الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

10258 21
الدرس التاسع

عمدة الأحكام 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية (هداة) والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في البدء}.
نعم، على بركة الله تعالى
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ. وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَدِيَ».
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُكْتُبُوا لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ»، ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إلَّا الْإِذْخِرَ»)
}
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فقد سبق أن شرحنا النصف الأول من هذا الحديث، وهو قسم لا يتعلق بأحكام هذا الباب، أعني كتاب القصاص، وتبقى معنا النصف الثاني منه.
وهذا الحديث يعد أصلا من أصول أبواب القصاص، وأصول أبواب سفك الدماء خاصة، وما يتعلق بها من أحكام الدية، ومن أحكام القود.
والقود -كما سبق وذكرنا- هو أخذ الجاني بمثل جنايته، بينما الدية فهي المال المدفوع عوضًا عن الجناية. قال النبي : («وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَدِيَ»)، وأخبر النبي في هذا الحديث أنَّ ولي الدم له الحق في الخيارين:
الخيار الأول، هو خيار القود، بمعنى أن يأخذ القاتل بمثل ما قتل، وهو خيار القصاص الذي قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:179].
والخيار الثاني: خيار الدية، وهذا من تخفيف الله -عَزَّ وَجَلَّ- على هذه الأمة، فإنه قد كان في الشرائع السابقة إمَّا القِصاص محتمًا، كما يُنقل عن شريعة موسى ، وإمَّا الدية محتمة، كما يُنقل عن شريعة عيسى ، فجعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهذه الأمة الوسط -الخيارين- فإمَّا أن يشتفي ورثة المقتول وأولياؤه من قاتله بقتله، وإما أن تطيب نفوسهم عن ذلك إلى الدية، أو إلى ما هو أكثر من الدية في العفو وأوسع منها، وهو أن يقولوا: نعف مُطلقا أو مجانًا، وهو ما يسمى عند العلماء بالعفو مجانا، أي: يعفون بدون مقابل، وفي هذا يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:178]، فقوله: ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ دلَّ على معنى الدية، وأنَّ الأصل في العفو أن يكون إلى دية، هذا هو الأصل، حتى يثبت خلاف ذلك.
فإذا كان كذلك فنقول: يُستفاد من هذا الحديث وجوب القَوَد في قتل العمد بكل حال إذا استوفت وتحققت شروطه، يعني: أن يقتل متعمدا مختارًا، ويكون المقتول ممن يُقاد به القاتل؛ فإنه يجب عليه ها هنا القود، يعني: يجب أن يُؤخذ بهذا القتل، ويكون الخيار فيه ها هنا إلى أولياء الدم، وليس إلى أحدٍ سواهم، إلا إذا كان في الجريمة أو في الجناية أمر يُخرجها من أن تكون حقًا خاصًا إلى أن تكون حقًا عامًّا.
مثال: تكلم بعض العلماء كمالك -رحمه الله- عن قتل الغيلة، وقتل الغيلة هو أن يأتي القاتل إلى المقتول فيخادعه، ويوهمه أنَّه سيخرج معه إلى رحلة أو إلى نزهة، ثم يغتاله، فها هنا قال العلماء -رحمهم الله-: هذا فيه القود بكل حال. لماذا؟ لأنَّ الحق هنا ليس مجردًا أو خاصًا، بل هو نوع من التعدي على الأمن، ونشر الخوف بين الناس، وبناء عليه يخرج من كونه حقًا خاصًا إلى كونه حقًا عامًا.
وذكروا جملة من المسائل من أهمها الحرابة، ومن المعلوم أنَّ الحرابة الحق فيها ليس خاصًا، فالقاتل في الحرابة وهو المحارب الذي يخرج فيقطع الطريق على الناس، فلو أنَّ الإمام قبض عليه واعترف بجنايته وقال: نعم أنا قتلت فلانًا وفلانًا، ولكن سأخبركم شيئًا، لا تقتلوني، عليكم بورثة فلان وفلان وانظروا، فإن عفوا فما الذي يجعلكم تأخذونني بالقود؟
نقول: لا، عفوهم ليس له شأن؛ لأنَّ جريمتك الآن جريمة تجاوزت الحق الخاص إلى الحق العام، فإذا لم تكن كذلك فالأصل أنَّ الحق إنما هو لأولياء المقتول، وهذا هو أغلب جرائم القتل التي تحصل الآن، فالحق فيها لأولياء المقتول.
وإذا قلنا كذلك، فإنَّ أولياء المقتول عند العلماء هم كل من ورث الدم، يعني: كل الورثة، فالزوجة تدخل في ذلك على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول الإمام أحمد -رحمه الله- والذرية يدخلون فيها، والوالدان يدخلون، والإخوة إذا كانوا يرثون فإنهم يدخلون فيها، وكل من كان وارثًا فإنه يدخل فيها، يعني: جعلوا الدم بمنزلة المال، كأنما يورث كما يورث المال. لماذا؟
قالوا: لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- إنما قسَّم المال ووضع المال في الأقربين، أقرب الأقربين، فكذلك شأن الدم.
وبعض العلماء -وهو قول مالك رحمه الله- قال: إنما يتعلق الدم بالعاقلة، وهم العصبة، أي: أبناؤه، وآباؤه، وإخوانه، وأعمامه، ومن سواهم فإنه لا يتعلق بهم، كالزوجات والبنات وغيرهم لا يتعلق بهم، والصحيح هو ما ذكرناه، أنَّ كل من ورث المال فإنه يرث الدم أيضًا، ويكون له الحق في العفو، وهذا أمر مهم، بمعنى لو أنَّ واحدًا منهم عفا عن الدم، وقال: أنا أقبل بسقوط الدم والتنازل إلى الدية؛ سقط حق القتل لماذا؟
لأنه وجد الآن شُبهة وهي عفو أحد الورثة، ولا يتطلب أن نقول: لا بد أن يعفو جميع الورثة، بل إذا عفا أحدهم سقط القتل، وانتقلوا من مرحلة القود إلى مرحلة الدية.
