الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

10290 21
الدرس العاشر

عمدة الأحكام 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية (هداة) والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا الكريم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في البدء}.
نعم، على بركة الله تعالى
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ -أَوْ عُرَيْنَةَ- فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا. فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ. فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ: فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ.
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أمَّا بعد، فقد قال المصنف -رحمه الله-: (كتاب الحدود)، وقد شرع المصنف -رحمه الله- في ذكر (كتاب الحدود)، وذلك بعد الفراغ من (كتاب القصاص)، مع أنه قد جرت عادة بعض العلماء في تقديم كتاب الحدود على كتاب القصاص، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ الحدود متعلقة بحق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وحق الله -عَزَّ وَجَلَّ- مُقدم على حق الخلق.
الوجه الثاني: ما يستتبع كتاب القصاص من الأحكام، فإنَّ كتاب القصاص يستتبعه بعد ذلك كتاب الديات، ويستتبعه بعد ذلك أيضا كتاب الأقضية والشهادات والإقرار ونحو ذلك، وأغلبها إنما تقع في القصاص أكثر من وقوعها في الحدود؛ لأنَّ الحدود مبناها على الستر مبناها على الستر، وعلى عدم الأخذ بالشبهة.
إذا كان كذلك فإنَّ المصنف -رحمه الله- قد ذكر كتاب الحدود، والحد لغة هو المنع، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة:229]، يعني: الموانع أو القيود المفروضة من الله -تبارك وتعالى- التي لا يجوز للإنسان أن يجاوزها، هذا هو الأصل.
والحد في الاصطلاح هو: العقوبات المقدرة شرعًا على معاصٍ لتمنع من الوقوع في مثلها. هذا هو الأصل في الحدود، فهي عقوبات ومُقدرة شرعا، وهذا هو الفرق بين الحد والتعزير، فإنَّ التعزير غير مُقدر شرعا، وإنما هو متروك إلى اختيار القاضي أو الإمام.
وأنها على معاص، فليست عقوبات مُقدرة شرعًا على جرائم غير معاص، قد تكون جرائم وما هي معصية في الوقت، مثل مثلا ما يتعلق بالجنايات على الأنفس وغيرها، هذه إنما تُلحق بكتاب القصاص أكثر من كونها ملحقة بكتاب الحدود.
المصنف فرغ من كتاب القصاص، والقصاص كله مُتعلق بجنايات الخلق بعضهم على بعض، والحدود متعلقة بجناية الخلق في حق الله تعالى، طبعا هو ما يجني إلا على نفسه، والله -عَزَّ وَجَلَّ- غني عنه، ولكنه يرتكب معاصٍ تتعلق بحق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، معاص ليست مرتبطة بالخلق مثل: شرب الخمر، الزنا، السرقة كسرقة، ولكن أخذ المال وما يتعلق به وتعويض المجني عليه وغيره، هذه مسألة ثانية، فهذه الأصل فيها أنها كلها حدود، فهي عقوبات مُقدرة شرعًا على معاص لتمنع من الوقوع في مثلها.
وينبغي أن يُعلم أنه ليس كل ذنب أو معصية وإن عظمت عليها حدًا شرعيًا، بل إنَّ ذلك متروك إلى حكمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- واختياره، فإنَّ ثَمَّ ذنوب عظيمة، على سبيل المثال: الشرك الأصغر، من أعظم الذنوب، بل إنّ من العلماء من جعله فوق القتل وغيره، وهو مثلا الحلف بغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، أو قول: ما شاء الله وشئت، أو الرياء وغيره من ذنوب الشرك الأصغر، وهذه كلها ليس فيها حد.
واليمين الغموس على عظمه وخطره إلا أنه ليس فيه حد، والغيبة على قباحتها ومقتها ليس فيها حد، فجملة من المعاصي ليس فيها حدود شرعية، ولكن هناك حدود شرعية مُقامة على معاص يغلب على الناس الوقوع فيه، ومحبتها والإقبال عليها، ثم إنَّ خطرها خطرًا عظيمًا، ولهذا كان فيها الحد الشرعي، وأصل هذه المعاصي: الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقتل، وقد مضى القتل وأحكامه في معنى آخر، ولكن القتل يتعلق بجانب كبير منه في حق المخلوق، ولهذا إذا أسقطه المخلوق سقط، وأمَّا في الزنا فلا، وكذلك لو قال المسروق منه بعد أن رُفِعَ أمر السارق إلى القاضي وقال: أنا عفوت، نقول له: عفوك غير معتبر.
وفي حد القذف على سبيل المثال، قال بعض العلماء: إنَّ عفو المقذوف عن القاذف بعد أن يصل إلى السلطان لا عبرة به، وهذه مسألة خلافية بين العلماء -رحمهم الله-، ولكنَّ الصحيح من المذهب أنَّ المقذوف إذا عفا عن القاذف فقد سقط حقه.
والحدود بلا شك أنها من نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فإنَّ كثيرًا من الناس لا يرتدع عن فعل المعاصي والوقوع فيها، إلا إذا خُوِّف بالله، هذا يسمى بالرادع السلطاني.
هناك رادع إيماني عند الإنسان، ولكن كثيرًا من الناس ما يؤثر فيه، ولهذا نجد أنَّ الذنوب والمعاصي التي ليس فيها روادع وزواجر من السلطان يَكثر وقوع الناس فيها.
انظر إلى الغيبة على سبيل المثال، وكمْ من الناس يتلبس بها! وانظر إلى هذه الجرائم وحالها إذا غاب الرادع السلطاني، فإنه كلما خَفَّ الرادع السلطاني وكلما خَفَّ تطبيق الحدود، كلما ازدادت هذه الجرائم، تزداد جرائم السرقة، وتزداد جرائم الزنا، وجرائم شرب الخمر، وجرائم قذف الأعراض وغيرها، فكلما خفت الحدود، أو قَلَّ تطبيقها ازدادت الجرائم.
وعلى العكس كلما ازداد انزجار الناس؛ خفت الجرائم؛ لأنَّ الناس -يا إخوان- لا يصلحهم غالبًا إلا الشدة، والإنسان إذا أُرخي له فَسَدَ، ولهذا نرى أنَّ كثيرًا من الناس يَفسد في الرخاء ما لا يَفسد في الضراء والشدة، أولم يقل عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وهو من هو في أصحاب النبي : "ابتُلِينَا مع رسولِ اللهِ بالضَّرَّاءِ فصَبَرْنا، ثم ابتُلِينا بعدَه بالسَّرَّاءِ فلم نَصْبِرْ" ، فإذا كان هذا في الصحابة -رضي الله عنهم- وهم من هم، فكيف الحال فيمن بعدهم؟
إذًا الأصل أنَّ هذه الحدود إنما وضعها الله -عَزَّ وَجَلَّ- نعمة ومنة؛ ليرتدع الناس عن مواقعة هذه المعاصي غالبا، وإلا فإنهم سيواقعونها، سيأتي من الناس من تغلبه شهوته، ويغلبه هواه، على تحكيم إيمانه وعقله، فيقع في هذه الذنوب.
والحدود بوجه عام هي حق من حقوق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فمتى ما بلغت الإمام وجبت إقامتها، ولم يجز لأحد أن يعفو عنها، لا السلطان ولا لمن دونه، وقد قال النبي : «تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» ، وفيه قصة صفوان بن أمية في سارقِ ردائه، فإنَّ سارقًا قد سرق رداءه وقد توسده، فجاء به إلى النبي فأمر به أن يقطع. فقال: يا رسول الله والله ما أردت ذلك، قد عفوت عنه. فقال النبي : «فَهلَّا قبل! أن تأتيَني بِهِ» ، وجاء في بعض الروايات: «تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ»، وفي بعض الروايات: «مَن حالَت شفاعتُهُ دونَ حدٍّ من حدودِ اللهِ فقد ضادَّ اللهَ في أمرِهِ» ، وفي بعض الروايات: «إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ» ، هذه كلها نصوص من النبي تدل على أنَّ الحدود إذا بلغت السلطان أو من يقوم مقام السلطان مثل: القاضي؛ فإنه لا يجوز العفو عنها.
