الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

10290 21
الدرس السابع

عمدة الأحكام 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية (هداة) والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في البدء}.
نعم، على بركة الله تعالى
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عن أبي سعيد الخُدْرِي -رضي الله عنه- قال: ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ: «وَلِمَ يَفْعَلُ أَحَدُكُمْ؟» وَلَمْ يَقُلْ: فَلا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، «فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلاَّ اللَّهُ خَالِقُهَا»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أمَّا بعد، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- في (كتاب اللعان) بعض الأحكام المتعلقة بالعزل، وهذا العزل هو من الأمور التي يذكرها العلماء -رحمهم الله- في أبواب عشرة الزوجين، هذا هو الأصل في هذا الباب، ولكن المصنف -رحمه الله تعالى- قد أدرجه ضمن (باب اللعان) توسعًا.
قال: (ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ )، والعزل هو أن يجامع الرجل امرأته، أو كان في الزمان الأول الأمة أو ملك اليمين، فإذا أراد أن يُنزل، أَنْزَلَ خارج الفرج، وكانوا يفعلون ذلك لئلا تحمل المرأة، إمَّا كراهية لحمل المرأة، بأن تكون مثلا أَمَةً، أو أن تكون زوجة ولكنه ما يحب أن تحمل منه أو نحو ذلك، أو خشية على الجنين! كيف؟!
كان عند العرب طريقة غريبة، وهي أنَّ المرأة إذا حملت فاستبان حملها، اعتزلها زوجها حتى تضع. لماذا؟ يقولون: لأنَّ جماع المرأة مع حملها قد يُفسد الجنين، وكانوا أحيانًا يسمونه: الغيلة؛ لأنَّ الغيلة عندهم لها معنيان:
المعنى الأول: جماع المرأة الحامل.
المعنى الثاني: جماع المرأة المرضعة، وهذا هو الظاهر أنَّ الرجل إذا جامع امرأته المرضعة فأراد الإنزال، أنزل خارج فرجها. لماذا؟ لأنَّ هذا قد يؤدي إلى أن تحمل المرأة تحمل فيقل الحليب على الرضيع، فإذا قَلَّ الحليب على الرضيع ضوي، وكانوا يسمونه: الغيلة، وقد جاء فيها حديث: «لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ سِرًّا، فَإِنَّ الْغَيْلَ يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ» . كيف؟ يأتي الرجل فارسًا قويًا ونشيطًا، فيسقط من الفرس لماذا؟ بسبب أنه قد كان يُغتال، كيف يغتال؟ يعني: أنَّ أباه كان يأتي أمه وينزل داخل فرجها عندما كان طفلا رضيعًا، ولهذا جاء عن النبي أنه قال -كما في صحيح مسلم-: «لقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيلَةِ، حتَّى ذَكَرْتُ أنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذلكَ، فلا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ» ، إذًا الظاهر -والله أعلم- أنه لا بأس بالغيلة.
والطب الآن قد يقرر أنَّ المرأة إذا حملت وهي ترضع فإنَّ هذا الحمل -عندنا يسمونه بالمهل-فيصبح الرضيع يشرب المهل، الذي هو بقايا الحليب الذي سينقطع بعد قليل بسبب الحمل، ولهذا يكون الرضيع أحيانًا ضعيفًا، ولهذا ترى أنَّ الجنين الذي يكون بينه وبين أخيه سنتان وثلاث سنوات، يكون فيه من القوة ما ليس في الجنين الذي يكون بينه وبين أخيه سنة. لماذا؟ لهذا المعنى الذي كانت العرب تلاحظه.
قال: (ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ: «وَلِمَ يَفْعَلُ أَحَدُكُمْ؟» وَلَمْ يَقُلْ: فَلا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ)، والنبي يُبينُ أنَّ الله -عز وجل- إذا قَدَّر الحمل؛ فإنه ليس شيء يمنعه، وبناء عليه لا العزل ولا غيره؛ لأنَّ الجنين لا يتكون من كل الماء الذي ينزله الرجل، وإنما يتكون الجنين من جزءٍ يسيرٍ، والطب الحديث يثبت هذا المعنى، وهو أنَّ الرجل قد ينزل فيكون في هذه الكمية التي ينزلها ملايين الحيوانات المنوية، ويقولون: إنَّ الرجل إذا جامع؛ فإنه أحيانًا قد يتسلل شيء يسير من ذكره قبل الإنزال، فيكون فيه شيئًا من الحيوانات المنوية التي يخلق الله -عز وجل- بها الجنين، ولهذا قد يحصل الحمل كثيرًا حتى مع العزل، وقد يكون هذا المعنى هو ما جعل المصنف يذكر هذا الحديث.
ولا يجب أن يكون هذا مبررًا لأن تُقذف المرأة بالزنا، أو أن يَنفي الرجل ولده عنه بسبب أنه تعزل، ولهذا ذكر البخاري ومسلم -رحمهما الله- أنَّ رجلا كان يعزل عن جارية له، ثم أتى فقال: يا رسول الله إنها قد حملت، وهو يريد أن يتبرأ منها، فنهاه النبي ، وقال: «لَيسَ مِنْ كُلِّ الماءِ يَكونُ الوَلدُ، إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- إذا أرادَ أنْ يَخلُقَ شيئًا لم يَمنَعْه شيءٌ» .
إذا هذا هو المعنى العام في العزل، وهو يقال: إن الرجل حتى لو عزل عن امرأته؛ فإنه ليس مبررًا لئلا تحمل، وبناء عليه إذا حملت لم يجز له أن ينفيه عنه، ولا يجوز له أن يتهم المرأة، هذا وهذا من أضعف الظن، وعندنا الوقائع من سنة النبي ، فإنَّ هذا الصحابي قد كان يطوف على الجارية ويعزل عنها، فقال إنه النبي : لو قدر الله شيئا فهو كائن.
