ التي هي من صيغ التعليم والتدريس، وصيغ لفت انتباه، أن تنبه الناس بقولك: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِكَذَا"، أو أَلَا أُخبِرَكُمْ بِكَذَا، وذلك حتى يلتفتون إليك، ويقبلون عليك بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم.
وقد كان النبي ﷺ إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا، والظاهر -والله أعلم- أنَّ المقصود بالكلمة التي يعيدها ثلاثا هي الجملة المقصودة بالحديث، فإنَّ النبي ﷺ كان يعيدها ثلاثا، وأمَّا ما سواها فإنَّ الأصل في كلام النبي ﷺ أنه كان مرة، وقد يكون من قولهم: أعادها ثلاثا من نحو قول النبي ﷺ في الخطبة الطويلة إذا خطبها، قال: «هل بلغت؟» فإذا قالوا نعم، قال: اللهم اشهد، هل بلغت؟ قال: اللهم اشهد، هل بلغت؟ قال: اللهم اشهد، فكأنما كرر هذه الخطبة بتمامها ثلاثا ولكن بوجه آخر، فهذا أيضا معنى من معاني تثبيت كلام النبي ﷺ.
قَالَ: («الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ»)، وما من شك أنَّ أعظم الكبائر الشرك بالله -عز وجل-، وليس شيئا أعظم منه، وهو جعل الشريك والنديد مع الله -عز وجل-.
قَالَ: («وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ») أيضا هو متعقب للشرك بالله -عز وجل-.
قال: (وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ) مع أنه قد جاء في بعض الأحاديث، أو في بعض الآيات "قتل النفس" التي حرم الله -عز وجل-، والظاهر -والله أعلم- أنها كلها في منزلة واحدة أو متقاربة بعد الشرك بالله -عز وجل-، فيقال: الأصل هو الشرك، وبعد ذلك عقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله -عز وجل- إلا بالحق.
قال: (وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ») وقد فسَّر بعض العلماء الزور في قوله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ [الفرقان:72] بأنه هو كل قول مذموم؛ لأنه من إِزْوَرَّ، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ [الكهف:17]، وتزاور يعني: تميل، فـ "إِزْوَرَّ" يعني: مَالَ، فكل قول يميل عن القول الصحيح يسمى: قول زور، هذا بالمفهوم العام.
ولكن الظاهر -والله أعلم- في هذا الحديث أنَّ المراد به "شهادة الزور"؛ لأنه قال: («أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ»).
والواو ها هنا -والله أعلم- إنها هي "واو" عاطفة، كأنما هي تعريفية، كما فسرها بعض المفسرين في قول الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ﴾ قالوا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر، مع أنَّ الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فهي أشبه ما تكون بالواو التعريفية.
قال: («أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ»، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) أي أنَّ النبي ﷺ ما زال يكرر هذه الجملة أكثر من ثلاث مرات، فدل ذلك على عِظَمِ شهادة الزور.
وشهادة الزور هي كل شهادة يشهدها الإنسان، أو كل دعوة يدعيها الإنسان وهو فيها مبطل، وليس من شرط الشهادة أن تشهد لغيرك أو على غيرك، لا. بل قد تشهد لنفسك، مثل: يمين المدعى عليه، كما ذكرنا في حديث الأشعث بن قيس، فإنها داخلة في قول الزور وشهادته، ولهذا ذكرها المصنف -رحمه الله- في هذا الباب.
فدلَّ ذلك على تعظيم إثم اليمين الغموس، وعلى أنها من أعظم الكبائر التي تغضب الله سبحانه، وتغمس الإنسان في الإثم.
وقد قرنها النبي ﷺ بالشرك بالله -عز وجل- وعقوق الوالدين لِمَا يحصل فيها من سفك الدماء، وهتك الأعراض، وأخذ أموال الناس بالباطل، وما يحصل فيها من الوقيعة والبغضاء بين المسلمين، ما يحصل فيها من اتهام البريء. وهذه كلها أمور قبيحة جدًا في اليمين الغموس.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»)}.
هذا الحديث يعد قاعدة عظيمة من قواعد القضاء، وهو أصلٌ من أصول القضاء أيضا، كحديث الأشعث بن قيس السابق، وقد رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث ابن أبي مُليكة، وفيه أن جاريتين كانتا في بيت فطعنت إحداهما الأخرى بإِشْفًى في كَفِّها، أي: ضرَبَتْ في كفِّها، أي: فأنفذته من يدها، والإشْفًى هي: آلة الخِياطةِ الَّتي تُشبِهُ الإبرةَ الكبيرةَ، ثم أنكرت، فأُخبرَ ابن عباس -رضي الله عنه- فقال: عليكم بها، وذكروها بالله -عز وجل-، وخوفوها به، واقرأوا عليها قول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران:77]، فجيء بها فاعترفت، فقال ابن عباس -رضي الله عنه- سمعت النبي ﷺ يقول: («لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»)، وفي حديث الأشعث بن قيس ما يدل على أنَّ البينة على المدعي.
وأمَّا حديث «اليمين على من أنكر» فإنه قد جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولم يصح بهذا اللفظ، وأصح ما فيه (وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ)، وقد ذكرنا جملة من هذا المعنى، وفيها أن «البينةُ على المُدَّعي واليمينُ على من أنكرَ» .
وينبغي أن يعلم ها هنا الفرق بين المدعي والمدعي عليه، هذه مسألة مهمة، وأصح ما قيل في ذلك: أنَّ الْمُدَّعى عليه "من إذا سكت لم يترك"، والمدَّعِي مَن إذا سكت ترك. كيف؟
حينما يتداعى الرجلان إلى القاضي، يقال لهما: من منكما يريد أن يخرج الآن من القضية؟ فمن قال منهما: أنا أريد أن أخرج الآن، كان في هذا دلالة على أنه مُدَّعٍ عليه؛ لأنَّ المدَّعى عليه ما له حاجة في رفع القضية.
إذا المدعى عليه إذا سكت لم يُترك، ولو طلب الخروج قيل له: لا ما تخرج، بينما المدعي لو سكت ما وجدنا من يطالبه، هذا هو المدعي، وهذا هو ما يحدث في القضاء، فلو أنَّ المدعي قال: ما عاد عندي شيء، فيلتفت إلى المدعى عليه فيقال له: عندك شيء؟ فيقول: ما عندي شيء، وهو من طلبني ولست أنا من طلبه.
ولكن لو كان العكس، أي أنَّ المدعى عليه قال: أريد أن أخرج ما عندي شيء، ماذا يقول المدعي؟ يقول: لا، أنا أطلب منه كذا وكذا، فهذه هي أصح القواعد في التفريق بين المدعي والمدعى عليه.
الأصل الثاني: أن البينة هي اسم جامع لكل ما أبان الحق وأظهره، وكل ما أبان الحق وأظهره فإنه يسمى بينة، وهذا يحصل بأشياء كثيرة كما قرره العلماء -رحمهم الله-، ولا يُكتفى فيه بالشاهد واليمين فقط، بل هناك أمور كثيرة تظهر الحق وتبينه.
قوله ها هنا: («لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ») بمعنى: أنَّ من ادعى شيئًا، فإن عليه أن يبينه وأن يظهره للناس، ثم إنَّ البينة تعظم بعظم الحق المدعى به، فمن ادعى المال قيل له: يكفي في ذلك البينة اليسيرة، أي يكفي شهادة رجلان أو شهادة رجل وامرأتان، أو شهادة رجل مع يمينك، وهذه أيضا مسألة عند العلماء -رحمهم الله- وهي الاكتفاء بالشاهد مع اليمين، وهو قول الإمام أحمد -رحمه الله-، أي: الأخذ بالشاهد مع اليمين، كأن يقول: أنا عندي شاهد واحد يشهد، وليس عندي غيره، ولكن عندي يميني، أن أحلف بالله العظيم أن هذا الحق لي.
قال الإمام أحمد -رحمه الله- هو القول الصحيح، وقد جاء من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ ﷺ «قضَى بِيَمينٍ وشاهدٍ» ، وهذا في الأموال لأنها من أسهل ما يكون.
وأمَّا الأعراض فلا بد فيها من شهادة رجلين، فمن ادعى حدًا، أو قذفا، أو سرقة، أو قتلا فلا بد فيها من شهادة شاهدين، والشاهدان أيضا ها هنا يشدد في أمرهما ما لا يشدد في أمر شهود المال، فشهود المال يتساهل فيهم يسيرا، ولكن هؤلاء يشدد فيهم غاية ما يكون، سواء من البحث عنهم والتقصي من ورائهم لماذا؟ لأن الحكم الذي سيُقضى به في هذا الأمر أعظم من الحكم الذي سيقضى به في غيره.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ
عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ-: «إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ؛ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»)}.
هذا حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-، وهو كما تقرر معنا من أصول الأحكام الشرعية، ومن الأحاديث العظام التي يدور عليها كثيرًا من أحكام الشريعة، لأن الأصل في الشريعة أنها إمَّا حلال وإما حرام، ولكن قد تقع أشياء ما يُعلم فيها حكم الله -عز وجل- الشرعي، وإلا فالأصل أن حكم الله -عز وجل- ما يخلو من هذين الأمرين، إمَّا حلال وإمَّا حرام، ولكن الاشتباه الذي يقع إنما يقع في ذهن المكلف، فيقع في اشتباه هل هو من الحلال أو هو من الحرام؟ وهذا هو القسم الثالث من الأقسام التي ينبغي أن يَنظر لها المكلف.
والمكلف عنده إذًا ثلاث تقاسيم، كالتالي:
التقسيم الأول: المحرم، وهو ما قام عليه الدليل على تحريمه
التقسيم الثاني: الحلال، وهو ما قام عليه الدليل على حليته.
التقسيم الثالث: المشتبه عليه، فهو مشتبه عليه، ولكنه ليس مشتبها في الشرع، فهو لا يدري هل هو من الحلال أو من الحرام.
إذا ما سبب الاشتباه؟ سبب الاشتباه أحيانا قد يكون من تعارض الأدلة، تتعارض الأدلة عند المجتهد فلا يدري هل يلحق هذا الأمر بالحلال أو بالحرام.
مثال: الضبع عند بعض العلماء -رحمهم الله-، ما يَدري هل يلحقه بالحلال أو يلحقه بالحرام، لأن عنده مثلا أحاديث تدل على أنه حلال، وأخرى تدل على التحريم، فلا يدري بأيهما يأخذ!
السبب الثاني من أسباب الاشتباه، هو عدم التصور الكامل للواقعة، ويقع هذا مثلا في بعض أنواع اللحوم، ما يدري هل ذبحت على الشريعة الإسلامية، أو لم تذبح على الشريعة الإسلامية؟ فيقع عنده الاشتباه؛ لأنه ما تصوره التصور الواضح، يعني ليس الأمر الآن ها هنا في تعارض الأدلة. وإنما الأمر في أمر خارج عنه، فيقع عنده الاشتباه في هذا الأمر.
فيقال ها هنا: إنها تأتي في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-، الذي قال فيه النبي ﷺ: «إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ» الأصل في الحلال وفي الحرام أنه بقدر حليته وبقدر حرمته يكون استبانة وظهور الأدلة فيه، فإذا نظرنا مثلا إلى الماء، فسنجد أن الأدلة ظاهرة في حليته، وإذا نظرنا إلى الخنزير، فسنجد أن الأدلة ظاهرة في حرمته، وكل ما كان أكثر حرمة أو حلية، كانت الأدلة فيه أكثر؛ لأنه أصلا إنما تستبان الحلية والحرمة فيه وظهورها فيه بتتابع الأدلة فيه.
وكل ما قلَّ الأمر قل قلت الأدلة فيه، حتى تصل إلى مرحلة ما تكون عند المكلف، ما يدري المكلف، وهذا يقع في كثير من المعاملات المالية التي تقع الآن، تشتبه على المكلف، إمَّا اشتباها بمعنى أنها تتعارض فيها الأدلة، هل هي مثلا كاشتراط القبض في بعض الصور عند الفقهاء رحمهم الله، فما يدري هل القبض مشترط في هذه الصورة أو لا؟ وما يدري هل القبض ها هنا بأي صورة يتحقق؟ فيقع الحكم ها هنا في تعارض الأدلة.
وإما لعدم اتضاح طريقة المعاملة للمكلف، فقد يقول المكلف: أعرف هذه المعاملة ولكني حقيقة ما أدري عن تفاصيلها، فيقال: هذه مشتبهة، فالمعاملة التي لا تعرف تفاصيلها تكون من المعاملات المشتبهة، خاصة إذا كانت معاملة مركبة من أكثر من معاملة؛ لأنه في الأعم الأغلب أن المعاملة المركبة من أكثر من معاملة أو من أكثر من صورة لا تخلو من شيء من الحرمة، بحكم أنها جمع بين عقدين، يكون لكل واحد منهما أحكامًا معينة، فيكتنفها بعض الشروط أحيانا التي قد تجعل الأمر محرمًا، وكلما زاد العقد وكثرت شروطه فإنه يكون أقرب إلى الحرمة. لماذا؟ لأنه قد يكتنف هذه الشروط بعض الأمور التي تجعل العقد عقدا محرما. قد يقال: إن الأصل هو إبطال هذا الشرط، ولكن قد يقال لبعض هذه الشروط أنها تعود على الأصل بالبطلان، هذا فيما إذا كانت هذه الشروط مما يناقض مقتضى العقد.
قال ها هنا: («إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ») الحمد لله، أغلب مسائل الشريعة ظاهرة، يعرف الإنسان فيها الحلال والحرام، ولكن الناس إنما يبحثون دائما عن الأمور التي بين ذلك، فتجد أنه يقول: الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- كثير، أو يقول: ما أكثر خلاف العلماء في مسائل كثيرة في أحكام المعاملات. نقول: ما اتفقوا عليه من المسائل أكثر بكثير مما اختلفوا عليه، ويكفي أن أصول المسائل المتفق عليها التي بها معيشتك، والدليل أنك تعيش أنت وتشتري وتبيع سنين طويلة، كم المسائل التي أشكلت عليك؟
فإذا قال: أشكلت عليَّ عشرين مسألة أو ثلاثين، قيل دلَّ ذلك على أن الأصل في حياته كلها عدم الإشكال، والأصل في بيعه كله أنه كان بيعا غير مشكل، ولكن تعلق الناس دائما بمواطن الخلاف هو الذي يجعلهم يثيرون مثل هذه الأسئلة.
قال: («وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ») ذكرنا معنى الاشتباه، والاشتباه إما أن يكون في تعارض الأدلة، وإما أن يكون في عدم تصور الواقع التصور الصحيح، وبناء عليه فهذا الاشتباه إنما هو في نظر المكلف، وأما هو في حكم الله -عز وجل- فإنه إما حلال وأم حرام.
(«وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ») وهذا مما يدل على ما قررناه، وهو أن هذه المشتبهات إنما هي في نظر المكلف؛ لأنه قال: («لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ»)، ولم يقل: لا يعلمهن الناس، إذًا بعض الناس يعلم هل هي حلالا أو حرامًا.
قال: («فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ») وقد ذكره المصنف -رحمه الله- في كتاب الأطعمة، مع أن الحديث هذا يشمل أغلب أمور الشريعة، حتى أمور العبادة، هناك أمور العبادة مشتبهة.
مثال: استعمال بعض المنظفات في الحج، قد تكون مشتبهة، فيقال: الأصل ما دام أن الأمر مشتبه، وما دام أن الصورة غير متمحضة، كحال بعض المنظفات التي تكون من ماركات مشهورة، التي هي أشبه ما تكون بالأطياب، ما يعلم هل هو قبيل الطيب أو من قبيل قاطع الرائحة. فيقال في مثل هذا: مشتبه، والأصل فيه تركه، ما تمحض عندنا ما هو؟ هل حلال هو أم حرام؟
وبعض الخلق قد يوفق ويهدى، فيقال: هذا حرام؛ لأجل كذا وكذا، وهذا حلال لأجل كذا وكذا. إذًا المشتبهات ليست مرتبطة أو مقتصرة على أبواب المعاملات كما يظن بعض الناس، بل هي واسعة، تشمل أبواب العبادات، وتشمل أبواب المعاملات، وتشمل غيرها، وأورده المصنف -رحمه الله- في كتاب الأطعمة لماذا؟ لأنها هي أغلب ما يقع فيه الاشتباه من جهة البيع في الزمان الأول، إنما كان يقع الغرض الأساسي من البيع هو الطعام والشراب، بيوعهم في الزمان الأول إنما كان الغرض منها الطعام والشراب، ثم يأتي غرض اللباس، وغرض المركب في المقام الثاني.
وأمَّا نحن الآن فعامة بيوعنا وكثير منها يتناول جوانب أخرى، مثل: السياحة، والسفر، والمراكب، وغيرها، مما قد لا يقع فيها الطعام والشراب، ولكن في الزمان الأول لا، كانت عامة بيوعهم إنما يراد بها الطعام والشراب.
إذًا أوردها في هذا الباب وهي تنجر على باب البيع هذا أمر.
الأمر الثاني: أنه قد جاء أيضا في حديث في حديث سعد -رضي الله عنه- «أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ» ، وهذا الحديث وإن كان في إسناده نظر، أقصد حديث سعد -رضي الله عنه-، ولكنه أيضا قد صح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الأشعث الأغبر الذي يدعو «يا ربِّ يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغذِّيَ بالحرامِ، فأنَّى يستجابُ لذلِك» ، ما قال ومعاملاته حرام، بل قال: المطعم حرام، والملبس حرام، والمشرب حرام. لماذا؟ لأن الغرض من المعاملات في الزمن الأول إنما كان هو الطعام والشراب والملبس وغيرها.
فإذًا إنما أورده لأجل أن يتوقى الإنسان في مطعمه ومشربه، وإذا توقى الإنسان في مطعمه ومشربه توقى في معاملاته، فالإنسان الذي يتقي في المطعم والمشرب، سيتقي من باب أولى في بقية التعاملات. لماذا؟ لأن حاجتك إلى الطعام والشراب أعظم من حاجتك إلى بقية المعاملات، فكل المعاملات إنما تقع بعد الطعام والشراب، ولهذا قال النبي ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» .
إذا من كان مُتوقيا في الطعام والشراب، فإنه أيضا يُتوقى في أبواب المعاملات من باب أولى، هذا هو الظن به، ولأجل ذلك ذكره المصنف -رحمه الله- في باب الأطعمة.
قال: («فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ») من اتقى الشبهات فقد بريء أو استبرأ لدينه، يعني: استنقى لدينه، وحمل دينه على الكمال، وصان دينه عن النقص، وصان أيضا عرضه من الوقيعة فيه؛ لأن باب الشبهات واسع، فقد يُظَنُّ بالإنسان الظن السيئ من جهة بعض الأفعال المشتبهة، أولم يقل النبي ﷺ للرجلين الذين مرا بهما مع صفية: «علَى رِسلِكما إنَّها صفيَّةُ بنتُ حييٍّ» . ما الذي أراد النبي ﷺ بذلك؟ إنما أراد ﷺ أن يستبرئ لعرض حتى ما يقع الناس في عرضه، ويظن بالنبي ﷺ الظن السيئ. هذا وهو سيد ولد آدم، ولهذا قيل يا رسول الله من كنا نظن به فلم نكن نظن بك. فقال النبي ﷺ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ»، ولهذا لا يلومن الإنسان الناس إذا سلطهم على عرضه فوقعوا فيه، كحال من أخذ يخرج في صور مبتذلة، وفي مشاهد مبتذلة، وبطريقة مبتذلة، ثم يقول للناس: لا تقعون في عرضي! يقال له: من لم يصن نفسه، فإن الناس لا يصونونه، وسيقعون في عرضه، ولذا فعلي أن تتقي المشتبهات حتى تستبرأ لدينك، ونستبرأ لعرضك، فلا يظن بك الظن السيئ، ولا يأتي الإنسان يريد مثلا أن يتحاكم إلى القاضي في قضية ما، فيرد حكمه، ويكون هذا مطعنا في عرضه، فيقال بسبب ماذا؟ فيقال: بسبب فعلك كذا وكذا في أمر مشتبه عليه، وقد كان يظنه حلالا.
وبناء عليه سنضرب مثالا بليغا في هذه المسألة، نقول: ينبني على هذه المسألة، أنَّ المسائل التي يكثر أو يشتد فيها الخلاف بين العلماء، ثم ترى أن أهل بلدك قد أخذوا فيها بقول ما من الأقوال، طبعا أخذوا بالقول الأحسن، على سبيل المثال لو قلنا: في كشف الوجه أو في الحجاب. إن العلماء -رحمهم الله- قد اختلفوا، فرأيت أن أهل بلدك يأخذون بمذهب تغطية الوجه وستره، وكان مؤدى ما ذهبت إليه جواز الكشف عندك. نقول: أخذك أنت بهذا المذهب، وعملك به، ومجاهرتك به، واستعلانك به، قد يكون واقعا في هذا الحديث، قد لا يكون مشتبها بالنسبة لك في كل الأحوال، ولكنك لم تتق لدينك ولا لعرضك، وسيقع الناس في عرضك. لماذا؟ لأنك خالفتهم في عمل ترى أنت وتعتقد أنه هو الأحسن والأكمل.
إذا ينبغي للإنسان أن يحتاط، وأن يرى أن الأمور المشتبهة ينبغي أن لا يستعلن بها، ولهذا كان جماعة من السلف يذهبون إلى بعض المسائل، ولكنهم لا يستعلنون بها. لماذا؟ لأنها من الأمور المشتبهة، وربما كان بعضهم قد يفتي بها، ولكنه لا يعمل بها، وانظر مثلا إلى ما لحق وكيع ابن الجراح -رحمه الله- من القيل والقال، وما لحق جملة من علماء الكوفة من القيل والقال بسبب النبيذ، لَمَّا كانوا يشربونه، فهم كانوا يرون جواز النبيذ من غير العنب، فلحقهم بذلك بعض الكلام، ووقع فيهم جماعة من العلماء -رحمهم الله-.
وانظر مثلا إلى تجويز بعض الشافعية -رحمهم الله- مثلا في مسألة بيع العينة، وما جر ذلك عليهم من الكلام فيه، وقل مثل ذلك في مسائل كثيرة، يقع فيها الخلاف بين العلماء -رحمهم الله-، ويكون القول المرجوح في أدلة ضعف، أو في أدلته عدم ظهور، ويكون الناس قد استعلنوا بخلافه، فيقال: إن إظهاره ليس من الاستبراء للدين ولا للعرض، والمؤمن مأمور بأن يستبرئ لدينه وعرضه، وهذا بخلاف ما إذا كان الأمر الذي يقول به الإنسان هو الأكمل.
مثل العكس، إن كان مثلا في بلد تكشف فيه النساء وجوههن، فرأى وجوب تغطية الوجه فعمل بهذا القول، نقول هذا مزيد استبراء للدين والعرض، وهذه المسألة ينبغي أن تقرر حقيقة، وينبغي أن تفهم على وجهها.
قال: («فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ») قوله: («وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ») فسره النبي ﷺ بما بعده، و («وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ») بمعنى أن الشبهات ستكون وسيلة له إلى الوقوع في الحرام، وأنه لا يزال يقع في الشبهات حتى يقع في الحرام، أو يقال: إن الشبهات هي كاسمها مشتبهات، أليس كذلك؟ وإذا كان الرجل ممن يقع الشبهات، فإنه لا يسلم أن تكون واحدة من هذه الشبهات في علم الله محرمة. كم عندك من شبهة وقعت فيها؟ خمس شبهات لا يسلم أن تكون واحدة منها محرمة، فتكون قد وقعت في الحرام من حيث لا تشعر. هذا تفسير.
وتفسير آخر، أنَّ من وقع في الشبهات وقع في الحرام، يعني: أن الشبهات لا تزال تقوده حتى يقع في الحرام، ولهذا كان العلماء -رحمهم الله- يضعون بينهم وبين الحرام حجابًا وسورًا. بماذا؟ بتوقي المكروهات، وبفعل المسنونات.
والحقيقة أن هذا الحجاب السور حجاب عظيم، وسور منيع، ومن خرمه سيرى أنه ينخرم سريعا، ولنضرب في ذلك مثال في الحلال، ومثالا في الحرام، أو مثالا في العبادة، ومثالا في المعصية.
فلنضرب مثال سور السنن الرواتب مع الصلوات المكتوبة. كيف أن الإنسان إذا كان محافظا على السنن الرواتب، فإنه سيكون أكثر حفظا على الصلاة المكتوبة، وانظر إلى ما يقع من الخلل في صلواته المكتوبة، إذا ما أخلَّ بالسنن الرواتب، فما أن يخل بالسنن الرواتب ويهجرها حتى يبدأ الخلل يسري إلى المكتوبات، ففتش فيمن حوالك، بل وفتش في نفسك، وانظر إلى أحوالك، كيف لما كنت تصلي السنن الرواتب، كيف كنت محافظا على الصلوات غاية ما يكون من الحفاظ؟
وانظر إلى حالك بعد أن أخللت بها، إذا كنت قد وقع منك ذلك، كيف لَمَّا وقعت منك بدأت تتساهل في المكتوبات؟ تؤخرها شيئًا عن الوقت، وربما أحيانا جمعت بينها، وما إلى ذلك من أفعال التي لا يحبها الله -عز وجل-. هذا فيما تتعلق بالطاعات.
وأما فيما يتعلق بالحرام، فانظر إلى تورع الإنسان عن فضول النظر، وما يقوده ذلك إلى تورعه عن النظر المحرم، وهذا في حقيقة مثل يكفي الإنسان، أنا أعني أنَّ الإنسان كلما كان يقصر نظره على ما خلق الله -عز وجل- عينيه للنظر فيه، مما أحله الله -عز وجل-، أو مما كان فيه معونة له على الطاعة، ينظر إلى كتاب الله -عز وجل-، ينظر إلى كتب أهل العلم، ويتجنب فضول النظر، فيتجنب النظر مثلا إلى الشوارع، وذهاب الناس فيها وإيابهم كما يصنعه كثير من الناس، تجد ما له هم إلا فضول النظر، أو تصفح وجوه الناس، كيف أن هذا أبعد ما يكون عن النظر المحرم؛ لأنه صان نفسه عن شيء من النظر المباح، وما قد يقع في هذا النظر المباح من المشتبهات مثل النظرة الأولى، التي ينظرها الإنسان إذا دخل في سوق من الأسواق، وقد كان يعلم أنَّ هذا السوق فيه منكرات، وقال: أنا سأغض بصري، نقول: كم النظرة الأولى التي ستقع على الناس؟ ستقع من النظرات الأولى الشيء الكثير، فهذه داخلة في مسمى المشتبهات؛ لأنها ليست نظرة واحدة، وإنما هي نظرات.
وانظر إلى صيانته لبصره، وما ينعكس ذلك عليه من صيانته لبصره عما حرمه الله -عز وجل-، إذا صان نفسه عن فضول النظر.
ولهذا لَمَّا ذكر ابن القيم -رحمه الله- صيانة الإنسان نفسه عن فضول النظر، وفضول الكلام، وفضول الطعام، وفضول المصاحبة، هذه كلها إذا صان الإنسان نفسه عنها؛ صان نفسه عن الحرام، وانظر مثلا إلى فضول المصاحبة، وانظر إلى الإنسان الذي يتوسع في مجالسه، يقول أنا أجلس في مجالس مباحة، نقول: هذه المجالس مباحة قد لا تخلو من المحرم، أو قد لا تخلو من شيء من المكروه، فإذا صان الإنسان نفسه عن ذلك، صان نفسه عن كثير من منازل الغيبة، وكان بعيدا عنها، وعن النميمة، وعن الوقيعة في الناس، وعن الخصومة، وعن المراء ونحو ذلك
ثم ضرب النبي ﷺ مثلا بليغا، غاية ما يكون من البلاغة، والأمثلة النبوية حقيقة جديرة بالحفظ والفهم؛ لأن الله -عز وجل- قد قال في كتابه: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت:43]، وما قال ﷺ فهو كما قال الله -عز وجل-، وضرب النبي المثل بالراعي فقال: («كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى»)، وقد كانت الملوك في الزمان الأول تحمي أماكن، تقول: هذه الأماكن محمية، إنما هي للملوك، أو لا يُرعى فيها، وأول من حمى الحمى عمر -رضي الله عنه- فإنه قد حمى إبل الصدقة، فالراعي إذا كان يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ولكن الراعي الذي يرعى بعيدًا عن الحمى آمن، ولا يخشى أن تعدوا إبله أو غنمه على هذا الحمى، ولكن من يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، وإذا رتع فيه استحق العقوبة، فهذا المثل هو كمثل أصحاب الشبهات الذي يدور حولها، يقول: أنا ما وقعت في الحرام! نقول: ولكنك قاربته، أي: قاربت الحرام.
قال: («أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى») هذه هي عادة الملوك، («أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ»)، فالحمى الشرعي هو محارم الله -عز وجل-، فما حرمها الله -عز وجل- فقد حماها.
(«أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ») فبين النبي ﷺ أن الجسد إنما يكون صلاحه بصلاح القلب، وفساده بفساد القلب، وفي هذا أبلغ ما يدل على المرجئة والجهمية، الذين يرون أن الإنسان قد يصلح باطنه وظاهره بخلافه، فيقال: في هذا الحديث ما يدل على فساد هذا القول، بل من صلح باطنه اقتضى ذلك صلاح ظاهره، فإذًا الأعمال من الإيمان، والأعمال الظاهرة هي انعكاس للإيمان الباطن، كما أن الأعمال الفاسدة هي انعكاس للفسق الباطن، فما يتصور أن يكون الإنسان مؤمنا محبا مخبتا لله -عز وجل- وهو لا يعمل الأعمال الصالحة.
ولا يتصور أن يكون الإنسان فاسقًا مستعليًا بالفسق وهو يتقرب إلى الله -عز وجل- بالأعمال الصالحة المخبتة لله -عز وجل-، وإلا كان من المنافقين، والأصل في المنافق أنه إنما يصنع ذلك رياء، ولهذا إذا خلا بمحارم الله -عز وجل- انتهكها، فهو ليس مطردًا، يعني: ما يتصور أنه يوجد منافق يعمل العمل الصالح في سره وفي خلوته. نقول: لا.
ولهذا وصفهم الله -عز وجل- بقوله: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:42]، فهذه هي حالهم في خلوته، وأما حالهم في جولتهم فإنهم يستعلون بهذه الأعمال التي لا تغني عنهم من الله -عز وجل- شيئا.
نتوقف ها هنا، والله -تبارك وتعالى- أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، والشكر موصول لكم على حسن الاستماع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.