ذكر المصنف هنا حديث أنس -رضي الله عنه- وهو أصل عظيم في حد الحرابة، الذي هو من أعظم الحدود وأغلظها؛ لأنه حدٌّ شنيع، وحدٌّ قد ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن ونصَّ عليه ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:33]، هذا هو حد الحرابة، والمحارب هو كل من أخاف الناس بسلاح، سواء كان في حضر أو في سفر، هذا هو الصحيح، خلافًا لمن قال: "إنَّ المحارب لا يطلق عليه اسم الحرابة إلا إذا كان في السفر أو كان خارج المدينة" كما هو قول مالك -رحمه الله-.
نقول: لا، بل الأصل في ذلك أنَّ كل من حمل السلاح وأخاف الناس -تنظيم عصابي-، سواء كان بشخصه أو بمن معه؛ فإنَّه يدخل في مسمى الحرابة، فمن أخاف الناس هكذا فقد دخل في مسمى الحرابة، وكان محاربا.
والمحارب قد ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ ، انظر لقد أتى بـ (أو) التخييرية، ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ ، فهل هذا متروك للإمام؟
هل كل من عثر عليه من المحاربين وقبض عليه، يصنع به الإمام ما يراه الأصلح، سواء من القتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، أو أنَّ هذا لا مرتب على حسب العقوبة؟
جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- وفي هذا السند أو في هذا الحديث الوارد عن ابن عباس ضعف شديد ونكارة، وفيه أن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "إن قتلوا وسرقوا قُتِلُوا وَصُلِبوا، وان سرقوا ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن لم يسرقوا ولم يقتلوا وإنما أخافوا؛ نُفوا من الأرض"، وهذا قد عمل به بعض العلماء، ومنهم الإمام أحمد -رحمه الله- أو المذهب، وقال بعض العلماء كالإمام مالك: بل ذلك متروك إلى السلطان، يصنع بهم ما يرى فيه الأصلح والأردع.
وحديث العرانيين هذا قد جاء في تقرير هذا المعنى القرآني، ولهذا من أنكر حديث العرانيين فقد رَدَّ كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومن طعن في حديث العرانيين فقد طعن في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
قال: (قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ)، ولهذا سمي هذا الحديث بحديث العرانيين، وهذا الحديث من الأحاديث المشهورة بألقابها، وهناك أحاديث مشهورة بالألقاب، مثل: حديث البحر، ما هو؟ «هو الطَّهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتُه» ، وحديث بئر بضاعة، «الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسهُ شيءٌ» ، وحديث الأوعال، وهو حديث العباس -رضي الله عنه-، وهكذا هناك ألقاب للأحاديث.
فمن الألقاب للأحاديث لقبُ حديث العرانيين، ومن المسائل التي ينبغي أن تطرح هنا أنه ينبغي لمن نشط من طلبة العلم أن يجمع ألقاب الأحاديث، فإني لا أعلم كتابًا تناول ألقاب الأحاديث، يعني: الأحاديث التي اشتهرت عند العلماء باللقب، فتُجمع هذه الأحاديث؛ لأنها حقيقة جيدة من جهة أنَّ إطلاق الحديث يُغني عن سرده وسياقته، فمثلا: إذا سألك سائل عن مسألة تتعلق بالحرابة، تقول فيها ماذا؟ تجيب وتقول: أقول فيها بحديث العرانيين مباشرة، والحديث يكون معروفًا بدلا من سرده وسياقته، وهي تكثر غالبا في الأحاديث الطوال، فعلى سبيل المثال حديث بدء الوحي، حديث عائشة -رضي الله عنها- وهكذا.
قال المصنف في حديث العرانيين: (قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ) أي أنهم أول ما قدموا زعموا أنهم مسلمون، فأسكنهم النبي في المسجد، وأقاموا فيه.
قال: (فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ) يعني: صارت المدينة وخيمة عليهم ووبيئة، يعني كثيرة الأوبئة، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "وقَدِمْنَا المَدِينَةَ وهي أوْبَأُ أرْضِ اللَّهِ"، يعني: أشد أرض الله وباءً، فقد كان فيها الحمى، وما كان يسلم منها أحد.
وذكرت ما أصابهم، قالت: "وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، وعامر بن فهيرة، حتى دعا النبي فقال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، وصَحِّحْهَا، وبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بالجُحْفَةِ» ، فانتقلت الحمى من المدينة، ولكن ما زال هناك حمى فيها، ولهذا قال النبي : «لَا يَصْبِرُ علَى لَأْوَاءِ المَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِن أُمَّتِي، إِلَّا كُنْتُ له شَفِيعًا يَومَ القِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا» ، ومعناه: أنَّ فيها شدة، وفيها حالة من المرض ليست في غيرها من أرض الله، وفيها حالة من الشدة ليست في غيرها من أرض الله، والله أعلم سبب ذلك، ولكن يضعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيما يشاء من أراضيه، فتكون هذه الأرض ابتلاء، وذلك إذا ما كانت أرضًا طيبة محبوبة لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأمَّا إذا كانت أرضًا ممقوتة كانت ابتلاء يجب على الإنسان أن يفر وأن يخرج منه، ولا يقال: إنه هارب، فالهروب من الأرض الوخيمة ما فيه بأس، وفيه حديث فروة بن مسيك لَمَّا جاء إلى النبي فقال له: يا رسول الله إنَّا كنَّا في دارٍ كثيرٌ فيها عددُنا ، وَكَثيرٌ فيها أموالُنا ، فنزلْنا إلى دارٍ أخرَى فقلَّ فيها عددُنا ، وقلَّت فيها أموالُنا. فقال النبي : «دَعْهَا عَنْكَ فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ» يعني: اخرج من الأرض الوبيئة التي لا تناسبك وتستوخمها.
ولكن المدينة فاضلة، ولهذا دعا النبي لها؛ لأنه يعلم أنه لولا دعوته ، ولولا قوله: «والمَدِينَةُ خَيْرٌ لهمْ لو كَانُوا يَعْلَمُونَ» ، ما بقي فيها أحد، ولكن بسبب دعوات النبي ، وبركات النبي ، استقرَّ الناس فيها، وإلا فإنها وخيمة.
وقصة من أصيب بالمرض من جراء نزول المدينة كثير، فمن ذلك والد النبي ، فمن المعلوم أنه قد تُوفي وهو شاب في العشرين من عمره، وكان سبب وفاته حمى المدينة، فإنه قد توفي ودفن في مكان قريب من المدينة، وزَيْدُ الخيْل الذي جاء إلى النبي مبايعًا فقال النبي : «إِنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ قَالَ» فما سلم منها وتوفي بحمى المدينة.
إذا كان من هؤلاء العرانيين، فنزلوا (فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ) استوخموها وأصبحت وبيئة عليهم، فتورمت اللحوم عندهم، وانتفخت بطونهم، فأذن لهم النبي بأن يخرجوا من المدينة إلى بعض البوادي القريبة منها، وأمر لهم بلقاح، واللقاح عبارة عن مجموعة من الإبل التي تنتج اللبن، كانت تسمى لقاحًا، وهذا من النبي إكرامًا لهم. قال لهم : "لو ذهبتم إلى فلان -راعيا من رعاة النبي - فكنتم معه"، وكانت هذه إبل الصدقة، كما جاء في بعض الروايات، فأمر لهم بإبل من أبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فشربوا، وكانت الأبوال علاجًا لهم؛ لأنهم قد كان فيهم داء الاستسقاء، الذي هو انتفاخ البطون، وهذا مما يعالج به أبوال الإبل.