قال: (وَلَمْ يَقُلْ: فَلا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، «فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلاَّ اللَّهُ خَالِقُهَا») يعني: كل شيء بقدر الله -عز وجل-، وإذا قدر الله -عز وجل- الحمل؛ فإنه سيكون، وليس لأحد أن يقدر على حجبه، ولو اجتمع أهل الأرض.
ولو أراد الله -عز وجل- مَنْعَ الحمل، لم يستطع أحد أن يُقَدِّره، حتى ولو اجتمع أهل الأرض كلهم، وهذا المعنى يجب أن يُسلم، ويجب على الإنسان -حتى لو كان يعزل- أن يعلم أنَّ العزل سبب من الأسباب، والسبب الحقيقي هو الله -عز وجل-.
كثير من الناس يعتمدون الآن على حبوب منع الحمل، وعلى اللصقات، وعلى اللولب ونحو ذلك، وهذه كلها إنما هي أسباب، ولو حصل الحمل لم يجز للرجل أن ينفيه. مع هذا كله. وهذا أيضا معنى لازم أن يقرر، وأن يُفهم، والا يَظن الإنسان أنَّ زوجته إذا ما أخذت حبوب منع الحمل، أو وضعت اللصقة، أو الشرائح، أو اللولب، أو الإبر، أو غيرها، ثم حصل الحمل أنَّ هذا فيه دلالة على خيانتها له، أو أنها مخادعة له، أو نحو ذلك. بل يقال: كل ذلك من قدر الله -عز وجل-.
قال: («فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلاَّ اللَّهُ خَالِقُهَا») في هذا أيضا دلالة على أنه من المتقرر عند الصحابة -رضي الله عنهم- في حديث أبي سعيد، وفي حديث جابر، أنَّ العزل ليس محرمًا؛ لأنه قال: («وَلِمَ يَفْعَلُ أَحَدُكُمْ؟» وَلَمْ يَقُلْ: فَلا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ). فهذا دلالة على أنَّ العزل جائز، ولكن بعض العلماء قال: هو مكروه.
والأصل أنَّ العزل إنما يكون باتفاق الطرفين -اتفاق الرجل والمرأة- وهذا إذا لم تكن المرأة جارية؛ لأنَّه في حال الجارية فإنَّ الأصل أن يكون الأمر متروكًا إلى سيدها، ولكن بين الرجل وزوجته يكون بالاتفاق بينهما؛ لأنهم قالوا: للمرأة حق في الولد، فهي قد تريد أولادًا، حتى وإن لم يُرد زوجها أولادًا. كما أنها تريد أيضًا كمال اللذة بالإنزال، ولذا كان لها الحق أيضا في ذلك، وبالتالي لا يشرع للرجل أن يعزل عن زوجته إلا بإذنها، أو باتفاق وموافقة بين الطرفين.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عن جابر بن عبد اللَّه -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ")}.
حديث جابر -رضي الله عنه- هو الأصل في باب العزل، وهو أشهر الأحاديث الواردة عن النبي في العزل، وهو من الأحاديث المشهورة في تقرير معنى الإقرار عند الصحابة، ولهذا هم يقولون دائمًا: السنة هي قول النبي أو فعله أو تقريره، وإذا جاءوا للتقرير فإنهم يذكرون العزل، مع أنه قد جاء عن النبي الترخيص فيه، حيث إنَّ هناك أحاديث أخرى قولية، ولكنهم يقولون: قول جابر ها هنا. ("كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، لَوْ كَانَ شَيْئاً يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ") دلالة على أنَّ ما فعله الصحابة -رضي الله عنهم- في عهد النبي ولم ينكر؛ فإنه يجوز الاحتجاج به، وهذا من السنة التقريرية عند العلماء -رحمهم الله-.
قال هنا: ("كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، لَوْ كَانَ شَيْئاً يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ") يعني: ولم ينه عنه القرآن، والمشهور كما سبق وقررناه أنَّ العزل إنما يجوز باتفاق الطرفين، فإذا رفضت المرأة ذلك لم يجز للرجل أن يعزل عنها؛ لأنَّ لها الحق في الوطء، ولها الحق أيضًا في الولد.
{أحسن الله إليكم.
قال: (عن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- أنه سمع رسولَ اللَّه يقول: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، إلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: يا عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ».
كذا عند مسلم، وللبخاري نحوه.
و «حَارَ عَلَيْهِ» بمعنى: رجع)}.
ذكر المصنف -رحمه الله- حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، وحديث أبي ذر -رضي الله عنه- فيه معان:
فإنَّ المصنف -رحمه الله- قصد بذلك إدخاله في كتاب اللعان. لماذا؟ لأنَّ النبي قال فيه: («لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، إلاَّ كَفَرَ»)، وفيه أنَّ الرجل قد ينتسب إلى غير أبيه، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهذا أحد ما أنكره عمر على صهيب، فإنه قال: يا صهيب إنك تنتسب إلى غير أبيك، فرد عليه صهيب -رضي الله عنه- بالحجة التي يقولها، فهم كانوا ينتسبون إلى غير الأب رغبة في الشرف، وربما كانت هذه النسبة أحيانًا نسبة صحيحة، فإذا كانت النسبة صحيحة؛ جاز للإنسان أن ينتسب إليها. كيف؟
من المعلوم أنَّ العرب كانوا في الجاهلية يتوسعون في الوطء والنكاح، فربما نَكَحَ جارية من جواريه، فجاءت بولد، مثل: حال عنترة بن شداد، الفارس المغوار المعروف، فإنه قد كان ابن أَمَةٍ، وكان أبوه "شداد" عبثيًا، من وجهاء عبس، فلمَّا جاء هذا الولد الذي اسمه "عنترة" من هذه الجارية، وكان ولذا أسودً، انتفى منه، وما أراد أن ينسبه إليه، حتى كانت الحرب التي كانت بين عبس وذبيان، فلمَّا هُزِمَت "عبس" وأدركتهم الحرب، قال شداد لابنه عنترة: يا عنترة "كر"، فقال عنترة: إنَّ العبد لا يُحسن الكَرَّ والفَرَّ، وإنما يحسن الحلب والصّر، وأنا عبد والحين تنهاني!
قال: كر وأنت حر، فَكَرَّ عليهم وانتسب إليه، فلما رأى القوة والجلد فيه نسبه إليه.
فإذا كان الرجل يعلم أنَّ هذا والده جاز له أن ينتسب إليه، حتى ولو نفاه والده، ما دام أنه يعلم أنَّ نفيه إياه إنما هو بالباطل، أو بالحمية الجاهلية.
وأمَّا إن كان يعلم أنه ليس والده؛ فإنه لا يجوز له أن ينتسب إليه، وهو من الكبائر؛ لأنَّ الله -عز وجل- إذا كان قد أسقط التبني مع كونه عُرفا في الجاهلية لأجل تعظيم حرمة الأنساب، ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب:5]، فكيف الحال برجل يعلم والده فيتركه وينتسب إلى غيره؟ وقد كانوا يفعلون ذلك رغبة في الشرف، فكان الرجل ربما يترك قبيلته ويدخل في ولاء قبيلة ثانية فينتسب إليها ويترك القبيلة الأولى.
إن كان هذا من باب الولاء فلا بأس، وإن كان هذا من قبيل إنكار نسبته في القبيلة الأولى فبلا شك أنه لا يجوز.
قال («لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، إلاَّ كَفَرَ») وهذا يترتب عليه ضياع الأنساب؛ لأنك إذا انتسبت إلى غير أبيك -إلى فلان من الناس-، فهذا معناه أنَّ أهله أصبحوا محارمًا لك، وأن ذريتك أصبحوا محارمًا لأولاده وقراباته. أليس كذلك؟ وهذا كله أمر محرم، وهو نوع من العقوق، ونوع من الخيانة، والله -عز وجل- لا يحب ذلك.
كيف ينتفي من أبيه الذي رباه وخلقه الله -عز وجل- منه، ثم تنتسب إلى غيره لأجل الشرف.
قال: «إِلَّا كَفَرَ». هذا هو من التفسيرات التي يقول العلماء -رحمهم الله- لا نفسرها حتى تكون زجرًا وردعًا، ولا نحملها كما حملها الخوارج على أنها هي الكفر الأكبر، ولا نصرفها إلى معنى يهونها في صدور الناس، فنقول: «إِلَّا كَفَرَ» يراد منها معصية من المعاصي، «إِلَّا كَفَرَ» هي كفر دون كفر، وهو نوعٌ من الكفر القبيح المذموم.
لكن هل هو الكفر المخرج من الدين؟ نقول: لا، ليس هو الكفر المخرج من الدين، وهذه هي الغاية التي نستطيع أن نسهل فيها، وأما ما سواه، فنقول: لا. بل كل معاني الكفر المذمومة موجودة هاهنا، مثل: كفر النعمة، كفر الجحود، كفر الله -عز وجل- الكفر الأصغر، كلها موجودة.
قال: («وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا») وهذا أيضًا وعيد عظيم، فكل من ادعى شيئًا ليس له، إمَّا من الجاه، وإمَّا من المال، وإمَّا من النَّسب، وإمَّا من غير ذلك من الحقوق، كل الحقوق والمراتب والجاه والدعاوى ونحو ذلك، تدخل في هذا المعنى، فكل («مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا»).
قال: «من تزيَّا بغير زِيِّه فَلَيسَ مِنَّا» إذًا الأصل في الإنسان أن يكون على فطرته التي فطره الله -عز وجل- عليها، وعلى خلقته السوية التي خلقها الله -عز وجل- عليها، فلا يطلب لنفسه منزلة فوق المنزلة التي أنزله الله -عز وجل- إياها، ولا دون المنزلة التي أنزله الله -عز وجل- وهذا من معرفة الأقدار، ومن الرضا بقضاء الله -عز وجل-، وبحكمة الله -عز وجل-، ولو تُرِكَ الباب للخلق لَمَا أصبح الخلق على منزلة واحدة، بل كان كلهم في منزلة واحدة، وهذا ما لم يرده الله -عز وجل- من الخلق، بل جعل الخلق بعضهم فوق بعضهم درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريًا، ويحصل البلاء والامتحان، ولا يمكن للخلق أن يكونوا على منزلة واحدة، وعلى درجة واحدة، فهم يختلفون بكل حال، وإذا أصبح الناس أو تطاول الناس بالدعاوى فسدت القلوب ومرضت.
ولهذا لا تجد قومًا وأناسًا أفسد من أصحاب الدعاوى، فأصحاب الدعاوى قلوبهم فاسدة، ووجوههم كالحة؛ لأنهم يتزينون بغير زيهم، ويلبسون ثوبًا غير أثوابهم، ومن لبس ثوبًا غير ثوبه ما يرتاح فيه، كالرجل الذي في الشتاء القارص ويلبس الثوب الرقيق، أو في الحر القائظ ويلبس الثوب الثقيل، ما يرتاح، بل يكون في نكد، ولكنه يحاول أن يتزيا بأي زي، ويوهم الناس بغير حاله.
إذا قال النبي : («مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا»)، وفي هذا أيضًا نوع احتياط للخلق، فإن فيه إفسادا لهم. كيف؟ نقول: كمْ من الناس الآن الذين يَدَّعُونَ الخبرة في الطب؟ وكمْ من الناس الذين يدعون الخبرة في الهندسة؟ وكذلك في المحاماة؟ والخبرة في الرقية حتى؟ وهكذا في أمورٍ كثيرة، وهم ليسوا منها في شيء، فانظر إلى الفساد العظيم الذي يحصل بسببهم، ولهذا قال النبي : «من تطبَّبَ ولم يُعلمْ منهُ طبٌّ فهوَ ضامِنٌ» .
الأصل أنَّ جناية الطبيب الحاذق غير مضمونة؛ لأنها ليست بيده، ما لم يتعدَّ أو يُفرط، هذا هو الأصل، ولكن إذا كان غير حاذق ومفرط ومدع في نسبته إلى هذه المهنة فيضمن، لأنك مفرط بكل الأحوال.
إذًا («مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا») هذا من باب أيضا حفظ حقوق المسلمين حتى ما يتصور عليها أصحاب الجهل، وأصحاب العمى، وأصحاب الخرافة والتقاليد وما إلى ذلك ممن لا يفقه، أو ممن لا يعلم العلم المقصود بوجهه.
قال: («وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»)، وهذا تحذير عظيم، وهذا مما يدلُّ -والله أعلم- على أنَّ هؤلاء ممن قد يردون النار ابتداء، نعوذ بالله من ذلك.
قال النبي : («وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ») يعني: هو من أهل النار، ولكنه ليس مخلدًا فيها؛ وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، ولكن يكفي هذا الوعيد الشديد، وهو دخول النار ولو للحظة واحدة، لأنه إذا كان المرور على الصراط أمر عظيم، وهو مجرد مرور، فما بالكم بالإقامة في النار؟ فما بالكم بالمقعد الذي في النار؟
نعوذ بالله من مقاعد النار.
قال: («وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: يا عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ») هذا أيضًا فيه النهي عن قذف المسلمين؛ لأنَّه قذف المسلمين بأعظم القذف، وأعظمُ القذف هو القذف بالكفر، أو اليهودية، أو قوله: («يا عَدُوَّ اللَّهِ») أو يا زنديق، أو يا منافق، أو غيرها من العبارات التي تطعن في دينه، فكل هذا من القذف، وهو أعظم من قذف الأعراف، ولكن الشرع جعل الحد في قذف الأعراض.
وأحيانا يقولون: إن الحدَّ يكون في بعض الأمور مما يسهلها، فمن جُلِدَ ثمانين جلدة كانت كفارة له، ولكن بعض الكبائر العظيمة ليس فيها حد، مثل: اليمين الغموس، وهذا منها أيضًا.
قال: («وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: يا عَدُوَّ اللَّهِ»)، ليس في هذا حد شرعي، نعم قد يعزر فيه إذا شُكِيَ للقاضي، فقد يعزره القاضي بما يراه.
وبعض العلماء يقول: لا يبلغ به الحد، أي: لا يبلغ به الثمانين، ولكن الأصل أنه ليس فيه حد شرعي، وإنَّما فيه الوعيد الشديد.
قال: («إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ») ما معنى حار عليه؟ رجع عليه، وفي الحديث الآخر: «أَيُّما رَجُلٍ قالَ لأخِيهِ: يا كافِرُ، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما»، فإذًا هذا أيضًا نوع من الكفر الذي هو كفر دون كفر، وهو أمرٌ عظيمٌ، ويجب على الإنسان أن يحتاط من إطلاق هذه العبارات غاية ما يكون؛ لأنَّ الله -عز وجل- لن يسألك فيها بالأعيان إلا إذا كنت قاضيًا أو سلطانًا، وقد أتى الناس يتحاكمون إليك.
وأمَّا غير ذلك فأنت غير مسؤول.
وأمَّا من قال: من أشرك بالله، أو من دعا غير الله، أو من طاف بالقبور، أو من عبد الأولياء والصالحين، أو من ذبح لغير الله، أو من أهان المصحف من سب الله -عز وجل-، فهو كافر. ولكن لا تأتي وتقتحم وتوسع هذا الأمر على الأعيان فتقع أحيانا فيه.
وليس معنى هذا أنَّ الإنسان لا يُكفر بالعين، لا، ولكن إنما يكون هذا منضبطا بضوابط الشرع، والأعم الأغلب أنَّ العلماء -رحمهم الله- إنما كانوا يصنعونه ويضعونه عند السلطان، أو عند القضاة ونحوهم.
ولهذا ما نجد أن عوامَّ الناس أو حتى كثير من رواة الحديث ومن العلماء، من كان يتكلم في هذا الباب، بل كانوا إذا سئلوا قال: اسأل أحمد بن حنبل، أو اسأل فلانًا، أو اذهب إلى القاضي فلان، ولو بحثنا لوجدنا أن ّأغلب من يتكلم في تكفير الأعيان إنما هم الراسخون، إنما هم أصحاب القضاء، وأصحاب الولاية، ونحو ذلك، أو من العلماء المبتلين بالمحنة مثل: الإمام أحمد وغيره.
وأمَّا الخوض في هذا الباب فإنه سيفتح باب فتنة وشر عظيم على الخلق، وما يبقى أحد إلا كَفَّرَ أو كُفِّرَ، نعوذ بالله، وهذا الذي نراه الآن، فما يكاد أحد إلا يُرمى بالكفر، أو يَرمي هو بالكفر، ما لم يصن الإنسان نفسه عن ذلك، ويقول: عليَّ أن ألتزم بحدود الشرع، عليَّ ألا أتعدى على حدود الشرع، ولا أتقحم هذه الأبواب التي ليس لي فيها، ولن يسألني الله -عز وجل- عنها.
