{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة، والذي يشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله-، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم. نستأذنكم بالبدء}.
نعم، استعن بالله
{قال -رحمه الله-: (عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «أَمَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرْنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ.
وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ -أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ- بِالذَّهَبِ، وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فقد سبق ذكر حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-، وشرحنا جزءا منه، شرحنا الشطر الأول منه، وهو الشطر المتعلق بالأوامر، وسنشرح -إن شاء الله عز وجل- الشطر الثاني المتعلق بالنواهي، وذكرنا أن عامتها إنما هي فيما يتعلق بأحكام اللباس.
قال: («وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ») الأصل أن التختم بالذهب مذموم، وأن لُبس الذهب بوجه عام للرجال مذموم، وأنه لا يسوغ للرجل أن يلبس الذهب إطلاقا، إلا إذا كان الذهب تبعا لغيره، وقد جاء عن معاوية -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ لم يُرخص في الذهب إلا مقطعًا، وجاء في حديث عمر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ رخص لهم في الذهب أربعة أصابع فما دون، قالوا والله أعلم: أربعة أصابع هو ما يكون من السُّدَى، قالوا: مثل هذا يسوغ فيه أن يكون مذهبا، وأما ما زاد فلا، وقالوا: لأنَّ هذا شيء يسير بالنسبة لباقي اللباس، وكان الأصل في التختم بالذهب أنَّ النبي ﷺ اتخذ خاتما من ذهب، فاتخذ الصحابة -رضي الله عنهم- خاتما من ذهب، فألقاه النبي ﷺ، وقال: «لا يحل لي أن أتختم به» وألقى الصحابة -رضي الله عنهم- خواتمهم، ثم اتخذ النبي ﷺ خاتم الفضة.
فدل ذلك -والله أعلم- على جواز استخدام الفضة للرجال، في الخواتم ونحوها، مما هو من زينة الرجال، يعني: مثل الحزام يسوغ فيه استخدام الفضة على ما ذكره جماعة من العلماء -رحمهم الله-، ومثل القلم يسوغ للإنسان استخدامه، ومثل: الساعة يجوز للإنسان استخدامه فيها.
وأمَّا الذهب فلا يجوز للإنسان استخدامه إلا إذا كان يسيرا، بمعنى أن لا يكون هو الأغلب، فمثلا الساعة على سبيل المثال: يكون إطارها مذهبا، أو تكون العقارب فيها مُذهبة، لا نقصد مذهبة بمعنى اللون، وإنما نقصد أن تكون من الذهب. نقول: يسوغ هذا ما لم تكن كلها من الذهب، أو غالبها من الذهب، فإذا كانت كذلك فإنه ينهى عنه.
والسبب في ذلك -والله أعلم- لِمَا ذكرناه، مما يقع في قلب الإنسان من التعاظم والترفع عند لبس الذهب ونحوه.
قال: («وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ»)، أيضًا نهى النبي ﷺ عن الشرب بالفضة، وقد سبق ذلك في حديث حذيفة، فيفهم من باب أولى أنه إذا نهي عن الشرب بالفضة، أن يكون الشرب أيضا بالذهب من باب أولى، وقد سوغ النبي ﷺ، الشرب في الإناء المضبب بالفضة، يعني: إذا انكسر الإناء واحتاج الإنسان إلى أن يلحمه، فإذا لحمه بالفضة، فإنه يجوز له الشرب فيه، وقد جاء هذا عن أبي طلحة -رضي الله عنه- أن إناء النبي ﷺ في حديث أنس انكسر، «فاتَّخذ مكان الشَّعْبِ سِلسلةً من فِضَّةٍ» .
الأمر الثالث، قال: («وَعَنْ الْمَيَاثِرِ»)، المياثر هي اللباس الذي يوضع للرحل من الجلود ونحوها، أو ما يسمى عندنا بالجاعد، ترى بعض الناس في سيارته يضع الجاعد الذي هو فرو الغنم، هذا يسمى ميثرة، فهل النهي عن وضعه مُطلقا؟ أو أنه نهي عن مياثر معينة؟ لأنه قد جاء في حديث البراء، وعن المياثر الحمر، فالصحيح -والله أعلم- أنَّ النهي إنما هو على المياثر الحمراء، ويقال: إن الذم في الأحمر إنما ورد عن المياثر، وأن حديث النزع في الأكسية الحمراء التي جاءت عن النبي ﷺ، إنما جاء في المياثر، إذاً غيرها في باب الأحمر لا يتعلق بها، والنهي إنما جاء عن المياثر الحمراء، فإذًا ما كان من المياثر أحمر اللون، أو ما كان من جلود السباع، أو ما كان من الحرير، فإنه يكون محرما؛ لأنه من لباس الكفار.
قال: («وَعَنْ الْقَسِّيِّ») القسي هذا نوع من اللباس الذي يصنع في مصر، يقولون: قرية مشهورة في مصر اسمها قسا، فيصنع منها هذا اللباس، وهو نوع من أنواع الحرير، فنهى النبي ﷺ عن لبسه، والأصل في لبس الحرير أن يقال: إنه محرم إذا كان الحرير غالبا عليه، وإذا لم يكن الحرير غالبا عليه فإنه يجوز للإنسان لبسه، فإن تساوى الحرير وغيره فالمذهب النهي عنه، قالوا: لأنه مما اجتمع فيه المبيح والحاظر، فيقدم الحاظر، فإن زاد غير الحرير على الحرير جاز لبسه، وجاز اتخاذه.
قال ها هنا: («وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ») وسبق ذكره وشرحه، والنهي عن لبس الحرير عام إلا في الحاجة، فإن النبي ﷺ قد رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- في لباس الحرير لحكة كانت بهما، والحكة كما قالوا: قد تكون أحيانا من القمل أو غيره، فلا يعالج بشيء كما يعالج بالحرير، وقد تكون حساسية، فلا تعالج إلا بالحرير لنعومته.
قال: («وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ») الإستبرق هو الرقيق من الحرير، والديباج هو الغليظ من الحرير، فإذًا حرم النبي ﷺ الحرير وكل ما يدخل فيه، فـ (الْقَسِّيِّ) نوع من الحرير، (وَالْإِسْتَبْرَقِ) هو الحرير الرقيق، (وَالدِّيبَاجِ) الغليظ من الحرير.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَهُ، فَصَنَعَ النَّاسُ كَذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ: «إنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ»، فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ»، وَفِي لَفْظٍ: "جَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى")}.
هذا حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وهو أصل في التختم، وهو بدء لبس النبي ﷺ للخاتم، فإن النبي ﷺ لَمَّا أراد أن يكتب إلى ملوك الأعاجم، قيل له: إنهم لا يقرءون إلا كتابا مختومًا، فاتخذ خاتما من فضة نَقْشُه محمد رسول الله، وأول ما اتخذ الخاتم كان خاتما من ذهب، فلبسه النبي ﷺ، وجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه.
من المعلوم أن الخاتم له فص، فكان النبي ﷺ يَثني هذا الفص فيجعله في باطن الكف، فهل هذا من السنة مطلقا؟ يقال: لا، بل ثَمَّ علة أو حكمة، والظاهر -والله أعلم- أنَّ النبي ﷺ إنما كان يصنعه لأجل أن يكون أحرز له، أو أحرز لاسم الله -عز وجل- من مباشرة الخبث، بمعنى أنه إذا كان في باطنه كان أحرز له، فلأجل ذلك كان النبي ﷺ يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه.
قال: (فَصَنَعَ النَّاسُ كَذَلِكَ) يعني: لَمَّا رأى الناس أن النبي ﷺ قد تختم تختموا، ما أمرهم بذلك، وإنما هو شيء فعلوه من تلقاء أنفسهم.
قال: (ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ: «إنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ»، فَرَمَى بِهِ)، يعني: هذا الخاتم الذي من ذهب.
قال: (ثُمَّ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ»)، هل نبذوها مطلقا أو نبذوها إلى بدل؟ الظاهر -والله أعلم- أنهم نبذوها إلى بدل، فإنَّ النبي ﷺ قال: إني قد اتخذت خاتما، وإني قد نقشت فيه محمد رسول الله، فلا ينقشن أحد على نقشه، فجعل المنع إنما هو في النقش؛ لأنَّ النقش بمحمد رسول الله كي يختم به، فإذا صنعوه كلهم ما كان لهذا الختم ميزة، فنهاهم النبي ﷺ عن النقش ولم ينههم عن لبس الخاتم، ومع ذلك فما أمرهم النبي ﷺ بلبس الخاتم.
فتنازع الناس، هل يُسن التختم أو لا يسن؟!
والظاهر -والله أعلم- أن التختم غير مسنون إلا لذي حاجة، من قاض يحتاج إليه، أو حاكم، أو أمير، أو صاحب عمل يحتاج إلى هذا الخاتم، فيقال: يتخذ، والآن ما عاد هناك حاجة لأن يختم بخاتمه، وإنما أصبح الناس إما يختمون بتواقيعهم، أو يختمون بالأختام المعروفة هذه.
ومما يدل عليه ويقرره أن الخلفاء -رضي الله عنهم- من كان يتختم، نعم، قد جاء عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أنه كان يختتم، ولكن ذلك -والله أعلم- إما لظنهم أن من السنة عن رسول الله ﷺ أو لأمر آخر، ولكن الظاهر -والله أعلم- أنه ليس مسنونا، لأنه لو كان مسنونا لندبهم إليه النبي ﷺ، وإنما فعلوه تأسيا بالنبي ﷺ تأسيا مطلقا، كما تأسى ابن عمر -رضي الله عليه- بالنبي ﷺ تأسيًا مطلقًا، كما في بعض صلواته مثلا في بعض الأماكن، أو نحو ذلك.
وهذا يقال: إنه من باب اللباس، وباب اللباس الأمر فيه واسع.
ثم يبقى مسألة، وهي في أيها يجعل؟
نقول: قد ورد أن النبي ﷺ نهى عن التختم في بعض الأصابع، فنهى عن التختم في السبابة وفي الوسطى، وسوغ بالتختم بما سواها.
فالأولى في التختم أن يكون الخاتم في الخنصر، هذا هو خاتم النبي ﷺ، فكأنه كان في خنصره، ولكن في أي يد كان؟ هل كان في اليمين أم كان في الشمال؟
لم يثبت عن النبي ﷺ في ذلك شيء.
وقوله: (جَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى) لفظ "اليمنى" غير محفوظ على الصحيح من أقوال أهل العلم، بل لم يثبت تعيين أو تحديد مكان اليد بسند صحيح، نعم قد قال أبو زرعة -رحمه الله-: إنه قد صح فيه ها هنا، وصح فيه ها هنا، ولكن المشهور من أقوال أهل العلم -رحمهم الله- كأبي حاتم وغيره، أنهم كانوا يرون أنه لم يثبت عن النبي ﷺ تعيين اليد، وهذا أيضا هو منهج الإمام النسائي -رحمه الله-.
إذا يتختم في أي اليدين، سواء في اليسرى أو في اليمنى، والأمر فيهما واسع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهَى عَنْ لُبُوسِ الْحَرِيرِ إلَّا هَكَذَا، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُصْبُعَيْهِ: السَّبَّابَةَ، وَالْوُسْطَى».
وَلِمُسْلِمٍ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ»)}.
هذا حديث عمر -رضي الله عنه- وهو الحديث الذي قد قررنا جزءا منه، وهو أنه ينهى عن لبس الحرير هذا هو الأصل فيه، ولكنه في الشيء اليسير منه، هل يرخص في السدى؟ الصداع الذي ذكرن.
قال: (وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُصْبُعَيْهِ: السَّبَّابَةَ، وَالْوُسْطَى)، وفي بعض الروايات: (إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ)، فدل ذلك على أن غاية ما يرخص فيه من الحرير أربعة أصابع، وأربعة أصابع في موضع واحد، كما ذكره الشوكاني، ومن قبله ابن دقيق العيد، فإنهما قد قالا: بما لا يجاوز هذه الأصابع الأربعة، وما حجم الأربعة أصابع في الثوب؟
قال العلماء: لا يتصور هذا المعنى، بل الظاهر -والله أعلم- الأربعة أصابع أنها اللُحمة، فرخصوا في اللحمة، واللحمة هي: جوانب الرداء من حرير لم يجاوز أربعة أصابع رُخص فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ، حَتَّى إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ».
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ»)}.
ذكر المصنف -رحمه الله- كتاب الجهاد، وقد آخره المصنف إلى آخر كتابه، والأصل فيه حقيقة أنه مقدم فإن العلماء -رحمهم الله- يقدمونه فيتبعونه غالبا بعد كتاب الحج، ويجعلونه هو الواسطة بين كتاب المعاملات وبين كتاب العبادات، ويقولون: السبب في ذلك -والله أعلم- أن أشرف المكاسب هي المكاسب التي تكون من الجهاد، لأنها هي غنائم النبي ﷺ، «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» .
إذًا، إذا أُطلق الجهاد في كتب أهل العلم، فإنما يراد به قتال الكفار، وهذا يدل على أن لفظ الجهاد في المقام الأول، إنما يراد به قتال الكفار،
ويدخل في ذلك أيضًا جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، ولكن بالمفهول الأول يقصد به القتال.
إذاً، إذا قال: كتاب الجهاد، فهو القتال مطلقًا، يعم قتال الكفار، وقتال البغاة، والخوارج، وقطاع الطرق، هذه كلها جهاد، والأصل فيه: «مَن قاتَل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا فهو في سبيلِ اللهِ» ، هذا هو الضابط، فمن كان يقاتل الكفار لأجل عرض من الدنيا، أو لأجل سمعة، فإنه ليس جهادا شرعيًا، مع أنه يقاتل الكفار.
ومن كان يقاتل البُّغاة أو قطاع الطرق؛ لأجل أنها وظيفة، أو لأجل أنها أمر مكلف به، لم يكن ذلك جهادا شرعيا، فإذا استصحب النية الصالحة تحول هذا العمل من كونه عملا عاديا إلى كونه عملا جليلا معظما عند الله -عز وجل-، وإلى كونه من الجهاد الشرعي.
إذًا يدخل في القتال كل هذه المعاني السابقة، على الصحيح من أقوال أهل العلم.
والأصل أن الجهاد فرض كفاية، ولكن قالوا: يجب على الإمام المسلم إذا كان قادرا أن يُغزيَ المسلمين كل سنة، يُغْريهم إلى مدائن الكفار، أي: يكون هناك سرايا وبعوث كل سنة تذهب إليهم، هذا إذا كان الإمام قادرا، وإلا فإنه إذا لم يكن قادرا، فإن الجهاد في حقه يكون فرض كفاية، ثم الأصل أن الجهاد يتعين في أحوال ثلاث.
الحال الأولى: أن يستنفر الإمام المسلمين، أو يعين الإمام أحدا منهم، فإنه يكون الجهاد فرض عين عليه.
الحالة الثانية: أن يحضر الصف، فإذا حضر الصف والتقى الجمعان، تحول الجهاد من كونه فرض كفاية في حقه إلى أن يكون جهادا واجبا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾.
الحالة الثالثة: أن ينزل العدو ببلاده، فإذا نزل العدو ببلاده، وجب عليه أن يدافعهم، ثم يدافع الأدنى فالأدنى، أعني كل من كان أدنى من المسلمين من هؤلاء القوم، فإنه يجب عليهم المدافعة، حتى يندفع بأسهم، ويتوسع الأمر حتى يشمل عموم المسلمين، فهذا هو الأصل في حكم الجهاد.
ذكر ها هنا حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-، وفيه أن رسول الله ﷺ في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم، هذه هي عادته ﷺ المضطردة، أنه كان ﷺ لا يقاتل العدو إلا إذا مالت الشمس، ويقول: إنها ساعة تحضر فيها الصلوات وتهب فيها الأرواح، وينزل فيها النصر، وقد جاء هذا في حديث النعمان بن مقرن في نهاوند، فإنه حبسهم حبسًا شديدًا حتى زادت الشمس، ثم أخبرهم أن النبي ﷺ كان يقاتل إذا زالت الشمس.
قالوا: وأيضا المعنى في ذلك، أن القتال في الغالب إنما يكون في النهار في الزمان الأول، فإذا حبس الإنسان نفسه فقاتل بعد الزوال، كان وقت القتال وقتًا يسيرًا، يَصبر نفسه فيه حتى ينتصر، وكانت الفيئة لا قدر الله إذا حصل نوع من الهزيمة، ونوع من الكسرة، يسيرة، فإن وقت الليل قريب، مع ما ذكرناه من كونه وقت تكون فيه الصلوات، وتحضر فيه الرحمات، وتهب فيه الأرواح.
قال: (حَتَّى إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ») وهذا يدل على أنَّ ميلان الشمس من أوقات النشاط، أي: وقت الظهر وما بعده من أوقات النشاط، وأن الإنسان في هذا الوقت قد يكون أنشط منه في وقت آخر.
قال: (قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، واسألوا الله العافية») وهذا من السنن، وفيه عدم الإعجاب بالنفس، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يحرص على لقاء العدو، أو ما يقوم مقام هذا المعنى، مثل: الإنسان الذي يحرض على المشاكل، يقول: ما هناك بأس أن يتم شكواي في المحكمة، أو يتم التبليغ عليَّ في الشرطة. نقول: هذه كلمها من الأمور التي لا ينبغي للإنسان أن يتمنى لقاء العدو أو لقاء ما يشق عليه، أو ما يدخله في العنت.
لا تتمنى لقاء العدو، لا تلاقي خصمك، ما لك حاجة بخصمك حتى لو كان من أهل الإيمان أو كان مسلمًا، تلاقي خصمك في المحكمة وتختلف أنت وإياه، تحب أن تترافع عند القضاة! نقول: هذا كله من تمني اللقاء العدو الذي نهى عنه النبي ﷺ.
(«لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) لأن الإنسان ما يعلم، ما الذي يقدر عليه، وفيه أيضا نوع من ركون النفس إلى قدرتها، وقد يعاقبه الله -عز وجل- بنقيض قصده، كأنما ركن الإنسان إلى قوته وإلى قدرته، وظن أن عنده من القدرة ما يستدفع به الخصم، نقول: لا، بل يسأل الله -عز وجل- العافية.
ولهذا لما سأل العباس النبي ﷺ عن دعاء يدعو به، أمره يسأل الله -عز وجل- العافية، وكان من أكثر دعاء النبي ﷺ أن يسأل الله -عز وجل- العافية.
قال: («فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا») والحقيقة أن من كان من الناس لا يتمنى لقاء العدو كان أصبر الناس، ومن كان حريصا على اللقاء كان أكثر الناس فرارا، ولكم في ذلك عبرة فيما وقع في أحد، فإنهم في بدر ما تمنوا لقاء العدو، وإنما نزل العدو بساحتهم، بل كان كثير منهم كارهًا للقتال، فنصرهم الله -عز وجل-، وأمَّا في أحد فقد تمنوا لقاء العدو، ولما أشار عليهم النبي ﷺ بأن يمكثوا في المدينة، أشار عليه شبابهم بالخروج، أليس كذلك؟ فكان أول من انكسر من تمنى الخروج.
قال: («فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا») امتثالا لقول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾، أي: الثبات والصبر.
(«وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ») ليس بين الإنسان وبين الجنة إلا ظل السيف، وألا يقتل في سبيل الله- عز وجل-، فإنَّ السيف محاء الخطأ، فإذا قُتِلَ كَفَّرَ الله عنه -عز وجل- كل ذنوبه، إلا ما كان من الدين، أو ما كان من حقوق الخلق، فإنه لا يكفر عنه، وأما ما سوى ذلك من الذنوب فإنه يكفر عنه، وهذا من الفضائل العظيمة.
(«وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ») إذا الجهاد من أعظم الأسباب المدخلة للجنة والموجبة للمغفور.
(ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ) هذا دعاؤه ﷺ إذا لقي العدو، «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ») أي: القرآن، («وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ») هزمهم في معركة الأحزاب وفي غيرها، والأحزاب هي الجموع، وما يفهم الإنسان أن (هَازِمَ الأحزاب) يراد بها معركة الأحزاب فحسب، بل هي الأمم الماضية، أولئك الأحزاب، عاد، وفرعون، وثمود، هؤلاء كلهم من الأحزاب الذين هزمهم الله - عز وجل-.
(«اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ») فيه الدعاء بما يناسب المقام، وسؤال الله -عز وجل- والثناء عليه، بما يناسب المقام، فإذا هذا من هدي النبي ﷺ في القتال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»)}.
هذا حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-، وهو من أجل الأحاديث وأصول الأحاديث في الرباط، والرباط هو لزوم الثغر في طاعة الله -عز وجل- أو في الجهاد في سبيل الله، والثغر هي ما يسمى عندنا بالحدود، الحدود التي تكون بين المسلمين وبين الكفار هذه هي الثغور، وقالوا: سميت بالثغور كالثغر، الذي هو الفم؛ لأنها منفذ، فالثغر منفذ للطعام والشراب، والأسنان تكون متفلجة فيكون فيها ثغر، فهي منفذ دخول العدو، ولا يمكث فيها إلا أهل العزائم؛ لأنَّ فيها بعد عن الأوطان وسفر، وفيها أيضا مرابطة، وفيها تعرض للمخاطر، ولهذا قال النبي ﷺ: («رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا») نسأل الله من فضله، من رابط يوما في سبيل الله فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها، كل الأعمال التي تعمل في الدنيا في ذلك اليوم يحوزها المرابط في سبيل الله -عز وجل-؛ لأنَّ ما في الدنيا وما عليها، عليها العبادات وعليها الأعمال الصالحة، فما يؤتاه العبد فيها من الأجر خير له من نعيم الدنيا كلها.
قال: («وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا»)، موضع العصا في الجنة، خير من الدنيا وما عليها.
قال: («وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»)، الرواح هو السير آخر النهار أو قريبا من آخره، والغدو هو السير أول النهار، ولهذا قال الله -عز وجل- ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ الأصيل قريب من غروب الشمس، والغدو هو أول النهار، والمراد -والله أعلم- بالغدوة في سبيل الله أو الروحة، مطلق السبيل سواء كان جهادا أو غيره، حتى الرواح إلى المسجد؛ لأنه رواح في سبيل الله -عز وجل-، فهي أيضا -إن شاء الله عز وجل- مشمولة بهذا المعنى، الرواح إلى المسجد، الرواح إلى دور العلم، الرواح إلى أماكن العبادة، الرواح إلى الحج والعمرة، هذه كلها -إن شاء الله عز وجل- مما يدخل في قول النبي ﷺ: («وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»).
{أحسن الله إليكم.
قال: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ»، وَلِمُسْلِمٍ: «تَضَمُّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ عَلِيّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ».
وَلِمُسْلِمٍ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والله أعلم بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»)}.
هذا حديث جليل، وهو من أعظم الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في فضل الجهاد في سبيل الله، وفيه أن النبي ﷺ قال كما في حديث أبي هريرة: («انْتَدَبَ اللَّهُ»، وَلِمُسْلِمٍ: «تَضَمُّنَ اللَّهُ») وفي بعض الروايات: «تكفل الله لمن خرج في سبيله» الأهم أن يكون خروجه في سبيل الله، والخروج في سبيل الله إنما يكون في الجهاد، هذا هو الأصل؛ لأنه قال ها هنا: («لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي») فإذا ما سوى ذلك من معاني الخروج التي قد يفهمها كثير من الناس، أو يصطنعها ليست من الشرع، وإنما الخروج في سبيل الله ها هنا هو الجهاد في سبيل الله.
قال: («لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ عَلِيّ ضَامِنٌ»)، هذا ضمان من الله -عز وجل- أن يدخله الجنة، بمعنى أنه من حين ما يخرج من بيته إلى أن يعود إلى بيته مضمونة له الجنة على أي حال مات، إن وقصته دابته فهو من أهل الجنة، وهو في حال الشهداء، وإن لدغته دابة فهو من الشهداء، وإن مات عطشا فهو من الشهداء، وإن تردى من وادٍ فهو من الشهداء، وإن لقي العدو فقتلوه فهو من الشهداء، حتى يرجع إلى بيته، («فَهُوَ عَلِيّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»)، يعني: للمجاهد أمران إمَّا الجنة أو السلامة، وإذا كانت السلامة فهي سلامة مع أجر وغنيمة.
وفيه دلالة على أنَّ ما غنمه المجاهد في سبيل الله، فإنه لا يُذهب أجره، نعم قد ينقصه ولكنه لا يُذهب أجره، بمعنى أن الأجر ثابت، ولكن ما من شك أن المجاهد الذي يجاهد في سبيل الله ولا يغنم، أعظم أجرًا من المجاهد الذي يجاهد في سبيل الله ويغنم؛ لأنه قد تعجل شيئا من حظ الدنيا.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والله أعلم بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»)، المجاهد يجري عليه عمله، كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فإن فيه أن فرس المجاهد استنت شرفا أو شرفين كان ذلك حسنات له، ولو أنها وردت نهرا فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كانت حسنات له، فإذا كان هذا الأجر العظيم حتى في فرس المجاهد فكيف الحال أيضا بحال المجاهد نفسه؟
إذًا المجاهد من حين ما يخرج من بيته فحاله كحاله الصائم القائم الذي لا يفتر، الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر، ومن يستطيع ذلك؟ ما يستطيعه أحد من الخلق، أن يصوم الدهر كله لا يفطره، وأن يقوم الدهر كله لا يفتر.
إذا قد حققها الله -عز وجل- للصائم وهو نائم، وهو على فراشه، وهو في خيمته، وهو في بيته، ما دام أنه قد خرج للجهاد في سبيل الله.
قال: («وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ»)، قال: إن توفاه، ولم يقل: إن استشهد، بل متى ما توفاه الله ولو بميتة طبيعية فهو من أهل الجنة.
(«أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ») لكن ينبغي أن يعلم، أنه لا ينبغي الجزم بالشهادة لأحد، أو أن من الأولى ألا ينبغي الجزم بالشهادة لأحد، لأنه قال: («والله أعلم بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ»)، يجوز أن يطلق على الرجل اسم الشهيد، لماذا؟ لأنه يعامل الشهيد، ولكن لا يكون هذا جزما له بالجنة، وإنما يقال فيه: شهيد بمعنى أنه تجري عليه أحكام الشهيد، وأما أن يكون شهيدا، فالله أعلم بمن يقتل أو يجاهد في سبيل الله.
ولهذا قال الإمام -رحمه الله-: (باب لا يقال فلان شهيد) وذكر فيه هذا الحديث، وهو قوله: («والله أعلم بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ»)، فإنه قد يتخيل الإنسان أن هذا الرجل من أعظم الناس منزلة عند الله -عز وجل- ثم يكون من أهل النار، كما جاء ذلك في غير ما أحاديث عن النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ»)}.
لَمَّا فرغ المصنف -رحمه الله- من ذكر أجر الشهيد في سبيل الله، بين ها هنا في هذا الحديث أجر الجريح، فقال: («مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ») والكلم هو الجرح، («مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَلْمُهُ») يعني: جرحه، («يَدْمَى») يعني: ينزو دمًا.
(«اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ»)، ولهذا يشرع أن يدفن المجاهد أو الشهيد بثيابه التي مات فيها، فلا يُغسل ولا يُكفن ولا يصلى عليه، حتى يُبعث يوم القيامة على حاله، فيكون لون دمه لون الدم العادي المعروف، وريحه ريح المسك التي هي أحسن الرياح، وهي كالإشارة والعلامة عليه، فإذا فضله الله -عز وجل- بها على رؤوس الخلائق، وجعلها لأنَّ الرائحة تنتشر أعظم من انتشار اللون، فاللون قد لا يراه إلا القريب، ولكن الرائحة تسري وتنفذ، فتصبح كالعلامة له يوم الحساب عند الله- عز وجل-، ولهذا أثنى الله -عز وجل- على الشهداء وشرفهم وفضلهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ)}.
المصنف -رحمه الله- قد خالف عادته، فإنه قد ذكر حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-، وحديث أبي أيوب إنما أخرجه مسلم، ثم ذكر حديث أنس -رضي الله عنه- وقد ظن أن حديث أنس إنما أخرجه البخاري، فكأن المصنف -رحمه الله- يقول: قد اتفق البخاري ومسلم على هذا اللفظ، ولكن من صحابيين مختلفين، فقد يكون هذا نوع من الاصطلاح عند المصنف، أن المتفق عليه قد يكون متفقا عليه إذا كان إذا كان البخاري ومسلم قد اتفقا على المعنى ولو اختلف في الصحابي، مع أن هذا خلاف الاصطلاح، ولكن حديث أنس كما هو مقرر قد أخرجه البخاري ومسلم، فلو اكتفى به أو لو أنه قد اطلع عليه المصنف -رحمه الله- لاستغنى به عن حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-، لأنهما بذات المعنى.
قال: («غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا») أو لم يمضي معنا حديث سهل -رضي الله عنه- («غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»)، فإذا هذا المعنى قد سبق شرحه وبيانه في حديث سهل -رضي الله عنه-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه ﷺ إلَى حُنَيْنٍ وَذَكَرَ قِصَّةً، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ»، قَالَهَا ثَلَاثًا)}.
هذا حكم من أحكام الجهاد، فإن الأصل في الجهاد أو في الغنائم التي تغنم في المعركة أنها تجمع، وتحاز إلى الإمام، ويحرم الغلول منها، والغلول هو الأخذ منها خفية قبل القسم، والغلول قد عظمه الله -عز وجل- وحذر منه، ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، فإذا الغلول محرم، ومن كبائر الذنوب، هذا معنى الغلول.
والأصل أن الغنيمة إذا حيزت إلى الأمام خمَّسَهَا الإمام، يعني: أخذ خمسها فوضعه في مواضعه لله ولرسوله وولد القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وبقيت الأربعة الأخماس يقسمها بين المقاتلين، للفارس منهم الذي على فرسه ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد.
طيب هذا هو الأصل في الغنيمة، ولكن هناك نوع آخر من الغنائم، وهو ما يسمى بالسلب؛ لأنَّ الأصل في هذه الغنائم أنها هي مجموع ما في الجيش، يعني: متاع الجيش، فإن الجيوش كانت في السابق تأتي ومعها الإبل والغنم، ومعها الذهب والفضة خلفها حتى تشتري بها وتعاوض، يعني: كأنما هو المال العام من الجيش، وهناك أمر آخر وهو السلب، وقد بين النبي ﷺ أن من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قد قالها يوم حنين، قالها يوم حنين قال النبي ﷺ من قتل قتيلا فله سلبه، بمعنى له عليه بينة، فإذا قتل المسلم رجلا من الكفار، فإنه يجوز أن يسلبه ما عليه، ما معنى يسلبه ما عليه؟ يجوز له أن يأخذ سيفه، ودرعه، وملابسه، وما كان معه من مال. هذه كلها قد نفلها الله -عز وجل- للقاتل من المسلمين، وأما ما لم يكن عليه بينة، قتلى كثر في المعركة ولا يعرف حالهم، فهذه كلها تدخل ضمن الغنائم، ولهذا قال النبي ﷺ: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»، وكان أبو قتادة -رضي الله عنه- لما كان يوم حنين فانحاز الناس انحاز معهم، قال ثم ثاب المسلمون، قال: فأدركت رجلا فضربته على عاتقه بالسيف، قال: فضمني ضلمة شديدة حتى وجدت منها ريح الموت، ثم تركني، قال: ثم إن النبي ﷺ قال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»، قال: فقمت ثم قلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. فقال النبي ﷺ: «ما شأنك يا أبا قتادة؟» فأخبرته الخبر، فقام رجل من قريش، فقال يا رسول الله صدق، فأرضه مني، يعني: اطلب منه يسمح لي ويطيب لي بهذا السلب، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "لَاهَا اللَّهِ، إذًا لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ ورَسولِهِ ﷺ، يُعْطِيكَ سَلَبَهُ" فقال النبي ﷺ: «صدق» فدفع إليه السلب، فهذا هو معنى السلب، وقد كان هذا السلب مما يدفع الإنسان إلى المقاتلة، فكان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا كانت المعركة قالوا: من قتل قتيلا فله سلبه، حتى يكون المؤمن أو المقاتل متجرأ على الكفار، ومقاتلا لهم يقصد رؤوسهم بالقتل في المعركة، فليجد ذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون يستكثرون، فكان لبعضهم أحيانا الخمسة أسلاب والعشرة أسلاب، وقد جاء ذلك في معارك مثلا القادسية، واليرموك وغيرها، وكيف أنهم كانوا يقتلون الدهاقين والبطاريق، من الفرس والروم، فيحصل للرجل منهم السلب العظيم بما يحصله من المقتول.
إذا الأصل في ذلك أن من قتل قتيلا له عليه بينة، هذا هو الشرط، الشرط أن يكون هناك بينة، يعني أناس يشهدون له بهذا الأمر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرِهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟» فَقَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ. فَقَالَ: «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ»)}.
هذا حديث سلمة -رضي الله عنه- وهو مقارب لحديث أبي قتادة -رضي الله عنه-، إلا أن حديث سلمة -رضي الله عنه- ليس في المعركة بعينها، وإنما هو فيما قبل المعركة، أو فيما يكون بعدها، وفيه أن النبي ﷺ كان يوما مع أصحابه -رضي الله عنهم- قد انصرفوا من غزوة من الغزوات، أو أنهم م مقبلون عليها، فدخل فيهم عين من المشركين، وكما أنه يجوز للمؤمن أو لأهل الإسلام أن يبثوا عيونهم، فإن المشركين قد كانوا يبثون عيونهم أيضا في أهل الإسلام، أتى النبي ﷺ عين من المشركين، والعين ها هنا هو الجاسوس، الجاسوس الذي يكون للمشركين.
قال: (وَهُوَ فِي سَفَرِهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ) يعني أنه يوهم الصحابة أنه منهم، وهذه من صفات هؤلاء، أنه لا يُلبس على نفسه، وإنما يوحي إلى من حواليه أنه منهم، كما فعل ذلك حذيفة -رضي الله عنه- لَمَّا بعثه النبي ﷺ يتجسس له في غزوة الخندق.
قال: (ثُمَّ انْفَتَلَ) يعني: انصرف، (فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ») أي: فَطِنَ له النبي ﷺ فأمر به أن يقتل حتى لا ينقل إلى المشركين هذه الرسالة، ولا ينقل للمشركين أحوال النبي ﷺ وأصحابه، قال: (فَقَتَلْتُهُ) والظاهر -والله أعلم- أنه -رضي الله عنه- عدا فلحقه، لأنه -رضي الله عنه- كان عداء يسبق الخيل، ومعروف عنه سلمة رضي الله عنه.
قال: (فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟» فَقَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ. فَقَالَ: «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ»)، وهذا مطابق لأحاديث أبي قتادة -رضي الله عنه-: «من قتل قتيلا فله سلبه»، يعني: كل ماله.
وقوله: «له سلبه» يشمل كل شيء، يشمل خيله، ويشمل سلاحه، ويشمل ماله، ويشمل كل ما معه، حتى قالوا: لو كان معه غلام له يخدمه فإنه يكون نفلا للقاتل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ فَخَرَجَ فِيهَا، فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعِيرًا بَعِيرًا)}.
قوله قول ابن عمر -رضي الله عنه- (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ) السرية ما كان يبلغ أربع مئة فما فوق، هذه تعد تسمى سرية.
قال: (إلَى نَجْدٍ فَخَرَجَ فِيهَا) ونجد ذاك الوقت في عهد النبي ﷺ كانوا كفارا.
قال: (فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا) والظاهر والله أعلم أنهم أصابوا إبلا وغنما كثيرا، قال: فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا)، يعني: السهم الشرعي اثني عشر بعير، ولكنهم حازوا منها وفصلوا منها الخمس الذي يؤدى لله -عز وجل- ولرسوله ﷺ، وإذا استلمه النبي ﷺ وكان لله ورسوله ﷺ كان للنبي ﷺ أن يصنع به ما يرى فيه المصلحة، فلما أخذه النبي ﷺ زادهم، فنقلهم بعيرا بعيرا، أعطاهم من الخمس بعيرا بعيرا، وقد جاء أن للإمام أن ينقل في البدء الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده، يعني: إذا بعث الإمام السرية، قبل الجيش فأصابوا شيئا فإنه يجوز له أن ينقلهم الربع، بمعنى أن يعطيهم النصيب الذي لهم، ثم يأتي فينفلهم زيادة عليه إلى الربع.
وإذا رجعوا بعث منهم سرية غنموا فإن له أن ينفلهم وأن يزيدهم على ذلك الثلث.
قالوا: إنما نفلهم الربع في البدأة والثلث في الرجعة؛ لأن الرجعة تكون أثقل على الإنسان، فإذا رجع الإنسان من غزو ثم أرسل مرة أخرى إلى غزاة أخرى، كان ثقيلا عليه، فلأجل ذلك زيد في نفله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إذَا جَمَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»)}.
ذكر فيه حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- («إذَا جَمَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ») يعني: في صعيد واحد، وهذا في يوم المحشر.
قال: («يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ») الغادر هو الخائن، يرفع لكل غادر لواء، الغادر هو الخائن، الغادر هو الخائن، لواء يعني علامة، كاللواء يرفع في الحروب، وهو الشارة والعلم، بقدر غدرته يعني: إن كانت غدرته عظيمة كانت رايته أعظم، وإن كانت غدرته دون ذلك، كانت الراية دون ذلك.
قال: («يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ») فيسمى، ويكون على رؤوس الخلائق، وهذا أعظم ما يكون من الخزي، ففي هذا الحديث ما يدل على ذم الغدر، وإنما ذكره المصنف -رحمه الله- في كتاب الجهاد؛ لأنه من مظان الغدر، فإن المسلم أحيانا قد يتوسع مع الكفار فيغدر بهم، يعطيهم عهدا وميثاقا ثم يغدر بهم، فيقال: هذا داخل في قول النبي ﷺ: («إذَا جَمَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»)، ولهذا أمر الله -عز وجل- عند المخافة من غدر القوم أن ينبذ إليهم، لو أنَّ إمامًا أو حاكمًا أو قائدًا خشي من غدر الطرف الآخر، فلا يجوز له أن يبدأهم! إذًا ماذا يصنع؟
هل ينتظر حتى يغدر به؟ نقول: لا، بل ينبذ إليهم، يقول: اسمعوا يا جماعة، ترى الصلح الذي بيني وبينكم انتهى، أوليس بيني وبينكم صلح؟ قال: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ﴾، يعني: حتى تكون أنت وهم على علم واحد، فتخرج من مسمى الغدر، فهذا من الأدب العظيم الذي أدب الله -عز وجل- به رسوله ﷺ، وهذا يدل حقيقة -معاشر الإخوان والأخوات- على أن الإسلام قد راعى الأدب في الحروب قبل أن تأتي هذه الأنظمة الحديثة، قد راعاها أعظم ما يكون من المراعاة، فحرم الله -عز وجل- ورسوله ﷺ الغدر في الحروب، وحرم نقض المواثيق، هذه كلها محرمة، ولهذا التزم النبي ﷺ بصلح الحديبية على الرغم من أنه قد كان فيه فيما يظن كثير من الصحابة الجور على المسلمين، وذلك تحريما من النبي ﷺ للغدر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ﷺ مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ قَتْلَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ)}.
هذا حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وفيه أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي ﷺ مقتولة، وهذه الغزوة -والله أعلم- أنها غزوة حنين، وقد قتلها خالد -رضي الله عنه-، وإنما قتلها -رضي الله عنه- لأنَّ النبي ﷺ مر عليها فقال: ما كانت هذه لتقاتل؟ فقيل إنه قد قتلها خالد -رضي الله عنه-، وإنما قتلها خالد -رضي الله عنه- لأنه أردفها كسبية، فأرادت أن تعالجه فتقتله، فدفع عن نفسه -رضي الله عنه- بقتلها، وإلا فإن خالدا -رضي الله عنه- أشرف من أن يقتل النساء؛ لأنه عربي كان يترفع عن قتل النساء في الجاهلية، فكيف يقتلهن في الإسلام؟ فحرم الله -عز وجل- ورسوله ﷺ قتل النساء والصبيان، لأنهم لم يقاتلوا، قالوا: إلا إذا كانت المرأة تحمل السلاح، فإذا حملت المرأة أو الصبي السلاح، فإنه يجوز قتالهم، لأنهم بدأوا بالعدوان، وينبغي للمؤمن أن يدفع عنه، وإلا فالأصل ألا يقاتل، وهذا من الأدب الرفيع، من أدب الحروب، التي لم يفقهها كثير من الأمم والأقوام، إلا من فترة قريبة، وإلا فقد كان النساء والصبيان هم من يكتوون بنيرانهم، فحرم الله -عز وجل- ورسوله ﷺ قتل النساء والصبيان، ومنع أيضا من قتل من لا يقاتل.
إذا الأصل في القتال أن يقاتل من يقاتل، وهل قتال الكفار لأجل الكفر ذاته، أو لأجل رد عدوانهم؟ هذه مسألة خلافية بين العلماء -رحمهم الله- والصحيح -والله أعلم- أن ذلك لدفع شرهم وعدوانهم، فمن لم يقاتل من الكفار لا يجوز قتله ابتداء، بل يقبل منها للجزية، ثم إن الجزية، هل تشترط أو هل تجب فقط على اليهود والنصارى والمجوس؟ أو أنها أوسع من ذلك، المذهب أنها اليهود والنصارى والمجوس، لكن حقيقة عمل المسلمين كان على أكثر من ذلك، فإنهم قد قبلوا الجزية مثلا من الهند، ومن الصين، ومن البربر، وكل هؤلاء لم يكونوا يهودا ولا نصارى ولا مجوس، فدل -والله أعلم- على أن الأمر في ذلك أوسع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْته عَلَيْهِمَا)}.
هذا حديث الترخيص في لبس الحديث، وقد ذكرنا أن الأولى أن يذكر -رحمه الله- في كتاب اللباس، لأنه لا علاقة له حقيقة بكتاب الجهاد، إلا من جهة أن بعض العلماء، قال: إنه يجوز للإنسان في الجهاد أن يلبس مثل الحرير ونحوه، قالوا: لأنهم من باب الإغاظة للمشركين، فقد جوز بعض العلماء لبس الذهب مثلا، ولبس الحرير، والتبختر في القتال، قالوا: لأنَّ هذا مما يحصل به الإغاظة والإخافة للمشركين؛ لأنَّ المشركين يهتمون ويعتدون بالمظاهر، ولكن الأظهر -والله أعلم- أن الترخيص هنا لم يكن لأجل القتال؛ لأنَّه لو كان للقتال لرخص لبقية الصحابة، ولما أبان انس -رضي الله عنه- أن الترخيص إنما كان لحكة.
قال: (شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ)، وفي بعض الروايات حركتهم كانت بهما، والظاهر أن هذه الحكة كان سببها القمل، لأنَّ القمل يصيب بالحكة
(شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْته عَلَيْهِمَا) فيه دلالة على أنه يجوز لبس الحرير إذا كان يعلم أنه يدفع بعض الحكة ونحو ذلك، هذا فيه ترخيص جاء من النبي ﷺ، فلا يتجاوز أيضا، لا يتجاوز هذا الحكم إلى غيره.
ولعلنا نكتفي بذلك، والله -تبارك وتعالى- أعلى وأعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم، ورضي عنكم، وشكر لكم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن الاستماع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.