ومما يدل على ذلك قول عمر -رضي الله عنه- في الرجل الذي قُتِلَ فعفت امرأته، فقال عمر: الحمد لله عَتِقَ القاتل. يعني: عتق بعفو امرأة المقتول، فإذا عفت امرأة المقتول مثلا، أو عفت ابنته، أو ابنه، أو والده، أو والدته؛ سقط الحق. هذا هو الأصل، وإذا سقط الحق انتقل الحق مباشرة إلى الدية العرفية، أو الدية الشرعية، وهي مئة من الإبل أو ما يقوم مقامها، هذا هو الأصل في الديات، وهو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أنَّ الأصل في الديات هو الإبل، فيكون مئة من الإبل.
وإذا كان الزمن كما في زمننا هذا، حيث إنه من المعلوم أنَّ الإبل صارت غير متوفرة عند الناس بحيث أنها تعطى في الديات بهذه الطريقة، ولذا تُقَوَّمُ الإبل تقويم الوسط منها، فلا يُذهب إلى الإبل النجيبات، أي: الجيدة، ولا يذهب إلى الرذل منها، وقد كانت الدية إلى قبل فترة يسيرة توازي بالدراهم السعودية مئة ألف ريال، وهذا شيء معروف، واستمرت على ذلك زمنًا طويلاً، يعني: من عهد الشيخ/ محمد بن إبراهيم، أي من قبل سنة ألف وثلاثمئة وثمانية وتسعين، وإلى قريب من في عهد الملك فهد عام ألف وأربعمئة واثنين وثلاثين تقريبًا، وهي لا زالت على حالها، حتى أعيد تقييمها من قبل هيئة كبار العلماء، فَقُوِّمت بثلاثمئة ألف ريال في دية الخطأ، وبأربعمئة ألف ريال في دية شبه العمد.
والقتل العمد إذا تم التنازل عنه فإنه ينزل مباشرة من مرتبة القود إلى مرتبة دية شبه العمد، فيكون اللازم فيها الآن أربعمئة ألف ريال.
والحقيقة أنه حري أن يعاد تقييمها لِمَا يحصل عليها تضخم كما حصل على باقي السلع، فمن المفروض أن تقيم كل خمس سنوات، أو كل عشر سنوات؛ لأن الآن مئة من الإبل ليست قيمتها أربعمئة ألف، حتى ولو كانت من أوساط الإبل، بل قد تكون أكثر من ذلك.
إذًا هذا هو الأصل في الدية، إمَّا أن يقتل أو إمَّا أن يَدِي، يعني: يأخذ الدية أو يعطيها، فيعطيها إن كان قاتلا، ويأخذها إن كان وليًا للدم، ويقال في هذا: إنَّ الأمر ليس منوطًا بالقاتل؛ لأنَّ القاتل ليس له من ذلك شيء البتة، وإنما الأمر إلى أولياء الدم.
بقي أمر، وهو أنه يجوز لهم أن يتنازلوا عن القتل إلى ما هو أكثر من الدية، وهو ما يعرف عند العلماء -رحمهم الله- بما يصطلحون عليه، وقد جاء أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنَّ النبي قال: «على ما اصطلحوا عليه». يعني: إذا سقط القتل، فإن لهم أن يصطلحوا على ما يشاؤون عليه.
فيقال مثلا: أنا ولي الدم، ويحق لي قتلك، ولن أتنازل عن هذه الجناية إلا بمقابل قدره كذا وكذا، فيقول مثلاً: مليونا ريال، أو ثلاثة أو خمسة أو أكثر أو أقل، وله الخيار في ذلك، وهذا جائز، ومما يدل عليه قصة "هُدبة بن الخشرم"، وقد كانت قصة مشهورة، وهو رجلٌ من التابعين، فإنه قتل قتيلا، فشفع فيه الحسن والحسين، شفعا فيه إلى أولياء الدم، وأعطوهم عليه سبع ديات، فرفض أولياء الدم وأبوا إلا قتله، فَقُتِلَ بذلك، فدلَّ ذلك على جواز المصالحة على أكثر من الدية، وهؤلاء عرضوا أن يدفعوا سبع ديات.
ودل ذلك على أنه لا يجب على أولياء الدم أن يقبلوا، وليس واجبًا عليهم أن يُشَفِّعوا أحدًا، يعني: من أعظم شفاعة في ذلك الزمان من الحسن والحسين أبناء رسول الله ، بل كان معهم أيضًا عبد الله بن جعفر -ابن عم النبي -، كل هؤلاء الثلاثة شفعوا فيه فرفضوا، فليس واجبًا على أولياء الدم أن يشفعوا؛ لأن الأصل في القتل أنه شفاء، وقد ما يشتفي الإنسان بالمال. يقول ماذا أفعل بالمال؟ أنا أريد أن يُقتل القاتل، فله ذلك.
ولكن الأولى بالإنسان أن يعفو سواء إلى دية، أو أن يعفو إلى أكثر من ذلك، وهو أن يعفو مجانًا.
قال ها هنا: («وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَدِيَ»)، يعني: له القتل وله الدية، والأصل أنه إذا عفا أحد الورثة بلا شرط فقط سقط القتل مباشرة إلى الدية، فلو أنَّ بعض الورثة لَمَّا رأوا أنَّ هذا الوارث قد عفا تبادرون قالوا: الآن سيذهب علينا خير كثير، ذهب علينا القتل فلا يذهب علينا، فأتوا وقالوا: بما أنه عفا فنحن سنصطلح معك على خمسة ملايين، أو عشرة ملايين، نقول: لا، لقد انتهي الأمر، والصلح هذا انتهى، والصلح قد كان يجب أن يأتي قبل عفو أحد أولياء الدم؛ فإنه إذا عفا أحد الأولياء بلا شرط؛ انتقل مباشرة من كونه واجب القود إلى أن تجب فيه الدية، ولم يبق لِمَا يتعلق بالمصالحة على أكثر من الدية معناه، وهذا من الأحكام المتعلقة بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُكْتُبُوا لِي) يعني: اكتبوا لي هذا الحديث، وفيه دلالة على جواز كتابة الحديث كما سبق وذكرنا، وهذا من أصح الأحاديث الدالة على كتابة الحديث عن رسول الله عند الحاجة إليه.
قال: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ»)، وجاء في بعض الروايات أنَّ الأوزاعي سأل فقال في قوله: («اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ») أي: اكتبوا له هذه الخطبة.
قال: (ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا الْإِذْخِرَ)، وهو نبات طيب الرائحة، وهو نوع من الحشيش، يحش بالمحش (فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إلَّا الْإِذْخِرَ»). أي أنَّ النبي رخص فيه.
من الفوائد في هذا الحديث:
- مشروعية كتابة السنة عن رسول الله .
- وفيه جواز التنازل عن القتل إلى الدية، أو المصالحة على أكثر من الدية؛ لأنه قال: («وَإِمَّا أَنْ يَدِيَ») هي دية عامة، ولم يحددها النبي بالدية العرفية، ولذا كان له أن يصطلح على دية أكبر منها، وله أن يصطلح على مثلها، وله أن يصطلح على أقل منها، وله أن يعفو أيضا عن ذلك مجانا، وهذه كلها من الأحكام المتقررة من هذا الحديث عن رسول الله .
- وفيه أنه إذا عدل عن القتل إلى الدية، لم يجز له الرجوع بعد ذلك، وهذا لا بد أن يُعلم، أنَّه متى ما وافق أحد الورثة، ووثق تنازله إمَّا بإقراره، أو بشهادة شاهدين، فقد سَلِمَ القاتل من القتل، ولا يمكن أن يُقتل بعد عفو أحد أولياء الدم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْت النَّبِيَّ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ: لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ، أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ» مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ)
}.
حديث عمر بن الخطاب وحديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما- هما من الأحاديث المتعلقة بكتاب القصاص أيضًا، وجاء في حديث عمر -رضي الله عنه- (أنه اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ)، وقد كانت هذه هي سيرة عمر -رضي الله عنه-، فإنَّه من أوائل من سَنَّ المشورة في الفتيا، وقد كان من أوائل من صنع ذلك الصديق -رضي الله عنه-، ثم جاء من بعده عمر على مثل سنته وهديه، فكان يستشير الناس في كل أمر نزل به ولم يكن عنده فيه سنة رسول الله ، ومن ذلك (إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ)، والإملاص بمعنى: الإسقاط، أي: إسقاط المرأة لجنينها، يعني: أن تُلقي المرأة الجنين ميتًا، وهذا إنما يكون بجناية، وأمَّا إذا لم يكن بجناية، أي: ليس لها علاقة بكتاب القصاص، كما لو أن المرأة تمشي أو تتحرك فسقط جنينها، فهذا ليس له علاقة بكتاب القصاص البتة، بل هذه حالة طبية، وقد تدخل هذه الحالة في موضوع العدد، وليس لها علاقة بكتاب القصاص.
وإنما ها هنا ما يتعلق منها بكتاب القصاص فيما لو اعتُدِيَ على هذه المرأة. كيف؟
أي: يُعتدى عليها بالضرب، كأن تضرب في بطنها فيسقط جنينها، أو يُعتدى عليها بالترويع. كيف؟ أن تُروع، وقد جاء نحو ذلك عن عمر -رضي الله عنه-، ولعلَّ هذا من باب مشورته في الإمْلَاصِ، فإنَّ عمرًا -رضي الله عنه- ورد عنه أنه ذكر له امرأة تُذكر بالسوء، أي: يَدخل عليها الرجال، فأرسل إليها، فلمَّا جاءها الرسول يطلبها للحضور إلى الخليفة فزعت، قامت فزعة وقالت: مالها ولعمر، فأسقطت جنينًا كان في بطنها، فسأل عمر -رضي الله عنه- من كان معه في المجلس، فأشاروا عليه وقالوا: لا شيء عليك.
فقال علي -رضي الله عنه-: لا، بل عليك فيها الدية؛ لأنك أنت المتسبب فيها، وهي لم تثبت جنايتها الآن؛ لأنه لو ثبت جنايتها فـ سراية الجناية غير مضمونة، ولكن ما ثبتت جنايتها حتى الآن، لأنها لا تزال فيما يسمونه مرحلة التحقيق، أو مرحلة التثبت والكشف، فَضَمِنَهَا عمر -رضي الله عنه- وقسم ديتها في "بني عدي".
قال: (اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْت النَّبِيَّ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ) قضى فيه بغرة يعني: قضى في سقوط الجنين ميتًا من بطن أمه، بأنَّ ديته (غُرَّة عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ)، والغرة هي مقدمة الشيء، هذا هو الأصل في الغرة، وإذا قلنا: (غُرَّة عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ) يعني: إمَّا جارية أو غلام.
طيب كم تقدر؟ غرة عبد أو أمة يختلفون اختلافًا شاسعًا، وقد لا يتوفر هذا في هذه الأزمان، فجاء عن النبي تحديدها بِعُشْرِ دية أمه. الرجل ديته مائة من الإبل، والمرأة ديتها على النصف، أي: خمسون من الإبل، فيكون عُشر دية المرأة = خمس من الإبل.
وبناء عليه، إذا كنا نتكلم عن الدية بالنقد السعودي الآن، أي: بالريال السعودي في الدية فنقول: ينظر فيها هل شبه عمد أم خطأ؟ فإن كانت شبه عمد، وشبه العمد هو أن يقصد الجناية بما لا يقتل غالبًا، هذا هو شبه العمد، فهنا القصد موجود، ولكن الآلة ما تقتل غالبًا.
وأمَّا العمد فهو أن يقصد الجناية بما يقتل غالبًا، وهذا قد اجتمع فيه أمران، وهما: القصد، والآلة التي تقتل.
إذا في شبه العمد قصد الجناية موجود، ولكن الآلة لا تقتل غالبًا؛ كمن ضرب بطن امرأة بعصا عادية، فقتلت الجنين، والعصا لا تقتل غالبًا.
وأمَّا الخطأ فالقاتل لا يقصد الجناية، ولكن تقع منه الجناية.
إذًا هذه هي أقسام القتل عمومًا، والأصل في (إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ) أنها إذا أسقطت جنينها؛ فإنه يجب فيه عشر قيمة أمه، ثم يُنظر هل كان هذا من باب العمد، أو من باب شبه العمد، أو من باب الخطأ؟
فإن كان من باب العمد وشبه العمد ففيه الدية مغلظة، قد يقول الإنسان: كيف في شبه العمد وهو ما يقتل؟ هذا سؤال مهم. هو متعمد لماذا ما يقتل؟ نقول: إن سقط الجنين حيًا ثم مات، وتبين أنَّ موته كان بسبب هذه الجناية؛ فإنه يُقاد منه، أي: يقتل، ولكن الجنين الآن سقط ميتًا، ولأجل ذلك انظروا -يا إخوان ويا أخوات- فهذه مسألة مهمة، ونحن نتكلم عن الإمْلَاصِ، وهو سقوط الجنين ميتًا.
ولعلنا نتكلم بعد قليل عن مسألة ثانية، وهي: سقوط الجنين حيًا ثم وفاته بعد ذلك، وهذه مسألة ثانية.
المسألة رقم واحد، سقوطه ميتًا، هذا هو الذي يسمى الإمْلَاصِ، وهو الذي جاء في حديث عمر، فإن سقط ميتًا بعمد أو بشبه عمد؛ كان فيه الدية المغلظة، وهي خمسٌ من الإبل، ولكنها إن كانت عمدًا تغلظ أسنانها، يعني: يطلب منها السن الرفيعة، فتكون مثلا جذعات.
وإن كانت خطأ فتطلب منها السن التي دون ذلك، هذا هو الأصل، وهي خمس من الإبل، وبالريال السعودي الآن قلنا: إنها عشر قيمة أمه، يعني معناها أنها خمس عُشر قيمة الرجل.
فإذا ذكرنا أن دية الرجل في قتل الخطأ الآن ثلاثمئة ألف ريال، فمعناها أنَّ خُمس العشر هنا هو: خمسة عشر ألف ريال، وهذه هي دية هذا الجنين.
وإذا كانت قتل شبه عمد، فقد ذكرنا أنَّ الدية أربعمئة ألف، ومعناها أن خُمس العُشر يعني: خمسة في المئة منه، يكون عشرون ألف ريال، هذه هي دية الجنين إذا سقط ميتًا.
قال: (قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ: لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك) قد كان هذا هو هدي عمر -رضي الله عنه- غالبًا في الأحكام التي لم يكن عنده فيها دليل من رسول الله ، وإنما غرضه بذلك -رضي الله عنه- الاحتياط.
قد يقول إنسان: أنا سأحتاط كما يحتاط عمر، نقول: لا. لماذا؟ لأنَّ عمر -رضي الله عنه- قد كان عندهم من دوافع الاحتياط ما ليس عندنا الآن.
مثل ماذا؟ من جهة أن عمر ماذا يقول؟
يقول: الصحابة متوافرون، وأنا من الصحابة، وقد شهدت النبي ، وكنت معه دهرًا طويلاً ثمانية عشر سنة، فكيف خفي عليَّ هذا؟ فإذا خفي عليه ذلك، فإن عمر -رضي الله عنه- يخشى أن يكون الصحابي قد وهم أو أخطأ، فيريد التثبت من ذلك -رضي الله عنه-، ولذا كان يطلب أن يأتي الشاهد بشاهد معه، وهذا كان منه -رضي الله عنه- في بعض الأحكام وليس في كلها، وإلا فقد قَبِلَ عمر -رضي الله عنه- مثلا من عبد الرحمن بن عوف. ألم يقبل ابن عبد الرحمن بن عوف "قصة سرف" قبل من حديث الطاعون، ولم يقل: "ائتِني بمَن يشْهدُ معَكَ".
وقد قبل أيضًا من على -رضي الله عنه- جملة من الأحاديث، ولكن عمر -رضي الله عنه- كان يُقَيِّمُ، فبعض الأحاديث تحتاج إلى سند.
إذًا لَمَّا شهد المغيرة قال: (لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ).
ثم ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفيه أنه قد (اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ)، وكلمة اقتتلوا يعني: تصارعوا، وتقاتلوا بالأيدي والحجارة ونحو ذلك، وقد كانتا ضرتين تحت رجل من العرب، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، وهذه الجناية تُعد عند العلماء شبه العبد، وهذا من معاني شبه العبد، فهي رمتها بحجر -والله أعلم- أنَّ هذا الحجر قد وقع على بطنها؛ لأنه لو وقع على رأسها لقلنا: إن الرأس من مظانِّ القتل، ولكنه وقع على بطنها، وهذا هو المشهور، وقد جاء في بعض الروايات أنها رمتها على رأسها، ولكن نحتاج إلى أن نتثبت منها.
قال: (فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ، أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ)، وهذا حكم جليل، وهذا الحديث في الحقيقة من أعظم أحاديث القصاص والديات؛ لأنَّ فيه معان:
المعنى الأول: بيان حكم شبه العبد، وهو أنَّ هذه المرأة قد قتلت المرأة الأخرى بحجر، فما أقاد منها النبي ؛ لأنه حمل جنايتها على أنها جناية شبه عمد، وليست جناية عمد.
الأمر الثاني: أنه قضى بدية الجنين، وقد سبق ذكرها؛ لأنها قد قتلتها وما في بطنها.
الأمر الثالث: أنه قضى بدية المرأة على عاقلتها، وعاقلة المرأة هم: عصبتها أيًا كانوا. ما معنى العصبة؟ العصبة هم الذكور من الرجال الذين يرثونها واحدًا بعد الواحد، يعني: والدها؛ لأنه من العصبة، وإخوتها من العصبة، وأعمامها وإخوانها وأبناء أخيها، وأبناء عمها من العصبة، وهؤلاء جميعًا يرثونها في بعض الأحوال فهم عصبتها، وهم العاقلة، والعاقلة مبدأ شرعي بمعنى: أنه إذا حصل القتل، والقتل ها هنا كان شبه عمد أو كان قتل خطأ.
قد يقول قائل: من أين أتيتم بأن هذا القتل في هذا الحديث شبه عمد ولم يكن عمدا؟
نقول: قد يكون عمدًا وتم العفو عن القتل صح؟ ونقول: أخذناه من قوله: (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا) مع ما تقرر عند العلماء، وقد حكي الإجماع على أنَّ الدية في قتل العمد لا تكون على العاقلة، فإنَّ العاقلة لا تحمل عمدًا ولا صلحاً ولا اعترافًا كيف؟
العاقلة الذين هم عصبة الإنسان، لا يحملون العمد، بمعنى أنهم لا يتحملون عنك أيها القاتل قتل العمد، ولا يتحملون قتل العمد عنك، إلا إذا كان في عفو وستقتل أنت، أو سيقتل القاتل، لكن هؤلاء لا.
ففي حال ما إذا عفا الورثة أو أولياء الدم، فتتحول إلى دية أليس كذلك؟ ولَمَّا تحولت إلى الدية جاء هذا القاتل إلى بني عمه وإلى عصبته فقال: الحمد لله أبشركم أنه قد تم العفو عن القتل، قالوا: بشرك الله بالخير. قال: إذًا ادفعوا. قالوا: ندفع ماذا؟ قال: ادفعوا الدية. يقولون: لسنا ملزمين بذلك.
يا جماعة ترى ليست الدية هذه الملايين التي تجمع الآن، وإنما هي أربعمئة ألف ريال، يقولون: لسنا مطالبين بها، وهذه جنايتك أنت تحملها.
ولكن إذا كان قتل خطأ أو قتل شبه عمد؛ فإنَّ العاقلة تحمل. لماذا؟ لأنه لم يتمحض فيه الجناية بكل حال، فإذًا تحمل العاقلة ويقال للعاقلة: واسوا صاحبكم، فإن صاحبكم لم يقصد القتل. لم قد وقع منه خطأ، أو وقع منه شبه عمد، ولذا قال هنا: (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا) فدلَّ على أنها إمَّا أن كانت خطأ أو كانت شبه عمد، ولا يحتمل أن تكون خطأ من جهة أنها رمتها بحجر، وقد كان بينهما صراع، ففيه قصد الجناية، وكل واحدة منهما تريد أن تصيب الأخرى، لكنها ما كانت تقصد القتل.
إذًا قوله: (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا) دلَّ على أنَّ القتل ها هنا قتل شبه عمد.
قال: (وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ)، أي: قسم الميراث بينهم على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يعني أنَّ العاقلة ما صار لهم شيء لماذا؟ لأن الولد موجود، وإذا وجد الولد أسقط العصبة، فكل هؤلاء العاقلة سقطوا.
(فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟)، أي يقول: كيف يا رسول الله أغرم هذا الجنين الذي لم يشرب، ولم يأكل، ولم ينطق، ولم يستهل.
(فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟) يعني: يهدر، هم يقولون: طَلَّ دمه، يعني: أهدره.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ») لماذا؟ قال: من أجل سجعه الذي سجعه؛ لأنه سجع ها هنا سجعًا يريد أن يخالف به النصوص، يريد يخالف به الشرع، وذلك لَمَّا قال: (كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟) فقال: النبي : إنما هذا من إخوان الكهان، فَدَلَّ ذلك على أنَّ كل من عارض الحق ممن حسن منطوقه؛ فإن الشيطان قد ألقى على لسانه شيئًا، فكل من رأيتموه يحييك الألفاظ وينمقها، وعنده شبهات يظنها بعض الناس حججا، ويتقحم على النصوص بأمور يقف بعض الناس عندها ويقول: نعم، هذا إشكال ظاهر. نقول: هذا كله من سجع الكهان، كلها من وساوس الشيطان التي ألقاها على لسان هذا، وليس الشيطان عاجزًا.
ترى شبهة (حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ) أقوى من تسعين في المئة من الشبهات التي يقذفها أعداء السنة في وجه السنة، وأعداء الكتاب في وجه الكتاب، ما عندي شك، هذه الحجة أقوى من هذه الحجج كلها، ومع ذلك ترى يا إخوان وهذا منهج نبوي عظيم، وهو التعامل مع أعداء النصوص بالترفع والتعالي، ما تترفع أنت في ذاتك، ولكن تترفع بما معك من نصوص، كيف تترفع؟ أي: لا تجيب عليه.
ومن اعترض على النص فصار من إخوانك، وهو إنما معه وساوس الشيطان، فليست كل شبهة نحتاج إلى أن نجيب عنها، وليس كل من أورد علينا شبهة من الشبهات على سنة رسول الله سنجيب عليها! ما نستطيع وستصبح لقاءات الإنسان، ومجالسه العلمية، وكتبه، وحديثه، إنما هو في كشف الشبهات؛ لأنَّ الشبهات لا تنتهي، يلقيها الشيطان ويفتقها كما يفتق أهل العلم العلم، انظروا إلى قدرة العلماء على تفتيق العلم، وانظروا إلى قدرتهم على تفتيق معاني كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
يأتي المفسرون بعد مضي مئة عام، ومئتي عام، وألف عام، وألف وخمسمئة عام، على وفاة النبي ، وعلى ذهاب أئمة المفسرين، فتجد أنَّ الرجل منهم عنده من القدرة على الاستنباط من معاني القرآن مما لم يُسبق إليه. نعم لا نقول معان جديدة، وإنما إشارات ولطائف وحكم وهدايات وفوائد، هذه كلها موجودة، فكذلك أيضًا عند أولياء الشياطين من الجلد مثل ذلك أو قريبا منه، على تفتيق الشبهات، والشبهات ما هي إلا مجرد كلام، أمور عقلية تحاك بمنطوق، مثل هذا المنطوق الذي حاكه (حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ)، فيرد عليه بمثل ما رَدَّ النبي على (حمل)، والنبي لم يجب عليه، ولم يقل له: إن الجنين له حق، ولا يجوز قتله، ولا يجوز التعدي عليه، وهو نفس قد نفخ فيها الروح. فلم يتكلم النبي بهذا كله، وإنما جاوزه النبي وأجاب عليه بمثل هذا الجواب.
إذًا ذكرنا دية الجنين، وذكرنا دية المرأة، وذكرنا دية الخطأ، ودية شبه العمد، ودية العمد في حال العفو، وذكرنا أنَّ الميراث إنما يكون لولدها ومن معهم، يعني: أنه يقسم بين ورثتها على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذا هو الأصل في الميراث.
والدية التي تأخذها ترجع أيضا إلى ورثتها، وتقسم بينهم كما يقسم بينهم الميراث، هذا هو الأصل في الدية، لأنَّ الدية إنما هي حق لهم، وهي قد انتهت حياتها، ما عاد باق لها حقوق الآن إلا أن تدفن وتذكر بخير. فأمَّا المال وما إلى ذلك، فإنما هو لورثتها.
طيب بقي أمر، وهو أن يقال: فيما لو سقط الجنين حيًا ثم مات، وهل ذكرناها سابقا؟
إذا سقط الجنين حيًا ثم مات، فإنه يعد قتل نفس بشرية، وإذا كان كذلك؛ فيعامل تماما كما يعامل الرجل الذي يذهب إلى رجل حي -ابن أربعين- سنة فيقتله.
يقال: إن ثبت أنَّ هذا القتل كان عمدًا فإنه يقتل، وإن ثبت أنه كان خطأ أو شبه عمد، فإنك تدفع دية شبه العمد كاملة، وليس الغرة، لأن الغرة في الجنين الذي سقط ميتًا، وأما هذا فهو سقط حيًا.
طيب كيف نعرف حياته يا إخوان؟
نعرف حياته بما ذكره (حَمَل بْن النَّابِغَةِ الْهُذَلِيّ)، في قوله: (وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ) من الاستهلال، فالنطق حياة بليغة، ولكن ما دون النطق هو الاستهلال، والاستهلال هو أن يصيح، فإذا خرج صاح، فدل ذلك على أنه كان حيًا؛ لأنه ما يصيح إلا الحي.
فإذا كان كذلك قلنا: لقد خرج حيا وصاح واستهل ثم مات، وأعانك الله أيها القاتل، فإن كنت متعمدا فعليك القود، وإن كنت غير متعمد فننظر هل هو شبه عمد أم خطأ؟
فإن كان شبه عمد ففيه أربعمئة ألف، أو مئة من الإبل مغلظة أسنانها.
وإن كانت خطأ، فعليك مئة من الإبل غير مغلظة الأسنان، وهي التي تسمى عند العلماء مخمسة، أي: تكون أسنانها خماسية، يعني: بنت لبون، وابن لبون، وبنت مخاض، وجَذَعهُ وحِقةً، وإن كانت دية شبه خطأ؛ فإنها تقسم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: «يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَك»)}.
ثم مسألة في الحديث السابق سنرجع إليها قبل أن نشرع في شرح هذا الحديث، وهي أننا وذكرنا أنَّ الدية إنما هي على العصبة، وذكرنا أنَّ العاقلة هم ذكور العصابات، بمعنى: ينظر إلى الورثة من الذكور الذين يعصبونها. وبناء عليه: الابن ترى ليس من العصبة؛ لأنه ما يُعصب، ولكن العم من العصبة، والأب من العصبة، والجد من العصبة.
إذًا ذكور هؤلاء وحتى لو لم يكونوا وارثين ولكنهم سيرثون في مرحلة من المراحل، مثل أبناء العم وإن بعدوا، فكل أبناء العم من العصبة؛ لأنَّه لو هلك ابن العم القريب انتقل إلى من بعده وهكذا، فهؤلاء العصابات هم من تجب عليهم الدية، ويسمون: العاقلة، وبعض العلماء يدخل فيهم الابن، ودخوله يكون قويًا؛ لأنه لو انفرد أخذ كل المال.
إذًا، إذا كان كذلك؛ فإنه تجب عليهم الدية، وهذه الدية إن كانت تقسم عليهم بحسب قربهم وبعدهم، فيتحمل القريب منهم ما لا يتحمله البعيد، وينظر فيقال: الأب والعم والجد يتحملون ما لا يتحمله البعيد، والأخ يتحمل ما لا يتحمله البعيد، وهكذا تقسم بينهم، فتجمع الأسرة ويقال: كم عددكم؟ قالوا: مئة خمسين، إذًا تقسم بينكم بطريقة ما حسب القرب، وبأي طريقة ارتضوها جاز تقسيمها. هذا أمر.
الأمر الثاني: أنها تُنجم عليهم على ثلاث سنوات، أي ما تكون حالة، بل منجمة، والتنجيم عند العلماء -رحمهم الله- هو التأجيل، فتكون منجمة عندهم على ثلاث سنوات، وهذه مما قضى فيه عمر -رضي الله عنه- وتبعه عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- كيف؟
يقال: نحن قلنا إن دية الخطأ ثلاثمئة ألف ريال، فادفعوا كل سنة مئة ألف، وذلك لأجل أن تسهل عليهم، وأن تهون عليهم، وإذا وزعت عليهم الدية لم تصبح ثقيلة، وهذا بخلاف ما إذا تحملها واحد منهم.
الأمر الثالث: أنهم لا يحملون دية العبد كما سبق وذكرناه، وإنما يحملون دية الخطأ، ودية شبه العمد.
الأمر الرابع: أنهم لا يحملون ما دون ثلث الدية، كيف؟
يعني: لو أنَّ رجلاً ضرب رجلاً في يده، فقدرت الضربة بأنَّ فيها عُشر الدية، كما في بعض الجراحات، قالوا: هذه فيها عشر من الإبل، يعني: يقابلها الآن ثلاثين ألف ريال، فجاء هذا الرجل وقال لعاقلته: هذه الدية فرضت عليَّ، نقول: لا ما تلزم؛ لأنها دون الثلث، وما دون الثلث تتحمله أنت أيها الجاني، حتى لو كانت خطأ.
لماذا؟ قالوا: لأنها لا تُجحف بالمال، فالمبلغ يكون يسيرًا، فثلث الدية أمره يسير، ثلاثة وثلاثون من الإبل، أو ما دون ثلاث وثلاثين من الإبل، فإن كانت فوق ثلث الدية؛ تحملتها العاقلة.
بقي أيضا مسألة، وهذه من المسائل العجيبة أيضًا، هل الجاني يحمل مع العاقلة ولا لا؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أنَّ الجاني لا يحمل معهم، قالوا: هي الآن من الحقوق التي تلزم العصابات والعاقلة، فالعاقلة هي التي تتحملها.
طيب فإن عدموا -أي: ما كان هناك أحد؟
قالوا: إن عدموا انتقلت إلى الإمام، فتفرض في بيت المال، ويدل عليه حديث حُوَيِّصَة ومُحَيِّصَة وعبدُاللهِ بنُ سَهلٍ، قال: (فكره النبي أن يبطل دمه فوداه من عنده)، يعني: أعطاهم النبي الدية من عنده.
قوله: (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: «يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَك»). هذا الحديث هو من عمد الأحاديث في دفع الصائل، وأحكام دفع الصائل، والصائل هو كل من يصول عليك أو يتعدى عليك في العرض أو المال أو الأذية في البدن.
والله -عَزَّ وَجَلَّ- ما أمر عباده المؤمنين بالركون والضعف، ولذا لم يقل: إذا صال عليك فلا تدفعه، فإن احتج محتج بما جاء في أحاديث الفتن، «فَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْقَاتِلَ» ، فيقال هذا في الفتن التي تموج كموج البحر، عنده أمثلة للانفلات الأمني الذي قد يحصل، فيتقاتل الناس بعضهم مع بعض، نقول هنا: هذا ليس بصائل، هذه فتنة، وينبغي للإنسان أن لا يشارك في الفتن، وألا يدخل فيها، وأن يكون عبد الله المقتول، ولا يكن عبد الله القاتل.
ولكن الصائل هو من اعتدى عليك والبلد فيها أمن وأمان، وهو يريد الاعتداء عليك في دمك، أو في مالك، أو في عرضك، أو في بدنك، فهل تضع يدك؟ نقول: لا، بل تدافعه.
والقاعدة عند العلماء -رحمهم الله- أن الصائل يُدافع بالأخف فالأخف، كيف؟ يعني: الرجل هجم عليك على سبيل المثال، وأنت تعلم أنه يريد مثلا أن يعتدي عليك بضرب، فلا ينبغي أن تدفعه بالقتل.
على سبيل المثال: وجدت لصًا أراد أن يدخل بيتك ليسرقه، فعليك أن لا تأتي مباشرة تريد قتله، بل ادفعه بالتي هي أحسن، وأنذره بالخروج، وإذ لم يخرج فعليك أن تعتدي عليه بما هو أدنى أو أخف، بمعنى أن يُرمى في رجله مثلا، أو في فخذه، ولا تقتله مباشرة.
ولذا لا يُدفع الصائل بالأعلى، وإنما يدفع بالأدنى فالأدنى. هذا واحد، وهذا حكم ينبغي أن يتقرر.
إذًا الأصل في المؤمن أن يدفع عن نفسه، وفيه حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمِنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
إذًا الأول: يجب أن يدفع الصائل.
الثاني: أن يدافع بالأخف فالأخف، أي: بما يندفع به.
الثالث: أن الجناية على الفصائل هدر، أي: مهدرة ما فيها شيء، وفيها حديث (عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
(أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ)، قيل: إنه هو يعلى بن أمية، وقد خرج معه أجير له، يعني: استعمله واستأجره، فحصل بينهما خلاف ونزاع، فعضَّ يعلى بن أمية يد هذا الرجل واشتدَّ عليه في العض، (فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: «يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَك»)، والأصل أن الثنايا -الأسنان- فيها ديات، وفي السن خمس من الإبل، هذا هو الأصل في كل سن خمس من الإبل، ومع ذلك فإنَّ النبي قد أهدرها، ولم يوجب عليه الدية، فضلا عن أن يوجب القود، فأسقط القود.
طيب يا رسول الله قد أسقط أسناني، فقال: أنت المعتدي، أنت من عضضته، وإنما أُمِرَ بأن يُدافع عن نفسه، فأسقط النبي القود، وأسقط ما فوق ذلك. وهو الدية.
وقد جاء كما في حديث سهل -رضي الله عنه- أنّ النبي قال: «لَوْ أنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بغيرِ إذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بحَصاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ ما كانَ عَلَيْكَ مِن جُناحٍ» ، وهذا حكم بليغ. يأتي رجل فيمر بباب بيتك، فيقف عليه وينظر من فتحة الباب على أهلك، فتدفعه فتفقأ عينه، فيسقط عنك بذلك القصاص، وتسقط عنك بذلك الدية. لماذا؟ لجنايته؛ لأنه صائل، وقد كان يريد أن يكشف عرضك.
إذًا هذه من الأحكام التي ينبغي أن تقرر، وهو أنَّ الصائل لا دية على الإنسان في دفعه، ولا قود عليه، ومن باب أولى فلا إثم عليه، لهذا النبي قال في فقأ العين: «ما كانَ عَلَيْكَ مِن جُناحٍ»، يعني: ليس عليك فيه إثم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثًا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»)}.
هذا الحديث من أعظم الأحاديث الواردة عن النبي في تحريم ما يسمى بالانتحار، وهو قتل النفس عند العلماء -رحمهم الله-، وفيه (عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثًا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ») وهذه تصيب كثيرًا من الناس، الذين يعانون من أمراض مزمنة، فيصابون بآلام شديدة خاصة في الأزمنة السابقة، قبل وجود المهدئات، والمخدرات التي تخدر الإنسان، ولا نقصد بها المخدرات التي تذهب العقل، وإنما براد بها البنج وغيره.
والإنسان قد يصاب بآلام شديدة جدا ويفضل معها الموت، وهذا كما في حديث الرجل الذي كان في "غزوة أُحد"، والذي قاتل قتالا عظيمًا، حتى شهد له بعض الصحابة بالجنة، فأصابته جراحة، وكان اسمه "دسمان" أو "قزمان"؛ فأصابته جراحة فجزع، فوضع الرمح واتكأ عليه حتى خرج من ظهره أو من بطنه فمات، فشهد عليه النبي بالنار قبل ذلك، وكان قد تبعه أحد الصحابة حتى رأى منه هذا المشهد، فدلَّ ذلك على أنَّ الانتحار محرم، وهو من أعظم الكبائر التي يُقدم عليها الإنسان.
ولهذا ثبت عن النبي أنه ترك الصلاة على قاتل النفس، وهذا وعيدٌ عظيمٌ وزجرٌ بليغٌ من النبي ، مع تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة أنه ليس بكافر، ولكنه قد ارتكب جرمًا عظيمًا. لماذا؟
لأنه جزع من أقدار الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وكان هذا هو غاية ما يكون من السخط على قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، أن تُهلك نفسك، ثم إنَّ النفس ليست ملكًا لك، وإنما هي ملك لله -عز وجل-، وهذا هو الأصل والقاعدة التي يمشي عليها المؤمن، أنَّ روحك وبدنك ليس ملكًا لك، وإنما هو ملك لله -عز وجل-، ومتى ما علمت ذلك استعلمت جوارحك فيما يرضي الله -عز وجل-؛ لأنها ملك لله -عز وجل-.
ومتى ما علمت ذلك؛ صبرت على ما يصيبك في نفسك؛ لأنها ملك لله -عز وجل-.
ومتى ما علمت ذلك؛ لم يكن لك أن تُقدم على شيء يضرُّ بها، حتى الإضرار بالصحة ما يجوز، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157]. لماذا؟
لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يحب أن يكون العبد بغاية ما يكون من الصحة التي تعينه على الطاعة، فما يحب أن يهلك العبد نفسه بالخبائث والموبقات والممرضات التي تهلكه.
فإذا كان كذلك؛ فإنَّ حديث جندب -رضي الله عنه- بليغ، وحديث سمرة -رضي الله عنه- في ترك النبي الصلاة عليه بليغ، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- «من قتَلَ نفسَهُ بحديدةٍ جاءَ يومَ القيامَةِ وحديدتُهُ في يدِه يتوجَّأُ بِها في بطنِهِ في نارِ جَهنَّمَ خَالدًا مخلَّدًا أبدًا ، ومن قَتلَ نفسَه بسُمٍّ فَسمُّهُ في يدِه يتحسَّاهُ في نارِ جَهنَّمَ خالدًا مخلَّدًا» ، حديث بليغ أيضًا في تحريم الانتحار بكل حال، وهو مباشرة الإنسان قتل نفسه بيده.
هذا محرم بلا شك، وهذا هو الانتحار، وفيه الوعيد الشديد الوارد من رسول الله .
ولعلنا نتوقف هنا، والله -تبارك وتعالى- أعلم.
{أحسن الله إليكم، وشكر لكم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، وإلى حلقة جديدة -بإذن الله-، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك