{الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{نستفتح يا شيخ بكتاب النكاح؟}.
نعم؛ بسم الله.
{قال -رحمه الله-: (كِتَابُ النِّكَاحِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قال لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْم فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ») }.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد؛
فقد عقد المصنف الإمام المقدسي -رحمه الله- هذا الكتاب وهو (كِتَابُ النِّكَاحِ) وعقبه بكتاب البيع، وهذا الترتيب عند العلماء -رحمهم الله- إنما هو ترتيبٌ بحسب حاجة الناس، فإن أول ما يحتاجه الإنسان أن يُقيم أمر دينه، فلأجل ذلك قُدم باب العبادات في كل الكتب، ولا يوجد أحد من العلماء يُقدم شيئًا من أبواب المعاملات أو الأنكحة على باب العبادات، فهي مقدمةٌ بتقديم الله -عز وجل- لها.
ويُقدم منها أيضًا ما قدَّمه الشرع، فإنَّ الشرع قد قدَّم الصلاة، فإذا قُدمت الصلاة؛ قُدِّم مفتاحها الذي هو الطهور، ثم عَقَّبَ بالزكاة، ثم بالصيام، ثم بالحج.
وقد يختلف الترتيب أحيانًا شيئًا يسيرًا، وقد يُقدم بعض العلماء (كتاب الحج) على (كتاب الصيام) عملًا ببعض روايات حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- والتي فيها تقديم الحج على الصيام، وقد يُؤخره وهو عامة فعل العلماء، ثم يُعقبون بعد ذلك غالبًا بكتاب البيوع أو المعاملات، لماذا؟
لأنه لا يمكن أن يخلو منها إنسان، فإنَّ بها معاش الناس، وأغلب الناس حتى أصحاب الزرع والحرث يحتاجون إلى شيءٍ منها، حتى في الأزمنة القديمة يحتاج إلى معاملات، وتعامل بينه وبين الناس بالبيع والشراء، فإذًا المعاملات قُدمت لأجل أنه لا يكاد يخلو منها شيءٌ.
ثم يعقبون بعد ذلك بالأنكحة؛ لأنها تليها في الأهمية، لكنها ليست بأهمية المعاملات، وليست بأهمية البيوع، ولهذا نرى أنَّ بعض الناس أو كثيرٍ من الناس خاصةً في الأزمنة المتأخرة ربما يمر به الزمن وهو لا يتزوج، وربما يبقى عانسًا أو أعزبًا، ولكن البيوع ليست كذلك، ثم عقبوا بعد ذلك بكتاب الأقضية، وما يدخل فيها من كتاب الحدود، وكتاب الديات، ونحو ذلك؛ لأنها أيضًا هي أقل في الأهمية من (كتاب النكاح) ، وحاجة الناس إليها أقل.
وهذا كله من باب تربية الناس بمهمات العلم، وتقديم ما حَقه التقديم، فيقال للإنسان: أول ما تفقه عليك أن تفقه في دينك، افقه كيف تتعبد الله -عز وجل-، ثم إذا تطورت أو تقدمت مرحلةً بعد ذلك تتعلم كيف تتعامل مع الناس بالمعاملات المالية، ثم إذا تقدمت مرحلة تتعلم كيف (كتاب النكاح) ، ثم يأتي بعد ذلك (كتاب الديات والحدود) ، وما إلى ذلك، إنما الأصل منها الوعظ، وأن تكون وازعًا ورادعًا للإنسان.
وإلا فإنَّ كثيرًا من الناس ربما لا يحتاج إلى هذه الأبواب -أعني أبواب الحدود والديات والأقضية- ونحوها.
قال المصنف -رحمه الله-: (كتاب النكاح) .
النِّكاح يطلق عند العلماء -رحمهم الله- على معنيين:
- يطلق على عقد الزوجية، وهو المعنى المتداول عند عامة الناس.
- ويطلق على الوطء وهو الجِماع.
فيحتاج إذا ورد لفظٌ في كتاب الله -عز وجل- أو سنة نبيه ﷺ أن نحقق المعنى المراد: هل يُراد به عقد الزوجية، أو يُراد به الوطء؟ وهذا إنما يكون بمراعاة السباق واللحاق، ومراعاة السياق الذي ورد فيه النص.
والنِّكاح بوجهٍ عام سُنة مؤكدة، وهو من أعظم السنن التي حثَّ عليها رسول الله ﷺ، وهو أعظم من نوافل العبادة كنوافل الصلوات، ونوافل الصدقة، ونوافل الصيام، فهم أعظم منها كلها لمن حَسنت نيته فيه، وهذا كله مربوط بالنية؛ لأنَّ الأصل في النكاح أنه عمل عادي وليس عمل تعبدي، فلا ينتقل إلى التعبد إلا إذا استصحب العبد فيه النية الصحيحة، وإلا فإنَّ الكفار ينكحون أيضًا، كما يتبايعون ويشترون، ومع ذلك فإنه لا يقال: إنهم يقومون الآن بعبادة من أَجَلِّ العبادات!
نقول: لا، هذه الأصل فيها أنها لا تتحول من كونها عادة إلى كونها عبادة، إلا إذا اقترنت بها النية الصحيحة.
ما هي النية الصحيحة في النكاح؟
- أمور كثيرة يكفيه منها: أن يقصد بالنكاح عفة نفسه عن الحرام.
- أو أن يرزقه الله -عز وجل- ذريةً صالحة، يستخلفهم في الأرض.
فإنَّ هذا من أعظم المقاصد الربانية في إيجاد الخليقة، ولو تبتَّل الناس لانقطع النسل البشري، وهذا ما لا يريده الله -عز وجل-، ولهذا كان التغليظ في الشذوذ من أشد ما يكون، لماذا؟ لأنه يُفضي إلى هذا الأمر الخطير الذي هو قطع النسل.
