{الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، حياكم الله مشاهدينا الكرام في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحب وإياكم فيه كتاب (عمدة الأحكام) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي واسمكم نرحب بالشيخ، حياكم الله}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{نستكمل يا شيخنا ما توقفنا عنده؟}.
نستكمل على بركة الله.
{قال -رحمه الله-: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ».
ولِمُسْلِمٍ: عنْ أَبي الطَّاهِرِ عنِ ابنِ وَهْبٍ قالَ: "سَمِعْتُ اللَّيثَ يقولُ: الحَمْوُ: أَخو الزَّوْجِ ومَا أَشْبَهَهُ منْ أَقاربِ الزَّوْجِ، ابنِ العَم ونَحْوِهِ")}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أمَّا بعد، فقد شرع المصنف -رحمه الله- في ذكر محظورٍ من المحظورات المتعلقة بمخالطة النساء، فذكر فيه حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: («إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»)، وقد جاء هذا المعنى أيضًا في حديثٍ رواه جابر -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «لا يدخُلَنَّ رجُلٌ على امرأة إلَّا ومعه رجُلٌ أو رجلان»، حتى تزول بذلك الخلوة.
والأصل في ذلك أنَّ جعفر -رضي الله عنه- رجع يومًا فوجد رجلًا قد دخل على أسماء بنت عميس فاستراب من ذلك، فأخبره النبي ﷺ أنَّ الله -عز وجل- قد برأها من ذلك، ولكن هذه براءةٌ بشهادة النبي ﷺ، فمن يُبرِّئ غير أسماء بنت عميس؟!
ولأجل ذلك نهى النبي ﷺ عن الدخول على النساء، لماذا؟
لأمرين:
الأمر الأول: ما يقع فيه من حصول الشهوة، وانفتاح باب الشيطان، وفيه قول النبي ﷺ: «لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»[1]، ولهذا يزين الشيطان في مثل هذه المرحلة للرجل وللمرأة ما لا يُزينه في أي مكانٍ آخر، ويَدخل الرجلُ وليس في قلبه شيءٌ من الشر، وتدخل المرأة وليس في قلبها شيء من الشر، ولا يخطر ذلك منهما على بال، فما يزالان جالسان يتحدثان حتى يُقرِّبَ بينهما الشيطان في هذا، ويصبح الشرُ حاضرًا بينهما.
ويكفي في ذلك قصة امرأة العزيز مع يوسف -عليه الصلاة والسلام-، قال تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف:23]، مع البُعد الكبير بينهما، فإنها كانت تنظر إليه على أنه عبدٌ من عبيدها، وأنها سيدة من السادات، بل ليست من عامة السادات حتى، لأنها زوجة العزيز، ومع ذلك فإنها قد هَمَّتْ به، وراودته عن نفسها.
وقيل لامرأةٍ شريفةٍ من أشراف العرب قد زنت بغلامٍ لها، ما حملكِ على ذلك؟ قالت: قرب الوسادِ، وطول السوادِ، وكثرة السِرر، الوساد قريب والمسارة بيني وبينه، يعني: الكلام كثير، فيؤلف الشيطان بينهما كما يؤلف الله -عز وجل- بين الزوجين في الحلال، يؤلف الشيطان تأليفًا عجيبًا بينهما في الحرام؛ حتى يقعا معًا في الحرام، هذا معنى.
وكلما كان الرجل الداخل قريبًا، كلما كان الشيطان على ذلك أحرص، لماذا؟ لأنه يأتي فينزع عنك الوازع السلطاني أو وازع القرابات، وازع الفضيحة، ويقول: لا تخف، أنت داخل على زوجة أخيك، وهذا أمر بسيط جدًا، خاصة في الزمان الأول قبل التحريم الشرعي.
ولهذا نجد أنَّ البلدان الإسلامية التي لا تتمسك بهذا المعنى، أصبح دخول الرجل على زوجة أخيه دخولاً عاديًا، يدخل معها ويخالطها ويتنقل هو وإياها، فيكون ذلك فتحًا لبابٍ عظيم من أبواب الشر.
ويكفي في ذلك أن تعلم أنَّ هذه المرأة لو طلقها أخوك لجاز لك أن تتزوجها من حين ما تخرج من عدتها، ولو تُوفي عنها لجاز لك أن تتزوجها أيضًا.
إذًا ما هناك وازع طبعي كالوازع الذي يكون بين الإنسان وبين أخته، وبين الإنسان وبين ابنته، وبين الإنسان وبين أمه. هل في دخول الرجل على زوجة أخيه وازع في الفطرة؟ لا، ما هناك وازع إلا وازع الشرع، ووازع السلطان والمجتمع؛ وهذه يتساهل الناس فيها.
إذًا دخول الرجل على القرابات خاصةً ممن لا يحلون له يفتح هذا الباب، ويجعل الأمر بسيطًا، هذا أمر.
الأمر الثالث: أنه مكانٌ لاتهام الرجل، تدخل على زوجة أخيك ستتهم، وتدخل على امرأةٍ لا تحل لك ولست محرمًا لها ستتهم، ولا تلوم الناس على اتهامهم لك، فإنَّ النبي ﷺ لَمَّا كان مع صفية فمرَّ به الرجلان فرأياه فأسرعا، فقال ﷺ: «علَى رِسْلِكُمَا إنَّها صفيَّةُ بنتُ حييٍّ»، وهو من هو ﷺ، حتى قال الرجلان: "سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ!" لم نكن نظن بك يا رسول الله شيئًا، فقال ﷺ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما شيئًا»[2]، فإذا كان هذا هو حال النبي ﷺ، فكيف الحال بمن دونه؟!
يأتي رجل فيدخل على زوجة أخيه ويسافر معها، ويذهب بها من مدينة إلى مدينة وحدهما، ثم يقول: لا تظنون بي إلا الظن الحسن، نقول: لا، بل إنما يقع الزنا كثيرًا، وإنما يقع البلاء كثيرًا بهؤلاء القرابات الذين ليسوا من محارم النساء.
الأعمام يدخلون على هذه الزوجة، والأخوال يدخلون على هذه الزوجة، كلهم بلا شك يتطلعون ويتشوفون إليها، والرجل ينظر إلى زوجة أخيه، كما ينظر إلى الأجنبية، ولا يخدعن الرجل نفسه، ولا يقول: لا هذا العرف سائد، نقول: هذا عرف كاذب، وعرف مخادع، ولو كان هذا العرف في الطبع لَمَا حرَّمه الشرع.
لكنه عرف تعارف عليه الناس بغير سندٍ له، وبغير برهانٍ له، وبغير دليل من كتاب الله عز وجل، ولا من سنة رسوله ﷺ، ولا من عمل الناس، بدليل أنه لو طلقها اليوم وكنت مُعجبًا بها لارتبطت بها، فدل ذلك على أنَّ هذا المعنى ليس مُستقيمًا، وليس صحيحًا.
قال: («إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟")، يعني: قد نحتاج إلى أن يدخل، كأن تقول لأخيك أو عمك، أو خالك، أو ابن أخيك، ونحوهم من البالغين: اذهب فخلص لي حاجة كذا في البيت، فيدخل على زوجتك وحدها.
قال: («الْحَمْوُ الْمَوْتُ»)، والحمو ها هنا فسره الليث بتفسير عام، (يقولُ: "الحَمْوُ أَخو الزَّوْجِ ومَا أَشْبَهَهُ منْ أَقاربِ الزَّوْجِ")، مثل: عم الزوج، خال الزوج، وهؤلاء كلهم مُحَرَّمُون على هذه المرأة، وليسوا محارمًا لها، وتحل لهم بطلاق الرجل لها، فلو طلقها لجاز لهم، فكلهم من أخطر ما يكون دخولهم عليها، لماذا؟
لأنَّ البعض قد يستسهل، وربما كان ذلك سببًا في الوقوع في المحرم.
قد يقال: إن المرأة لا يُشَكُّ فيها، وليس أحد قد يتهمني إذا دخلت عليها، خاصة كما ذكرنا في البلدان التي قد جرى فيها عرف الناس على ذلك، فإذا فعل ما حرم الله -عز وجل-، فقد وقع فيما حرم الله.
(«قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ»)، إشارة إلى أن مواقعة المعصية كالموت، فإنها موت القلب، والزنا خطر كخطر الموت، فإذا كان الموت فقدًا للحياة الحسية، فإنَّ الزنا موتٌ للقلب.
ولهذا لَمَّا ذكر النبي ﷺ الزنا، قال: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ، ولا يَنْتَهِبُ النُهْبَةً، ذات شرفٍ وهو يَنْتَهِبُها وهو مُؤْمِنٌ»[3]، وقد فسره بعض العلماء بأن من واقع الحرام ارتفع منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإن تاب وأناب إلى الله -عز وجل- وقَبل الله -عز وجل- منه توبته؛ لأن هذه حدود شرعية، ما يكتفى فيها بمجرد التوبة فقط، بل يحتاج الإنسان إلى ما يُطهره، فإذا تاب وقَبِل الله -عز وجل- منه التوبة رجع إليه إيمانه.
{قال -رحمه الله-: (بابُ الصَّدَاقِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا»)}.
قال ها هنا: (بابُ الصَّدَاقِ)، وباب الصداق من أجلِّ وأعظم أبواب النكاح، وهو مما يُقرر أن الشارع قد عظَّم شأن المرأة، ولم يجعلها سلعةً رخيصة يتزوجها الرجل هكذا، ولا تظن المرأة أنَّ الصداق هو مُقابلٌ لها، فكأنما هو شراء لها، نقول: لا، وإنما الصداق لحياطتها، والإشعار بأنَّ نكاح المرأة لا ينبغي أن يكون أمرًا مُستسهلاً، وإنما ينبغي أن تُبذل فيه الأموال، وأن تُبذل فيه الأشياء التي تعز على الإنسان، ومما يعز على الإنسان ماله.
قال: (بابُ الصَّدَاقِ)، والصداق هو ما يعطى للمرأة، أو ما تصدقه المرأة، والصداق ها هنا مرادفٌ للمهر، فالصداق يسمى: المهر، ويسمى: النِحلة، ويسمى: العطية، ويسمى: الفريضة؛ فهذه كلها من أسماء الصداق، والاسم الشائع الآن عند الناس إنما هو اسم المهر، تمهر المرأة، فمهرها هو صداقها، وهو العِوض الذي يدفع في النكاح.
وقال بعضهم: العوض المالي، وقيل: بل الأمر في ذلك أكبر من كونه عوضًا ماليًا؛ لأنه قد جاء في بعض الأحاديث أنَّ النبي ﷺ أمر رجلًا أن يعلمها سورًا من القرآن، وجعل ذلك صداقها.
إذًا هو كل عِوض يدفع في الصداق، سواءً كان هذا العوض دنيويًا أو دينيًا.
قد يقول: لا يوجد لديّ مال، ولكني أحفظ القرآن فسأحفظك إياه، أو أنا مدير في دورات تعليمية فسأعطيك أو سأعلمك بعضها مقابل هذا النكاح، نقول: ما في بأس، وهذه مما يعتاض عليه، وهذا أمر منفعته دنيوية، فتجوز المعاوضة عليها، ويجوز أن تكون مهرًا، وغالب صداق الناس اليوم هو المال.
والأصل في الصداق أن يُتيسر ولا يُشدد فيه؛ لأنَّ أبرك النكاح أيسره صداقًا، وما أصدق النبي ﷺ امرأةً من نسائه أكثر من أربعمائة درهم، وهذا ليس مبلغًا كبيرًا، بل هو معتدل، فما نقول: إنه اليسير، ولا نقول: إنه الكثير، وهو المبلغ الذي تستطيع المرأة من خلاله أن تجهز نفسها، أي: تشتري ملابسها، وتشتري بعض جهازها.
ولا يجب عليها أن تنفقه في ذلك؛ لأنَّ بعض الناس يعطي المرأة خمسين ألفا، ثم تأتي المرأة فتشتري ملابس بعشرة ألاف مثلًا، فيقول: لماذا نعطيك خمسين ألف ولا تشتري إلا بعشرة؟
نقول: المهر ليس لأجل أن تشتري ملابس، وإنما المهر لها، ولو أتت بملابسها من بيتها وما دفعت ريالًا واحدًا، وأخذت المهر وأودعته في حسابها، كان ذلك سائغًا لها، وإذا أردت أنت أن تلبس لك، فاشترِ لها؛ لأنَّ ما اشترته هي تراه تفضلا! وهذا المعنى لابد أن يُفهم.
وإذا اشترت المرأة بشيء من مهرها فهي متفضلة، ويجب أن يراعيها الرجل، وهذا من الفضل، كما أن الرجل له فضل، فالمرأة لها فضل، وحينما تمهرها المرأة مهرًا، ثم تأتي هي فتشتري به كله ملابس وحُلي لك، تريد بذلك أن تتزين وأن تتجمل لك، نقول: هذا فضل منها، وجزاها الله خيرًا؛ لأنه قد كان يُمكنها أن تقول: أودعها في حسابي، وآتي بملابس البيت، أو أنَّ الجهاز على الزوج.
ولهذا تجد بعض من يحتاط في مثل هذه الأمور يخشى أن المرأة تصنع به مثل هذا، فيقول: ثلاثون ألف هي مهركِ، وعشرون ألف للجهاز، وهذه مسلك صحيح وليس فيه بأس، ولكن لو أنَّ المرأة أخذت الخمسين ألف ولم تتجهز بها وادخرتها، ثم أتت إلى الرجل بالثياب العادية، فقال لها: لماذا؟ قالت: أنت أعطيتني لمهري وليست لجهازي، جاز لها ذلك، ولكن الفضل في ذلك أولى، وينبغي للرجل أن يراعيه.
وإنما يحصل الخلاف بعد ذلك عند الفسخ، وعند الطلاق والخلع، ونحو ذلك، فقد تقول المرأة: أنت أعطيتني خمسين ألف، ولكن اشتريت بها كلها ملابس لك وتزينت بها لك، فعلى أي أساس تطلبها؟ حتى لم أتمكن من شراء ذهب ربما، بل تقول: الذهب اشتريته من مالي الخاص، فعلى أي أساس تطلب ذلك؟!
فهذا ينبغي أن يراعى عند حدوث الخلع بين الزوجين.
وذكر ها هنا حديث أنس -رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا»)، وقد كان الأولى أن يُقدم حديث سهل -رضي الله عنه- الذي سيذكره، وهو قوله: («التمس ولو خاتمًا من حديد»)؛ لأنَّ حديث سهل يدل على وجوب الصداق، وهذا الحديث يدل -والله أعلم- على أنَّ الصداق يجوز أن يكون منفعة لا مالًا، مع أنَّ الأصل في الصداق هو المال.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ﴾ [النساء:24]، فالأصل في الصداق هو المال الذي هو العين، ولكن ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾ [النساء:20]، والقنطار هو المال العظيم، ﴿فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء:20]، هذا هو الأصل في الصداق.
ومع ذلك فإنه قد يجوز الصداق على المنفعة، ومن المنفعة أن تُعتقها، كما لو كانت المرأة مملوكة لك، فقلت لها: سأعتقكِ -أجعلكِ حرة- وسأجعل عتقكِ صداقكِ، هل يجوز؟ نقول: نعم يجوز، وهذا هو القول الصحيح الموافق لسنة النبي ﷺ.
وقد كان من قصةِ صفية -رضي الله عنها- أنها كانت من سبي خيبر، وهي ابنة سيد خيبر حُيي بن أخطب، سيد بني النضير، فقتله النبي ﷺ، ثم فتح خيبر بعد ذلك، وتم سبيُ صفية من زوجها سلام بن أبي الحقيق، فوقعت في سهمِ بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وهو: دحية الكلبي، فرآها بعض الصحابة، فجاء إلى النبي ﷺ فقال: إنَّ دحية قد وقعت في سهمه جارية من أحسن النساء، وإنها لا تكون إلا لك؛ لأنها شريفة فهي ابنة رئيسٍ.
فدعا النبي ﷺ دحية، وأرضاه بها سبعة أرأس، ثم تملكها، ثم أعتقها النبي ﷺ وجعل عتقها صداقها، ثم أعرس بها، وقد أرسلها إلى أم سليم فجهزتها ثم أعرس بها.
ثم احتار الصحابة ما هي؟ الآن يعرس بها، لكن هل هي زوجه أو جارية؟ فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي من الجواري، فدلَّ ذلك على معنى جليل وهو أنَّ المرأة كلما زاد شرفها كلما زاد حجابها، ولهذا لَمَّا كان نساء النبي ﷺ في أعلى منازل الشرف كان حجابهن في أعلى المنازل.
ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب:53]، بينك وبين نساء النبي ﷺ حجاب عظيم، لماذا؟ لشرفهن.
فالحجاب إذًا إنما هو لشرف المرأة، وليس هو من باب التقييد لحريتها أبداً -معاذ الله- وإنما هو حمايةٌ لها من أن تكون سلعة رخيصة تستهلك، وينظر إليها نظرات شهوة.
ترى الرجل الذي يقول: إني أنظر إلى المرأة بدون شهوة، نقول: إمَّا أنك منقوص الرجولة، وإمَّا أنك تكذب؛ لأنَّ الرجل حينما ينظر إلى المرأة، ينظر إلى ماذا؟ هل ينظر إلى ذكائها وفطنتها؟
الذكاء والفطرة موجودان في الرجال.
هل ينظر إلى براعتها في الإدارة؟ هذا موجود أيضًا في الرجال.
لم يبق إلا أن ينظر لأجل الشهوة، فإذا كان كذلك، فإنَّ النساء العاقلات يعلمن أنه ربما كان نظر الشهوة الذي يقع من الرجال عامةً إليهن أشد من التحرش القولي، ولهذا تجد أن المرأة تتأذى أحيانًا من نظر الرجال إليها، وخاصة إذا احتدَّ النظر إليها، وقد تتأذى بذلك أكثر مما من تأذيها باللفظ؛ لأنَّ اللفظ تستطيع هي ردَّه، ولكن النظرة لا ترد.
لذا نقول: إذا تبرجت المرأة فعليها أن تصبر على النظر إليها وأن تتحمله، وهذا النظر -بلا شك- نوع من التحرش بها، ولكنها لا تستطيع ردَّه.
ودلَّ هذا الأصل على أنَّ المرأة كلما زاد شرفها زاد حجابها.
قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي من الجواري، ولَمَّا حان مسير النبي ﷺ أناخ لها البعير، ثم أركبها في القبة، ثم حجبها النبي ﷺ، فعلموا أنها من زوجاته -رضي الله تعالى- عن أمهات المؤمنين.
ودلَّ ذلك على أنه يجوز أن يكون المهر نفعًا ماديًا، أو أمرًا معنويًا، وليس من الشرط أن يكون مالاً، وإنما يكون منفعة من المنافع.
على سبيل المثال التي لا تكون منفعة مالية مباشرة، إن كانت تؤول إلى المال، أن يجد إنسان مثلًا امرأة موقف خدماتها بمبلغ مالي، فيقول: أنا أسدد عنك المبلغ، ويكون هذا مهرًا لك، نقول: ما في بأس، وهذا جائز، وهو شبيه بفعل النبي ﷺ مع صفية -رضي الله عنها-.
ومثلما ذكرنا أن الإنسان يقول للمرأة على سبيل المثال: أعطيكِ أو أعلمكِ دورات لدي على أن يكون هذا مهركِ، نقول: هذا كله سائغ وجائز شرعًا.
{قال -رحمه الله-: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ: فَقَامَتْ طَوِيلاً، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ. فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟» فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلا إزَارِي هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إزَارَكَ إنْ أَعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ وَلا إزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئاً» قَالَ: مَا أَجِدْ. قَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ»، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ»)}.
حديث سهل -رضي الله عنه- هو من عُمد الأحاديث الواردة في الصداق، بل هو أهم الأحاديث الواردة في الصداق، وأصحها عن رسول الله ﷺ، وفيه: أنَّ امرأة جاءت إلى النبي ﷺ تهب نفسها له، وهذا في قول الله -عز وجل-: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ [الأحزاب:50].
وهذه المرأة قد اختلف العلماء -رحمهم الله- في تسميتها، فقيل: إنها أسماء بنت زيد بن السكن، وقيل: إنها أم قيس بنت محصن، وقيل غير ذلك.
جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: (يا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي قد وَهَبْتُك نَفْسِي لَكَ)، فصعَّد النبي ﷺ النظر فيها وصوبه، وهذه نظرة شرعية، وقامت قيامًا طويلًا، ولم يرد النبي ﷺ، لماذا؟ لأنه لم يكن يريدها ﷺ، ما كان يحتاج إليها، وما أراد أن يكسر خاطرها ﷺ بمجابهاتها بالرفض، فسكت، ما يدري ما الذي يصنع النبي ﷺ؟
فيَسر الله -عز وجل- أنَّ أحد أصحابه استغل الموقف، وعلم أنَّ النبي ﷺ ليس في حاجة إليها، فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ. فَقَالَ النبي ﷺ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟»)، وهذا دلالة على أنه لم يكن للنبي ﷺ فيها حاجة.
(«هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟»)، يعني: تعطيها صداقًا، والصداق هو أول ما سأله النبي ﷺ للرجل، فدل ذلك على تأكيده في النكاح.
(فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلا إزَارِي هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إزَارَكَ إنْ أَعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ وَلا إزَارَ لَكَ» أي: إن لبسته لم يكن عليك منه شيء، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: («فَالْتَمِسْ شَيْئاً») قال يا رسول الله ما أجد، قال: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ»)، فدل ذلك على أنه يجوز الصداق بكل شيءٍ له ثمنٌ وإن قلَّ.
خاتم الحديد له ثمن، ولكنه ثمن زهيد، فيجوز للإنسان أن يصدق المرأة بريال أو ريالين أو ثلاث، فهذه تعد ثمنًا حتى وإن كانت ثمنًا زهيدًا، والأحسن في ذلك أن يتوسط الإنسان، كما أصدق النبي ﷺ أزواجه.
ويجب أن لا يبالغ في الصداق، لِمَا جاء أن عمر -رضي الله عنه- قال: "ولا يتساهل فيه أو يحقره، وإنما يعتدل في ذلك".
قال: («فَالْتَمَسَ شَيْئاً» فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ»)، فدل ذلك على ما قررناه سابقًا، أنه يجوز الزواج بالمنفعة الدينية، أو تعليم المرأة أمرًا دينيًا.
قالوا لماذا؟ لأن هذا إمَّا أن يؤول إلى مال، أو يكون خيرًا من المال، من الذي يؤول إلى المال على سبيل المثال؟ الدورات، هذه قد تُمنح للإنسان بمال، فإذا علمها فكأنما أعطاها مالًا، وإذا علمها الخياطة هو خياط، أو رسام فعلمها الرسم غير المحرم، كان ذلك مالًا؛ لأنها ستستفيد منه، وهو خبرة تحتاجها.
إذًا يجوز الصداق بالمنفعة نحو تعليم القرآن، وهي أجل المنافع، ولكن يقال في ذلك: إنها ليست هي الأصل، بل الأصل في الواجد أن يصدق مالًا، فما يأتي رجل ويقول للمرأة، ماذا تختارين؟ هل اختيارك للدنيا أو الآخرة؟ ما هي الدنيا؟ الدنيا أعطيك خمسين ألف، والآخرة أحفظك كتاب الله -عز وجل-، نقول: لا، هذا العرض مرفوض، ما دام أنك تجد المال فأصدقها، وليكن تعليمك كتاب الله -عز وجل- زائدًا على ذلك، فإذا كان فيك خير، وفيك نفع فعلمها كتاب الله -عز وجل-، ولكن أن تجعل ذلك مقابل المال، نقول: لا، ما دام أنك واجدٌ للمال.
في هذا الحديث معان كثيرة:
منها: خاصية النبي ﷺ في الزواج، فإنَّ هذه المرأة عرضت نفسها على النبي ﷺ، ولو قبلها لأصبحت من زوجاته ﷺ من غير حاجة إلى ولي، ومن غير حاجة أيضًا إلى مهر، هذا هو الأصل الظاهر، والله أعلم.
وفيه ما كان عليه النبي ﷺ من حرصه على تزويج أصحابه -رضوان الله عليهم- ولهذا قال: «الْتَمِسْ» أي: ابحث، وما انفض المجلس إلا وقد زوجها رسول الله ﷺ من هذا الصحابي.
وفيه أيضًا الحرص على المرأة، فإنَّ المرأة قد تكون حاجتها إلى الزواج أعظم من حاجة الرجل، سواءً كانت الحاجة معنوية أو مادية أو حتى جنسية، فلا يجوز للإنسان أن يغض الطرف عن ذلك، ويقول: لا، المرأة ما تحتاج إلى مثل هذه الأمور، نقول: لا، بل قد تكون حاجتها إليه أكثر من حاجة الرجل، فينبغي لمن وَلَّاه الله -عز وجل- أمر النساء، ومن كان وليًا على شيءٍ منهن "بناته، أو أخواته، أو عماته، أو خالاته" أن يبادر في هذا، وأن يسعى، ولا يأنف الإنسان أيضًا من أن يعرضهن على أهل الصلاح، فليس في ذلك غضاضة.
بل الغضاضة حقيقةً أن تدعهن في البيت يتعرضن للفتن، ولكن أن تذهب فترى رجلاً صالحًا، فتقول له: يا فلان عندي أختي، أو عندي عمتي، أو خالتي، أو عندي ابنتي مطلقة أو غير مطلقة، فإن كنت ترغب فحياك الله، فنقول: ما في ذلك من بأس، وقد فعلها عمر -رضي الله عنه- وهو من هو في عزة النفس، وهو قرشي، وقريش كانوا من أشد الناس تشددًا في هذه الجوانب، ومع ذلك لم يَرَ أنَّ هذا مما ينقصه، بل ذهب وعرضها أول الأمر على عثمان -رضي الله عنه-، وعرضها على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وكلاهما لم يقبل؛ لأنَّ النبي ﷺ كان قد ذكرها.
قال الصديق -رضي الله عنه-: إنما كنت تركتها لأنَّ النبي ﷺ قد ذكرها، ولو تركها لقبلتها، وقد كان جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- يعرضون بناتهم على غيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين؛ حتى يزوجونهم.
يعني اختار الإنسان أيضًا المرأة، المرأة ليست كالرجل الرجل هو الذي يتخير، لكن المرأة لا تستطيع أن تخير، فإذا كان كذلك فليكن والدهُا هو من يتخير لها، ما في هذا بأس، ولا يوجد في ذلك غضاضة، ولا يعد ذلك نقصًا.
{قال -رحمه الله-: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ. فَقَالَ رسول الله ﷺ: «مَهْيَمْ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ: «مَا أَصْدَقْتَهَا؟» قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: «فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»)}.
هذا حديث أنسٍ -رضي الله عنه- فيه عدة معانٍ، وهو من أصول الأحاديث في الأمر بالوليمة؛ لأنَّ النبي ﷺ أمر بها فيه، وهو يدل على مشروعية الوليمة، والوليمة هي طعام النكاح، والناس قد توسعوا في ذلك، فأصبح يقال: تعال عندي وليمة، وهو لا يقصد بذلك النكاح، نقول: لا، الأصل في الوليمة إذا أطلقت فإنما يراد بها طعام النكاح، أي: الطعام الذي يصنع عند النكاح.
إذا أرادوا الاستدلال على آكديتها أو على وجوبها، قالوا قول النبي ﷺ لعبد الرحمن بن عوف: («أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»)، وفعل النبي ﷺ بصفية -رضي الله عنها- فإنه لَمَّا أعرس بها أمر الناس أن يجمعوا له، قال: فجمعنا له من تمرٍ وسمنٍ وأقطٍ، قال: فاتَّخَذَتْ حَيْسَةً في بُرْمَةٍ، ثم وضع يده عليها، ثم أكل الناس منها، فكانت هذه وليمة رسول الله ﷺ على صفية بنت حُيي، فدل ذلك على آكدية الوليمة، وعلى أنها مما لا ينبغي أن يتساهل فيه.
ما المعنى في ذلك؟
المعنى في ذلك هو إشهار النكاح، وجعله يفترق عن الزنا والفرح به، فإنه إذا أولم اجتمع الناس، وليس شيءٌ يجمع الناس كالطعام، ولهذا لا يأنف الإنسان أن يقول مثلاً: كل اجتماعاتكم أكل! نقول: الشارع ندب الناس إلى الوليمة، وأمر بالأكل منها، مع أن الاجتماع عليها إنما هو لأجل الطعام، ولا يقابل الزوج والزوجة! إنما الاجتماع لأجل حضور هذا، ولأجل الأنس، وتناول هذا الطعام.
إذًا نقول: ندب إليه الشارع لأجل أنه يحصل به الفرق بين الزواج الشرعي والنكاح غير الشرعي، الذي هو نكاح السر أو نكاح الزنا.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ)، الردع من الزعفران هو: اللطخة، ومن المعلوم أن طيب الرجل ما ظهر ريحهُ وخفي لونه، طيب يظهر ريحه، لكن ما يكون عليك، يعني: مبقع، والمرأة بخلاف ذلك، طيبها ما ظهر لونه وخفي ريحه، هذا في الخارج؛ لأنها مأمورة بإخفاء زينتها أو بإخفاء رائحتها.
فتطيب المرأة بماذا إذا كان كذلك؟
ما هو الطيب الذي يخفى ريحه ويظهر لونه؟ الزعفران ونحوه من الأصباغ، تضع فيها رائحة خفيفة وفيها زينة، كانوا يتزينون بها في الزمان الأول، ويقابلها الآن المساحيق ونحو ذلك من البودرات، ونحو ذلك مما تضعه المرأة في جسمها.
إذًا رأى النبي ﷺ عبد الرحمن عليه ردع من الزعفران، فقال: ما هي كلمة؟ ما بالك، ما شأنك؟ أنت رجل فما هذا الردع من الزعفران؟ «فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ»، فهي لطخةٌ من زوجته فيه، زوجته قد لطخت يديها بالزعفران ثم تضاحكه أو تداعبه وتلمسه، فأصبح فيه هذا الردع من الزعفران.
فخرج عبد الرحمن به إلى الصحابة، ما كان عنده متوسع في الثياب، فرآه النبي ﷺ فاستنكره، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً) من الأنصار، في بعض الروايات، («فَقَالَ: مَا أَصْدَقْتَهَا؟»)، أول ما سأله عن الصداق، (قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ) وزن نواة هو عشر الجنيه الفرنجي، عشر جنيه، والجنيه تقريباً أربع جرامات ونصف، يعني: شيئًا يسيرًا جداً، مع أن عبد الرحمن كان من موسري الصحابة، ولكنهم اتفقوا على هذا المهر اليسير، فما أنكره النبي ﷺ.
فدلَّ ذلك على أنَّ المهر اليسير لا ينبغي أن يُنكر، حتى لو كان من رجل مُوسرٍ، قد يقول الرجل للمرأة مثلا: أنا سأمهرك مهرًا يسيرًا، ولكن سأشتري لك بيتًا مثلًا، وأوسع عليك فيه، وأصنع وأصنع، فهو أبرك من زيادة المهر بلا أمور أُخَرْ.
فقال النبي ﷺ: («فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ»)، هذا أيضًا من الدعاء للزوجين، كما أنه قد جاء في الحديث: «بارَكَ اللَّهُ لَكَ، وبارَكَ علَيكَ، وجمعَ بَينَكُما في خيرٍ»[4]، في حديث عقيل، فإنه أيضًا أصح ما ورد فيه قول النبي ﷺ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ»، هذا من التبريك للزوجين.
(«أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»)، فأمره النبي ﷺ بالوليمة، كأنه يقول: يا عبد الرحمن أنت تزوجت، وما علمنا بزواجك، ولذا فأعلنه، والإعلان لا يكون إلا بالإيلام. لأنه كيف لا تُعلم وتنشر بين الناس خبر زواجك؟ وإنما يكون الإعلام بدعوة الناس إلى الوليمة.
ولهذا قال بعض العلماء كالإمام مالك -رحمه الله- وهو قول وجيه: إذا حصل الإعلان أغنى عن الشهود، وما حاجة الشهود مع وجود الإعلان؟! هؤلاء كلهم -أي: الحضور- شهود على أنَّ فلانَ بن فلان قد تزوج من فلانة، فهل هناك أبلغ من هذه الشهادة؟
وهذا القول في الحقيقة مما يحقق قول الإمام مالك -رحمه الله- وأنَّ الإعلان يغني عن الإشهاد مادام أنَّ هؤلاء كلهم قد حضروا، لكنه ما يغني عن الولي، ولهذا جاء النص صريحًا عن النبي ﷺ في الأمر بالولي.
إذًا فهذا الحديث عن النبي ﷺ فيه جملة من الأحكام:
- منها مشروعية الصداق.
- ومنها مشروعية التخفيف.
- ومنها مشروعية الوليمة.
- ومنها أيضًا تخفيف الوليمة، لأنه قال: («أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»)، يعني: يُشرع في الوليمة أن تكون خفيفة، ولو زاد الإنسان في الوليمة فليس هناك بأس إذا كانت ستؤكل؛ لأن النبي ﷺ أولم على زينب بنت جحش، فدعا الناس وأصبحوا يدخلون عليه فوجًا فوجًا، قال: ما أولم على أحد من نسائه ما أولم على زينب بنت جحش، ومع ذلك فإنما ذبح شاةً واحدة، ولكن -عز وجل- قد طرح فيها البركة.
إذًا لا ينهى عن كبر الوليمة إذا كانت ستؤكل، وإنما ينهى عن كبرها إذا كانت لأمرين:
- إما للتفاخر.
- أو تأول للإسراف والهدر.
فها هنا لتحرم هذه الوليمة.
{قال -رحمه الله-: (كتابُ الطَّلاقِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَغَيَّظَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل».
وَفِي لَفْظٍ: «حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً، سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا».
وَفِي لَفْظٍ: "فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ")}.
قال المصنف -رحمه الله-: (كتابُ الطَّلاقِ)، وهذا أيضًا من الكتب التي يحتاج إليها الناس خاصة مع انتشار الطلاق وفشوه بينهم، فإنَّ الآن أكثر من خمسين في المائة من الزيجات تؤول إلى الطلاق -نسأل الله العافية- وهذا في الحقيقةً بسبب التساهل الذي حصل بين الناس، وعدم مراعاتهم لأوامر وشرع الله -عز وجل- بداية من عقد النكاح.
فتحصل تراكمات بين الزوجين، أولا: في اختيار الزوج لزوجته، أو في موافقة الزوجة على الزوج، ثم في طريقة عقد الزواج والمهر، وما يحصل في ذلك من السرف، ثم عدم تحري كلا الزوجين عن الآخر، سواء في دينه، أو خلقه ونحو ذلك، ثم ما يحصل بعد ذلك من الإسراف في الوليمة، ثم ما يحصل بعد ذلك من كون كل طرف يريد من الطرف الآخر أن يستوفي حقوقه دون النظر إلى الفضل المتبادل بينهما.
فيؤول هذا النكاح إلى الطلاق، والطلاق هو حلُّ قيد النكاح أو بعضه، حل قيد النكاح الحل الكلي الذي يسمى عند العلماء بالطلاق البائن، وقد ذكرنا أربع صور له:
الصورة الأولى: يُطلقها قبل الدخول، طلقة واحدة تنهي الموضوع، ويصبح طلاقًا بائنًا.
الصورة الثانية: يُطلقها على عِوض، هذا طلاق بائن.
الصورة الثالثة: يُطلقها مخالعةً، الطلاق الذي يكون في نكاح فاسد ونحوه.
الصورة الرابعة: أن يُطلقها طلقةً ثالثة فتكون بائنًا.
هذا الطلاق هو حل قيد النكاح، أي ما أصبح بينك وبينها أي شيء، وأصبحت امرأةً أجنبيةً عنك، أو بعضه الذي هو الطلقة والطلقتان، طلقتها طلقة هذا يعد طلاقًا، لكنها لا تزال في ذمتك ما لم تخرج من عدتها، وطلقتان كذلك أيضًا.
وكما أنَّ النكاح من نعم الله، فإنَّ الطلاق أيضا من نعم الله -عز وجل-، لماذا؟ لأنه ليس كل قرارٍ تتخذه في الحياة يكون قرارًا صحيحًا، وأصعب ما يكون القرار إذا كان قرارًا لا رجعة فيه، وأصعب ما يكون إذا كان القرار سيمتد معك عمرك كله؛ وهذا يكون قرارًا قاتلا لك.
ولهذا حرم الله -عز وجل- العبث في الجسد لماذا؟ لأنه من الأمور التي لا تستطيع أن ترجع فيها، تشم، تضع وشمًا، ثم تكبر ويؤول بك الزمان إلى بغض هذه الأوشام، يشم الإنسان على يده أحيانًا اسم حبيبه واسم حبيبته، ثم يؤول به الأمر إلى بغضها، فما الذي يصنع في هذا الوشم؟ يحتاج إلى عملية أخرى حتى يزيله، قرارات يتخذها الإنسان ثم يندم عليها حياته كلها.
ولذا كان قرار النكاح من القرارات الصعبة، وهو قرار قد لا يحالفه التوفيق بكل الأحوال، وليس الطلاق عيبًا، وإنما العيب الطلاق من غير سبب وجيه، هذا هو العيب، وإلا فإن الطلاق قد يكون راحة، ما يحصل بينهم توافق.
يقول الزوج للزوجة: أنا ما قصرت في حقك، وتقول المرأة للرجل كذلك، ولكن ما بيننا توافق، لا أحبك ولا تحبينني وليس بيننا عشرة، طباعنا تختلف، ما رزقني الله -عز وجل- القبول لك، ما الذي أصنع؟ هل هذا يحصل أو لا؟ يحصل كثيرًا، فيكون حله بالطلاق الذي شرعه الله -عز وجل-.
ولهذا لَمَّا حُرمت منه بعض الأمم كما هو الحال في النصرانية، فإنَّ النصارى لا يُشرع عندهم الطلاق، وإذا تزوج الرجل بامرأتهِ بقيت بينهما هذه الرابطة، رابطة أبدية، ولهذا تجد أنهم عند عقد النكاح يقولون: معك في السراء والضراء، وفي الرخاء والشدة، إلى الوفاة، فالأمر أصبح مُعلقًا، فإذا لم يردها، يقال له: ما تستطيع أن تنفسق منها، فإذا أراد الزواج بزوجة ثانية لم يجد هذا مشروعًا عندهم.
والمرأة أيضاً ما يتاح لها أن تتزوج مادام أنها على عصمة الزوج الأول، فيقع بعد ذلك من الفساد العريض من الزوج والزوجة فيما حرم الله -عز وجل-، فالزوج له رغبته، والزوجة لها رغبتها وشهواتها، وهي ممنوعة من زوجها الآن بحكم عدم رغبة كل واحدٍ منهما في صاحبه، وممنوعة من غيره بوجهٍ شرعي بحكم عدم الإذن بالطلاق، فيقع بذلك الشر العظيم.
وجاءت هذه الشريعة السمحة بهذا الأمر، فكان من نِعم الله -عز وجل- أن يكون طلاقًا، وكان من نِعم الله -عز وجل- أن يكون طلاقًا محددًا بثلاث؛ لأنَّ المشركين في الجاهلية كانوا على خلاف النصارى، فالنصارى قالوا: أنتم ما تطلقون الحمد لله، نحن نطلق بلا عددٍ ولا سبب، نُطلق كما نشاء، ما عندنا عدد ولا عندنا عدة، يُطلق الرجل المرأة ويراجعها، ويطلقها ويراجعها، فتصبح المرأة لعبة في يديه، فجاء الشرع بحدين اثنين:
الحد الأول: حد العدة، فعدتها ثلاث حيض إذا كانت تحيض، وإذا لم تكن تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، فإذا طلقت طلقة واحدة وما راجعها خلال هذه المدة، ما تبقى معلقة عنده، فإذا انتهت الثلاث حيض؛ خرجت من عدتها، فإذا أراد مراجعتها ما يقدر إلا بإذنها وموافقتها، بعد أن كان له الحرية في الإرجاع ما لم تنته هذه الأشهر الثلاث، بعد ذلك ما يرجعها إلا بإذنها وموافقتها، هذا فيما يتعلق بالعدة.
الأمر الثاني: فيما يتعلق بالعدد، قيده الشارع بثلاث طلقات، لك الطلقة الأولى، والطلقة الثانية، إذا وقعت الطلقة الثالثة ما ترجع إليه، وتبين منه البينونة الكبرى، فكان أيضًا في هذا رحمة بالنساء.
وشرع أيضًا مع ذلك الخلع إذا وقع ضرر على المرأة وما استطاعت أن تقنع الزوج بالطلاق، تختلع منه بمالها، تقول: أرجع لك مالك وتطلقني.
إذًا هذا هو الأصل في الطلاق.
الحكم العام في الطلاق أي يقال: الأصل في الطلاق أنه مكروه، ولكنه قد يُستحب في حال الضرر، وقد يجب أحيانًا في حال خشية الفتنة وخشية الفساد، فهذا هو الأصل فيه، وقد يكون محرمًا فيما إذا كان طلاق بدعة، وطلاق البدعة يقع في حالتين:
أن يُطلقها في الحيض.
وأن يطلقها في طهرٍ جامعها فيه.
أو أن يجمع لها الثلاث.
وهذه أيضًا صورة ثالثة، أن يجمع لها الثلاث، أي يقول لها: أنتِ طالقٌ بالثلاث. نقول: هذه كلها تسمى: طلاقَ بدعة.
ذكر المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- في الطلاق الذي هو أصلُ في باب بيان مشروعية كيف تكون مشروعية الطلاق الشرعي؟ أو ما يسمى عند العلماء بالطلاق السني، يعني: الطلاق الموافق لسنة النبي ﷺ.
وفيها أن عبد الله بن عمر (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَغَيَّظَ)، عليه النبي ﷺ، وهذا يدل على أن هذا المعنى متقرر، وهو النهي عن الطلاق في الحيض؛ لأنه لو لم يكن متقررًا لما تغيظ النبي ﷺ عليه، ولما قال عمر -رضي الله عنه- لما قيل له في وفاته: اعهد بالخلافة إلى ابنك عبد الله، فقال: ما نصحتم، أعهد بها إلى رجلٍ لم يحسن أن يُطلق امرأته، يعني يريد أنَّ عبد الله وإن كان من خيار الصحابة -رضي الله عنه- إلا أنه لم يكن من أهل السياسة، والسياسة تحتاج إلى رجل يديرها، ولو لم يكن هو أفضل الناس.