لن يسألك الله -عز وجل- عن أعيان الخلق، تأتي يوم القيامة بسجلات، وإذا ابتلي الإنسان فعليه أن يسأل أهل العلم، وما سوى ذلك فليحمد الله على السلامة، وما أنت بحاجة إلى أن تأتي وتبحث عن ديانات الخلق كلهم، أو تحكم عليهم؛ لأن الأصل في المسلمين هو السلامة، وجاء حديث أبي ذر -رضي الله عنه- وهو من الأحاديث الجليلة في تقرير هذا المعنى عن رسول الله .
{أحسن الله إليكم.
قال: (كتاب الرضَاع
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ:
«لاتَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»)}.
قال المصنف -رحمه الله-: (كتاب الرضاع)، وهذا الكتاب كتاب جليل، وهو قسيم الأنساب، فإنَّ المحرمية تكون إمَّا بالنسب وإمَّا بالرضاع، وقد قال النبي في الحديث الصحيح: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»، والرضاع هو شرب الطفل لبن المرأة في الحولين، يعني في قبل اكتمال السنتين، هذا هو الأصل في الرضاع، وبالتالي لو شرب الطفل لبن رجلٍ -لو حصل أنَّ الرجل خرج منه لبن، ويحصل أحيانا كما في حالة التثدي عند الرجال ونحوها-؛ فإننا نقول: هذا اللبن لا يقدم ولا يؤخر.
ولو حصل أنَّ الطفل شرب هذا اللبن بعد الحولين، فجماعة العلماء لا يعتبرونه، ويقولون: هذا ليس هو الرضاع الشرعي، لأنَّ الرضاع إنما هو ما أنبت اللحم وأنشز العظم، والطفل بعد السنتين لم يعد في حاجة للرضاع أصلاً، والرضاعة ما عادت تُؤثر فيه.
إذا ما يتحقق به الرضاع الشرعي، يشترط فيه: أن يكون هذا الرضاع تابع عن حمل أو وطء. كيف يكون تابعًا عن حمل أو وطء؟
يعني هذا اللبن من المرأة نتج إمَّا عن حمل، إمَّا أن تكون المرأة حاملا وولدت، أو عن أن تكون المرأة متزوجة، ونتج عندها اللبن قبل ولادتها. هذا الرضاع هو الرضاع الشرعي.
وبناء عليه، فالمرأة غير المتزوجة، أو المرأة المطلقة التي مضى عليها زمن طلاق، أو المرأة الأرملة، إذا فوجئت أنه قد درَّ حليبها، وهذا قد يحصل، فيقول بعض العلماء: هذه الرضاعة رضاعة غير معتبرة. لماذا؟ لأنه رضاع لم يكن عن حمل، ولم يكن عن وطء؛ لأنَّ هذه المرأة الآن غير متزوجة وغير حامل، وبناء على ذلك فإرضاعها عندهم غير شرعي، وهذا هو المشهور في المذهب.
وهناك رواية ثانية عند الإمام أحمد -رحمه الله- أنه يثبت بها، ولكن هذه المسألة مسألة خلافية، ولعلَّ -والله أعلم- أنَّ الثبوت قد يكون هو الأقوى، من جهة أنه لبن شرعي، ولكنه ما يلحق الفحل؛ لأنَّها بدون زوج.
قالوا: الحكمة في تحريم الرضاعة ظاهرة. لماذا؟ لأنَّ الصبي قد تغدى بهذا اللبن، كما تغذى بلبن أمه من النَّسب، فيكون مُلحقًا بهذه الأم، أو يكون له حرمة، ولكنها دون حرمة النسب بلا شك.
ولهذا العلماء -رحمهم الله- يقولون: صلة الرحم ليست واجبة في الرضاع، فلا يجب على الرجل أن يصل أمه وأخواته من الرضاع، نعم هو محرم لهم، ولكن لا يجب عليه صلتهم، ولا يجب عليه النفقة عليهم، بدليل ماذا؟ بدليل أنهم لا يرثونه.
والعلماء- رحمهم الله- يقولون: يكره أن يرتضع الرجل إلا من ذوات الدين والخلق، وليتخير لنطفه، جاء في الحديث «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ»، تخيل في الزواج ابتداء ما تتزوج إلا امرأة مشهورة، يعني: ليست المشهور شهرة المعروف، نعوذ بالله، ولكن نقصد بذلك شهرة شهرة دينها وأخلاقها ونسبها، وتنظر من قراباتها.
وأيضا ليتخير لرضاعه، فإنَّ المرأة في الزمان الأول ما كانت تستطيع أن ترضع. كيف؟ لأحد معنيين:
المعنى الأول: أنَّ المرأة في الزمان الأول قد تكون أحيانا مشغولة، يعني بعمل البيت ونحو ذلك، فما تستطيع أن تتحمل مع ذلك مؤونة الرضاعة. هذا معنى.
المعنى الثاني: وهي أن المرأة كانت تريد أن تكون مع زوجها، فتقول: إذا أرضعت حرمت من زوجي مني -كما ذكرنا عن الغيلة-، والنساء الشريفات في العرب كُنَّ لا يُرضعن، ألا تلاحظون أنَّ النبي وهو سيد ولد آدم، حينما ولد بحثوا له عن مرضع من حين ما ولد، مع أنَّ أمه كانت ترضع، ولكن يبحثون له لأنهم يرون أنَّ هذا نوع من الطريقة عند العرب، في أنهم يتخيرون حتى ترضع على المرأة، وحتى تتفرغ أمه الحقيقية لزوجها كما ذكرنا في الغيلة، وحتى يشب الرجل شبابًا جيدًا، ويأخذ أحيانا من أخلاق غيره، فيجمع إلى أخلاق أمه وأبيه أخلاق غيره، ولهذا فالنبي اختار الله -عز وجل- له أن يرتضع من بني سعد بن بكر من هوازن، حيث كانوا أفصح العرب، فأخذ النبي من لبنهم، ونشأ في باديتهم، وتتطبع بطباعهم، حتى قال له الصديق -رضي الله عنه-: "يا رسول الله ما رأيت أفصح منك"، قال: «أنا أفصحُ العربِ بَيدَ أني من قريشٍ، ونشأتُ في بني سعدٍ، واسترضعتُ في بني زهرةَ» يعني: جمعت الحسنيين، أصلي من قريش، وتربيت في بني سعد بن بكر.
وفي المقابل تُكره الرضاعة من الكافرة والفاسقة ونحوها، ممن قد يسري بعض أخلاقها إلى ذاك الرضيع.
ومنه أيضا أنه ينبغي ضبط الرضاع، فالعوائل أو القبائل أو الأسر التي يَكثر فيها الرضاع يجب عليها أن تضبطه حتى ما تختلط الأنساب، ومن ثم يحصل بذلك شر عظيم، ومن الشر العظيم الذي قد يحصل، أنه قد يغيب عن بعض الناس العلاقة بين الرجل والمرأة، فيمكثان زمنًا طويلاً. وهما متزوجان، ويحصل بينهما ولد، ثم يكتشفان فيما بعد أنهما إخوة من الرضاعة، فانظر إلى البلاء العظيم الذي يلحقهما بعد هذا، وهذا ناتج عن عدم ضبط الرضاع، فإما أن يكون العبد ضابطًا للرضاع، وإمَّا أن يجتنبه كله. كيف يكون ضبط الرضاع؟
ضبطه يتحقق بأن يشيع وينتشر، أو أن يُكتب، وهذا أحسن وأفضل، فيكتب أن فلانة قد أرضعت فلانًا بتاريخ كذا وتاريخ كذا، حتى يكون ذلك أثبت وأظهر، وهذا الذي ينبغي.
ذكر ها هنا المصنف -رحمه الله- حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: «لاتَحِلُّ لِي»)، وذكرنا قصة ابنة حمزة في مجالس مضت، وذلك أنها قد عُرِضَتْ على النبي ، وقد عُرِضَ على النبي ثلاثة نساء، كل واحدة منهن لا تحل له، فمثلاً وجدنا أنَّ أم حبيبة قد عَرَضَتْ عليه أختها، وحُكِيَ له أن درة بنت أم سلمة قد عُرضت عليه، وقال له عليٌّ -رضي الله عنه- يا رسول الله انكح ابنة حمزة، وهذا من العجيب، ومن الأمور التي خفيت على عليٍّ -رضي الله عنه-، فإنَّ عليًا -رضي الله عنه- قد عَتَبَ يومًا على النبي ، فقال: "يا رسول الله مَالَكَ تَنَوَّق في قُرَيْش وتَدَعُنا"، وتنوق يعني: تختار في قريش وتدعنا، فقال النبي : «وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قال: "نَعَمِ ابْنَةُ حَمْزَةَ" قال: ابنة حمزة، قال: «إِنَّهَا لا تَحِلُّ لِي».
وقيل: إنَّ اسمها عمارة، قال: «لاتَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ». طيب كيف؟
قد جاء بيانها في حديث أم حبيبة، قال: «أرْضَعَتْنِي وحمزة وأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ» ، فهؤلاء الثلاثة قد أرضعتهم ثويبة، التي هي مولاة لأبي لهب، فهم إخوة من الرضاع، ولذلك كانت ابنة حمزة هي ابنة أخ النبي من الرضاع، فلا تحل له.
قال: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ) وقد ذكرنا في المجالس الماضية شيئا من ذلك، وذكرنا أنَّ هذا يسري إلى المرتضع وإلى أولاده، ويسري في الأم والأب للمرضع إلى أصولهما وفروعهما. كيف؟
لو قلنا: إنَّ حمزة ارتضع من جويرية، امرأة اسمها جويرية، فنقول: إنَّ هذا الرضاع يؤثر على أولاده، فأولاده كلهم يكونون أولادًا لها؛ لأنها أمه، ولكن لا يسري هذا الرضاع على إخوانه، فيجوز لأحد إخوان حمزة أن يتزوج من جويرية هذه -التي هي أم حمزة من الرضاع- فضلا عن أن يسري إلى والد حمزة ووالدته، ولكن جويرية وزوجها يصبحان أبوين له، ويصبح أبناؤهما إخوة له، وآباؤهما آباء له، فهذا هو المعنى في الرضاع؛ ولهذا قال النبي : («لاتَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ» ).
{أحسن الله إليكم.
قال: (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسولُ اللَّه : «إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ».
وعنها قالت: إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ لا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ ، فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّك، تَرِبَتْ يَمِينُك».
قَال عروة بن الزبير: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- تَقُولُ: "حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاع مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ".
وفي لفظٍ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي، وَأَنَا عَمُّك؟ فَقُلْت: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي، قَالَتْ: فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِي لَهُ، تَرِبَتْ يَمِينُك»، تربت يمينك أي: افتقرت، والعرب تدعوا على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به.
وعنها -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا»؟ قُلْت: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ»)}.
هذا حديث عائشة- رضي الله عنها- وهو مُقارب لحديث ابن عباس -رضي الله عنه-، («إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ») يعني: ما يحرم من النسب.
(وعنها قالت: إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ لا آذَنُ لَهُ، حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ ، فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ) وأبو الْقُعَيْسِ هو رجل من العرب، وكانت امرأته وهي أم الْقُعَيْسِ قد أرضعت عائشة -رضي الله عنها-، وقد أرضعت عائشة -رضي الله عنها- بلبن أبي الْقُعَيْسِ. ما معنى بلبن أبي الْقُعَيْسِ؟ يعني: وهي تحت ذمة أبي الْقُعَيْسِ، فأصبح أبو الْقُعَيْسِ أبًا لعائشة من الرضاع، وأصبحت أم الْقُعَيْسِ أمًا لها من الرضاع.
فاستأذن عليها أفلح، وكان أخًا لأبي الْقُعَيْسِ، وبالتالي فهو صار عمًا لعائشة -رضي الله عنها- من الرضاعة. فقالت والله لا آذن لك، ما علاقتك أنت؟ وكانت عائشة تظن أنَّ الرضاع لا يسري، وقد ذكرنا قبل قليل أنَّ الرضاع يسري في الأب والأم من الرضاعة إلى الأصول والفروع والحواشي وكل من حولهم، وأمَّا في المرتضع فلا تسري إلا في المرتضع وفروعه فقط.
(فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ) فما لك علاقة بهذا؟ ثم قالت: فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ) يعني: امرأة أخيه، فَقَالَ : («ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّك، تَرِبَتْ يَمِينُك»)، وهذا من الدعاء الذي لا يُراد به المعنى، وقد جرت عادة العرب عندهم أن يقال: تربت يمينك ولا يقصدون به الدعاء على الرجل.
إذًا فيع ما ذكرناه وما قررناه سابقًا من أنَّ الرضاعة تنتشر في والد المرضع ووالدته من الرضاعة، وفي الأصول، والفروع، والحواشي، فكلهم يصبحون من المحارم لهذا المرتضع أو المرتضعة.
(قَال "عروة بن الزبير: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاع مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ") يعني: كل ما يحرم من النسب؛ فإنه يحرم من الرضاعة.
وبناء عليه، فخال الأم من الرضاعة، وإخوانها من الرضاعة ونحوهم، كلهم محرمون على هذه المرتضعة.
(وفي لفظٍ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي، وَأَنَا عَمُّك؟) وأفلح كان فقيهًا. فقال: كيف تحتجبين مني وأنا عمك؟ إذا كان أخي والدك من الرضاعة، فأنا عمك من الرضاعة.
قالت عائشة: (فَقُلْت: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي، قَالَتْ: فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِي لَهُ، تَرِبَتْ يَمِينُك»).
قال: (وعنها -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟» قُلْت: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ»)، هذا حديث آخر، وفيه أنَّ النبي دخل على عائشة وعندها رجل، فتغير وجهه، فقال لها النبي : («يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟») قالت: (أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ»)، ولعل النبي فهم أن هذا الرجل ليس في عمرٍ يكون موافقا لعمر عائشة، أو عمر إخوانها بحيث يحصل الرضاع، فهو إمَّا أن يكون أصغر منها بكثير، أو يكون أكبر بكثير، فليس في عمرها ولا في عمر إخوانها، وهذا مما يُستدل به على بُطلان دعوى الرضاع.
ولا يقول الرجل: إنها أرضعتني أو إني قد رضعت في كبر سن، فيقال: لا. («فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ») يعني: الرضاعة في الحولين، فدلَّ ذلك على ما قررناه سابقًا، وهو أنَّ الرضاعة الحقيقية إنما تكون في الحولين، وأنَّ الرضعات المحرمات إنما هي خمس رضعات، كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها-، وقد جاء عن النبي أنه قال: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ والْمَصَّتَانِ» . وجاء في حديث عائشة "كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ وَهُنَّ فِيما يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ" . فعمل وأخذ به الإمام أحمد -رحمه الله-، وقال بهذا القول، وهو: أنه إذا حصلت خمس رضعات كانت محرمة.
والقدر في الرضعة -والله أعلم- أن يرتضع الصبي ثم يدعه من تلقاء نفسه، هذه رضعة، وليس المراد بالرضعة الشبع بتمامه، وإنه لو أراد النبي ذلك لقالها.
ولكن الظاهر -والله أعلم- أن يرتضع ثم يترك، ثم يرجع فيرتضع ثم يترك، هذا هو الظاهر من قول النبي خمس رضعات يحرمن.
من الأمور التي قد يدل عليها هذا الحديث عن رسول الله ، لزوم التثبت في الرضاع وضبطه، وأنه لا يقبل بالدعوة المجردة فيه، ولكن يعمل فيه بالورع، يعني لا يفرق بين الزوجين بمجرد الدعاوى، ولكن إذا وُلِدَت هذه الدعوة قبل النكاح، فيقال: الأفضل تجنب ذلك، ويدل عليه حديث عقبة بن الحارث، فإنه خطب امرأة، فجاءته امرأة سوداء فقالت: إني قد أرضعت عقبة ولا تتزوج بها، فأخبر بذلك رسول الله فقال: "«كيفَ وقدْ قيلَ؟!» فَفَارَقَهَا ونَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ" . فقال جماعة من العلماء: إنَّ هذا -والله أعلم- على الورع، فإذًا ينبغي للإنسان ضبط الرضاعة.
وكذلك أيضا ينبغي الاستفصال في مقام الاحتمال، فإنَّ هذا الرجل الذي دخل على عائشة -رضي الله عنها- قد سأل النبي عنه واستفصل، وأمر عائشة بالتثبت والتحقق، هل رضع في الحولين أو لا؟ وهل ثبت رضاعه أو لا؟
وفيه أيضا ما يدل على حرمة دخول الأجنبي على النساء، وإنه لمن أعظم المنكرات، ولهذا أنكره النبي على عائشة.
وفيه أيضا أنه لا ينبغي للرجل أن يُسارع بالإنكار على المرأة أو على زوجته إذا رأى معها غيرها حتى يتثبت منه، قد يكون من قراباتها ومن محارمها، وما علم بذلك، فلا يعجل ولا يطيش، ولا يظن أنَّ هذا من الغيرة؛ لأنَّ أغير الناس رسول الله ، ومع ذلك فإنه لَمَّا رأى هذا الرجل تغير وجهه، ثم سأل فقال: («يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟» فقالت: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ؟»)
{أحسن الله إليكم.
قال: (عن عقبة بن الحارث -رضي الله عنه- أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ: «وكَيْفَ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا»)}.
حديث عقبة بن الحارث -رضي الله عنه- أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، وفي بعض الروايات أنه أراد أن يتزوجها. قال: (فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا). نقول: أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، هي امرأة بعيدة عن عقبة بن الحارث، فهو نوفلي قرشي، وأُمّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ تميمية، فاستغرب عقبة -رضي الله عنه- كيف يكون الرضاع؟
(فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا) قال: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ) وقال: يا رسول الله إنها كاذبة، فَأَعْرَضَ عنه النبي ، وقال: («وكَيْفَ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا») ففارقها عقبة.
قال بعض العلماء: فيه دلالة على قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، قالوا مما يدل عليه أنَّ النبي قد قَبِلَ شهادة هذه الأمة أو الجارية، والأصل في الأحكام أنها منازل، فإن فيها ما لا يقبل فيه إلا شهادة أربعة شهود، مثل: الزنا. وفيها ما يقبل فيه شهادة الذكور. وفيها ما يُقبل فيه شهادة الرجلين فقط مثل: جرائم القطع، والحد، والقتل، فهذه ما يقبل فيها إلا شهادة رجلين، وفيها ما يقبل فيه شهادة ثلاثة رجال، وهو الإعسار، وفيها ما يقبل فيه شهادة الرجل مع امرأتين مثل: الأمور المالية، أو ما يدخل فيه المال، وفيها ما يقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وهو الإخبار عن الأمور الدينية المتعلقة بما لا يطلع عليه إلا النساء، مثل: العيوب تحت الثياب، والرضاع، ونحو ذلك، فهذه كلها من الأمور التي ما يطلع عليها إلا النساء. فلو قلنا: يشترط فيها الرجال، ما وجدنا من يطلع عليها من الرجال.
إذا قالوا: الرضاع هنا يثبت بشهادة امرأة، وبناء عليه قالوا: إذا شهدت المرأة قبل انعقاد النكاح لم يجز عقد النكاح.
يبقى مسألة أخرى، وهي: ماذا لو شهدت المرأة بعد عقد النكاح؟
هذه مسألة خلافية بين العلماء، هل يفسخ أو لا؟
بعض العلماء وهو المذهب، ذهب إلى فسخ النكاح، وقال: يفسخ، والدليل: قال: ففارقها عقبة، والمفارقة لا تكون إلا بعد عقد الزواج، وهذا هو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-.
وقالوا: إنه من القواعد المعروفة عندهم أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالا، ومن المعلوم أن فسخ النكاح ما يثبت إلا بشهادة شاهدين ابتداء، ولكن يمكن فسخ النكاح تبعا بطريقة الشهادة بالرضاع.
فلو جاءت مباشرة وقالت: أنا أشهد أنَّ نكاح هذا الرجل من امرأته منفسخ، وأنَّ هذا الرجل قد فسخ النكاح! نقول: ما نقبل هذا الكلام، وهذا الكلام وجوده كعدمه.
ولكن هذه المرأة، لا، قالت: أنا أستطيع أفسخ النكاح، كيف؟ قالت: أنا أشهد أني أرضعتكما، أو أنكما رضيعان، فالآن ثبت الرضاع، فلما ثبت الرضاع، بُني عليه فسخ النكاح.
وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يذهب إلى فسخ النكاح بشهادة المرأة الواحدة، ويقول: إنَّ حديث عقبة -رضي الله عنه- في هذا الباب حديث ظاهر، وحديث عقبة -رضي الله عنه- مما تفرد به الإمام البخاري -رحمه الله-، ولهذا حقيقة لا معنى لإدخاله في كتاب متفق عليه.
وإذا كان الإمام -رحمه الله- إنما أدخله للحاجة إليه، فنقول: هناك أحاديث لا تقل عنه جودة وحاجة، لم يدخلها.
ومن اللطائف أنَّ كل الأحاديث التي يرويها عقبة بن الحارث، وهي قريبة من ثلاثة أو أربعة أحاديث، كلها قد تفرد بها البخاري، وأمَّا مسلم فلم يُخَرِّج لعقبة بن الحارث حديثًا عن رسول الله .
فقال النبي : («وكَيْفَ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا») فيه دلالة على أنَّ الأصل في العقل أنَّه موافق للشرع في استحسان الحسن واستقباح القبيح، فإنَّ النبي قد ذَكَرَ أنَّ هذا شيئًا قبيحًا، ما دام أنه قد شاع وانتشر، وهذه المرأة بدأت وشهدت، فإنه ليس من الحسن أن تتزوج بهذه المرأة التي يقال عنها: إنها أختك من الرضاعة.
لعلنا نكتفي بذلك، والله -تبارك وتعالى- أعلم وأحكم.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.
وشكر الله لكم مشاهدينا الكرام على حسن الاستماع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك