{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي، يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياك الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{هل تأذن لنا أن نبدأ شيخنا؟}
نعم، نبدأ على بركة الله، بسم الله.
{قال: المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ -وَفِي رِوَايَةٍ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا- فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ: فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَلَا سُكْنَى، فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ»، ثُمَّ قَالَ: «تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي». قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»، فَكَرِهَتْهُ ثُمَّ قَالَ: «انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»، فَنَكَحَتْهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطَتْ بِهِ)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- في (كتاب الطلاق) هذا الحديث، وهو حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-.
وغرض المصنف -رحمه الله- بإيراد هذا الحديث في هذا الكتاب، مع أنَّ الأولى به أن يُورده في (كتاب العدد)؛ لأنه مما يتعلق بحالة المرأة في العدة، وهذا الحديث من أصول أبواب العدة، ولكن المصنف -رحمه الله- إنما أورده في (كتاب الطلاق) ليستدل به على مسألة مشهورة، وهي مسألة الطلاق الثلاث، وهل يجوز إيقاع الطلاق ثلاثًا؟ وإذا حصل وأوقع الرجل الطلاق ثلاثًا فهل يقع أو لا؟
قال ها هنا: (إنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ) هذا هو زوج فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-، وأبو عمرو بن حفص مخزومي من كبار الصحابة -رضي الله عنهم-، طَلَّقَ فاطمة بنت قيس، وهي أيضًا مخزومية قرشية، (طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ) وهذا هو الشاهد الذي أورد المصنف الحديث من أجله.
قال: (أَلْبَتَّةَ)، فَفَهِمَ منه بعض العلماء أنه طلقها ثلاثًا؛ لأنَّ (أَلْبَتَّةَ) لا تقع إلا بطلاق الثلاث، والطلاق البات هو الطلاق البائن، أي: الطلاق الذي لا رجعة فيه، فالطلاق لا يسمى باتًا إلا إذا كان بائنًا.
الأصل في الطلاق أنه لا يقع طَلاقَ بَتَّةٍ إلا في حالتين بوجه عام، نعم هناك حالات أخرى، ولكننا ما نريد أن ندخل فيها، ولكن الحالتين الأساسيتين في وقوع طلاق (أَلْبَتَّةَ) هما:
- أن يطلقها قبل الدخول، فإذا طلقها قبل الدخول ولو طلقة واحدة، كان طلاقًا باتًا، وليس هناك عدة.
- الحالة الثانية أن يطلقها أخر ثلاث طلقات، فإذا طلقها الطلقة الثالثة؛ أصبح طلاقًا باتًا، هذا هو الأصل.
لكن لو أنه جمع الطلاق الثلاث مرة واحدة، فبعض العلماء -وهذا قول المذاهب الأربعة-قالوا: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثًا، ولم يكن قد طلقها قبل، فإنَّ الطلاق الثلاث يقع عليها، ويصبح طلاقًا باتًا، وهو ما يُسمى عندهم بالطلاق البائن أو طلاق البتة.
وأورد هنا أنَّ أبا عمرو بن حفص (طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ)، وفي الرواية الأخرى: (طَلَّقَهَا ثَلَاثً) قالها هنا: (وَفِي رِوَايَةٍ: طَلَّقَهَا ثَلَاثً) وليس من عادة المصنف أن يعرض للروايات المختلفة إلا إذا كان له هدف من ذكرها، وهدفه ها هنا أنه يريد أن يُبين أنَّ الطلاق الثلاث إذا حصل فإنه يقع، هذا هو غرضه كما هو قول المذاهب الأربعة، يقع كم؟ قالوا: "يقع ثلاثًا"، والحقيقة أنَّ هذا المعنى ليس صحيحًا لماذا؟
لأنه يفسرها الرواية الثالثة، أنه أرسل إليها بتطليقة كانت قد بقيت عليها، فإذًا لَمَّا أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت عليها، معناه: أنه قد طلق قبل طلقتين، وهذا هو الطلاق الشرعي؛ لأنَّنا إذا قلنا: إنَّه طلقها البتة أو طلقها ثلاثًا، فمعنى هذا أننا اتهمنا الصحابي بأنه مخالف لأمرٍ الله؛ لأنَّ جماهير العلماء على أنَّ جمع الطلاق الثلاث إمَّا مكروه، وإمَّا محرم.
ولهذا قال النبي ﷺ لمن طلق ثلاثًا: «أيُلْعَبُ بكِتابِ اللهِ وأنا بينَ أظهُرِكُم؟» ، فأشار إلى أنَّ من العبث واللعب بكتاب الله -عز وجل- أن يجمع الرجل الطلاق الثلاث بلفظ واحد، أو في مجلسٍ واحدٍ.
إذًا يتبين لنا من ذلك أنَّ المعنى الذي ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث لأجله ليس معنى مُسلمًا، وإنما هي تطليقة ثالثة قد بقيت من تطليقتين قبلها.
فإذًا هي طلقة واحدة، ولكنها كانت هي الطلقة الثالثة الباتة، وأخبر بعض الرواة أنه طلقها ثلاثًا باعتبار أنَّ الطلقة الأخيرة هي الطلقة الباتة، وكذلك من قال: طلقها البتة.
إذًا، إذا طلقها ثلاثًا، فقد أصبحت مُطلقة بائنا، وإذا كانت مطلقة بائنا فما الواجب تجاه ذلك؟ من المعلوم أنَّ المطلقات على نوعين:
- المطلقة الرجعية.
- المطلقة البائن.
المطلقة الرجعية: هي المطلقة الطلقة الأولى وفي الطلقة الثانية، وهي كل امرأة يملك زوجها رجعتها من غير عقد، والمطلقة الرجعية تعد زوجة، ما معنى هي زوجة؟ بمعنى أنه يجوز لها أن تمكث في بيت زوجها، وأن تنام على فراش زوجها، وأن تتزين لزوجها، وأن تكشف له، لماذا؟ لأنها لا زالت في عصمته.
وإذا كان كذلك، فإن الله -عز وجل- عدل، لَمَّا حبسها ثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر على زوجها؛ لأنها ثلاث حيض إذا كانت تحيض، وإذا لم تكن تحيض فإن لها ثلاثة أشهر، أوجب على زوجها السكنى والنفقة.
فهي زوجة لك الآن، وهي محبوسة عليك، وإذا كان كذلك؛ فإنه يجب عليك أن تنفق عليها وأن تسكنها، ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق:6]، فإذًا يجب عليك أن تسكنها، ويجب عليك أيضًا أن تنفق عليها، هذه في المطلقة الرجعية.
أمَّا المطلقة البائن: فلم يعد لك عليها سلطان، فإذا طلق الرجل امرأته الطلقة الثالثة فقد أصبحت أجنبية، وأصبح التعامل بينها وبين زوجها كتعامل المرأة الأجنبية مع الرجل الأجنبي، فما يجوز له أن يخلو بها؟ ولا يجوز لها أن تسكن معه في دار يحصل بينهما خلوة، وأيضًا لا يجب عليه إسكانها، ولا يجب عليه الإنفاق عليها إلا في حالة واحدة، وهي: إذا ما كانت حاملًا ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:4]، ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:6] لماذا؟
ما تنفق عليها لأجلها، لأنه لم يعد بين الرجل وبينها شيء، وإنما تنفق عليها لأجل ما في بطنها من الحمل، هي الآن تتغذى، وتُغذي هذا الجنين، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى.
الحاصل أن فاطمة -رضي الله عنها- قد طلقت طلاقًا بائنًا، فلما طُلقت طلاقًا بائنًا أرسل إليها زوجها بشعير، بوسق أو صاع شعير، وكان هذا هو طعامهم، أرسل إليها بشيء من الشعير حتى تطعمه، وقد كان هذا منه تفضلًا، والْكُمَّل من الرجال، حتى وإن تصارعوا مع زوجاتهم، حتى وإن حصل بينه وبين زوجته الطلاق، إلا أنه كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة:237]، وحسن العهد من الإيمان، فما ينسى ما كان بينه وبينها من العشرة، وما كان بينه وبينها من الولد، حتى لو طلقوا.
وأعظمهم منزلة عند -عز وجل- أكثرهم تفضلًا على صاحبه، وأقربهم من الله -عز وجل- منزلة أعفهم في لسانه عن صاحبه، وكلما كان عفيفًا عن صاحبه كان أقرب إلى الله -عز وجل-، لأنه سيقع بين الإنسان وبين زوجته أحيانًا نوع من الضيق والمحنة والشحناء وما إلى ذلك التي أفضت إلى الطلاق.
فإذا حصل الطلاق فالواجب ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء:130]، ينصرف الإنسان إلى دربه وإلى طريقه، ولا يذكر صاحبه إذا ذكره إلا بالخير، أو على الأقل يحبس لسانه عنه، فإن كان ذا فضل تفضل، ومن تَفَضَّلَ تَفَضَّلَ الله -عز وجل- عليه، وكان أقرب إلى الله -عز وجل- من صاحبه، فكان أبو عمرو -رضي الله عنه- من أصحاب المروءات، فلمَّا حصل الطلاق قال: هذه امرأة مسكينة، وقد تمكث شهرين أو ثلاثة إلى أن تجد زوجًا، فأرسل إليها بشعير فسخطته، وسخطته يعني: كرهته وردته، وكانت تظن أنَّ لها النفقة، فكأنها تقول له: أتجمع عليَّ سوء الكيلة والحشف! يعني تطلقني وترسل إليَّ بشيء من شعير!
فقال: والله ما لك علينا من شيء، أي: ما يلزمني شيء، ولكن هذا من باب الفضل، فقالت هي -كما في بعض الروايات-: إن كان حقي فإني سآخذه وافيًا، وإن لم يكن حقي فلا حاجة لي فيه.
(فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ»)، وفي بعض الروايات: («وَلَا سُكْنَى»)، فثبت بذلك هذا الحكم الشرعي الذي خفي عن بعض كبار الصحابة، حتى خفي عمن؟
خفي عن عمر -رضي الله عنه- الذي هو من أئمة المسلمين، فكان عمر -رضي الله عنه- يوجب النفقة والسكنى للمطلقة البائن، لماذا؟
لأنَّ الله -عز وجل- قد قال في كتابه: ﴿يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق:1]، قال: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ فهذا حكم عام، وظن عمر -رضي الله عنه- أنَّ المعنى يشمل كل المطلقات، ولو لم يكن ثَمَّ من رسول الله ﷺ بيان، لكان قول عمر هو القول الوجيه، ولهذا لَمَّا جاء من احتج على عمر -رضي الله عنه- بحديث فاطمة بنت قيس قال: "والله لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري لعلها ذكرت أو نسيت"، فكانت فاطمة فقيهة من فقيهات الصحابة، فقالت: بيني وبينكم كتاب الله.
إن الله -تبارك وتعالى- قد قال في هذه الآية: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق:1]، فأي أمر يحدث بعد الطلاق الثلاث؟
﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ ما هو الأمر؟
الأمر هو المراجعة، والأُلْفُ الذي يكون بين الزوجين، فدلَّ ذلك على أنَّ هذه الآية ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق:1] إنما نزلت في المطلقة الرجعية، لماذا؟ لأنَّ الله قد قال في آخرها: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾.
أمَّا المطلقة البائن فليس لها أمر يحدث بعد ذلك إلا القطيعة، ولا ترجع إليه إلا بعد أن تنكح زوجًا غيره، وإذا كان كذلك فما وجه مقامها معه في بيته؟
فكان القول قول فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-، وكان المذهب هو مذهب أحمد -رحمه الله-، فإنه أصح المذاهب الأربعة في مثل هذه المسألة، فإنه قد أسقط السكنى والنفقة على المطلقة البائن إلا إذا كانت حاملا.
قال: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ)، إذًا المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى، لماذا؟ لأنها ليست محبوسة على حق الزوج، وإنما هي الآن محبوسة على حق الله، عدة واستبراء وتعظيمًا لأمر الطلاق، ولكن الزوج ما يستطيع أن يصنع شيئًا، ولو أراد أن يرجع إليها وبموافقة أوليائها كلهم، وبشهادة أهل الأرض جميعًا ما استطاع أن يرجع إليها حتى تنكح زوجًا غيره.
وبناء عليه، فإنه لا يُشرع للمرأة المطلقة طلاقًا رجعيًا أن تخرج من بيتها، إلا إذا كان الطلاق برغبتها من جهة أنها تفرك الرجل، تقول: أنا لا أطيقك، والله ما بيدي شيء، وإنما حالي كحال جميلة، التي قالت: "ما أعْتِبُ عليه في خُلُقٍ ولَا دِينٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ في الإسْلَامِ" ، يعني: كفران العشير، "والله يا رسول الله لا أطيقه بغضًا".
فإذا كانت كذلك نقول: هذه وهي زوجة له ما تستطيع أن تمكث معه، فكيف الحال بها إذا طلقت؟
والأفضل أن يقال لها: احتسبي واصبري، إنما هي ثلاث حيضات ثم تخرجي، ولكن فيما سوى هذه الحالة نقول: لا.
ولا يجوز للرجل أن يخرجها من بيته، ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق:1]، ما يجوز للرجل أن يخرجها من بيته إلا إذا كانت قد وقعت في الفاحشة.
فإذا هذا الحكم أيضًا للسناء والرجال، يقال للمرأة: لا تخرجي من بيتك، ويقال للزوج: لا تخرجها، لعل الله أن يؤلف بينكما.
والحق يا أخوان ويا أخوات أنَّ مَنْ فَقَهَ المنهج الشرعي في الطلاق، وعمل به كما أمر الله به عز وجل، فإنه لا يندم على طلاقه أبدًا، لا يمكن لرجل يُطلق امرأته طلقة في طهر لم يجامعها فيه، وهذا أيضًا له معنى؛ لأن طلاقها في الحيض تطويل عليها، لأنه حينما يقع الطلاق في هذا الحيض لا تحتسب من عدتها، وطلاقها في الطهر الذي جامعها فيه، أحيانًا تقل رغبة الرجل فيها، لأنه حديث عهد بها، ولكن إذا قيل له: انتظر حتى تحيض ثم تطهر، فإنها إذا حاضت وطهرت ربما رجعت إليه رغبته.
فإذًا لا يُطلق رجل امرأة في طهر لم يجامعها فيه، ثم يتركها معه في بيته حتى تنقضي الثلاثة أشهر، ثم يراجعها مثلًا قبل انقضائها أو حتى تنقضي الثلاث الحيض، ثم يراجعها قبل انقضائها، ثم يعود مرة ثانية فيطلقها بعد فترة من الزمن، ثم يجلسها معه في بيته، ثم يراجعها، ثم يرجع بعد فترة من الزمان فيطلقها الثالثة، فتتبعها نفسه أبدًا، ولهذا قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "لو أنَّ الناس أطاعوا فيما أمر الله -عز وجل- ما تبعت نفس رجل امرأة"، يعني: في الطلاق كثير من الناس يطلق ثم يأتي فيندم ويحزن حزنًا عظيمًا، لماذا؟
لأنه خالف الله -عز وجل-، إمَّا بأنه جمع الطلاق الثلاث فذهب إلى مفتي فأوقعها عليه، وإمَّا لأنه كان يُطلق ثم يطردها من بيته، ثم يراجعها فيما بعد، إما بعقد جديد أو نحو ذلك، ثم يصنع أيضًا نحو ذلك.
ولو أنه عمل ما أمر الله -عز وجل- به ما تبعته نفسه، وأصبح كل واحد منهما قد مَلَّ من الآخر وأعذر إليه، وهذا مثل الرجل الذي يقول لابنه: أدبتك المرة الأولى فلم تتأدب، وأدبتك المرة الثانية فلم تتأدب، فلم يبقَ إلا الضرب الشديد، أو لم يبقَ إلا الكي والمعالجة القاسية، وهذا هو الأصل في الطلاق.
قال: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ)، العدة هي تربص المرأة المطلقة مدة من الزمن، الزوجة المفارقة سواء في حياة أو موت تتربص مدة من الزمن، وهذه هي العدة، والعدة إمَّا أن تكون عدة في الموت، وإمَّا أن تكون عدة في الحياة، والعدة في الحياة تكون من الطلاق، أو من الفسخ ونحو ذلك، فإذًا النبي ﷺ أمرها أن تعتد. فما هي عدتها؟
نقول: إن كانت المرأة حاملًا فعدتها بوضع حملها، طال الحمل أو قصر، صار الحمل تسعة أشهر، أو صار الحمل ثلاثة أيام، فلو أنَّ رجلاً كانت امرأته حاملاً في الشهر التاسع فطلقها، نقول: الطلاق صحيح، وهو طلاق سني، وليس طلاقًا بدعيًا، لماذا؟ لأنَّ طلاق المرأة الحامل من أصح الطلاق، لماذا؟ لأنَّ عدتها مُستبينة.
فإذا طلقها وهي حامل ما العمل؟
العمل متى ما وضعت فقد حلت، حتى ولو وضعت من الغد.
ومن الطرائف أنَّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط -رضي الله عنها- وكانت من المهاجرات التي هاجرن في صلح الحديبية، وفيها أنزل الله -عز وجل- قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾ [الممتحنة:10]، وهذه جاءت مهاجرة إلى النبي ﷺ فلم يردها النبي ﷺ.
هذه المرأة لَمَّا جاءت كانت عاتقًا، وعاتق يعني عمرها: سبعة عشر سنة، أو ثمانية عشر سنة، فتزوجها الزبير بن عوام -رضي الله عنه- على أسماء بنت أبي بكر ففركته، يعني: أبغضته، ما أحبته، وكان الزبير -رضي الله عنه- شديدًا، لا تصبر عليه النساء، فكانت تطلب منه الطلاق فيأبى، وتطلب منه الطلاق فيأبى، فحملت منه وأخفت حملها عنه، إمَّا أنها شدت بطنها، ربما كانت سمينة، فالمرأة إذا كانت سمينة ما يستبين حملها، حتى إذا كان قريبًا من وضعها، ما لم يبق على وضعها إلا سويعات.
قالت لزوجها الزبير بن عوام: "طَيِّب نفسي بتطليقة". قال: طلقة ويطيب خاطرك؟
قالت: نعم. فقال لها: أنت طالق، "فطلَّقها تطليقةً"، ثم خرج يُصلي ويسمر مع أصحابه، فلم يرجع إلا وقد وضعت، فقال: خدعتني خدعها الله، الآن خرجت منه، وانقضت عدتها بوضع هذا الحمل، فجاء إلى النبي ﷺ يشكو إليه، فضحك النبي ﷺ وقال: «اخطِبها إلى نفسِها»، فهي قد خرجت منك الآن.
فخطبها فرفضت، وتزوجت بعده ما قيل، طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهم أجمعين-
وهذا يدل على أنَّ عدة الحامل هي: وضع الحمل، وليس كما قال بعض الصحابة، ومنهم علي، وهذه من المسائل القليلة التي أخطأ فيها عليٌّ، فإنَّ عليًا وابن عباس كانا يقولان: تعتد بأبعد الأجلين.
يعني: إمَّا أن تعتد بثلاث حيضات، أو بثلاثة أشهر، أو أربعة أشهر وعشرة، أو أن تعتد بوضع حملها، ففي مثل حالة أم كلثوم رضي الله عنها، لو كان الحكم لـ "عليٍّ وابن عباس" -رضي الله عنهما- لقالا: لم تخرج عدتها بعد، لماذا؟ لأنه باق لك ثلاث حيضات، أو ثلاثة أشهر، لماذا؟ لأن هذا أبعد الأجلين.
ولكن الصحيح خلاف ذلك، لحديث سبيعة الأسلمية الذي سيأتينا -إن شاء الله عز وجل- بعد قليل.
قال: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ)، هذا هو الأصل في عدة المرأة الحامل، وأمَّا المرأة غير الحامل فإنَّ لها حالين اثنين:
الحالة الأولى: أن تكون ممن يحيض، فعدتها بثلاث حيض مستقبلات، كيف بثلاث حيض مستقبلات؟ يعني لو أنه أوقع الطلاق وهي حائض، فإنَّ هذا الحيض الذي وقع فيه الطلاق، لو قلنا بإيقاع الطلاق في الحيض، فإنه لا يُعتد به ولا يحتسب، أي: لا يعتد بهذه الحيضة، وإنما تحتاج إلى أن تستقبل ثلاث حيض.
ومن أجل ذلك قال العلماء: الطلاق في الحيض طلاق بدعة، لماذا؟ لأنه تطويل على المرأة، فأنت حرمتها الآن من حيضة كاملة كانت تعتد فيها، بدل ما أن تعتد بثلاث حيض -قد تكون ثلاثة أشهر- أصبحت الآن تعتد بأربعة أشهر.
فإذًا أن تكون مما تحيض فعدتها ثلاث حيض، فإذا طهرت من حيضتها الثالثة خرجت من العدة، وليس كما يظن بعض الناس أنَّ عدتها ثلاثة أشهر!
بعض الناس يفهم أنَّ العدة إنما هي الأشهر، وهذا غير صحيح، بل العدة إنما هي الحيض لمن تحيض، فأمَّا من لا تحيض كأن تكون المرأة قد ارتفع حيضها لأمر ما، أو تكون امرأة يائسة، يعني: بلغت سن اليأس، خمسة وأربعين أو خمسين أو خمسة وخمسين فانقطع حيضها، فعدتها هنا ثلاثة أشهر هجرية.
فإذا طلقها في اليوم الخامس عشر، انقضت عدتها في اليوم الرابع عشر من الشهر الثالث، أي: بانتهاء يوم الرابع عشر ودخول الخامس عشر تكون قد انقضت عدتها. هذه هي العدة.
قال: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ)، وأم شريك هذه من سروات نساء الصحابة -رضي الله عنهم-، وهي التي على ما قيل: وهبت نفسها للنبي ﷺ فلم يتزوجها، ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب:50]، هذه على ما قيل عند العلماء: إنها أم شريك -رضي الله عنها-.
وكانت امرأة برزة، وبرزة يعني: تخرج للرجال وتضيفهم بسلامة، فأمرها أن تعتد في بيتها.
(ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي)، يعني: كان الصحابة -رضي الله عنهم- يذهبون إليها ويسلمون عليها، وكان مجلسهم عندها، يجلسون فتضيفهم، ولكن لا يختلون بها -أي لا توجد خلوه- وإنما الجلوس، ويغشاها أصحابي يعني: يتردد عليها الصحابة -رضي الله عنهم- وهذا يدل على أنَّه لا بأس للمرأة أن تخدم الرجال، إن كانت متعففة فما في ذلك بأس، بل قد ورد في حديث أبي أُسيد في صحيح الإمام البخاري، أنه تزوج امرأة فدعا النبي ﷺ إلى زواجه، فكانت عروسه هي خادمة، فكانت تُسقيهم، وليس هناك بأس للمرأة إذا كانت متحشمة أن تسقي الرجال.
إذًا قال: (تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ)، وهو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، الذي أنزل الله -عز وجل- فيه سورة "عبس وتولى"، وهو من كبار أصحاب النبي ﷺ، وقد استشهد -رضي الله عنه- في غزوة القادسية، كما هو معلوم.
قال: (فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي)، أ رجل أعمى لا يراك.
وقوله: (تَضَعِينَ ثِيَابَكَ) ليس المراد به التعري، بل المراد أنَّ المرأة إذا خلعت نقابها، وأبقت عليها ملابس البيت، لم يراها، وفي هذا دلالة على أنَّ حديث «أَفَعَمْيَاوَانِ أنتُما لا تبُصرانِهِ» حديث لا يصح، وفيه ابن أم مكتوم دخل على النبي ﷺ، فأمر النبي ﷺ بعض نسائه بأن تحتجب وكانت اثنتان، فقالتا له: يا رسول الله كيف نحتجب منه وهو أعمى لا يرانا؟ فقال: «أَفَعَمْيَاوَانِ أنتُما لا تبُصرانِهِ»، يعني: إذا كان هو لا يراكم فأنتم ترونه. نقول: هذا حديث لا يصح ولا يثبت عن النبي ﷺ، وهو مخالف للمعروف من جواز نظر المرأة إلى الرجال، ولكن لا يكون نظر شهوة؛ لأن الله -عز وجل- قد أمر النساء بغض الأبصار، ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور:31]، فالمرأة تغض من بصرها بأن لا تنظر إلى الرجل بشهوة.
والأصل في الرجل أنه لا ينظر إلى المرأة مطلقًا، والأصل في المرأة أنه يجوز لها أن تنظر إلى الرجل، لأنه لو لم يجز لها ذلك لَأُمِرَ الرجال بالحجاب كما أُمِرَت به النساء، ولكن إنما تؤمر المرأة بأن تغض بصرها عن الرجال إذا كان لها تشوف للرجال.
يعني: ما تنظر إلى الرجل لترى مثلًا نوع من اللعب، أو نوع من العرض، أو تعرف وجه، وإنما ترغب فيه، فيقال ها هنا: لا، بل تؤمر المرأة بأن تغض بصرها.
إذًا القاعدة في نظر المرأة للرجال -لأنها من أهم ما يقعد للأصل- والحمد لله قاعدة نظر الرجل إلى المرأة ظاهرة، وهو أنه لا يجوز للرجل أن ينظر للمرأة مُطلقًا، لا بشهوة ولا بغير شهوة، هذا هو الأصل، وأمَّا المرأة فيقال لها: يجوز لك أن تنظري إلى الرجال إلا إذا كان بك تشوف للرجال، والإنسان على نفسه بصيرًا.
فكل إنسان يعلم نفسه، وكل امرأة تعلم نفسها، هل هي تتشوف للرجال؟ وهل تنظر وتقارن وتقول: هذا جميل، وهذا وسيم، وهذا أطول، وهذا أقصر، وهذا عنده كذا! إذا أنت امرأة وكنت لا تنظرين للرجال النظر التقليدي أو النظر العادي، وإنما تنظرين للرجال لأمر من وراء ذلك، فأنت ممن تؤمر بغض البصر، وأما إذا كانت امرأة كما نسميها نحن امرأة ساذجة، والسذاجة في المرأة صحيحة، لا نقصد بذلك السذاجة المفهومة عند الناس، بل نقصد بذلك سلامة القلب، كما قال الله -عز وجل- في كتابه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ﴾ [النور:23] سماهم غافلات، لأنَّ المرأة تمدح بالغفلة، ما معنى الغفلة؟ ما معنى أن المرأة غافلة؟
ليس المعنى أن فيها شيئًا من الشر، بل المعنى أنها لا تعرف الفحشاء، ولا تعرف المنكر، فإذا كانت المرأة كذلك قيل: الحمد لله، وإذا كانت المرأة عندها شيء من التشوف للرجال فيقال لها: الأصل في ذلك أن تمنعي من النظر إلى الرجال.
قال: (تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ)، يعني: تتبدلين عنده، ولا يضرك ذلك إن شاء الله.
ولا يفهم من ذلك أنَّها كانت تخلو بابن أم مكتوب؛ لأنَّ الأمر في الخلوة عام، وما هو مقيد بالأعمى ولا بغيره، بل الأصل أنَّ ابن أم مكتوم كان عنده أهله وزوجه، ولا يتصور أنَّ النبي ﷺ يأتي إلى هذه المرأة الشابة، التي يريد أن يخطبها بعد قليل لأسامة بن زيد، حِبه وابن حبه، فيأمرها أن تذهب إلى ابن أم مكتوم، وتُعرض ابن أم مكتوم للفتنة، وتعرض نفسها للفتنة، معاذ الله، معاذ الله.
والنبي ﷺ هو الذي قال: «ألَا لا يَخْلُوَنَّ رجُلٌ بامرأةٍ لا تَحِلُّ له؛ فإنَّ ثالثَهما الشَّيطانُ» ما خصها بأعمى، أو صحابي، أو بصير، بل هو قالها للصحابة -رضي الله عنهم-.
إذًا الأصل -والظاهر والله أعلم- أنَّ ابن أم مكتوم -رضي الله عنه- كان ها هنا معه أهله، فلا يُخشى من الْخَلوة.
قال: («تَضَعِينَ ثِيَابَكَ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي»)، هذه من التعريض للخطبة، والتعريض بالخطبة جائز عند العلماء، ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ﴾ [البقرة:235]، والتعريض للخطبة يُقابل التصريح، والتصريح أن يقول الرجل للمرأة المطلقة الرجعية والبائن: أريد أن أتزوج بك، أريد أن أتزوج بك، وهذا ما يجوز، والتعريض أن يقول المرأة البائن: "إذا حللت فبلغيني"، "إنَّ لي فيك رغبة"، "إني فيك لراغب"، "ما مثلك يُرغب عنه"، فأنت ما خطبت، وأنت ما صرحت، ولكن عرفت.
وأمَّا الرجعية فلا يجوز حتى التعريض لها، لماذا؟
لأنها لا زالت على ذمة الزوج، تأتيك امرأة مطلقة رجعية وتقول: كوني بعيدة عن زوجك حتى إذا فرغت؛ فإن لي فيك حاجة. هذا ما يجوز شرعًا.
لا يجوز للمطلقة الرجعية لا التصريح ولا التعريض، وإنما يجوز التعريض للمطلقة البائن، ومن ذلك قول النبي ﷺ: («فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي»)، وإذا حللت يعني: إذا فرعت من عدتك، فآذنيني وأعلميني، يعني: لا تقدمي على شيء، وهذه إشارة من النبي ﷺ إلى نوع من الخطبة، ولا يبعد أن تكون فاطمة قد تشوفت إلى أن يكون النبي ﷺ هو من يخطبها.
قالت: (قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي)، والحقيقة أنَّ من محاسن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا لا يأنفون من الزواج بالمرأة المطلقة، وهذا من الأمور -للأسف- التي نفتقدها في هذا العصر، بل سنرى الآن بعد قليل أنَّ أسامة بن زيد كان عمره سبعة عشر عامًا، يعني في ريعان شبابه، وهي أول امرأة يتزوجها، ومع ذلك فإنه تزوج امرأة تكبره وامرأة ثيب، ما قال: لا، لابد أن أتزوج بكرًا، ولابد أن أبحث عن بكر، لا. الصحابة -رضي الله عنهم- ما كانوا يبحثون عن الأبكار بقدر ما كانوا يبحثون عن المرأة المنجبة، والمرأة الرشيدة، والمرأة العاقلة، ولهذا قال جابر -رضي الله عنه- لما قال له النبي ﷺ: «أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَهَا، أَمْ ثَيِّبًا؟» ، وجابر ذاك الوقت كان ابن عشرين عامًا.
قال: بَلْ ثَيِّبًا. قال النبي ﷺ: «فَهَلَّا بكْرًا تُلَاعِبُهَا وتُلَاعِبُكَ؟» قال: يا رسول الله إن أبي توفي وقد ترك تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن امرأة خرقاء تكون مثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتمشطهن، فقال النبي ﷺ: «بارك الله لك وأحسنت».
وها هنا الآن أسامة وفاطمة حَلَّتْ، فتسابق إليها الصحابة -رضي الله عنهم-، هل تسابقوا إليها مع قلة الإبكار؟ نقول: لا، الأبكار كن يملئن البيوت في ذلك الزمان، ولكنهم ما كانوا يهتمون بالبكر، بل كان الرجل يهتم بالمرأة وعقلها، ولهذا كانت هناك من النساء من لا تكون شاغرة أبدًا، كلما طلقت أو تُوفي عنها زوجها؛ تزوجها رجلا آخر.
ومن أمثال ذلك: أسماء بنت عميس، فإنه كان يتسابق إليها الرجال، ما يتسابقون إليها فقط لجمالها، لا، بل يتسابقون إليها لمعان أخرى.
من أهمها كمال عقل المرأة، ومن أهمها نجابة المرأة في نفسها وفي أولادها، ولهذا كان الأجداد إلى زمنٍ قريبٍ يبحثون عن المرأة المنجبة، ولا يقصدون بالمرأة المنجبة المرأة التي تأتي بذكور وغيرها، لا، وإنما يقصدون بذلك المرأة التي إذا أنجبت أنجبت رجالاً يُعتد بهم، ولهذا أسماء بنت عميس كل من أنجبته هم من علية القوم، فإنه قد كان أول من تزوجها وكانت بكرًا جعفر -رضي الله عنه-، وأنجب منها ثلاثة، قد كانوا من كبار السادة، عبد الله بن جعفر، الذي كان من سادات المسلمين، ومحمد بن جعفر، وعون بن جعفر، وكلهم كانوا من سادات الصحابة -رضي الله عنهم-، من أبناء جعفر.
فلما استشهد جعفر -رضي الله عنه- وتوفاه الله -عز وجل- في السنة الثامنة، وهي سنة مؤتة، فما أن حَلَّتْ أسماء بنت عميس حتى خطبها الصديق الأكبر -رضي الله عنه-، وتزوجها الصديق، وضمَّ إليه أبناء جعفر، فكان هو الذي يرعاهم، وأنجب منها محمد بن أبي بكر الذي كان من أشهر أبناء الصديق -رضي الله عنه-، وكان له مكانة، وتولى إمرة مصر، على شيء كان فيه -رضي الله عنه-، ثم ما أن توفى الله الصديق -رضي الله عنه-، وَحَلَّتْ أسماء حتى تزوجها علي -رضي الله عنه-، وبقيت مع عليٍّ زمنًا طويلًا حتى استشهد -رضي الله عنه- فلمَّا خطبها بعد ذلك الرجال كانت قد كبرت في السن.
ومنهم عاتكة بنت زيد، وهي أخت سعيد بن زيد -رضي الله عنهما-، فإنها أيضًا ممن كان يتسابق عليها الرجال.
إذًا الصحابة -رضي الله عنهم- ما كانوا يتهيبون من الزواج بالمطلقة أبدًا، بل على العكس من ذلك.
قال: (فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»)، وهذا فيه دلالة على أنه يجوز الكلام في الرجل إذا كان من باب النصيحة، وهذا من عُمَدِ الأحاديث في هذا الباب، فالنبي ﷺ تكلم في أبي جهم بما يسوءه، ولكنَّ ذلك لم يكن من باب الغيبة، بل هو من باب المشورة والنصيحة.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»)، وقال بعض العلماء: إنَّ هذا قد يكون إشارة إلى كثرة أسفاره، وقال بعض العلماء: بل الظاهر من هذا أنه إشارة إلى سوء خلقه، وأنه كان شديدًا للنساء ضَرَّابًا لهن، وهذا هو الظاهر لأنه هو الأليق بحال المرأة، فالمرأة لماذا تخاطب بأن زوجها كثير الأسفار.
أصلًا في عهد النبي ﷺ كان الغالب على الصحابة كثرة الأسفار، في الحج والجهاد والغزو وما إلى ذلك، فمن عادة العرب الأول كثرة الأسفار خاصة القرشيين، ونحن نتكلم عن امرأة قرشية، وقد كان عندهم رحلة الشتاء والصيف، فإذًا الظاهر -والله أعلم- أنَّ قوله: («أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ») إنما يريد به إنما يريد به شدته على النساء.
قال: («وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ»)، وسبحان من يُعز من يشاء ويذل يشاء، يتكلم النبي ﷺ الآن على معاوية -رضي الله عنه-، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة، ويقول: («وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ»)، أي ما عنده شيء، والصعاليك العرب هم الفقراء، المعدمين، وهذا دلالة -معاشر الإخوان والأخوات- على أنه يجوز رد الرجل للصعلكة، يجوز رد الرجل إذا خطب الرجل امرأة، فسئل ما هو عيشك؟ ما معاشك؟ قال: ما عندي أنا يرزقني الله، تقول المرأة: لا، قال: يا أختي ألم يقل النبي ﷺ: «إذا جاءَكُم من تَرضونَ خلقَهُ ودينَهُ فزوِّجوهُ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» فتقول له: إنما حالك كحال معاوية الصعلوك الذي لا مال له، وقد سوغ النبي ﷺ لفاطمة رده، فيجوز رده، ولكن الأصل في ذلك أن لا يتوسع في هذا الباب، أن لا تجعل المادة هي الغرض، بل يقال: إن الأصل في ذلك أن من وجد كفاف العيش فإنه يزوج لأن له مال، وكل إنسان عنده مرتب يستطيع أن يعيش منه نفسه وزوجه، فهذا يزوج ولا يُشرع رده.
وقد مضى بمعاوية -رضي الله عنه- العمر حتى أصبح خليفة للمسلمين، وأصبح أثرى الصحابة -رضي الله عنهم- من غير مدافع، أصبح يملك الخلافة الإسلامية كلها.
إذًا المرأة ما تأنف من أن يقال لها إذا تزوجت هل تزوجت فقيرًا؟
سيوسع الله -عز وجل-، فإن الزواج مما يجلب الرزق، وثلاثة حق على الله -عز وجل- أن يغنيهم أو أن يعينهم وذكر منهم «والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ» .
قال: («انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»)، يعني: تزوجي أسامة بن زيد، وأسامة بن زيد هو ابن حارثة الكلبي، وزيد -رضي الله عنه- قد كان من العرب الصحاح؛ فإنه من كلب، وكلب قبيلة عربية مشهورة، ولكنه قد سُرِقَ صغيرًا كحال صهيب الرومي -رضي الله عنه-، فإنَّ صهيب الرومي قد كان يدعي في النَّمِرُ بْنُ قَاسِطٍ، وهي قبيلة من قبائل العرب، فكان عمر -رضي الله عنه- ينكر ذلك عليه، ويقول كيف تدعي إنك في النمر بن قاسط وأنت من المهاجرين؟ وقال له عمر مرة مُعرضًا: يا صهيب، والله إن أمرك كله لخير إلا أمر واحد، قال: قد علمت ما تريد، والله لو خرجت من بعرة لانتسبت إليها، ولكني سرقت وأنا صغير، أنا أعرف نسبي، أنا سُرقت وأنا صغير، وسبيت عند الروم، وسميت بصهيب الرومي، وهلا أنا صهيب بن سنان من النمر بن قاسط.
وكذلك منهم ممن أدركه الرق، أو الولاء، والعرب الناس عندهم على مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة العربي الصحيح الذي لم يخالطه ولاء، وهذا كان من عامة الصحابة.
المرتبة الثانية: مرتبة الناس الذين قد كانوا عَربًا، ولكن خالطهم ولاء، خالطهم رق، ومنهم: خباب بن الأرت، فإنَّ خباب بن الأرت تميمي، من أصول تميم، ولكنه قد أدركه رق، فلمَّا أدركه رق عمل بالقين، الذي هو الحدادة، ولم تكن العرب تعمل بها، فعد خباب -رضي الله عنه- من الموالي، ومنهم كذلك: صهيب الرومي، ومنهم زيد بن حارثة الكلبي، ولكنه قد سرق وهو صغير، فاشترته خديجة -رضي الله عنها-، ثم وهبته للنبي ﷺ، فأحبه النبي ﷺ وأعتقه، ثم تبناه ﷺ قبل الإسلام، فكان يُدعى ردحًا من الزمان إلى بعد الهجرة زيد ابن محمد، وما أعظمه من شرف، حتى أنزل الله -عز وجل-: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب:5]، فرجع وسمي زيد بن حارثة، وكان ابنه هو أسامة بن زيد، وأراد النبي ﷺ أن يكسر هذا المعنى، وهو معنى التفاخر في الأنساب، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأنَّ المعيار الصحيح في الزواج إنما هو الكفاءة في الدين، فَزَوَّجَ النبي ﷺ زيد بن حارثة من زينب بنت جحش، ابنة عمة النبي ﷺ، فإنها كانت ابنة البيضاء بنت عبد المطلب، زَوَجه منها، للدلالة على أنَّ زيدًا منه ﷺ، وعلى أنَّه لا فضل لعربي على أعجمي، ثم أنه ﷺ أراد أن يرفع من شأن أسامة بن زيد؛ لأنَّ العرب إنما كان يُرفع الشأن عندهم بأن ينكح أو يتزوج من أصحاب الجاه.
ومما يدل على ذلك أنَّ هند ابنة النعمان بن المنذر، والنعمان بن المنذر ملك العرب في الجاهلية، من المناذرة قبل الإسلام، وممن أدركه الإسلام فما أسلم، وقد بقيت ابنته هند حتى فتح الله -عز وجل- الفتوح على أهل الإسلام، فلمَّا فتح الله -عز وجل- على المسلمين وكانت نصرانية، دخل عليها المغيرة بن شعبة وهي في دير لها؛ لأنها كانت نصرانية وقد عميت، فهي نصرانية، عمياء، عجوز، دخل عليها يريد أن يذكرها بالأيام الخوالي، وكأنه يقول لها: انظري إلى مُلكك الذي كان، ومُلك آباءك فقد انتهى، دخل عليها يخطبها، فقالت ما شأنك؟ تخطبني وأنا امرأة على غير دينك وعجوز وعمياء، والله ما بك إلا أن تقول: تزوجت ابنة النعمان. وهو من هو؟
هو المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، فإذًا هذا المعنى كان موجودًا عند العرب، فأراد النبي ﷺ أن يرفع من شأن أسامة بن زيد، وأن يختار له هذه المرأة الثرية الشريفة المخزومية، فقال لها: («انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»، فَكَرِهَتْهُ) لماذا؟ لأنه مولى، وقد كان -رضي الله عنه- أسودًا شديد السواد، وبكن كان أبوه وهو زيد بن حارثة المعروف ببياضه، ولكنه كان قد تزوج من أم أيمن الحبشية -رضي الله عنها-، والتي كانت مولاة للنبي ﷺ، فجاء من هذا الزواج هذا المولود المبارك الذي هو أسامة بن زيد، فكان شَبَهًا بأمه، فمن يرى أسامة الأسود أو الأسمر ومن يرى زيد بن حارثة الأبيض يشك، ولا يعرف أمه، أي: ما شأن هذا بهذا؟ ولهذا كانوا يتكلمون في نسبه، حتى جاء مجزز المدرجي فرأى أقدامهما وقد تغطيا بقطيفة، ما يرى إلا الأقدام من الخلف، فقال: والله إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فَسَرَّ ذلك النبي ﷺ.
(«انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»، فَكَرِهَتْهُ) لِمَا ذكرناه، ولأجل أنه مولى. فترددت فعزم عليها النبي ﷺ، («انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»)، ولم يأمرها أمر وجوب، فنكحته فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت به.
قالت -رضي الله عنها- بعد فترة طويلة: فشرفني الله بأبي زيد، وأعزني الله بأبي زيد. وأبو زيد هو أسامة بن زيد -رضي الله عنه وأرضاه-.
إذًا هذا هو شرح هذا الحديث الجليل، وهو حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله تبارك وتعالى عنها- ولعلنا نكتفي بذلك، والله -تبارك وتعالى- أعلم وأحكم.
{أحسن الله إليكم شيخنا ورضي عنكم، وشكر لكم، وشكر الله لكم مشاهدينا الكرام، وإلى حلقة أخرى -بإذن الله-، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.