ليس من شرط القائد أن يكون هو أفضل الناس، قد عيّن النبي ﷺ خالد وعمرو بن العاص بعد فترة يسيرة من إسلامهم، ولم يكونوا هم خيار الصحابة، فذكر ذلك عمر لرسول الله ﷺ وهو دلالة على أنه قد كان أمرًا ممنوعًا عندهم.
فتغيظ عليه النبي ﷺ «ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا»، هذا مما استدل به من قال بوقوع الطلاق في الحيض، قال قوله: «لِيُرَاجِعْهَا» ما تقع الرجعة إلا بعد طلاق، ما قال له النبي ﷺ إن هذه الطلقة ليست بشيء، ولهذا جاء في حديث ابن الزبير عن ابن عمر قال: «فلم يرها شيئًا» هذا في صحيح مسلم، وهذه اللفظة فيها نكارة، قد تفرد بها أبو الزهير، وهي التي يعول عليها من يرى أنَّ الطلاق في الحيض لا يقع، وهو المعمول به الآن في المحاكم.
والأصل حقيقةً أنه إذا كان يُعمل به في المحاكم ألا يفتى للناس بغيره؛ حتى ما يغرر بالناس، مادام أنَّ هذا هو العمل الآن المعمول به في المحاكم، وله مستند شرعي؛ لأنه قد قال به جماعة من العلماء، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهم، فمادام أن له مستندًا شرعيًا فالأصل أن يفتى به؛ حتى لو كان المفتي ما يرى ذلك، يقول الأصل والمعمول به الآن في المحاكم هو أنَّ هذا الطلاق الذي يقع في الحيض لا يقع.
(«قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ»)، التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء، يعني أن النبي ﷺ عاقب عبد الله، فقال: يراجعها ويدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة مستقبلية، ثم تطهر منها.
فإذا كان كذلك: فإن الإنسان إذا أراد أن يُوقع الطلاق فلينظر إلى حالتين:
الحالة الأولى: ينظر هل هذه المرأة حائض؟ فإذا كانت حائضًا فلا تقدم على الطلاق.
الحالة الثانية: هل هذا الطهر يعني: من فراغها من حيضها إلى حيضتها المستقبلية حصل فيه جماع أو لا؟ إذا حصل فيه جماع فلا تُطلقها، طيب تنتظر ماذا؟ تنتظر حتى تحيض ثم تغتسل من حيضتها، ثم تطهر، ثم لك الحرية إمَّا أن تطلق وإما أن تمسك!
فهذه هي العدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء، وإنما كان ذلك، قالوا: لأنها إذا طُلقت في الحيض، الحيض وقت أصلاً الرجل يرغب فيه عن المرأة، فليس فيه هناك شهوة له، ولهذا قال النبي ﷺ في الحيض في الوقت الأول، نهى النبي ﷺ عن تطليقها في الطهر الذي جامعها فيه، لماذا؟ لأنه قريب عهد بها، فإذا طال به الزمان ربما رغب فيها، فكان هذا حافزًا له، فما تُطلق إلا عن رغبة في الطلاق، وإذا كانت هذه الرغبة في الطلاق نقول: ها هي الآن قد حاضت ثم طهرت، وهي الآن جاهزة، فإذا قال: لا، أنا لازلت مصرًا على الطلاق، نقول: هذا يظهر أنه كان طلاق رغبة، فطلقها.
قالوا: وإنما نهُي أيضًا عن الطلاق في الحيض؛ لأجل أنه تطويل للعدة، لماذا؟ لأن المرأة المطلقة تعتد بثلاث حيض، أليس كذلك؟ هذه الحيضة التي طلقتها فيها لا تحسب عليها، ثم الطهر الذي بعدها لا يحسب عليها، فبدل ما تعتد بثلاث حيض كأنما اعتدت بماذا؟ بأربع حيض بسبب تصرفك أنت، بخلاف ما إذا طلقتها في طهرها، طلقتها في طهرها تصبح أول حيضة محسوبة من عدتها التي أمر الله -عز وجل- بها.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: «فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ»)، هذا دلالة على وقوع الطلاق في الحيض، دلالة على وقوع الطلاق في الحيض، ولهذا حقيقة يقال للذي يطلق في الحيض أنَّ الأمر خطير حتى لو كان العمل الآن في المحاكم على عدم وقوع ذلك، إلا أنه قد جاء في السنة، وفي غير ما حديث عن النبي ﷺ أن النبي ﷺ حسبها من طلاقها.
ولهذا ذهب جماعة من العلماء إلى أنه يقع، وهذا هو قول جمهور العلماء -رحمهم الله- من الأئمة الأربعة: المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنابلة؛ كلهم يرون أنَّ الطلاق إذا وقع في الحيض فإنه يقع، ولم يخالف في ذلك إلا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من العلماء من بعدهم، وبعض الروايات في المذاهب، قالوا: استنادًا إلى حديث أبي الزبير عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وفيها أنَّ النبي ﷺ «لم يرها شيئًا»، وفي بعض الروايات قال: «ولم يعدها عليه».
لكن قالوا: هي معارضة بماذا؟ بما في مسلم، قال: فحسبت عليه تطليقه، وهي أصح، ومعارضًا بقول النبي ﷺ: «امره فليراجعها»، والراجعة إنما تكون عن طلاق، وإلا كيف يراجعها؟ ما يقول له راجعها إلا إذا كانت عن طلاقٍ سابق.
فهذا المعنى مما ينبغي أن يتنبه له، ومما ينبغي أن يراعيه الإنسان إذا أراد أن يطلق الطلاق الشرعي الذي أمر الله -عز وجل- به.
لعلنا نكتفي بذلك، والحمد لله تبارك وتعالى أولًا وآخرًا.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم، جزاكم الله خيرًا، والشكر موصولٌ لكم أعزاءنا المشاهدين على حُسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في الحلقة القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------
[1] رواه أحمد (178) وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (1813).
[2] رواه البخاري (3101).
[3] رواه البخاري (6782).
[4] صحيح أبي داود (2130).