{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة، والذي يشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله-، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{نستأذنكم في البدء شيخنا}.
نعم استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَالِصًا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فما زال المصنف -رحمه الله-: يورد الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في كتاب الجهاد، ومن المعلوم أن جملة كبيرة من الأحاديث الواردة في كتاب الجهاد، إنما هي محفوظة عن رسول الله ﷺ من أفعاله لا من أقواله، وأعني بذلك أحكام الجهاد لا فضائل الجهاد، فإنَّ فضائل الجهاد منقولة عن النبي ﷺ بنصوص قولية، كما سبق واستعرضناها، وأمَّا أحكام الجهاد فإنَّ جملة كبيرة منها منقولة عن النبي ﷺ بأفعاله، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا ينظرون إلى فعل النبي ﷺ فيحكونه، هذا هو الأصل في الأحكام المنقولة عن النبي ﷺ في كتاب الجهاد.
ومن المعلوم أن جملة كبيرة من الأحكام المنقولة عن النبي ﷺ في هذا الباب، تزيد على غيره من الأبواب التي هي من أركان الإسلام، فعلى سبيل المثال: الأحكام المنقولة عن النبي ﷺ، والأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في كتاب الجهاد، أكثر من الأحاديث الواردة في كتاب الصيام، وفي كتاب الزكاة، والسبب في ذلك كثرة مغازي رسول الله ﷺ، فإن النبي ﷺ كان يغزو ويغزو معه العدد الكبير من الصحابة -رضوان الله عز وجل عليهم-، وما زال ديدنه ﷺ الغزو منذ أن انتقل إلى المدينة المنورة، وحتى توفاه الله -عز وجل-، هذه مسألة.
المسألة الثانية: أن يقال في هذا الحديث: إن النبي ﷺ لَمَّا انتقل إلى المدينة كان فيها طوائف من غير المسلمين، فكان فيها أهل الكتاب وهم اليهود، والذين إنما قدموا إلى يثرب تلمسًا منهم لهذا النبي الذي يُبعث في آخر الزمن، ولهذا كان اليهود الذين استوطنوا المدينة أو يثرب في زمن الجاهلية، هم أعلى اليهود مقامًا، وأخلصهم أنسابا، وأجلهم علما، فلو بحثت عن يهود الأرض كلهم، لوجدت أن أعلمهم يهود المدينة، الذين كانوا ثلاث طوائف، وهم:
بنوا قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، فكانت هذه هي طوائف اليهود الثلاث، وكلهم -بلا شك- يرجع في نسبه إلى إسحاق -عليه السلام-، فهم كلهم من أبناء يعقوب -عليه السلام- الذي هو إسرائيل ابن إسحاق، فكلهم مرجعهم إلى إسرائيل، وإنما قدموا إلى هذا لِمَا كان عندهم من العلم الذي خفي عن بعض طوائف اليهود، الذين ضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فتفرقوا في بلاد الرومان، وتفرقوا في بلاد مصر، وإفريقيا وغيرها من البلدان، ولكن كان هؤلاء اليهود هم أخلص اليهود، وهم أعلم اليهود، وهم أكثرهم حفظًا على دينهم، ولهذا كان عندهم من العلم بالتوراة ما ليس عندهم ما ليس عند غيرهم من اليهود، وإنما قدموا إلى يثرب لغرض أنهم كانوا يعلمون أن نبيًا يبعث في آخر الزمان، يُهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، فاستوطنوا منطقتين، المنطقة الأولى: يثرب، والمنطقة الأخرى: خيبر، وكلاهما أرض ذات نخل، تلمسًا منهم لهذا النبي الذي يُبعث في آخر الزمان، ظنًّا منهم أن هذا النبي سيبعث منهم، أو قريبا منهم، هذا أمر.
فلمَّا قدم النبي ﷺ إلى المدينة، كان ﷺ قد خرج من بيئة شرك، وهي بيئة أهل مكة، خرج من هذه البيئة إلى هذه البيئة الجديدة، ومن المعلوم أن النبي ﷺ كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمر فيه بشيء، لأجل ماذا؟ لأجل ما بين أهل الكتاب وبين المشركين من التمايز، ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ [البينة:1]، ففَرَّق الله -عز وجل- بينهم في مواضع من كتابه، فأهل الكتاب شيء، والمشركون شيء آخر، وكان النبي ﷺ لَمَّا أُنزل عليه هذا الكتاب، علم النبي ﷺ أن أقرب الناس له هم أهل الكتاب، الذين هم اليهود والنصارى، فلمَّا هاجر إلى المدينة جعل النبي ﷺ الهمَّ همًّا واحدا، وساس ﷺ الأمة سياسة حكيمة، سياسة ليس فيها تأليب، وليس فيها استعداء، وليس فيها فتح جبهات، وَعَلِمَ أن الجبهة الرئيسية التي يُخشى على رسول الله ﷺ منها، والجبهة الرئيسية التي يجب أن تُستهدف هي جبهة أهل مكة، أي: جبهة قريش، وقد كان ﷺ يعلم أن قريشا متى ما كُسِرَتْ شوكتها كُسِرَتْ شوكة العرب كلهم.
فلما قدم النبي ﷺ إلى المدينة كان أول ما صنع ﷺ أن عاهد اليهود، فكان بينه ﷺ وبينهم معاهدة لمدة عشر سنوات على أن يحاربوا من حارب رسول الله ﷺ، ويسالموا من سالم رسول الله ﷺ، وأَنَّ من قَدِمَ إلى المدينة يُريد العداء لأهل المدينة فكل أهل المدينة من المسلمين واليهود حرب عليه، وكل من سالمها فهم كذلك.
فَوَفَّى لهم رسول الله ﷺ بذلك، وأوقع النبي ﷺ بالمشركين في بدر، ونصره الله -عز وجل- نصرًا عزيزًا، فاغتاظت منه قلوب اليهود غاية ما يكون من الغيظ، ثم حصل له ﷺ ما حصل في أُحدٍ، ففرح بذلك اليهود أعظم ما يكون من الفرح، ثم كان بين أحد وبين الخندق، أو ما بعد الخندق بيسير الجلاء العظيم الذي حصل لهؤلاء اليهود، فإنَّ اليهود بدأت تنضح أفعالهم بما تخفيه قلوبهم، من الحقد والعداوة لرسول الله ﷺ، فكان من أوائل من أَجْلى النبي ﷺ هم يهود بني النضير، وكان الشأن في ذلك أنَّ عمرو بن أمية الضمري الملقب بساعي رسول الله ﷺ، رجل أسلم ثم خرج إلى قومه، فبينما هو في غارٍ، إذا برجلين من العرب كان بينهما وبين رسول الله ﷺ عهد وذمة، فعدا عليهما فقتلهما، ظنًا منه أنهما مشركين حربيين، ولم يعلم بالعهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ، فثبتت الآن الدية لهذين الرجلين على رسول الله ﷺ، فدية مسلمة إلى أهله، ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء:92]، تُسلم الدية إلى هؤلاء القوم.
ومن المعلوم أن النبي ﷺ كان في شظف من العيش، فما كان يستطيع ﷺ وما كان يقدر على الدية، فكان من الشأن أن رسول الله ﷺ استعان بهؤلاء اليهود -بنو النضير-وكانوا من أثرى يهود المدينة، فخرج إليهم النبي ﷺ يطلب منهم أن يُعينوه في دية الرجلين، واتكأ ﷺ على حائط من حيطانهم، ومعه كبار أصحابه، كأبي بكر وعمر، وبقية الصحابة -رضوان الله عز وجل عليهم-.
وقد تآمر اليهود على أن يرقى أحد منهم فوق هذا الحصن، فيأتي بصخرة عظيمة فيلقيها على رسول الله ﷺ فتقتله، فأخبر جبريل -عليه السلام- النبي ﷺ ذبلك، فقام النبي ﷺ من بين أصحابه مسرعا، وخرج ولم يعد إليهم ﷺ، فلما أبطأ خرج في أثره الصحابة -رضوان الله عز وجل عليهم-، فما شعروا إلا بالنبي ﷺ وقد أعلن الحرب على بني النضير، فلمَّا أعلن الحرب على بني النضير؛ قالوا له: يا محمد سترى من هم القوم، أي: سترى من نحن، إنَّا لسنا كمشركي قريش، بل إنك إذا قابلتنا ستقابل القوم الذين يجيدون الحرب، فخرج إليهم النبي ﷺ، فألقى الله -عز وجل- الرعب في قلوبهم، وما ضرب النبي ﷺ بسيف، ولا رمى بسهم، ولا طعن برمح، بل قذف الله -عز وجل- في قلوبهم الرعب، كما أخبر -سبحانه وبحمده- في سورة الحشر، والتي كان ابن عباس -رضي الله عنه- يسميها: سورة بني النضير؛ لأنها إنما جاءت في سياق بني النضير، فخرج هؤلاء القوم، وألقى الله -عز وجل- في قلوبهم الرعب العظيم، وصالحوا رسول الله ﷺ على أنَّ لهم ما حملت دوابهم، يخرجون بدوابهم وما حملت الدواب، ولا يزيد على ذلك، ولا يخفون كنزًا، فخرجوا سراعا وتحملوا بأهاليهم، وانتقلوا إلى خيبر ثم إلى الشام، فكانت هذه الأموال أول مال عظيم حَازَه رسول الله ﷺ؛ لأن رسول الله ﷺ قد حاز ديارهم، وما عجزت دوابهم عن حمله، وكانت هي أول ما أفاء الله على رسوله ﷺ من المشركين، أو ما يسمى عند العلماء -رحمهم الله- بالفيء.
والأصل فيما يؤخذ من مال المشركين أن يكون على قسمين:
القسم الأول: الغنيمة، وهي التي تؤخذ في الحرب، كغنيمة بدر، وغنيمة حنين، هذه غنائم أخذت في حرب.
القسم الثاني: ما يُؤخذ من غير حرب ولا قتال، وهذا يسمى فيئًا، فكانت هذه الأموال مما أفاء الله -عز وجل- على رسوله ﷺ، ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ [الحشر:7].
قال: (كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) هذا هو تفسير ما أوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، والإيجاف هو تحريك الإبل والخيل للغزو، ولكن ما حصل، وإنما من حين ما سمع هؤلاء أنَّ النبي ﷺ قد قدم، أو أنه ينوي غزوهم؛ ألقى الله -عز وجل- في قلوبهم الرعب، فحاز رسول الله ﷺ أموالهم.
