{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله في حلقة جديدة برنامج من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة، والذي يشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا المبارك}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أستأذنكم في البدء}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ من السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فإنَّ المصنف -رحمه الله- ما زال يُورد لنا الأحاديث الواردة عن رسول الله ﷺ فيما يتعلق بالغنائم، وهي من أهم أحكام الجهاد؛ لأنَّ الله -عز وجل- قد قسمها بين الناس، وشَرَّعَ فيها الشرائع، وذلك لرفع ما قد يقع من النزاع بينهم، فإنه ليس شيء من النزاع يقع كالنزاع في أمور الدنيا، وهو شر ما يقع من النزاع، وإذا كان هذا قد وقع من الصحابة -رضي الله عنهم- في الجيل الأول، فكيف بمن بعدهم؟
وإذا كان قد وقع أيضا في الجهاد، وفي أعظم الغزوات شرفا وفضلا، وهي غزوة بدر، فكيف الشأن بغيرها؟ وكيف الشأن أيضا معاشر الإخوة والأخوات بالمعاملات التي تجري بين الناس مما ليس ليست عبادات؟
كم من نزاع سيقع فيها إذا لم يتم توثيقها، ولم يتم إثباتها، ولم يتم الاتفاق فيها على شروط ومعايير معينة؟! ولهذا يقال -يا معاشر الإخوة والأخوات-: إن إحسان العقود ابتداء يمنع من الخلاف انتهاء، ويحفظ الود، ويبرئ الذمة، ولكن إساءتها ابتداء قد يحصل بسبب من الخلاف والنزاع، ما يطول شره، ويعظم خطره، ولنا في قصة بدر أبلغ المال، فإنَّ غزوة بدر كانت أول الغزوات، وما أنزل الله شيئا في الغنائم، فلمَّا ترك الله -عز وجل- الغنائم للصحابة -رضي الله عنهم- ابتداء يقسمونها، وقع بينهم الخلاف، فحماهم الله -عز وجل- بما شَرَّعَ لهم.
ولهذا من أعظم النعم التي مَنَّ الله -عز وجل- بها على عباده، أن شَرَّعَ لهم قسمة الميراث، وإلا لتقطعت بذلك الأرحام، وحصل من الفساد والشر العظيم بين الأخ وأخيه، وبين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجته بعد الوفاة الشيء العظيم، لماذا؟ لأنه ستوكل قسمة الميراث إما إلى الميت، فسيجور فيها غالبا، وسيقسمها وفقا لِمَا يراه، ووفقا لِمَا يحبه هو ويتشهاه. أو توكل إلى الورثة أنفسهم، فانظر ما الذي يحصل بينهم من النزاع؟ وإذا أردت أن تتحقق من ذلك، فانظر إلى النزاع الذي يقع بين الورثة بعد وفاة مورثهم، مع أن الله -عز وجل- قد قسم وبين، ومع ذلك ما زال الشر موجودًا في نفوس كثير من الناس، بسبب تفريط يقع من المورث، لأنه قد تكون هناك أمور متداخلة ما فصل بينها، وتركها لرغبات الورثة، فحصل بينهم الشر العظيم.
وكذلك أيضا كانت الغنائم، فحماها الله -عز وجل- وقسمها، وبينها بيانًا واضحًا فاصلاً، وكان من ضمن هذه الأحكام التي بينها الله -عز وجل- على لسان رسوله ﷺ، حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: («كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ من السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ»)، الأصل أن الجيش يقاتل مجتمعا ويرجع مجتمعًا، هذا هو الأصل، في ذهابه وقتاله ورجوعه، الأصل في الجيش أنه يكون وحدة واحدة، ولكن قد يضطر القائد، ويرى أن هناك أمور تستدعي أن يبعث السرايا، وقد كان هذا كثيرا ما يحصل في الأزمنة الأولى، فإذا ذهب الجيش الكبير بعث القائد منه سرايا استطلاع، وسرايا استكشاف، وسرايا تغير على العدو القريب الضعيف، إلى أن يصل إلى عدوه الذي يقصده، فربما أصابت هذه السرايا الغنائم، وربما كانت هذه الغنائم غنائم عظيمة، فإذا رجعوا بهذه الغنائم فما الذي يصنع بهذه الغنائم؟ هل تقسم بين هذه السرية، أو يشرك فيها الجيش بتمامه بعد إخراج الخمس؟
الغنيمة يخرج منها الخمس ابتداء، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ما الذي يصنع؟
قال ابن عمر -رضي الله عنه-: («كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ من السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً»)، يقال في مثل هذه الصورة والحالة: يشرع للإمام بعد إخراج الخمس، أن يقول: هذه الغنيمة لكم أنتم أيها السرية خاصة ربعها. قال: إذا كان ذلك في الذهاب، يعني: الآن وهم ذاهبون إلى الغزو نشيطون، ما بعد كَلُّوا ولا بعد تعبوا، فيكون لهم الربع.
لنفرض أن الغنيمة مثلا مليون ريال، يقول: خذوا مئتين وخمسين ألف لكم أنتم، تقاسموها بينكم، وهذا على حسب حديث ابن عمر السابق، للفرس سهمان وللرجل سهما واحد، وللفارس ثلاثة أسهم، يعني: سهم فرسه وسهمه.
طيب والبقية؟ البقية لعامة الجيش بما فيهم هذه السرية، فـ السبعمائة والخمسين المتبقية تقسم على الجميع، طيب لماذا؟ قالوا: أمَّا قسمها على عامة الجيش؛ فلأن السرية لَمَّا غزت ولَمَّا أغارت، كانت تُغير بقوة الجيش، فإن الجيش هو الذي يسندها، وهو الذي يقوي من عزيمتها، وإلا لو كانت في بلدها لربما ما كان عندها من القوة ما يجعلها تقطع هذه المسافة الطويلة وتقاتل هذا العدو، فهي قد قاتلت بقوة الجيش، وبأن الجيش ردء لها، أي أنه حامٍ لها.
ولهذا فهذه السرية لو انهزمت ما وقع عليها الحكم الشرعي في تولية الأدبار، لماذا؟ قالوا لأنها تفيء إلى فئة، فهي لم تنهزم إلى غير رجعة، بل انهزمت إلى الجيش، أي: حتى تقاتل بالجيش، فدل ذلك على أنك أنت أيتها السرية قد كنت تحصرين على ضمان، وهذا المعنى من المعاني اللطيفة التي استدل به بعض من جوز الضمان، أو من جوز ما يسمى بالتأمين وغيره، فقال: إن هذه الفئة أو هذه السرية قد استفادت من هذا الجيش، ماذا استفادت؟ استفادت نوعًا من الأمان، وهذا الأمان يقوي من عزيمتها، ويقوي من قدرتها القتالية، فقالوا: كذلك التأمين.
ولكننا نقول: ليس المعنى في التأمين كما ذكروه، وإنما هو من معان أخرى مما يسمى بالقمار وغيره. قال بعض العلماء: حتى ولو كان، فإن هذا الأمان الذي حصل يجوز أن يعاوض عليه، ويجوز أن يدفع فيه ثمن.
الشاهد، أنَّ هذا الحديث يدل فعليا على أن ما يسمى بالأمور المعنوية له ثمن، وهو من أقوى ما يستدل به في هذا الباب، على أن الأمور المعنوية ثمن. ما هو الأمر المعنوي؟
الأمان الذي حصل لهذه السرية. طيب ما هو ثمنه؟ ثمنه أن الغنيمة ما كانت لهذه السرية فقط، وإنما شركها في الجيش. قالوا: هذا في الذهاب، وأما في القفول، فإذا غنمت غنيمة أخذت منها: الثلث، لماذا؟ قالوا: لأن القفول الجيش كال، قد أصابه الكلل والملل، وكل واحد منهم يريد أن يرجع إلى أهله، فإذا خرجت هذه السرية وقاتلت، كان الجهد الذي تبذله أعظم من الجهد الذي تبذله عند الذهاب غالبا، ولذا يشرع أن تُنَفَّلَ الثلث، ثم يُقسم الباقي في بقية الجيش.
قال ها هنا: (كان رسول الله ﷺ «يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ من السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ») أي: أنه يعطيهم شيئا معينا، والنفل ها هنا زيادة، والبقية يقسم على عامة الجيش، فهذه أيضا من الأحكام الشرعية المتعلقة بالجهاد، وهي تدل بوجه عام على أنه يشرع الأخذ من الغنيمة، وعلى أنه ليس من الحسن التعفف عنها، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- ما كانوا يتعففون عن الغنائم، بل كانوا يأخذونها ويرونها من أطيب المكاسب.
وقد جاء في حديث أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي»[1]، ولهذا قال بعض العلماء: إنَّ أطيب المكاسب هي الغنائم، قالوا: لأنها إنما تكسب بأطيب الأعمال، التي هي الجهاد في سبيل الله، وتؤخذ من شر الناس الذين هم القوم الكفار المحاربون لله -عز وجل- ولرسوله ﷺ.
وهذا أيضا يدل على معنى عام، وهو أنَّ من قصد إلى عمل بنية صالحة، فأثيب عليه، فله أن يأخذ منه، بل يقال: إنه ليس من الحسن أن تعف عن ذلك، كما في قصة عمر -رضي الله عنه- فإنَّ النبي ﷺ بعثه عاملا، يعمل على الصدقة، فلما رجع أعطاه النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله أعطه غيري، فقال: «مَا جَاءَكَ مِن هذا المَالِ شَيءٌ وأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ ولَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وما لا فلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»[2]، فدلَّ ذلك على تقرير ما ذكرناه من هذا المعنى، الذي يستصحب في هذا الحكم الجليل، الذي هو من أَجَلِّ أحكام الجهاد في سبيل الله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا»)}.
لَمَّا ذكر المصنف -رحمه الله- جملة من أحكام الجهاد وأحاديثه، أراد -رحمه الله- أن يوجه هذا الجهاد إلى الوجهة الصحيحة، وهو أن الجهاد إنما يكون في قتال غير المسلمين، هذا هو الأصل في الجهاد، وأمَّا حمل السلاح على المسلم فلا يجوز، إلا مدافعة، وإلا فما يجوز للمسلم أن يشهر السلاح على المسلم البتة، ويدخل في حكم المسلم ها هنا: المعاهد، والذمي، فإن لهما عهدًا يقارب عهد المسلم، ولهذا قال النبي ﷺ: «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ»[3]، فإذا كان كذلك، فإن السلاح يجب أن يوجه الوجهة الصحيحة، وهو أن يكون لِمَا وضع له من قتال أعداء الله -عز وجل- المحاربين لدين الله -عز وجل-، وأمَّا إذا وجه إلى المسلمين، فإنه يكون قد انحرف عن الجهاد في سبيل الله، وأصبح إمَّا بغيا، وإمًّا خروجا، ونقصد ها هنا بتوجيهه إلى مسلم، رفع السلاح وإعلان الحرب، كما يقال.
وأمَّا القتل الذي يحصل بين المسلمين فما من شك أنه داخل في هذا الحديث، ولكنه لا يتناول الحكم الذي سنقرره؛ لأننا لا نتكلم عن حوادث الأفراد، بل نتكلم عن الحوادث التي تكون في عموم الأمة.
فإذا حُمِلَ السلاح فلا يكون على المسلمين إلا في حالتين:
حالة بغي، بمعنى أن يبغي على الإمام ويخرج عليه، يخرج ويحمل السلاح ويعلن الحرب ويقاتل، نقول: هذا من البغي، والباغي يُقاتل حتى يفيء إلى أمر الله -عز وجل-، وقد قاتل عليٌّ -رضي الله عنه- الزبير، وطلحة -رضي الله عنهما-، وقاتل في صفين وكان معه الحق، وقال النبي ﷺ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»[4]، فقتلها عليٍّ -رضي الله عنه-.
وقد قاتل على -رضي الله عنه- أهل الشام، وكان من معه من الصحابة يحتسبونه في قتالهم، حتى جاء عن ابن عمر -رضي الله عنه- مع أنه كان ممن قعد عن القتال، أنه قال: "ما ندمت على شيء ندمي على ألا أكون قاتلت البغاة".
واختلفوا في معنى البغاة ها هنا، هل المراد بهم أهل الشام؟ أو المراد به قتال ابن الزبير مع عبد الملك بن مروان؟ أو المراد به قتال الخوارج؟ على خلاف بين العلماء -رحمهم الله- في تفسير مقولة ابن عمر -رضي الله عنه-، وبكل فإن قتال عليٍّ -رضي الله عنه- كان قتال حق.
إذًا، إذا أعلن القتال على الإمام، وجب ردع هذا الخارج على الإمام أو الباغي، والباغي هو من يخرج بتأويل سائغ، يعني: من نحو مظالم يطالب بها أو نحو ذلك، ونقول: حتى ولو كان، فإن إعلان الخروج أو إعلان رفع السلاح يعد بغيًا يوجب القتال، ويوجب دفع هذه العادية؛ لأنه لا يصح دفع المنكر بما هو أشد نكارة منه.
ولهذا قد قرر العلماء -رحمهم الله- أنه لم يكن ثم منكر يُرغب في إنكاره، فينكر برفع السلاح إلا حصل من الفساد والشر أضعاف ذلك، ولنا حقيقة في قصة الحسين- رضي الله عنه- مثلا بليغًا، فإن الحسين -رضي الله عنه- قد خرج منكرا للمنكرات التي وقعت من يزيد بن معاوية على فساده وسوء حاله، فحصل بذلك الشر العظيم على الحسين -رضي الله عنه- من قتله وقتل أهل بيته، واستمرار يزيد على ما كان عليه من الشر.
وأيضًا قصة القراء الذين خرجوا على الحجاج، وما حصل في ذلك من الفساد والشر العظيم، أربعة آلاف من القراء قتل منهم جمع كبير، حتى قال النووي -رحمه الله-: وقد انعقد الإجماع بعد ذلك على تحريم الخروج على ولي الأمر. هذه فيما يتعلق بالبغي.
أمر آخر وهو فيما يتعلق بالخوارج، والخوارج هم الذين يخرجون بتأويل غير سائغ، أي: بأفكار مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، بل إنَّ هذه الأفكار أصلا تقوم على مجابهة أهل السنة والجماعة، ولهذا إنما سموا خوارج؛ لأنهم خرجوا على السنة التي يمثلها إمام المسلمين، ولهذا من فسر الخوارج بأنهم هم الذين خرجوا على الإمام، فإنما فسره على الحقيقة باللازم، وإلا فالأصل أن الخوارج إنما خرجوا عن السنة؛ لأنَّ زعيمهم هو الذي خرج على النبي ﷺ، لَمَّا قال النبي ﷺ: «يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هذا قَوْمٌ»[5]، هل كان خروجه على النبي ﷺ بالمقاتلة، أو كان بالخروج على سنته ﷺ؟!
نقول: كان خروجه على سنته، وذلك لَمَّا قال له: اعدل فإنك لم تعدل، وقال: «يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هذا قَوْمٌ»، فكان الخروج على منهج أهل السنة يعد خروجا، ولَمَّا كان إمام المسلمين هو الممثل لأهل السنة بغض النظر عن كون الإمام -بعض الناس يقول: إن هذا يستلزم أن يكون إمام المسلمين كأبي بكر وعمر- أقول: لا، هذا غير صحيح، إمام المسلمين سواء كان بارًا أو فاجرًا، ما دام أنه ليس بمبتدع فهو من أهل السنة، والخروج عليه يعني: الخروج على السنة، فإذا خرجت عليه لذاته، فأنت باغٍ، إذا خرجت عليه بمعتقده، يعني: أتيت بمعتقد جديد، فهذا هو الخروج، ومن سبر حال الخوارج رأى أنهم إنما خرجوا على أهل السنة بهذا المعنى. هو لا يخرج فقط على الإمام، أو على ولي الأمر، وإنما يخرج بمعتقدات وأفكار جديدة، يُكفر فيها من لم يوافقه من أهل الإسلام، ويعمل فيهم السيف، ولهذا يرى الخوارج أنَّ قتال أهل الإسلام أولى من قتال المشركين، بحكم أن أهل الإسلام مرتدون، وأن قتال المرتد أولى من قتال غير المسلم.
فكان هذا الحديث مما يقع وينطبق عليهم، ولهذا استشهد به الصحابة -رضي الله عنهم- في قتال الخوارج، «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا» فهم حملوا السلاح، ولهذا ما قتلهم عليٌّ -رضي الله عنه- حتى سفكوا الدم الحرام، فلمَّا سفكوا الدم الحرام، واستعلنوا بالقتال قاتلهم عليٌّ -رضي الله عنه-، لأنه لا يجوز السكوت عليهم، لأن السكوت عليهم سكوت عن منكر عظيم، يستعلون به. إذًا («مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا»).
قوله ﷺ في الأحاديث: («فَلَيْسَ مِنَّا»)، الأصل أن يفهم كما قال سفيان بن عيينة -رحمه الله- بمعنى أن لا تفسر، بل يفهم من ذلك أنه ليس من أمة محمد ﷺ. طيب هل هو كافر؟
نحن لا نكفره، ولكن لا نأتي ونقلل هذا المعنى، ونقول: فيه إشارة إلى أنه ليس من عادتنا، أو ليس من أفعالنا، أو ليس على منهجنا، بل نقول: فليس من أهل الإسلام، لا نكفره ولكننا نقول: ليس من أهل الإسلام، أي أنَّ هذا الفعل، وهذا الرجل الذي خرج وحمل السلاح ليس منا، وبناء عليه إذا قيل: ليس منا، ففي الأعم الأغلب تترتب عليه أحكام شرعية، ولهذا فمثل هذا يهدر دمه، ويقاتل حتى يكف شره عن المسلمين، فكان هذا أثر من آثار فهم هذا الحديث عن رسول الله ﷺ.
{قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً. أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»)}.
هذا الحديث حقيق به أن يكون في أول باب الجهاد، لا أن يكون في آخره، لماذا؟ لأنه يتعلق بالنية، التي إنما يكتسب بها الفضل، فإنَّ المصنف -رحمه الله- لَمَّا ذكر باب الجهاد، ما الذي قدم فيه؟ قدَّم فيه عددًا من أحاديث فضائل الجهاد، وما تقع الفضائل إلا لذي النية الصحيحة، هذا الحديث لباب الجهاد كحديث إنما الأعمال بالنيات لعموم أبواب الشرع.
قال: (عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً)، وقد كان هذا يقع كثيرًا، فإنَّ قزمان قد قاتل في أحد قتالا عظيما، ولكنه إنما قاتل حمية عن قومه، فكان من أهل النار، وكذلك أيضًا من قاتل شجاعة حتى يقال: هو شجاع، وقد ذكر النبي ﷺ في الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم جهنم، الرجل الشجاع الذي يجاهد، ويظن به أنه جاهد في سبيل الله، ولكنه إنما قاتل ليقال: شجاع، فهو من أول من تسجر به نار جهنم. إذا شجاعة، ويقاتل حمية عن قومه، أو حمية عن وطنه، أو حمية عن داره، إذا كانت حمية مجردة، يعني: ما استصحب فيها النية الصالحة.
وأما القتال شجاعة فإن كان الإنسان قد استصحب النية الصالحة، وقال: سأقاتل شجاعة حتى ما يقال عني أني ضعيف، ولا يقال عني أنَّي فِيَّ خور، فلا بأس ما دام أن معه النية الصالحة، وأنها هي أساس عمله.
وكذلك أيضًا الحمية، فلو أنَّ إنسانًا قاتل حمية عن بلده، أو حمية عن داره، وكان في ذلك مستصحبًا للنية الصالحة، التي هي أساس هذه النية، وهي أن يقاتل في سبيل الله بالقصد الأول، ولكن هذه تأتي بالقصد الثاني، كان ذلك في سبيل الله.
وهذا مثل من يحج، لأجل الحج ولأجل أن يسترزق، نقول: ما فيه بأس، مع أنَّ الأصل في ذلك أن يقال في مثل هذا كله: الأصل في ذلك أن تجمع الأمور، وتجعل على سبيل الله -عز وجل- في كل شيء، كيف؟ يقال: سأقاتل شجاعة، قاتل شجاعة في سبيل الله، كن شجاعا في الحق، فهذا من النية الصالحة.
تقاتل حمية عن قومك، قاتل حمية عن قومك في سبيل الله إذا كانوا على الحق، تقاتل حمية عن وطنك أو عن بلدك، قاتل حمية عن بلدك وعن وطنك في سبيل الله، أي: اجعل سبيل الله -عز وجل- هو الأساس، واجعل قتالك عن هؤلاء لأجل أنهم على الحق، لا لأجل أنهم أبناؤك أو أبناء عمك أو أن هذا بلدك، بل لأجل أن الله -عز وجل- يأمرك بذلك، ويأمرك بنصرة الحق.
فإذا صنع الإنسان ذلك جمع الله -عز وجل- له بين الحسنين، وهذه من المعاني الجليلة التي ينبغي أن لا تغفل، فإنَّ الإنسان قد تحمله أحيانا الحمية على الدفاع عن قومه، أو قبيلته، أو نحو ذلك، مع أنهم على الحق، ولكنه لا يستصحب هذا المعنى، فيهلك فيمن هلك، وليس شيء أعظم هلاكا على الإنسان من هلاك روحه في غير سبيل الحق؛ لأن هلاك الروح هلاك للدين، أي: أهلكت نفسك وأهلكت دينك، وجمعت بين السوأتين.
قال: (وَيُقَاتِلُ رِيَاءً)، يقاتل رياء حتى يرى مكانه، كما جاء في بعض الروايات، (أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟) فأجاب النبي ﷺ بالجواب الجامع، فقال ﷺ: («مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»)، هذه هي الكلمة الجامعة، من أراد أن يميز الجهاد الشرعي عن غيره فلينظر كيف موقفه من هذا المعنى؟ هل هو ممن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؟
فإن قاتل لتكون كلمة الله -عز وجل- هي العليا، لم يضره أن يقاتل شجاعة، ولم يضره أن يقاتل عن بلده، ولم يضره أن يقاتل عن وطنه، لأنها كلها مقصودة بالقصد الثاني، كلها داخلة في هذا المعنى.
و (كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) هي الأساس، أعلم أني أن بلدي إن تركته مستباحا للعدو، فإني قد أكون فرطت في دين -عز وجل-، فأنا أدفع عنه لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأنا أدفع عن قومي؛ لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، لأنهم على الحق، وأنا أقاتل بهذه الشجاعة، لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فهذه كلها معان يمكن جمعها لمن وفقه الله -عز وجل-، وهذا شأن كثير من العادات، فكثير من العادات يستطيع الإنسان أن يحولها من كونها عادة إلى كونها عبادة، بما يستصحبه فيها من النية الصالحة، التي يرزقه الله -عز وجل- إياها، وبهذا يظهر أن بين الخلق تفاوت عظيم في هذه المنزلة، فإنه كلما خلصت النية لله -عز وجل- كان ذلك أعظم في الدرجات عند الله -عز وجل-.
ومما يبين هذا المعنى، حديث أنس -رضي الله عنه- الذي يرويه الإمام البخاري -رحمه الله، وفيه أنَّ سراقة كان غلاما شابًا، شهد مع رسول الله ﷺ معركة بدر، فأصابه سهم غَرَبٌ فقتله قبل أن تبدأ المعركة، فجاءت أمه إلى رسول الله ﷺ فقالت: أَخْبِرْنِي عن سراقة لَئِنْ كان أصاب خيرًا احْتَسَبْتُ وصَبَرْتُ وإن لم يُصِبِ الخيرَ اجْتَهَدْتُ في الدعاءِ فقال النبيُّ ﷺ: «هَبِلْتِ» يعني: فَقدْتِ عقْلَكِ، «إنها جِنَانٌ في جنةٍ، وإنَّ ابْنَكِ أصاب الفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى»[6]، وما من شك أن هذه المنزلة العليا العظيمة التي شهد بها النبي ﷺ لسراقة، لم تكن لأجل عمله فقط، بلا شك في أن عمله صحيح وعمله جميل جدا، ولكنه ما بعد دخل المعركة أصلا، وإنما كان لِمَا وقع في قلبه -رضي الله عنه- من النية الصادقة، فهو ما خرج يريد شيئًا من الدنيا أبدا، بل خرج يريد بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، فكانت له هذه المنزلة العظيمة من رسول الله ﷺ، التي شهد بها رسول الله ﷺ.
ومما يقرر معنى أنه يمكن للإنسان أن يستصحب النية الصالحة مع بعضها، معركة الخندق، فإن معركة الخندق قد كانت دفاعا عن ماذا دفاع عن المدينة، دفاعا عن البلد والوطن، وهي من أعظم الغزوات، وأصحابها ممن أَثنى الله -عز وجل- عليهم، لماذا؟ لأنهم جاهدوا في سبيل الله بالمعنى الأول، وكان جهادهم في سبيل الله، إنما دفعوا عن هذه المدينة لأنها هي بيضة الإسلام، ولأجل أنها هي البلد التي يعبدون الله -عز وجل- فيه، ويقيمون شرائع الله -عز وجل- فيه، فهم إذا دفعوا عنها، فإنما يدفعون أيضا عن دين الله -عز وجل-، فكان هذا مما أحبه الله -عز وجل-.
ولم يقل أحد أن غزوة الخندق ليست من الغزوات، أو أنه لم يُرَد بها وجه الله! معاذ الله، بل هذه من الغزوات الجليلة التي دافع النبي ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم- عن بلدهم فيها، وعدوا مع ذلك من أعظم الناس جهادا وقتالا في سبيل الله -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
قال: (كِتَابُ الْعِتْقِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»)}.
هذا كتاب العتق وهو آخر كتاب في (عمدة الأحكام)، والعتق هو: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، سواء كانت هذه الرقبة مسلمة أو كافرة، ولكن قبل ذلك لا بد أن أقدم بمقدمة يسيرة في تقرير معنى الرق في الإسلام، فيقال: إن الأصل في الإسلام هو الحرية، ومما يدل على ذلك ويقرره أن اللقيط الذي يوجد في الشارع يحكم عليه تلقائيا بالحرية، وإذا وقع الخلاف في رجل ما، أو في نفس ما، أنها حر أو مملوكة، كان الحكم فيها للحرية، فالحرية هي اليقين وهي الأصل، والرق عارض، هذا هو الأصل في الإسلام، هذا واحد، وهذا أمر يجب أن يقرر.
الأمر الثاني: أن الرق إنما يُلجأ إليه للحاجة، وأعني أنه لا بد من وقوع الرق؛ لأنه هو الخيار الأسهل من خيارات مُتعددة. قد يقول قائل: كيف يكون الرق هو الخيار الأسهل من خيارات متعددة؟
نقول: حتى نسوق الصورة في مساقها المعروف، أو في مساقها الأكثر ظهورا، لو فرضنا أنَّ أهل المدينة على عهد النبي ﷺ، كانت تُغير عليهم قريش كصنيع قريش، كما كان في الزمان الأول، تغير عليهم فتقتل منهم وتسبي لأي سبب من الأسباب. ألا يجوز لأهل الإسلام أن يدافعوا عن أنفسهم؟
نحن نتكلم الآن عن جهاد الدفع، يقولون: بلا شك يجوز الدفاع عن أنفسهم، قلنا طيب الدفاع عن النفس إلى متى؟ يصبح حال المسلم أو حال أهل الإسلام أو حال الدولة المسلمة، ـن تكتفي بالدفاع فحسب؟! ومن المعلوم أن من اكتفى بالدفاع أُكِل وقتل، فتخيلوا أن النبي ﷺ لم يبدأ بالهجوم البتة على أهل مكة، وصار يكتفي فقط بدفع غاراتهم، إلى متى؟ سيأتي زمان يجتاحونه فيه ويبيدونه، وهذه هي سنة الله -عز وجل- في الأرض المدافعة بين الحق والباطل.
إذًا سيضطر أهل الدولة الإسلامية في يوم ما من الأيام إلى أن ينتقل من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم على هذا العدو الذي قد أرهقهم بالقتل، فإذا حصل ذلك فإن المعركة ستنجلي عن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: عن قتلى وهم بشر حال، انتهت حياتهم.
والأمر الثاني: بفارين خرجوا من المعركة، وخرجوا من الأرض وذهبوا.
والأمر الثالث: بأسارى، أليس كذلك؟ سواء كان هؤلاء الأسارى من الرجال، أو من الصبيان أو من النساء وغيرهم، وهؤلاء الأسرى إذا وقعوا الآن بين أيدي المسلمين، أسرى حرب، فما الذي يصنع بهم؟ هل يحكم عليهم بالسجن المؤبد؟ فيقال: يضعون في أقفاص ويسجنون إلى أبد، ويصبح المسلم يتكفل بطعامهم وشرابهم، ويموتون بطريقة أو بأخرى، يموتون بالعدوى أو يموتون بالملل، أو يموتون بالجوع، أو يموتون بأمور كثيرة، أو أن يقال: بل الأفضل أن يُمنُّ عليهم، فنقول: ليس جبرا، حتى الآن في شرائع الأمم هذه ليس من الواجب عليهم أن يمنوا على الأسرى، من دون مقابل، ويمن عليهم يعني: يطلقهم دون مقابل، فإذا أطلقته بدون مقابل تجده رجع من الغد يقاتلك.
أو الحالة الثالثة: أن يُقتل هؤلاء الأسرى، هذه ثلاث أحوال.
الحالة الرابعة: وهي الحال الوسط بين هذه الأحوال كلها، وفيها يقال له: تكون مملوكا لنا، تكون من الرقيق، فلا نريد قتلك، ولهذا لو تخير جميع هؤلاء، تقول له: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن أقتلك وإما أن تكون رقيقًا وفق شروط، هذا هو شرط الإسلام في الرق، أن تطعمهم مما تطعمون، وتكسوهم مما تكسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم، ومن جدع أنف عبده جدعناه، ومن خصى عبده خصيناه، ومن قتل عبده قتلناه.
وهناك خيارات كثيرة جدا في العتق، فلو حلف سيدك كان من الخيارات المأمور بها في الكفارة العتق، ولو نذر كان كذلك، لو قتل مسلما خطأ كان كذلك، لو ظاهر كذلك، لو واقع في رمضان كذلك، يدخل العتق في الكفارات في كل الأحوال، بل وأكثر من ذلك، بل إن نبينا ﷺ قال: «مَنْ أعتقَ رقبةً مسلِمَةً، أَعْتَقَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ عضْوٍ منها عضْوًا منه مِنَ النارِ، حتى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ»[7].
وقد وردت نصوص عظيمة في فضائل العتق، فأنت ستدخل في مرحلة هي أحسن بلا شك وأفضل من مرحلة القتل، وأنا لست مجبرًا على أن أَمُنُّ عليك بإطلاق سراحك، ولست مجبرًا أيضا بأن أقوم بسجنك سجنًا مؤبدًا فتصبح فيه عالة عليَّ، ولكنك الآن ستصبح عضوًا من المجتمع، تعامل معاملة حسنة، ثم تكون لك أيضا خيارات أخرى، ما هي الخيارات الأخرى؟
الخيارات الأخرى أن يقال: إن كنت رجلا نبيلا وفاضلا وحسن السيرة والسلوك، جاز لك أن تكاتب، تكاتب سيدك بقول الله -عز وجل-: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:33]، وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب ذلك على السيد، يعني: تأتي إلى سيدك فتقول: أكاتبك.
فلو استصحبنا هذه المعاني كلها في موضوع العتق، لَمَا تصورناه بالصورة المعروفة، لأنها ما ثم رق الآن في هذا الزمان أخبث منه وأشنع، وهو استعباد الناس بالأموال!
انظر كيف تستعبد النساء الآن في أماكن كثيرة، وكيف يستعبد كثير من العمال بالأموال حتى يسامون سوء العذاب، والله إن هؤلاء على الرغم من حريتهم إلا أن ما هم فيه من المهانة، وشظف العيش والشدة عليهم، والإهدار لحقوقهم وكرامتهم، أعظم بأضعاف مضاعفة من المماليك الذين كانوا في صدر الإسلام.
فالمملوك الذي كان في صدر الإسلام يصبح صاحب تجارة، ويتزوج ويصبح رجلا وجيها، ويكاتب، ويصبح له أولاد وذرية، ويمشي بين المسلمين لا يؤذيه أحد، ولا يشق عليه أحد، ولكن الآن انظر إلى الذي يصنع مثلا بالنساء في كثير من البلدان التي تزعم التقدم والرقي، انظر للذي يصنع بالعمالة في أماكن كثيرة، مثلا في مناجم الفحم، وأماكن استخراج الذهب والفضة وفي المصانع وفي غيرها، ستجد استعبادًا كاملا، وإهدارًا مطلقًا لحقوقهم، وما يستطيع أحد منهم أن يشتكي، يستعبدونهم استعبادا بهذه المبالغ اليسيرة التي ربما لا يستطيعون فيها أن يطعموا كما يطعموا، ويشربوا كما يشربوا، أقصد سادتهم.
إذا المعنى ليس معنى منكرا، ولكن الباطل يزين بعضه بعضا، والإعلام يستطيع أن يجمل لك صورة سيئة جدا وقاتمة، حتى تكون أجمل ما تكون، ويأتي إلى صورة معقولة، ما نقول إنها صورة جميلة، بلا شك أن الرق ليس أمرا مأمورا به ومتعبدا به، ولكنه أمر نُلجأ إليه من جهة أن هذا الرجل لم يسلم، فإذا لم يسلم هذا الرجل ما الذي يصنع فيه؟ هل يقاتل؟ لم يسلم وقاتل هو وقومه ما كان هناك حل معه إلا أن يسترق.
إذًا الأصل أن الرق أو حاله كما ذكرنا قبل قليل، وليس هو الأصل في الإسلام، وقد جاء الإسلام بأمور كثيرة حتى يعتق وينقذ هؤلاء، لكن هل يقال بمثل ما قال به بعض المبتدعة من أن الرق قد انتهى وانصرف. نقول: لا، إذا لم يكن ثم أمور الآن أو عوامل موجودة تستدعي الرق فالحمد لله، الآن ما نستطيع أن نأتي إلى أناس فنقول: لا أنت كنت رقيقا أو والدك كان رقيقا قبل خمسين سنة، أو مئة سنة، فترجع في رقك. نقول: ما يجوز هذا، وما يجوز أن يُغار على قوم مثلا، ويؤخذ منهم ويقال: هؤلاء من الرقيق، ما دام أن إمام المسلمين لم يعلن الجهاد ضد قوم ما، فالأصل في ذلك أن يقال: لا، ولكن حكمه باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا أمر لا بد أن يقرر في مثل هذه المسألة.
ثم إنَّ الأمر في ذلك أيضا يرجع إلى الإمام، لو أنَّ الإمام قال: إن الله -عز وجل- قد قال في كتابه: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد:4] والأمر متروك لإمام المسلمين، وأنا أرى أن من المصلحة أنه لَمَّا حاربنا -في هذا الزمان على سبيل المثال- قومًا من الأقوام، وانتصرنا عليهم، وكان من بين هؤلاء الأسرى أسرى حرب، لا أريد أن أسترقهم، بل أريد أن أَمُنَّ عليهم، أو أريد أن أفاديهم كان له ذلك، ما دام أنه يرى أن المصلحة في هذا الأمر، فما الذي أستفيده من دخول هؤلاء القوم مثلا في عمق المسلمين، حتى يصبحوا جواسيسا على المسلمين، هذا يجوز، نعم يجوز، الأهم أن لا يعطل هذا الحكم، هذا هو الأصل، أن هذا الحكم باق ببقاء الجهاد في سبيل الله -عز وجل-.
والجهاد باق في سبيل الله إلى أن تقوم الساعة، كما قال النبي ﷺ: «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كَذلكَ»[8]. هذا فيما يتعلق بالرق.
يبقى أن يقال: إن العتق ما دام أنَّ المصنف قال: (كتاب العتق) وقلنا: إن العتق هو فكاك الرقبة وتخليصها من الرق، نقول: إن العتق يحصل بأمور:
الأمر الأول: هو القول، بأن يقول السيد لعبده قد أعتقتك، أو أنت حر، أنت خلي، لا أمر لي عليك، لا طاعة لي عليك، هذه كلها معان أو كنايات يقع بها العتق فهذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: يقع العتق بالفعل، فإذا مَثَّلَ بعبده عتق، فلو جاء سيد فجدع أنف عبده، نقول: يعتق مباشرة، ويخرج منك، لأنه سيئ الملكة، بل قد جاء في حديث سويد بن مقرن أنَّ رجلا منهم صفع جارية له، فسأل النبي ﷺ ما كفارة ذلك؟ قال: «أَنْ تَعتقها»، هذه الحالة الثانية.
الحالة الثالثة: بالملك، كيف؟ إذا اشترى الإنسان ذا رحم محرم منه عتق، فلو أن رجلا اشترى ابنه المملوك، أو ابنا اشترى أباه المملوك عتق، وقد جاء عن النبي ﷺ في حديث صهيب بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- كما أخرجه الإمام مسلم: «لا يَجزِي ولدٌ والِدَه، إلا أن يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه»[9]، فإذا وجد الابن والده مملوكا فاشتراه عتق مباشرة، وإذا عتق كما نقول: تقاص في الحقوق، يعني كأن يقول: حقك أنت الذي على يا والدي بأنك أخرجتني إلى الحياة وأكرمتني، قد كافأتك عليه بأني أعتقتك، وهذا يدل على أن العتق استحياء، وهو استنقاذ للنفس.
ذكر فيها هنا، حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، وحديث ابن عمر -رضي الله عنه- هذا يسمى بعتق السراية، قال ابن عمر -رضي الله عنه-: (قال رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ»)، هذا يدل على ما قررناه سابقا، من أن الشرع يتشوف إلى العتق تشوفا عظيمًا.
ما هي صورة هذا الحديث عن رسول الله ﷺ؟
صورة هذا الحديث أن أتشارك أنا وأنت في شراء عبد ما من العبيد، نشتري فلانا من الناس، عبد من العبيد يباع، لي خمسون ولك خمسون مثلا من هذا العبد؛ لأنه أصبح أشبه ما يكون بالسلعة، فأقوم أنا أو تقوم أنت بإعتاق نصيبك، تقول: قد أعتقت نصيبي، نقول: الحمد لله. نقول لهذا العبد أو لهذا الغلام: قد جاء الفرج، وننظر، هل لك ما تستطيع أن تشتري به نصيبي أنا ولا لا؟ قلت له: أنا رجل موسر، طيب إذا نُقَوِّم هذا العبد قيمة عدل، فنذهب لمن يقيم العبد، ولا نذهب إلى الرجل الشريك، بل نذهب إلى المقيمين، فنقول: كم تقيمونه؟ قال: نقومه بعشرة آلاف ريال مثلا، أو عشرة آلاف درهم.
نقول: إذا أعطني خمسة آلاف درهم ويعتق، تكون ملزمًا. قال: («مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ») الشرك هو النصيب.
(«فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ) عندك خمسة آلاف، التي هي قيمة حصتي.
(«قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ»)، أي: يُقَوَّم العبد قيمة عدل، وما يُقَوَّم باختياري أنا كشريك، ولا يُقَوَّم باختيارك؛ لأنك ستبخسه، وإنما يُقَوَّم بقيمة عدل.
(«فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ») يعني: تعطيني الخمسة آلاف ويعتق عليك. وإذا عَتَقَ عليك أصبح ولاؤه لك، أي: لو أنه مات ولم يكن لديه ورثة كان الولاء لك، أو كان ميراثه لك.
قال: («وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ») إن كان عندك الثمن الذي هو يسمى عتق السرايا، تعتق الباقي. ما عندك، قلت: يا جماعة أنا ما عندي، أي: لا أملك الثمن هذا، نقول: إذًا يبقى العبد على ما هو عليه.
ولكن ها هنا حديث آخر، وهو يسمى بحديث السعاية، فالحديث الأول سراية، والثاني سعاية، وسيذكره المصنف -إن شاء الله عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَن أعْتَقَ شَقِيصًا مِن مَمْلُوكِهِ، فَعليه خَلاصُهُ في مالِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له مالٌ، قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غيرَ مَشْقُوقٍ عليه»)}.
هذا هو حديث السعاية، وقد اختلف فيه العلماء -رحمهم الله- من آخذٍ به، ومن تارك له، والسبب في ذلك أنهم قد اختلفوا في هذا اللفظ وهو: "السعاية"، هل هو من الأحاديث المرفوعة عن رسول الله ﷺ، أو هو من قول من دون النبي ﷺ؟
قال: («مَن أعْتَقَ شَقِيصًا مِن مَمْلُوكِهِ، فَعليه خَلاصُهُ في مالِهِ»)، هذا على حديث ابن عمر، السابق صح؟
قال: («فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ»)، قال في حديث ابن عمر السابق: («فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»)، ولم يذكر السعاية.
وها هنا في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ زاد، فقال: («قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غيرَ مَشْقُوقٍ عليه») يقال للعبد: السيد الذي أعتقك ما يجد المتبقي من قيمتك. المتبقي كم؟ قلنا: إن المتبقي خمسة آلاف، جيد؟ إذًا يا أيها العبد عليك أن تستسعى في هذا النصيب، أي: اعمل وأكسب وأَدِّ إلى السيد الذي لم يعتق نصيبه، فإذا أديت إليه خمسة آلاف فقد أعتقت، وإن عجزت بقيت في الرق.
قالوا: هذا كله من تشوف الشارع، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله- بالسعاية، في حين أن غيره من العلماء -رحمهم الله- ما رأى السعاية.
إذًا الإمام أحمد يقول: تجوز السعاية. طيب لو أن العبد رفض؟ نقول: إذا رفض العبد فما يجب عليه ذلك. كأن قال العبد: لا أريد أن استسعي. فنقول: الأمر متروك للعبد، ولكن إن كان يرغب في ذلك، فإنَّه يجب على سيده.
طبعًا هناك قولان عن أحمد، هل يجب؟ أو يسن؟
القول والرواية الثانية: إنه يسن، الرواية الأولى: إنه يجب.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى الوجوب، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ولعموم قول الله -عز وجل-: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ، وَفِي لَفْظٍ: بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ)}.
هذا باب بيع المدبر، والمدبر هو الغلام المعلق عتقه بموت السيد، بأن يقول السيد لعبده أو لغلامه: إذا مت فأنت حر، هذا يجوز. هل يجوز بيع المدبر؟
الصحيح أنه يجوز بيعه، يعني: لو أنَّ رجلا قال لغلامه أنت حر إن أنا مت، ثم بعد فترة أدركه حاجة فأراد بيعه، فقال الغلام لسيده: يا سيدي كيف تبيعني وأنت قد دربتني؟
نقول: هذا كله معلق بالموت، والموت لم يحصل بعد.
ذكر المؤلف هنا حديث جابر، قال: (دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ، وَفِي لَفْظٍ: بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ) وقد كان الرجل محتاجًا، إما أنه كان غارمًا أو كان أهله في حاجة.
(فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ) فدلَّ ذلك على جواز بيع المدبر كما هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله تبارك وتعالى-.
وبهذا نختم هذا الكتاب الجليل، كتاب (عمدة الأحكام) ونكون قد استعرضنا فيه جملة وافرة من الأحكام السمعية، الواردة عن رسول الله ﷺ، وهي بالمحل الأعلى من أحكام الشريعة، فإن الإمام -رحمه الله- إنما ذكر من ذلك ما صحَّ عن رسول الله ﷺ، مما هو من أصول هذه الأبواب؛ ولأجل ذلك فكل باب من هذه الأبواب، ما رأيت فيه من الأحكام أو من الأحاديث المذكورة في هذا الكتاب فهو عمدة في هذا الباب.
نكتفي بذلك، ونسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم التمام وحسن الختام، وأن يجعل أعمالنا صالحة، ولوجهه خالصة، وأن لا يجعل لأحد فيها شيئًا، والحمد لله رب العالمين.
{أحسن الله إليكم، ورضي عنكم، وشكر لكم، وشكر الله لكم مشاهدينا الكرام على حسن الاستماع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[1] أخرجه أحمد (5667)
[2] أخرجه البخاري (7164)، ومسلم (1045).
[3] أخرجه البخاري (6914).
[4] أخرجه مسلم (1064).
[5] أخرجه البخاري (7432)، ومسلم (1064)
[6] أخرجه البخاري (6567).
[7] أخرجه البخاري (6715)، ومسلم (1509).
[8] أخرجه مسلم (1920).
[9] أخرجه مسلم (1510).