فإذًا من المعاني الصحيحة أن يتعبد العبد لله -عز وجل- بأن يكون له أسرة ينفق عليها ويعولها، ويرزقهم الله -عز وجل- به، ويغنيهم به، كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «دِينارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقْتَ به علَى مِسْكِينٍ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ؛ أعْظَمُها أجْرًا الذي أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ» ، هذه هي أفضل النفقة.
إذًا هذه معانٍ كثيرة يستصحبها الإنسان في النكاح، وإذا استصحب منها معنى واحدًا كان ذلك نكاحًا شرعيًا مُتعبدًا لله -عز وجل- به وكفاه ذلك.
ومن المعاني التي يستصحبها الإنسان: أن يعف كثير من النساء؛ لأنَّ المرأة أيضًا تحتاج العفاف، فإذا لم يتقدم إليها الرجل، أو لم يُرِد الرجل النكاح تأيمت، وهذا ما لا يريده الله -عز وجل-، ولا يريده رسوله ﷺ، ويحصل بذلك شرٌ عظيم وفسادٌ كبير، وإذا كان النبي ﷺ قد نهى عن رد الكُفْءَ، وقال: «إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» ، فكيف بترك النكاح أصلاً؟
ثم إنَّ الإمام المقدسي -رحمه الله- قد ذَكر في ذلك حديث الباب، وحديث الباب في كتاب النكاح هو: حديث ابن مسعود، ولهذا قدَّمه الإمام البخاري -رحمه الله-؛ لأنه هو أصل هذا الباب، من جهة ماذا؟ من جهة أنه أمرٌ صريح من النبي ﷺ يكاد يرتقي مُرتقى الوجوب: («يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ») ، وإنما خاطب النبي ﷺ الشباب؛ لأنهم أكثر الناس حاجةً إلى النكاح.
ولا يعني ذلك أنَّ من سوى الشباب من الشيوخ والكهول غير مخاطب بذلك، ولكن الخطاب إنما توجه إليهم أولويةً، والشاب هو من خرج من ضعف الصبي ولم يدخل في ضعف الكبر، فكل من كان في هذه المرحلة فهو شاب؛ حتى وإن تقدم به عمره، وقد يتقدم عُمُر بعض الناس ويمتعه الله -عز وجل- بالصحة، فتجد أنه يصل إلى الستين مثلاً أو الخمس وستين وعنده من القوة والقدرة ما ليس عند غيره من أبناء العشرين ونحوه.
فيقال: هذا أيضًا مخاطب بقول النبي ﷺ: («يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَة») ، والباءة هي قدرة على مؤونة الزواج، هذا هو الأصح في الباءة، وإن كانت الباءة تطلق ويراد بها القدرة على الجِماع، ولكن المراد في هذا الحديث: («مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَة») المراد به مؤونة الزواج، من قدر منكم على مؤونة الزواج فليتزوج.
والأصل أنَّ هذا المعنى من المعاني التي لا ينبغي أن يُتوسع فيها، بمعنى أنه لا يقال: إنَّ مؤونة الزواج الآن أصبحت غالية وأصبحت مكلفة، نقول: نعم، إذا كنت ستنظر إلى المتزوج المتأهل الذي مضى على زواجه عشر سنوات أو خمسة عشر سنة، وتقارن نفسك به، فما من شكٍ أنها ستكون صعبة وعسيرة عليك.
ولكن الأصل في ذلك: أن تنظر إلى أوساط الناس، وأن تنظر إلى أسهل المؤونة وأقربها منك، أي لكل إنسان بيت وليس من شرطه أن يكون مملوكًا؛ فمن يستطيع الآن أن يتملك بيتًا وهو مقبل على الزواج، ويكون عنده سيارة يستطيع أن ينتقل بها، ويكون عنده دخل يسير يَفضل عن حاجاته الرئيسية ويستطيع أن ينفقه على زوجته؟!
إذا بلغ مؤونة الزواج، مع أيضًا المهر، فهذه هي مؤونة الزواج.
(«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ») ، أمر النبي ﷺ بالزواج لماذا؟ «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ») .
«أَغَضُّ لِلْبَصَرِ»؛ لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يُطلق بصره في الحرام تذكر أن عنده زوجةً قد أحلها الله -عز وجل- له فأطلق بصره فيها.
«وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» أنه إذا أقدم على ما حرم الله -عز وجل- تذكر أن عنده زوجة يستطيع أن يقضي وطره منها، فالتفت إليها، ولهذا جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا رأى أحدُكُمْ امرَأَةً فوقعت في نفسهِ، فَلْيَأْتِ أَهَلَهُ، فإِنَّ مَعَهم مِثْلَ الذي مَعَه» ، وهذا يجده الإنسان من نفسه، يجده الإنسان من نفسه أنه إذا كان عنده زوجة اكتفى بها، وذهب عنه كثير من ثَورة النظر إلى النساء.
ولهذا في قول الله -عز وجل-: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور:30]، نقول: من معينات غض الأبصار "الزواج"، ولأجل ذلك ندب الشرع إلى البحث عن الزوجة الحسنة، وندب الشرع إلى أن يكون هناك نظرة شرعية حتى يطمئن قلب الإنسان إليها، ويرى أنها فيها الكفاية، وأنه ليس محتاجًا إلى أن ينظر إلى غيرها.
والإنسانُ متى ما اقتنع بما قَنعه الله -عز وجل-، فإن هذا سيكون باب خيرٍ له؛ لأن باب القناعة في النكاح قريب وليس كباب القناعة في المال، فالمال صعب القناعة منه، ولهذا قال النبي ﷺ: «يَهْرَمُ ابنُ آدَمَ وتَشِبُّ منه اثْنَتانِ: الحِرْصُ علَى المالِ، والْحِرْصُ علَى العُمُرِ» ، وحب الإنسان للمال ما يكاد يقتنع بشيء، وكلما وصل إلى مرحلة تطلع إلى المرحلة التي بعدها، ولكن قناعة الإنسان بالنساء ليست كذلك غالبًا، فتجد أنَّ الإنسان قد يقنع.
ولهذا مما يدل على تقرير هذا المعنى أنَّ الشرع جعل حدًا فيه، والحد هو أربع نساء، فدل على أن الإنسان يصل إلى مرحلة القناعة، وإلا لو كان الله -عز وجل- يعلم أنَّ الرجل ما يقنع البتة، وأنَّ هذا هو الغالب على جنس الرجال ما حدهم بأربع، فدل على أن الأصل في الرجل أنه يقنع.
لكن إنما يختل هذا المبدأ في الإنسان إذا ضعفت عزيمته، وفتح لنفسه باب الشهوات، وأصبح يُقلب نظره بين النساء.
وَكُنتَ مَتَى أَرْسَلتَ طَرفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِر
رَأَيْتَ الذِي لَا كُلُّهُ أنتَ قَادِر ... عَلَيهِ وَلَا عَن بَعْضِهِ أَنتَ صَابِر
وعلى ما قال عمر بن أبي ربيعة:
وَكم مالِئٍ عَينَيهِ مِن حظِ غَيرِهِ ... إِذا راحَ نَحوَ الجَمرَةِ البيضُ كَالدُمى
يقول: أنت تملأ عينيك بشيء لن تقدر عليه، إنما هو من حظ نفسك، وهذا غاية ما يكون من العمق في الإنسان، وغاية ما يكون من الغفلة؛ لأنَّ الإنسان متى ما أطلق بصرهُ فإنه لا يكاد يقتنع بما قَنعه الله -عز وجل- من زوجته التي بين يديه؛ لأنه سيرى ويقارن في كل جزئيةٍ منها، وسيرى أن في كل شيءٍ منها من هو أحسن منها خاصةً عند انفتاح الناس الآن، وكثرة الصور التي حرمها الله -عز وجل-.
إذًا النكاح بلا شك حصانة عظيمة، ومن رزقه الله -عز وجل- الزوجة الصالحة التي تُعفه، فليعلم أنَّ الله -عز وجل- أعانه بعونٍ عظيم في عفة البصر، فلم يبق عليه إلا مرحلة يسيرة ومجاهدة طفيفة في كبح بصره.
نعم فالإنسان كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» ، وسينظر الإنسان إلى ما حرم الله -عز وجل؛ لأنه ليس بمعصوم، لكن عليه أن يُسرع الفيئة، وعليه ألا يسترسل في ذلك، فمتى ما نظر إلى ما حرم الله -عز وجل- فعليه أن يستغفر الله، وأن يتوب إليه، ويعاهد الله -عز وجل- فيما بينه وبينه، ألا يعود إلى ذلك ما استطاع إلى ذلك، فإن عاد فليرجع إلى ذلك.
قال النبي ﷺ: («فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ») ؛ أي أنه أبعد عن السوء، وعن المحرمات، وعن المنكرات والزنا... ونحو ذلك.
(«وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْم فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ») ، ندب النبي ﷺ من لا يقدر على الزواج أن يصوم؛ لأنَّ الصائم يضعف عن كثيرٍ من الشهوات، وهذا يلاحظه الإنسان من نفسه عامةً، خاصةً من يداوم على الصوم، لا نتكلم عن رجل يصوم يومًا أو يومين في الشهر، فربما هذا لا يُدركه الضعف خاصةً في أيام الشتاء ونحو ذلك، ولكن إذا أصبح مداومًا على الصوم ضعفت نفسه عن كثيرٍ من الحرام.
ثم إنه خاصةً إذا كان ممن يستيقظ مبكرًا ويذهب إلى عمله ويعمل مع كونه صائمًا لا يكاد يدركه الليل إلا وقد أعيى، وقد ذهبت قوته، وقد حان وقت نومه، فما يكون له حاجة إلى النساء، ولهذا قال النبي ﷺ: («وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْم فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ») .
«إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ» ، وقد جاء في بعض الروايات عن النبي ﷺ: «فضَيِّقوا مجارِيه بالصَّومِ» ، وإن كانت هذه لا تصح، إلا أن معناها صحيح، "ضيقوا مجاريه"؛ لأنَّ الإنسان كلما أكل كلما جرى الدم في جسده.
ولهذا ترى أنَّ الإنسان كل ما أكل بعض الأكلات الغليظة أصبح فيه قوة، وأصبح فيه أحيانًا قوة شيطانية، ولهذا ندب النبي ﷺ إلى الوضوء من لحم الإبل، قالوا: لِمَا يورث أهله أكل لحمها من الثورة، والثورة هي القوة والنشاط التي ربما تخرج بالإنسان عن حدِّ النشاط الطبيعي.
فأمر النبي ﷺ أن تُكسر هذه الثورة بالوضوء، كما أمر النبي ﷺ بأن تُكسر ثورة الشهوة بالصيام.
قال: («فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ») ؛ الوجاء هو الخصاء، وهذا وِجَاءٌ شرعي، والوجاء الذي هو الاختصاء محرم، وسيأتي -إن شاء الله عز وجل- في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنَّ عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- وكان من عُباد الصحابة، وقد استأذن -رضي الله عنه- النبي ﷺ في الخصاء، «فلم يأذن له، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا».
دلالة على ماذا؟
دلالة على معنى عظيم، وهو أنَّ الثورة أو الشهوة مركبة في الإنسان، وأنها قد تمنعه أحيانًا عن كثيرٍ من العبادات، ولا عتب عليه في ذلك ما دام أنه قد أتى بما أوجب الله -عز وجل- عليه.
فإذا أتيت بالواجبات والسنن المشهورات، فما هناك بأس أن تتمتع بما أحلَّ الله -عز وجل- لك، وهذا سيأتي إن شاء الله -عز وجل- في حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
إذًا الصحابة -رضي الله عنهم- رأوا أن هذه الشهوة قد تمنعهم أحيانًا عن الجد في العبادة، فأرادوا أن يكسروها بالخصاء، فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك. لماذا؟ لأنَّ الخصاء فيه فناء، ومن المعلوم أن النبي ﷺ والشرع بوجهٍ عام يحب تكاثر هذه الأمة، ولو أذن النبي ﷺ في الخصاء للصحابة -رضي الله عنهم- ما خرجت هذه الأجيال من بعدهم.
إذًا قال النبي ﷺ: («وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْم فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ») ، فأرشد النبي ﷺ إلى الصيام، ويقال أيضًا: هذا إنما هذا للصائم الملتزم بما أمر الله -عز وجل- في الصيام، لأنه يتجنب اللغو، والرفث، والفسوق، وإذا تجنبها خفت شهوته كثيرًا، خفت شهوته بترك دوافعها أو البواعث عليها، وخفت شهوته بالصيام الذي يضعف جسده.
{قال -رحمه الله-: (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»)}.
هذا الحديث هو كالمحقق للحديث السابق، ولبيانِ أنَّ النكاح إنما هو من هدي المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- وقد روى أبو الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ: النِّكَاحُ، وَالطِّيب، والختان، وَالسِّوَاكُ»، وزاد في بعض الروايات ونقص، لكن النكاح منها ثابتٌ، فإنه من سنن المرسلين -عليهم الصلاة والسلام-.
ولهذا ذَكر الله -عز وجل- زوجة نوح -عليه السلام- بل كان الأصل فيها أنها كافرة، ومع ذلك ما أمره الله -عز وجل- أن يطلقها، وكذلك زوجة لوط ﷺ، ثم جاء النبي ﷺ فرخص له ربه -عز وجل- في أن يتوسع في هذا الباب؛ حتى أذن له بما لم يأذنه لأمته فتزوج ﷺ تسعًا من النساء.
ثم جاء الصحابة -رضي الله عنهم- وهم بشرٌ يدركهم ما يدرك البشر، أعني أن البشر التوسط فيهم صعب وعسير، فالناس إما متساهلون وإما متشددون أو غالون، فكان من الصحابة جماعةٌ أحبوا العبادة وأقبلوا عليها، وقد كثر هذا فيهم في أول الأمر؛ حتى دفعهم أو ردعهم النبي ﷺ عنه بموانع كثيرة، أو بأمورٍ كثيرة.
فمنها: أن جماعةً من الصحابة كانوا يواصلون، فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك، وواصل بهم يومًا ويومين وثلاثة تنكيلاً بهم حتى رأوا الهلال، فنهاهم عن ذلك.
وجماعةٌ منهم كانوا لا ينامون ويصومون النهار، فإذا لم يَنم في الليل وصام في النهار ترتب على ذلك تضيعه لحق زوجته، فيدخل سلمان -رضي الله عنه- على أبي الدرداء وقد كان صاحبًا له، وذلك قبل فرض الحجاب، فيرى أم الدرداء متبذلة، يعني: ليس عليها اللباس الذي يليق بالمرأة المتبعلة؛ لأن لفظ المتبذلة يقابل: المتبعلة، فسألها: ما شأنك؟ أنتِ ذات زوج وليس من حقوق الزوج أن تتبذلي؟ فقالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له شيء في الدنيا، وهذا أيضًا من حُسن أدبها، ليس له في الدنيا، يعني: أشارت إلى أنه ليس له في الدنيا، فنهاه سلمان -رضي الله عنه- وأمره بأن ينام.
وقد كان جماعةٌ من الصحابة -رضي الله عنهم- قد أتوا إلى النبي ﷺ فسألوا أزواجه عن عبادة النبي ﷺ في السر، يقولون: عبادته في العلن نراها ليست كثيرة، ما هي عبادته ﷺ في العلن؟ الصلوات المكتوبات الخمس، وقد كان أحيانًا يصلي سنن الرواتب في المسجد، وأحيانًا لا يصليها، أو غالبًا لا يصليها.
ثم ماذا؟ الوتر كان يصليه ﷺ في بيته، الصيام كان النبي ﷺ أحيانًا يمر به الشهر والشهران والثلاثة ما صام، فقالوا: لعل هناك عبادة في السر يفعلها النبي ﷺ! وقد كانت أعظم عبادات السر التي يفعلها النبي ﷺ هي قيام الليل، هذه هي أعظم العبادات، وإلا ما سوى ذلك لم يكن للنبي ﷺ مزيد عبادة.
فسألوها، فجاء في بعض الرواية: «فَكَأَنَّهمْ تَقالُّوهَا» ، فأخبرهم أزواج النبي ﷺ أنَّ النبي ﷺ كان ينام نومًا طويلًا، فإذا صاح أو صرخ الصارخ الذي هو الديك في منتصف الليل، وقد أخذ النبي ﷺ حظه من الليل، قام النبي ﷺ فصلَّى ما كتب الله -عز وجل- له، ثم إذا كان السحر الآخر نام ﷺ نومه.
فما كان يقنعهم ذلك، وقد كان منهم عليٌ -رضي الله عنه- وعثمان بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، هؤلاء الثلاثة، فلما سألوا تقالوا هذه العبادة، ثم رجعوا إلى أنفسهم، فقالوا: «وأينا كرسول الله؟!»، الإنسان يبرر لنفسه ويتأول، «وأينا كرسول الله؟!» ﷺ، وقد كثر هذا الأمر من الصحابة -رضي الله عنهم- إذا أمرهم النبي ﷺ بشيء وقال: إني أفعله، قالوا: لسنا مثلك يا رسول الله، إنك قد غفر الله -عز وجل- لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
كما قاله عمر بن أبي سلمة مثلًا لَمَّا سأل النبي ﷺ عن القبلة للصائم، فعَنْ عُمَرَ بنِ أَبِي سَلَمَةَ، أنَّهُ سَأَلَ رَسولَ اللهِ ﷺ: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقالَ له رَسولُ اللهِ ﷺ: «سَلْ هذِه لِأُمِّ سَلَمَةَ» فأخْبَرَتْهُ، أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ يَصْنَعُ ذلكَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، قدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، فَقالَ لهم رَسولُ اللهِ ﷺ: «أَما وَاللَّهِ، إنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ له» .
فقال بعض الصحابة -رضي الله عنهم- لَمَّا نظروا إلى عبادة النبي ﷺ: وأينا ذلك؟! إن النبي ﷺ قد غفر الله -عز وجل- له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فتعالوا فلنعاهد أنفسنا على عبادةٍ نستديمها، وهذا من شر ما يُقدم عليه المرء، وهو أن ينذر أو يلتزم بشيء أخر قاطع.
ما يدري ما الذي يعرض له؟ إذا كنت تلتزم التزم بما فرض الله -عز وجل- عليك، وأما أن تأتي إلى أمور أخر فتلزم نفسك بها حتى تُحرض نفسك على العبادة، ثم لا تدري: هل تحققها وتقدر عليها أو لا؟ وقد فعل ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في قصته المشهورة، وذلك لَمَّا قال له النبي ﷺ: «صُمْ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً»، لأنه كان يصوم الدهر كله، ويقوم الليل كله، «صُمْ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً»، قالَ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، فما زال به حتى قال: «صُمْ صومَ داودَ صُمْ يومًا وأفطِرْ يومًا»، وما زال به في القيام حتى قال: قُم أو اِصنع كصنيع داود ﷺ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ثم في القرآن أمره النبي ﷺ بأن يختم أو يقرأ القرآن في ثلاث.
أخذ ثلاث عبادات: الصيام، وصلاة الليل، وختم القرآن، وهي أجل العبادات.
لكن ما الذي صنع؟
لَمَّا تقدم بعبد الله بن عمرو بن العاص السن، قال: "لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ" أي: التي رخص لي رسول الله ﷺ؛ لأنه شق عليه ذلك، فكان يفطر الأيام في الحر ويحصيها ثم يصوم مثلها في الشتاء.
إذًا، الأصل أن يقال: الصحابة -رضي الله عنهم- قد كان منهم من كان يحرص على مزيد من العبادة، («فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ») ، أراد بذلك التبتل وأن يتفرغ للعبادة، وهذا فيه الرد على من يقول: إني لا أريد التزوج، أو سأتأخر في الزواج، لغرض العبادة أو لغرض التفرغ لطلب العلم.
يقال: كل هذا ليس منهجًا شرعيًا، بل قد جاء الشرع بالنهي عنه ورده؛ لأن هذا كلهُ ليس هو الطريق الصحيح الذي أرشد إليه النبي ﷺ، فإنه من .. يقول: («لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ») ، لكنه ترك للزواج فترة مؤقتة، نقول: لا، ما دام أنك تجد الطول فبادر بذلك، ولن يكون الزواج إذا حسنت نية الإنسان فيه عائقًا عن طلب العلم ولا عن العبادة، بل الزواج بحد ذاته لمن حسنت نيته أفضل من نوافل العبادة، وأفضل من كثيرٍ من فضول العلم الشرعي الذي يرغب الكثير من طلبة العلم الزيادة منه، فهو يود الاستزادة من الفضول والأصول عنده قد اكتملت بحمد الله.
إذًا («لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ») ، أيضًا دخل في باب من الرهبانية، فحرم على نفسه شيئًا مما أحله الله -عز وجل-، ويرجع «لا آكُلُ اللَّحْمَ»، إلى ماذا؟ هذا الرجل أقل مرتبة من الرجل الذي قال «لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ».
الرجل الذي قال: «لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، أتى إلى الباب من أوله فسده، وهذا قال: «لا آكُلُ اللَّحْمَ» لماذا؟ لأنَّ اللحم يزيد الشهوة، ولذا أحرص على عدم أكله حتى لا تكون هذه الشهوة وهذه الثورة موجودة في.
«وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ»، يريد بذلك أن يقوم فلا ينام، ويريد بذلك أن يكون نومهُ كنوم الطيور، الذي هو نوم الغفوة، ينام وهو جالس؛ حتى ما يطول نومه فيضيع وقته، «فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ» قد كان هذا هو صنيع النبي ﷺ أنه كان يُبهم ما يسمي، وحتى يكون الحكم عامًا أيضًا، لئلا يجرح هؤلاء، وحتى يكون الحكم عامًا فيستفيد منه هؤلاء ويستفيد منه من بعدهم.
وهؤلاء -أعني الصحابة رضي الله عنهم- ناس حكماء، يفقهون قول النبي ﷺ، وأنه نهيٌ لهم عن الصيام، «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، وهذا دلالة على أن من قال: «لا آكُلُ اللَّحْمَ»، قد يكون أراد بذلك أيضًا الصيام؛ لأنه قد جاء أن بعضهم قال: «أَصُومُ فلا أُفْطِرُ».
قال: «وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، فهذا هو هدي النبي ﷺ والشاهد من هذا الحديث قول النبي ﷺ: «وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ».
ولهذا قال ابن عباس -رضي الله عنه- لعكرمة: «فَتَزَوَّجْ؛ فإنَّ خَيْرَ هذِه الأُمَّةِ أكْثَرُهَا نِسَاءً» ، يعني بذلك: أنَّ أفضل الناس إنما هو من استكثر من النساء، وهذا معنى آخر.
لكن الظاهر -والله أعلم- أنه كان يقصد أنَّ خير هذه الأمة أكثرها نساءً، وهو رسول الله ﷺ، وبين النبي ﷺ أنَّ الرغبة عن النكاح رغبةٌ عن سنته ﷺ.
إلا إذا كان الإنسان لا يجد رغبة في النكاح، يقول: أنا ما أجد شهوة، فيقال: الأصل في حقك أن يقال بسنيته لماذا؟ لأجل أن يخلف الله -عز وجل- لك ذرية فيعمرون الأرض، ولكنه ليس متأكدًا في حقك تأكده في حق من يجد من نفسه الشهوة، ويرى أنه أعفُ لفرجهِ وأغض لبصره.
{قال -رحمه الله-: (عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا») }.
هذا حديث سعد -رضي الله عنه- الذي ألمحنا إليه في الحديث الأول، وقد كان عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ -رضي الله عنه- من عُباد الصحابة، ولهذا لما توفي قالت امرأةٌ من الأنصار: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ».
فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، لماذا؟ لِمَا كانت ترى من تعبده -رضي الله عنه- وقد توفي -رضي الله عنه- قبل شهود بدر: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟» فَقُالْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ؟ قَالَ النبي ﷺ: «وَاللَّهِ إِنِّي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي»، وفي بعض الروايات: «مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِه»" .
فنامت هذه الصحابية -رضي الله عنها- فرأت عينًا تجري لعثمان بن مظعون -رضي الله عنه-؛ لأنها حزنت، وخشيت أن يكون قول النبي ﷺ في عثمان، إنما هو طَعن فيه، وأن عثمان -رضي الله عنه- قد كان يعمل عملًا ليس على ظاهره، وقد كان النبي ﷺ يقصد من ذلك ترك الشهادة على الميت بالجنة والنار، أو ترك الشهادة عليه بالكرامة.
«فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ»، بماذا؟ بالجنة، ليس من منهج أهل السنة الشهادة على أهل السنة بالجنة أو بالنار، «فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ»، فقالت: فرجعت وأنا حزينة فنمتُ فرأيت عينًا تجري، فسألت لمن؟ فقالوا: هذه لعثمان بن مظعون، فأخبرت النبي ﷺ، فقال: «هذا عمله يجري عليه».
وهذا العمل الذي يجري على عثمان -رضي الله عنه- قد يكون من العلم النافع الذي علمه، فإنه قد كان من معلمي الخير -رضي الله عنه- وقد يكون ولدٌ صالح يدعو له، وقد يكون صدقة جارية قد كان -رضي الله عنه- أوقفها.
الشاهد أنه من الأمور التي تجري على الإنسان بعد وفاته.
هذا هو عثمان -رضي الله عنه- الزاهد العابد، وقد كان من بعده من عُباد الصحابة ممن يوصف أو يوسم بالعبادة أبو الدرداء -رضي الله عنه-، وكان يسمى راهب الصحابة، وقد كان الصحابة جميعًا أصحاب عبادة -رضي الله عنهم.
ولكن أبا الدرداء -رضي الله عنه- قد تأدب بأدب النبي ﷺ، وعرف المعنى الصحيح للعبادة، وأن الأصل في العبادة الاتزان، وأن تُعطي كل ذي حقٍ حقه، وكذلك عثمان -رضي الله عنه-.
قال: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ»، التبتل الذي هو الاختصاء أو ترك النكاح، والأصل في التبتل أنه ترك النكاح، ولكن المراد به ها هنا إنما هو الاختصاء؛ لأنه قال: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» في بعض الروايات «عَلَى عُثْمَانَ الخصاء»، أو استأذن عثمان بن مظعون النبي ﷺ في الخصاء فلم يأذن له، وقال: «وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا»، يعني: لو أذن له في الخصاء لاختصينا.
والتبتل أيضًا من معانيه الانقطاع التام للعبادة، قالوا: وهذا مترتبٌ على الاختصاء، فإنه إذا أقدم على الاختِصاءِ لتوجه إلى العبادة. كيف؟ لأن الشهوة التي تحركه إلى النساء ستنعدم، ولن يصبح له عقبٌ ينشغل به، فإن من أعظم ما يُعين الإنسان على كثير من أمور الدنيا والبحث والكدح إنما هم العيال.
وهذا الكدح الذي يعمله الإنسان هو عبادة من أجلَّ العبادات لمن حَسنت نيته؛ لأنه استعمار للأرض وإحياءٌ لها، وهو مع ذلك أيضًا نفقةٌ على هؤلاء العِيال، وقد كان سفيان الثوري -رحمه الله-، وسفيان الثوري معروف بعلمه وعبادته، وما كان أحد في زمن الثوري يدرك الثوري في عبادته أبدًا، حتى قال أحمد -رحمه الله-: "ليس أحدٌ في زمن سفيان الثوري يعدله عندي"، وقال: "ولو كان في زمن التابعين لألحق بالحسن وابن المسيب، من جلالته -رضي الله عنه-".
ومع ذلك كان يقول: عليك بعمل الأبطال. ما هو؟ قال: الكسب الحلال، والإنفاق على العيال.
فهو عملٌ جليل بلا شك، وهو عبادة من أعظم العبادات لمن حسنت نيته، لكن تغيب عن الإنسان أحيانًا هذه النية، فيصبح عمله في الدنيا كدحًا لا معنى له.
قال: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا»، والتبتل بوجهٍ عام كما ذكرنا الذي هو الانقطاع التام للعبادة، ومن معيناته أن يختصي الإنسان لكنه محرمٌ شرعًا.
والتبتل قد يكون أيضًا تبتلاً شرعيًا، ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل:8]، وهذا أيضًا معنى شرعي، التبتل هو العبادة التي أمر الله -عز وجل- بها، قيام الليل هذا من التبتل الذي أمر الله -عز وجل- به، ولكن الانقطاع التام ليس مما أمر الله -عز وجل- به، وإنما هو من الرهبانية التي استحدثها النصارى، ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد:27].
وقوله: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [الحديد:27]، يعني: إلا حرصهم على طلب رضوان الله -عز وجل-، قال: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد:27]، أي: ما كانت رهبانيتهم رهبانيةً صحيحة.
ولهذا لَمَّا جاء الإسلام وضع هذه الرهبانية، وجاء عن النبي ﷺ أنه قال: «لا رهبانية في الإسلام»، فالترهب التام ليس هو من مقاصد الشريعة.
{قال -رحمه الله-: (عن أم حبيبة بنت أبي سفيان بأنها قالت: «يا رسول اللَّه، انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ، فقَالَ: أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْليَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ: أُخْتِي، فَقَالَ النَّبيُّ: ﷺ إنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِي قَالَتْ: فإنَّا نُحَدَّثُ أَنَّك تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟! قُلْت: نَعَمْ، فقَالَ: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا لابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلِيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلا أَخَوَاتِكُنَّ».
قَالَ عُرْوَةُ: وَثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأَبِي لَهَبٍ، كان أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قال: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خَيْراً، غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ مِنْ هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ، "الحِيبةُ" الحالة)}.
هذا حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- وهو من الأحاديث الأصول في المحرمات في النكاح، من أصول الأحاديث في بيان المحرمات في النكاح، وهو تقريرُ لما قرره كتاب الله -عز وجل- في معنيين:
- في قول الله -عز وجل-: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء:23].
- وفي قول الله -عز وجل-: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء:23].
هذا المعنى قد جاء شرحه في حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- في هذه القصة اللطيفة التي جرت بين أم حبيبة وبين رسول الله ﷺ، وذلك أنَّ أم حبيبة -رضي الله عنها- بلغها أنَّ النبي ﷺ يريد أن يتزوج بنت أم سلمة، وهذه من الإشاعات.
فأخذت هذه الإشاعة وبَنَتْ عليها أمرًا آخر، وهي أنها أتت تخاطب النبي ﷺ وقالت: "يا رسول اللَّه، انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ"، فقال لها النبي ﷺ: «أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكِ؟»، يعني: ليس من عادة المرأة أن تَعرض على زوجها أن يتزوج، فكيف إذا كان سيتزوج بأختها.
«فَقُلْتُ: نَعَمْ»، أحب ذلك، لماذا؟ لما لِمستْ من حُسن خلق النبي ﷺ، وحُسن تعامله ﷺ، وما اغتبطت به -رضي الله عنها- من النبي ﷺ الغِبطة العظيمة.
قال: («أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكِ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ) ، وكانت تكلمت كلام امرأة عاقلة يدل على كمال عقلها، قالت: «لَسْتُ لَكَ بِمُخْليَةٍ»، يعني: لن أستطيع أن أتفرد بك، أنا معك ولكن معي أيضًا ثمانية من النساء، فلو كنت أنا وأنت ما عرضتها عليك، لكن على ما نقول نحن: مادام أنها خربت خربت.
«لَسْتُ لَكَ بِمُخْليَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ: أُخْتِي»، مادام عندي ضرة بكل الأحوال فلتكن أختي، خلها تشاركني في هذا الخير، بأن تتزوج منك يا رسول الله، وفي هذا دلالة على ما كان عليه النساء في ذلك الوقت من الحرص على الزواج برسول الله ﷺ؛ حتى لو كانت المرأة ستكون التاسعة والعاشرة والحادي عشر.
فهي تحرص على الرجل الذي يُكملها، وليس الرجل الذي مجرد أن تتفرد به فحسب؛ لأنه قد لا يكون الرجل ممن يقوم عليها القِوامة الشرعية، ولكن تريد رجلا يعفها، ويغنيها ويسعدها الله -عز وجل- به، وهذا أيضًا معنى ينبغي للمرأة أن تلمحه في زواجها.
قالت: "وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ: أُخْتِي، فَقَالَ رسول الله ﷺ: «إنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِي».
أم حبيبة -رضي الله عنها- عمدت إلى قياس يُعد عند العلماء -رحمهم الله- من قياس الشبه، وذلك أنَّ أم حبيبة -رضي الله عنها- علمت أنَّ الزواج من ابنة الزوجة مُحرم، لكنها رأت -والله أعلم- أنَّ النبي ﷺ بهذه الإشاعة قد ساغ له ذلك، فقالت: إذا كان قد ساغ للنبي ﷺ أن يتزوج بابنة أم سلمة، فهذا دلالة على أنه يحل له أن يجمع بين الأختين، وأن المحرمات الواردة في كتاب الله لا تشمل النبي ﷺ كما لم يشمله تحريم الزيادة على الأربع.
إذًا استنتجت استنتاجًا فقهيًا يدل على بُعد نظرها، فما دام إنك تتزوج ابنة أم سلمة وستجمع بين الأم وابنتها، فَلِمَ لا تجمع بين الأخت وأختها! ومن المعلوم أنَّ الجمع بين الأم وابنتها أعظم حُرمة من الجمع بين الأخت وأختها.
فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ: «إنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِي»، الأصل فيما حرمه الله -عز وجل- في كتابه أن يتناول الجميع، إلا بشيءٍ يخص رسول الله ﷺ مثل قول الله -عز وجل-: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب:50].
قالوا: "وقوله: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب:50] دلالة على أن هذا خاص بالنبي ﷺ في نكاح الواهبة نفسها من غير مهرٍ ومن غير ولي، فيكون النبي ﷺ هو وليها"، هذا في تفسير بعض العلماء -رحمهم الله-، وقد تنوع كلام العلماء -رحمهم الله- عن هذه.
الشاهد: أنها ظنت أن هذا من خصائص النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: «إنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِي»؛ لقول الله -عز وجل-: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء:23].
وبأمر النبي ﷺ لغيلان ولفيروز لَمَّا أسلما وقد كانا تزوجا أختين؛ لأنَّ هذا النكاح كان معروفًا عندهم في الجاهلية، وقد كان في بعض الشرائع السابقة كشريعة يعقوب -إسرائيل- عليه السلام، فإنه قد تزوج أختين، "لِيَاء ورحيل"، فـ "راحيل" هي أم يوسف وبنيامين، و "لياء" هي أم بقية أولادهِ، وقد كانتا أختين على ما ذكروا، فكان الزواج بأختين سائغًا في بعض الشرائع، ولكنه حُرم في الشريعة، وقد كان سائغًا أيضًا في زمن الجاهلية، ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء:23].
فإذًا أمر النبي ﷺ "فيروز"، و "غيلان بن سلمة" أن يختارا منهما، قال فيروز: فاخترت إحداهما وطلقت الثانية.
فإذًا لا يجوز الجمع بين الأختين، فهذا أمر من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة.
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في حكم الجمع بينهما بملك اليمين، هل لو عنده جاريتان كلاهما أخوات هل يجوز له أن يطأهما؟ يجوز له يتملكهما، لكن هل يجوز له أن يطأهما؟ هذه مسألة خلافية، والأصح في ذلك المنع.
وقد جاء عن عثمان -رضي الله عنه- أنه قال: أحلتهما آية التي هي آية مِلك اليمين العامة، وحرمهما قول الله -عز وجل-: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء:23]، قال: وأنا أكرهها.
الشاهد: أن هذه ليست من المسائل التي يحتاج أن نخوض فيها الآن.
لكن قال: «إنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِي قَالَتْ: فإنَّا نُحَدَّثُ أَنَّك تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟!»، يؤكد النبي ﷺ «قُلْت: نَعَمْ، فقَالَ: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي»، يعني: هي بنت أم سلمة وقد تربت عندي، وقد قال الله -عز وجل-: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء:23]، فهي محرمةٌ بنص الكتاب.
«إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا لابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»، يعني فيها مانعان من النكاح:
• المانع الأول: أنها ربيبتي، أي: ابنة زوجتي.
• والمانع الثاني: أنها ابنة أخي من الرضاعة، «إنَّهَا لابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ».
«أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلِيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلا أَخَوَاتِكُنَّ»، اتركوني من هذا الأمر، لا تعرضون عليّ البنات ولا الأخوات، إذا تريدون أن تعرضوا عليّ طرف آخر ما في مانع، لكن بناتكم وأخواتكم لا تعرضون، لماذا؟ لأن هذا محرم شرعًا، فلا تعرضوا عليّ ما حرمه الله -عز وجل-.
(قَالَ عُرْوَةُ: وَثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأَبِي لَهَبٍ) ، وقد كان أبو لهب أول أمره برًا بالنبي ﷺ، وكان يرعاه مع أبي طالب، لماذا؟ لأنه قد وصي عليه من والده عبد المطلب، ومن رعايته أنَّ أبا لهب قد كَلف مولاةً له تسمى ثويبة بأن ترضع النبي ﷺ، فأرضعته وأرضعت أبا سلمة وأرضعت حمزة، فأصبحوا إخواناً للنبي ﷺ من الرضاعة.
فلما تتام رضاع النبي ﷺ من ثويبة قام أبو لهب فأعتقها مكافأةً لها على إرضاعها لابن أخيه، ثم جاء الإسلام فهلك أبو لهب، وعادى رسول الله ﷺ هذا العداء الشديد، ولَمَّا تُوفي رآه بعض أبنائه (بِشَرِّ حيبَةٍ) ، يعني: بشر حال، (قال: ما لَقِيتَ بعدنا؟) قال: ما لقيت بعدكم إلا شرًا، وفي بعض الروايات: (بعْدَكُمْ خَيْراً، غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ مِنْ هَذِهِ) ، وأشار إلى سبابته أو إبهامه (بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ) .
دلَّ على أن الكافر يُجازى بأعماله الصالحة إمَّا في الدنيا وإمَّا في البرزخ، لكنها لا تشفع له في النجاة عند الله -عز وجل- يوم القيامة.
يستفاد من هذا الحديث بوجهٍ عام: أنَّ هذا الحديث أصلٌ في بيان المحرمات في النكاح، والمحرمات في النكاح على ثلاثة أقسام:
إما محرماتٌ من النسب، وهي:
1) الأم، وأمهاتها وإن علون، الأم والجدة وهكذا.
2) أو البنت وبناتها وإن نزلن.
3) أو الأخت وبناتها أيضًا وإن نزلن.
4) أو العمة وإن علت، عمتك وعمت أبيك، كل من كان فيه اسم العمة بوجهٍ شرعي فإنه محرم.
5) والخالة.
6) وبنت الأخ.
هؤلاء ستٌ محرماتٌ بالنسب.
وأمَّا المحرمات من الرضاع، فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، هذا هو الأصل الشرعي، ويسري هذا إلى المرضعة وإلى ولدها، وإلى الْمُرْضِع بِلَبَنِهِ، يعني: زوجها الذي أرضعت بلبنه، وإلى المرتضع وفروعه دون أصوله وحواشه، هذا القسم الثاني من أقسام المحرمات.
القسم الثالث: المحرمات بالصهر، المصاهرة التي هو النكاح، وهنّ أربع:
1) زوجة الأب فهي محرمة، ما يجوز نكاحها البتة، وتبقى محرمًا لك حتى لو طلقها والدك.
2) وزوجة الأب محرمة بكل حال.
3) وبنت الزوجة، بنت الزوجة محرمة أيضًا إذا دخل بها والدها.
4) وأم الزوجة، وأم الزوجة محرمة عند العلماء -رحمهم الله- على الصحيح أنها محرمة بمجرد العقد؛ لأن الله -عز وجل- قد ذكر في البنات ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء:23]، وما ذكر ذلك في الأمهات، فأبهموا ما أبهم القرآن، ويطلق ما أطلق القرآن.
لعلنا نقف عند ذلك، ونسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خيرًا على ما قدمتم، والشكر موصولٌ لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في الحلقة القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.