فإذا كان كذلك كانت هذه الأموال لله -عز وجل- ولرسول ﷺ.
طيب ما الذي يصنع بها؟ تُصرف في مصالح المسلمين، ويجوز لرسول الله ﷺ أن يأخذ لنفسه منها نصيبا، فكان ﷺ يأخذ منها نفقة أهله سنة، ثم يضع ما تبقى في الكراع والسلاح، والكراع هو الخيل والإبل ونحو ذلك، والسلاح، يعني: شراء السلاح، ليكون عدة في سبيل الله.
قال: (وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَالِصًا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً)؛ ولأجل ذلك قال العلماء -رحمهم الله-: إن النفقة متى ما أطلقت وأريد تحديدها، فإنما يراد بها نفقة السنة، ولهذا نفقة الزوجة في الزمان الأول ما كانت تُقَيَّم بالأشهر، بل كانت تُقَيَّمَ بالسنة، من أين هذا؟ من هذا الحديث.
والفقير والغني يقيمونه بالسنة، فيقولون مثلا: الغني من يجد نفقة سنته، والفقير من لا يجدها، فكانت عندهم معيارًا في تقييم النفقة، وكذلك هي معيار أيضًا عندهم في جواز الكنز، هل يجوز للإنسان أن يمسك ويدخر أو لا؟ وهل هذا ينافي التوكل أو لا؟
نقول: لا ينافي التوكل إذا كان بقدره، ومن القدر أن يحبس الإنسان نفقة سنته، قالوا: وإذا حبس الإنسان نفقة تزيد عن نفقة السنة، خاصة فيما يتعلق بالأطعمة، فإنه لا يكاد يبارك له فيها.
تجد كثيرًا من الناس يشتري نفقة ثلاث سنوات وأربع سنوات من المؤونة، ويضعها في بيته، فلا يكاد يُبارك له فيها؛ لأنها تتلف، ولأنَّ هذا من الحرص المبالغ فيه، وهذا بخلاف هدي النبي ﷺ، وقد ورد هذا في غير ماء موضع، فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيضا قد جاء في صحيح البخاري أنه كان يصنع ذلك، أي: كان يضع نفقة أهله سنة.
قال ها هنا: (وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَالِصًا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) يعني: أن النبي ﷺ كان يرى أنَّ من مصالح المسلمين السلاح والكراع، يعني: الإنفاق على ميزانية الدفاع، فكانت هي الميزانية المقدمة عند رسول الله ﷺ، وذلك أن وضع النبي ﷺ في ذلك الزمان كان وضعا خطيرا، فإن الحرب بينه وبين قريش كانت حربًا مستمرة، فكان النبي ﷺ يحتاج فيها إلى المدد، وإلى النفقة على هذه الجيوش، التي كان النبي ﷺ يجيشها، هذا فيما يتعلق بالفيء.
وأمَّا ما يتعلق بالغنيمة، فإنَّ الأصل في الغنيمة، إذا غنمت أن يخرج منها ما يتعلق بالأمور الخاصة، مثل: سلب المقتول مثلا، فيقال: هذا سلب المقتول للقاتل، وهل يُخَمَّس أو لا؟ الصحيح أنه يُخَمَّس، ثم تجمع هذه الغنائم كلها فَتُخَمَّس، بمعنى: أن يؤخذ منها خمسها، يؤخذ منها عشرون في المائة، وتصرف في المصارف التي بينها الله -عز وجل- في كتابه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ وهذا خمس واحد، ﴿وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال:41]، فهذه هي مصارف الفيء الخمسة.
مصرف الله -عز وجل- ورسوله ﷺ، حيث كان النبي ﷺ في الزمان الأول يضعها نفقة لأهله، والآن هذا المصرف يوضع في مصالح المسلمين.
ولذي القربى هم قرابة النبي ﷺ من بني هاشم، وبني المطلب فإنهم ممنوعون من الزكاة، فلما مُنعوا من الزكاة أعطوا من الغنائم.
ثم بقية المصارف الثلاثة التي ذكرها الله -عز وجل- في آية الأنفال.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ ﷺ مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى.
قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتَّةٌ، وَمَنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ)}.
في هذا الحديث، وهو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- ما كان عليه النبي ﷺ من العناية بالخيل التي تعد للجهاد، فقد كان النبي ﷺ يعتني بها، وكان يقول ﷺ فيها: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»[1]، وكان ﷺ يُهيئها للجهاد بأمرين اثنين:
الأمر الأول: المسابقة بينها، وهذا فيه تنشيط لها وتنشيط لراكبها وفُرسانها.
الأمر الثاني: تضميرها، فهناك خيل مضمرة وخيل غير مضمرة، وتضمير الخيل مأخوذ من الإضمار، يقال: فلان ضامر، يعني: هو نحيف، فإضمار الخيل هو تنحيفها لتكون مهيئة للجهاد، ويكون عندها من القدرة على العدو، ما ليس عند غيرها من الخيل غير المضمرة، فكانوا يأتون بالخيل فيضعونها في مكان ما، ثم يجللونها، أي: يضعون عليها الأجلة، ويضعون عليها أحيانا بعض الماء، وتطعم بقدر معين يسير من الطعام، حتى تنشف وتصلب أجسادها، تنحف وتنشف، فإذا كان كذلك كان عندها من القدرة على العدو ما ليس عند غيرها، فهذا هو التضمير، والخيل المضمرة -بلا شك- أنها أنجب وأحسن من الخيل غير المضمرة، ولهذا فاوت النبي ﷺ بينها في الغاية، والغاية يعني: المسافة، فسابق ما بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وهذه مواضع في المدينة، ومن الحفياء إلى ثنية الوداع قرابة خمسة أو ستة أميال، والميل الآن يوازي بالأمتار ألفًا وسبعمائة متر تقريبا، فهذه قريبة من عشرة كيلو مترات. هذه هي المسافة للخيل المضمرة.
وأما الخيل غير مضمرة فقد سابق النبي ﷺ بينها من الثنية إلى مسجد بني زُريق، وهذا ميل واحد، فظهر بذلك الفرق الشديد بين الخيل المضمرة والخيل غير المضمرة.
قال: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى)، يعني: كنت فيمن سابق، وهذه المسابقة والله أعلم ما ورد أن النبي ﷺ جعل فيها عوضًا، فقد يكون العوض هو أن يقال: سَبَقَ فلان، وقد كان العرب يعتدون بذلك، ولكن فيه دلالة على جواز أخذ العوض على المسابقة في الخيل، وقد جاء عن النبي ﷺ فيما أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي ﷺ قال: «لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ»[2]، فأما النصل فإنه الرمي بالسهام، وهو القوة التي ذكرها الله -عز وجل- في قوله: ﴿وَأَعِدُّوُا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ﴾، والنبي ﷺ قال: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّميَ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّميَ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّميَ»، كما في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-.
وقوله: «لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ» والخف يراد به خفاف الإبل، ومعناه: أنه يجوز المسابقة في الإبل، لماذا؟ لأن الإبل مما يُستعان بها في الجهاد، نعم هي ليست كالخيل البتة، ولهذا لا يُقسم لها، الإبل والبراذين التي هي نوع من البغال، والبغال والحمير -أكرمكم الله- هذه كلها لا يُقسم لها في الجهاد، ووجودها كعدمها، فراكب الإبل كالراجل، يُقسم له سهم واحد، وهذا بخلاف الخيل، فإنَّ الخيل لشرفها ونكايتها، ولهذا كان المقاتلون في الزمان الأول ما يعدون الراكب إلا الخيال، فيقولون: خياله وراجلون، وليس هناك شيء ثالث، فالخيالة هم أصحاب الخيل، والرجالة هم كل من لم يكن معه خيل.
إذًا تجوز المسابقة في الإبل؛ لأن الإبل قد تغني وتنفع في الجهاد، فسوَّغ النبي ﷺ المسابقة فيها.
وَسَوَّغَ ﷺ المسابقة في الحافر، والحافر هو الخيل، لأنها حوافر، فرؤوس أقدامها تسمى حوافر.
إذا كان كذلك، فإن العلماء -رحمهم الله- يقولون: هذا فيه دلالة على جواز تقديم العوض من كلا الطرفين، وهو ما يُعد عند العلماء في غير هذا الباب قِمارا، كيف؟ أتسابق أنا والشيخ محمد على خيل، فأقول: تدفع مئة وأدفع مئة، فأينا ظَفِرَ أخذها. هل يجوز؟ قالوا: نعم بجوز. حتى من دون محلل؟ الصحيح قالوا: حتى من دون محلل، والمحلل هو طرف ثالث، نأتي إلى طرف ثالث، نعرف أنه قريب منا في المعرفة بهذه الصنعة، فنقول: ادخل معنا كطرف ثالث، لماذا؟ قالوا هذا دخوله يكسر القمار، لأني قد أكسب أنا وقد تخسر أنت، وقد تكسب أنت وأخسر أنا، ولكن بوجود هذا الطرف الذي قد يكسب وما قدم شيئًا، فيكون فيه نوع من ارتفاع الغرر.
قالوا: الصحيح -والله أعلم- أن السبق يجوز حتى ولو لم يُدخل محلل في هذه الأمور الثلاثة، لعموم قول النبي ﷺ، وقالوا: لأنَّ حديث المحلل الذي رواه سعيد بن المسيب مرسلا لا يصح ولا يثبت عنه ﷺ، هذا أمر.
الأمر الثاني: هل يجوز أخذ العوض في غير هذه الثلاثة؟
مذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- أنه لا يجوز أخذ العوض في غير هذه الثلاثة خاصة إذا كان من طرفين، وقالوا: إذا كان من شخص خارجي فإنها أشبه ما تكون بمسابقة، وكان الأمر فيها أهون؛ لأنَّه ليس فيها قمار، مثال: شخص خارج يقول: سأضع هدية قدرها كذا وكذا لمن يسابق في هذه المسابقة، نقول: لا تدخل أنت في المسابقة، يقول: لن أدخل أنا في المسابقة. فهنا لا بأس في مثل هذه الصورة.
أو حتى لو دخل هو، ما في بأس، لأنَّه بكل الأحوال دخوله لا يعني القمار.
قال بعض العلماء -رحمهم الله-: إنه يجوز هنا -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- المراهنة في مسائل العلم، كما لو اختلفت أنا وإياك في مسألة من المسائل، فقلت: "ضع وأضع" على أن القول الصواب هو قولي أو قولك، ونحتكم إلى فلان من العلماء، فاحتكمنا إليه فحكم لي أو حكم لك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجوز، واستدل على ذلك بقصة الصديق -رضي الله عنه- لَمَّا راهن المشركين في انتصار الروم على فارس، ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم:1-5]، فراهنهم على أنَّ الروم سيغلبون الفرس، وستكون لهم الدولة؛ لأن الواقعة هذه كانت في منتصف الفترة المكية، فكسرت فارس الروم كسرة عظيمة حزن منها المسلمون، واعتزَّ بها المشركون. حزن المسلمون لماذا؟
لأن من غلب هو أهل كتاب، وفرح بها المشركون؛ لأن المنتصرين كانوا أهل أوثان، وفي هذا دلالة على أنَّ المؤمن بوجه عام، إذا وقعت فتنة أو حرب، ينظر أقرب الطرفين إلى الهدى فيكون بقلبه معه، أقرب الطرفين إلى الهدى قف معه أنت، هذا هو الأصل في كل مسألة من المسائل التي تقع، ينظر المؤمن من هو أقربهم إلى الهد، فيفرح لانتصاره، ويحزن ويسوء لمساءته، وإلا فإن النصارى بعيدون، بعيدون في مذهب آخر ودين آخر، ومع ذلك فقد كان يَفرح المسلمون لِمَا يُفرحهم، ويسوء المسلمون ما يسوءهم في الزمان الأول، وهذا إذا ما تقابلوا مع من هم شر منهم.
وأمَّا إذا تقابلوا مع من هم خير منهم فلا، ولا يجوز الوقوف معهم، بل يوقف مع الطرف الأخير، هذا هو الأصل، فكانت هذه الواقعة التي حزن لها المسلمون، وفرح لها المشركون، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية، انظر ماذا قال؟ قال: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ هذا النصر نصر لمن؟ ليس نصرًا للمسلمين، بل هو نصر للروم على فارس، فما ذمهم الله -عز وجل- بهذا الفرح؛ لأنَّه فرح فيه نوع من التعلق بشيء جامع، أعني أنَّ المسلمين يرون أن هؤلاء أهل كتاب، وأنهم أقرب إليهم، أو أقرب إلى الله -عز وجل- من هؤلاء، ففرحوا بذلك.
ومن كان كذلك، لم يقدم على نصرة دين الله -عز وجل- شيئا أبدا، لأنَّه كل ما زاد عنده درجة الرجل في الحق كان الولاء له، وزادت محبته، فالشاهد أن الصديق -رضي الله عنه- راهنهم، وأخبرهم أن الدولة ستكون للروم على فارس، فأنكر ذلك المشركون، فأقسم لهم بذلك بالله -عز وجل- على ذلك، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أمدًا ينتصر فيه الروم على الفرس، قد ينتصرون بعد مئة سنة، أو بعد مئة وخمسين سنة، والأيام دول، ولكن اجعل أمدًا بيننا وبينك، والله -عز وجل- قد قال في كتابه: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾، والبضع من الثلاث إلى التسع أليس كذلك؟ فقال لهم الصديق -رضي الله عنه-: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ قالوا له: البضع من الثلاث إلى تسع، وهم عرب يفهمون، فاجعل بيننا وبينك مدة، فاتفقوا على أن يجعلوها النصف، أي أن تكون المدة ست سنوات، فلما رجع إلى النبي ﷺ وإلى المسلمين عابوا ذلك من رأي الصديق، وقالوا كيف تجعل ست سنوات، والله -عز وجل- قد قال: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾، وما ندري ما هذه السنوات.
الشاهد، مضت على ست سنوات فلم ينتصر الروم على فارس، فلما كان مطلع السنة السابعة انتصروا، وكان انتصارهم على ما قيل في السنة الثانية من هجرة النبي ﷺ.
قالوا: فقد كان بين الصديق -رضي الله عنه- وبين هؤلاء "جُعل" فأداه إليهم الصديق، بعضهم يقول: الصديق هو من ربح، نقول: لا، المشهور أن الصديق هو من أدى إليهم الجُعل، أو هو من أدى إليهم هذا الرهان، فدل ذلك على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من جواز المراهنة في مسائل العلم.
وإذا كان كذلك فقد يلحق بها ما يقاربها من المراهنة في المسائل النافعة التي تعود على الأمة بالخير، سواء كان علما شرعيا أو علما دنيويا، مثل المسابقات أو الاختراعات العلمية الطبية التي تنفع وغيرها.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي)}.
هذا حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، وهذا الحديث هو من الأحاديث التي يستدل بها على معنيين، أو تورد في بابين من أبواب العلم، في باب الجهاد ويستدل بها على بعض المسائل التي سنذكرها بعد قليل، وتورد في باب أشهر منه وهو باب أحكام البلوغ، باب أحكام البلوغ في مسائل النكاح ونحوها؛ لأنهم يقولون: إن حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قد بَيَّن لنا علامة من علامات البلوغ، أو فاصل من الفواصل التي يُفصل فيها بين الصبي وبين الرجل، وهذا الفاصل أو هذا الحد هو قوله -رضي الله عنه-: (عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي)، ويوم أحد كان في شوال من السنة الثالثة من هجرة النبي ﷺ.
يقول: (عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي)، والأصل أن العرب لا تسمي نفسها ابن أربع عشرة أو ابن ستين أو خمسين أو غيرها إلا وقد أكملتها، أي: إذا أكملت الأربعة عشرة، وأصبحت تمشي في الخامسة عشرة، قال: أنا ابن أربع عشر، وإذا كان قبل كان ابن ثلاثة عشر، وما زال يمشي في الرابع عشر.
فمعناه: أن ابن عمر قد أكمل أَرْبَعَ عَشْرَةَ سنة الآن، فما عَدَّه النبي ﷺ رجلا، وما قبله في الجهاد، وعرض عليه يوم الخندق. قال: (وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي)، مع أنَّ الخندق قد وقع في السنة الخامسة من هجرة النبي ﷺ على المشهور، وبعض العلماء استدل بهذا على أن الخندق وقع في السنة الرابعة بحديث ابن عمر. وقالوا: نحن متفقون على أحد، ما في خلاف بين العلماء في أن أحدًا قد وقعت في السنة الثالثة، وابن عمر يقول: وأنا ابن خمسة عشرة، بينهما سنة أليس كذلك؟ فهذا دلالة على أنها في السنة الرابعة.
وبعض العلماء قال: لا، بل هي في السنة الخامسة، ولعل ابن عمر -رضي الله عنه- عرض عليه في ذلك الوقت وهو قد أكمل الرابعة عشر وفي أوائل الخامسة عشر، وها هنا قد أنهاها أو في أواخر السادسة عشر، أي: لم ينته بعد من السادسة عشر، فيعد ابن خمسة عشر سنة، والمعنى متقارب وما يستطيع أحد حقيقة أن يستدل بهذا الحديث على تحديد معركة الخندق في أي سنة كانت، هل في الرابعة أو في الخامسة؟ ولكن من ذلك أي يقال: إن ابن خمسة عشر يعد رجلا، وهو الحد بين الصبا وبين الرجولة، وهي علامة من علامات البلوغ.
فإن قال قائل: فمن أين أخذتم ذلك؟ قلنا: أخذنا ذلك من كون النبي ﷺ اعتبرها في الجهاد، وقد اعتبر علامة أخرى أيضا في موطن من مواطن الجهاد، وهي علامة الإنبات في بني قريظة، فإنه ﷺ أمر أن تُكشف مآزرهم، فمن أنبت منهم قُتِلَ، ومن لم ينبت منهم لم يقتل، فكان رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- فيمن لم ينبت فلم يقتل، فدل على أن عندنا الآن علامتان كلاهما قد ثبتت في أبواب الجهاد.
العلامة العُلى هي علامة الإنبات، وهذه علامة يفرق فيها بين الرجل وبين الصبي.
والعلامة الثانية: علامة إكمال خمسة عشر عاما، وبحكم أن كثيرًا من الناس أصبح الآن يتعلق بالتاريخ الميلادي، نقول: الإكمال إنما المعتبر فيه هو التاريخ الهجري، فمن أتمَّ خمسة عشر عاما ودخل في السادسة عشر؛ حينئذ يكون قد بَلَغَ، وأما إذا لم يتم خمسة عشر، فهو لن يبلغ بعد، وهذا ما لم تكن ثم علامة أخرى من علامات البلوغ، والتي ذكرنا منها: الإنبات.
والعلامة الثانية من علامات البلوغ: الاحتلام، من أين أخذنا ذلك؟ من أكثر من حديث يقول فيه النبي ﷺ: «واجِبٌ علَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»، ومنها قول النبي ﷺ: «الغُسْلُ يَومَ الجُمُعَةِ واجِبٌ علَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»[3]، والمحتلم ها هنا هو من وقع منه الاحتلام، والاحتلام هو خروج الماء الذي هو المني من الإنسان في منامه، فهذا حد أيضًا بين الصبا وبين الرجولة.
إذًا هذه ثلاث علامات يميز بها بين الصبي والبالغ.
ما الذي دعا المصنف -رحمه الله- إلى ذكر هذا الحديث في باب الجهاد؟
نقول: عدة أمور، الأمر الأول: أنه ينبغي للإمام أن يستعرض المقاتلة، وأن يقومهم، وأن يعرف أخبارهم، وأن يعرف من يصلح منهم للجهاد ومن لا يصلح، وهذا الآن ما يسمى عندنا في العصر الحديث بفن علم الموارد البشرية، يعلم الرجل هذا ماذا فيه؟ أين يصلح؟ هل هو صالح للجهاد أو لا؟ هل هو صالح للعمل أو غير صالح؟ ما هي الأمور التي تنقصه؟ ما هي الأمور التي يحتاج إليها؟
وقد كان النبي ﷺ استاذ هذا الباب، فإنه كان يحرص على استعراض أصحابه، ينظر فيهم ويقومهم، ويرشدهم، من رأى أنه عاجز منهم عذره، ومن كان منهم أهلا أخرجه.
وفيه أيضا: ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من محبة الجهاد، ومحبة المبادرة إلى الخيرات والسعي فيها، فإنَّ ابن عمر -رضي الله عنه- قد كان يُنظر إليه على أنه صبي، فهو ابن أربعة عشر سنة، ولكنه مع ذلك دخل مع هذا الجيش، وخرج مع من خرج من الصحابة -رضوان الله عز وجل عليهم-، وفي هذا دلالة على أنه ينبغي لولي الأمر -أعني ولي أمر الصبي- أن يحرص على أن يكون الصبي معه في مجامع الخيرات، وفي مجامع الرجال، حتى يتأدب ويتعلم، وكلما تقدمت بالصبي السن كلما أصبح هذا الأمر أكثر ضرورة وإلحاحا.
ومن أجل ذلك قال ﷺ: «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ»[4] لغرض أن يحضر الصبي مجامع المسلمين، فيتأدب بآداب المسلمين، ويتعلم من علومهم، ويعرف عوائد المسلمين، ويعد نفسه عضوا منهم؛ لأن هذا كله من تعليم الخير ومن التربية عليه.
هذه ملامح عامة، ذكرنا جزءا منها فيما يتعلق بالبلوغ، وجزءًا منها فيما يتعلق بالجهاد، وتزيد الأنثى على الرجل، فإن المصنف -رحمه الله- ما ذكر هذه المسألة، علامات البلوغ ما ذكرها لأنَّه ليس فيها حديث في الصحيحين عن رسول الله ﷺ بنصه، فتزيد الأنثى عن الرجل بالحيض، وهي العلامة الأهم في النساء، وأغلب النساء إنما يحصل البلوغ لهن بالحيض، فإذا حاضت المرأة انتقلت من مسمى البنات أو الطفلة، إلى أن تكون امرأة، يجب عليها ما على المرأة، ويجب أيضا على أولياء أمر المرأة سواء من أمها أو من قراباتها أو غيرهن، أن يعتنوا بهذا الجانب، لأنَّ كثيرًا من النساء من الفتيات قد تحيض ثم يقال: هي صغيرة، وما دام أنها حاضت وهي بنت تسع سنين أو عشر سنين ما نريد أن نشق عليها! يقال: لا، بل يجب أن تعامل كما تعامل المرأة، ولهذا عائشة -رضي الله عنها- قد زوجت وهي بنت تسع سنين، وقد كان العرب في الزمان الأول يعاملون بنت سنين على أنها امرأة، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "إذا بَلَغَتِ الجاريَةُ تِسعَ سِنينَ فهِيَ امرأَةٌ"[5]، وهذه طبيعة قد وضعها الله -عز وجل- في النساء، ولهذا يلاحظ أنه قد يكون في الفتيات من النبوغ والنباهة ما ليس في الرجال أو ما ليس في الأطفال، فيكون عندها ما نسميه نحن من المعرفة، وحسن التدبير، وطلاقة اللسان، وفهم الخطاب، ما ليس عند الصبي، وهذا ملاحظ.
فما تكاد تجد صبيا وفتاة في سن واحدة إلا وتجد أن الفتاة متميزة على الصبي في هذه الجوانب، حتى يبلغ الصبي، فإذا بلغ الصبي مرحلة الرجال تغير، وأصبح له بعض الصفات التي قد يمتاز بها على الأنثى، وهذه كلها من حكمة الله -عز وجل-، ﴿ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء:32].
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَعَنْهُ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «قَسَمَ فِي النَّفَلِ، لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا»)}.
حديث ابن عمر -رضي الله عنه- هو من الأحاديث الجليلة في قسمة الغنائم؛ لأن قسمة الغنائم مما وقع فيه الخلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم-، حتى شانت فيه نفوسهم وتغيرت فيه، وذلك أن الأصل في الغنائم أنها أموال ضخمة، فتطمع فيها النفوس، وبذلت فيها الأرواح، فهناك من قاتل وأبلى البلاء العظيم، وهناك من كان من فاقة الجيش، في آخر الجيش يساندهم ويؤازر، ولكنه ما أبلى كبلاء غيره.
فكان الأصل في الغنائم أول أمرها، وذلك أن الأصل في الجهاد أن يكون لله -عز وجل- وفي الله -عز وجل-، وأن تكون كلمة الله -عز وجل- هي العليا، ومن أجل ذلك فإن الله -عز وجل- قد جعل حاجزًا منيعًا من فساد النوايا، بأن حرم الغنائم على من قبلنا من الأمم، ولهذا جعل النبي ﷺ خواصه «وأُحِلَّتْ لي المَغَانِمُ ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي»[6]. طيب ما الذي كان يصنع في الغنائم في الزمان الأول؟
كان يصنع فيها ما أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله- في قصة موسى ﷺ، فإنهم كانوا إذا غنموا جمعوا الغنائم كلها فوضعوها في رأس جبل، فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها، وإذا كان ثم غلول لم تنزل هذه النار، ونزول النار من السماء علامة على أن الله -عز وجل- قد تقبلها، وإذا لم تنزل هذه النار دلَّ ذلك على أن الله -عز وجل- ما تقبلها، وإذا لم يتقبلها دلَّ ذلك على وجود الغلول.
والغلول من المسائل التي ينبغي أن نتكلم عنها هنا، فالغلول هو الأخذ من الغنيمة، وقد سبق أن تكلمنا عنه في شيء من الدروس الماضية، هو الأخذ من الغنيمة بغير وجه حق قبل قسمتها، وهو من كبائر الذنوب، قد قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران:161]، فإذا كان كذلك، فإن الغلول إذا وقع في الغنيمة لم تقبل، ولهذا لما وقع في بني إسرائيل ما نزلت السماء فأكلتها.
فقال موسى -عليه السلام-: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل -مندوب عن القبيلة- فأتوا يبايعونه، وقد كانوا اثني عشر سبطًا، فبايعه الأول والثاني والثالث والرابع والخامس فلصقت به يد رجل.
فقال: فيكم الغلو، فلتبايعني قبيلتك بتمامها، وهذا يدل على أن ما يذكر من الأعداد الكبيرة جدا في الخروج غير مُسَلَّم، حينما ذكروا مثلا أن عدد بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى ﷺ ستمائة ألف، يقال: هذا بعيد؛ لأن ستمئة ألف إذا قسمناها على اثني عشر معناها أن السبط الواحد عبارة عن خمسين ألف، فهل كان موسى -عليه السلام- سيجلس حتى يبايعه هؤلاء الخمسون ألف بتمامهم؟ هذا بعيد، بل الظاهر -والله أعلم- أنَّ الإعداد كانت مقاربة، أتصور أن تكون ألفًا أو ألفين أو ثلاثة آلاف فيبايعونه، وأمَّا إذا كانت خمسين ألفا فيحتاج إلى أيام حتى يبايعونه.
فجاء هذه السبط فبايعه فلزقت به يد رجل منهم، فقال: فيك الغلول، فجاء بمثل رأس الثور العظيم ذهبًا قد غله، فلما وضعه نزلت النار فأحرقت هذه الغنائم.
ثم جاءت هذه الأمة فعلم الله -عز وجل- ضعفها، ورحمها بنبيها ﷺ، فأحلها لهم.
فإذا كان كذلك، فإن الغنائم مما تستشرف له النفوس، وتفسد عنده، ولهذا لما حصل في معركة بدر ما حصل، وجليت الغنائم وقع الخلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم- حتى قال بعض الصحابة: حتى شانت نفوسهم، فنزعها الله. كيف؟ أصبح الرجل يقول: أنا قتلت ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ما يعرف سلبهم؟ ولكن جمع السلب كلهم، فلماذا لا يكون مقامي أو منزلتي كمنزلة الرجل الذي ما قتل أحدًا؟ ولماذا تكون منزلتي كمنزلة الذي هو في ساقه الجيش؟
فنزعها الله -عز وجل- منهم، وأنزل سورة الأنفال، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1]، ثم أسند إلى رسول الله ﷺ فكيف قسمت؟ قسمت هذا القسم، في أصح حديث الذي وهو حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، فجمعها النبي ﷺ كلها، وأخرج منها الخمس، وقسم الأربعة أخماس بالجيش، كيف تقسم الأربعة أخماس في الجيش؟
يقال أولا: كمْ عدد الجيش؟ قالوا: عدد الجيش ألف.
كمْ عدد الفرسان منه؟ قالوا: عدد الفرسان منه مئتان.
نقول: المئتان نضربهم في اثنين، هذه أربعة مئة، إذًا عندنا ألف وأربعمائة، إذا هذه ألف وأربعمئة سهم من الغنائم، لكل الجيش سهم، لكل واحد منهم سهم، وللخيل سهمان، أي: لكل خيل سهمان.
فمعنى ذلك، يكون للخيل ومالكه ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لخيله.
وفي غزوة بدر لم يكن إلا فارسان، وهما: الزبير والمقداد، وقد جاء في بعض الروايات أن الزبير كان له فرسان، فقال بعض العلماء: إذا كان ثم فرسان، فإن لكل فرس منهما سهمان أيضا، فيقسم له خمسة أسهم، سهمٌ له، وسهمان لكل فرس من أفراسه، وهذا بشرط أن يكون الخيل خيلا عربيًا، من أم عربية وأب عربي.
فإذا لم يكن كذلك، قالوا: ما يكون له إلا سهم واحد، وقالوا: لفضل الخيل العربي في الجهاد على غيره من الخيل.
إذًا هذا هو القسم الذي قسمه النبي ﷺ.
وقوله هاهنا: («قَسَمَ فِي النَّفَلِ») يُراد به الغنيمة بعمومه؛ لأن النفل قد يطلق أيضا على الغنيمة.
لعل في هذا القدر كفاية، والله -تبارك وتعالى- أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم وشكر لكم، وشكر الله لكم على حسن الاستماع، وإلى لقاء آخر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (2852)، ومسلم (1873).
[2] خرجه أبو داود (2574) واللفظ له، والترمذي (1700)، والنسائي (3585).
[3] أخرجه البخاري (880)، ومسلم (846).
[4] واه أبو داود (495) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
[5] السنن الكبرى" (2 / 433).
[6] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).