ومن الأمور التي يُستغرب منها، أنَّ بعض الناس ينطلقون إلى سنة النبي ، فإما أن يهجروها هجرا مطلقًا، فيأتون إلى الأمور المنصوصة عن النبي ، والمقررة من وجوه كثيرة فيتركونها ولا ينظرون إليها، ككثير من السنن سواء في الصلوات، أو في الزكاة، أو في الصيام، أو في الحج، أو في العمرة، أو في الهدي النبوي بوجه عام، كطريقة لبس النبي ، المراد بها اللباس العام، أو هيئته فيدعونها ثم يأتون إلى مسألة واحدة أو مسألة تتعلق بالطب فيأخذونها ويغالون فيها، حتى تكون عندهم هي الأصل.
فما يمرض المريض عندهم بمرض من أمراض الأرض كلها إلا أوصوه بشرب أبوال الإبل، ونقول: هذا خطأ، بل يُنظر من أي مرض أمر النبي صحابته بذلك! وقد كانوا يمرضون، ولو ذهبنا وبحثنا في الأحاديث التي فيها الأمر بشرب أبوال الإبل ما وجدناها إلا للعرنين. لماذا؟
لأنَّ الراوي قد ذكر أنَّه قد انتفخت بطونهم، فكان فيهم مرض الاستسقاء.
نعم يقال: من أصيب بمثل هذه الأمراض فعليه بها، وأمَّا إذا أصيب شخص بدوخة أو أصيب بصدفية في رأسه، أو مرض في جلده، أو وجع في قلبه، أو في كليته، أو ما شابه، فيقال له: اشرب أبوال الإبل يقول: هذا لم ترد به السنة، ولم يكن النبي يعالج أصحابه بذلك.
ومن المعلوم أنَّ الأصل في أبوال الإبل أنها طاهرة، وهذا من الأحاديث التي تدل على ذلك، وقد سبق ذكرناها في كتاب الطهارة، فمن أبلغ الأدلة التي تدل على أنَّ أبوال الإبل طاهرة هي أنَّ النبي أَمَرَ بشربها.
قد يقول الإنسان: هذه ضرورة، نقول: لا، النبي قال: «إنَّ اللَّهَ لم يجعَلْ شفاءَكُم فيما حرَّمَ عليكُم» ، فإذا كانت نجسة ما تشفع فيها الضرورة، ولكن دلَّ ذلك على طهارتها، ولكن وإن كانت طاهرة إلا أنها مُستقذرة مثل النخامة -أكرمكم الله-، فالنخامة طاهرة ولكنها مستقذرة، وعندنا أمثلة كثيرة ما يحتاج أن نذكرها الآن لأمور من الطاهرات ولكنها مستقذره، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يجبر الإنسان أو يدفع إلى تناول أمر مستقذر على شيء لا يُعلم أنَّ فيه علاجه.
ولذا كان الأصل في ذلك أن يقال: هذا النص يُقيد بما قيده به رسول الله في هؤلاء القوم، الذين (اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ) فانتفخت بطونهم، وتورمت لحومهم، فمثل هذا يقال له: عليك بأبوال الابل وألبانها، يعني: أن يشربوا أيضًا من ألبان الإبل، وهي من أطيب الألبان، ومن أطيب الطعام،
وفي قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران:93]، وقد جاء أنَّ إسرائيل، وهو يعقوب -عليه السلام-، قد أُصيب بعرق النسا، فجعل لله -عَزَّ وَجَلَّ- نذرًا إن شفاه وعافاه أن يُحَرِّمَ على نفسه أحب الطعام إليه، وأحب الشراب إليه، فشفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- فحرَّم عليه أحب الطعام وأحب الشراب، فكان أحب الطعام لحم الإبل، وكان أحب الشراب ألبانها، فحرمها عليه، فلذلك بقيت في نسله إلى يوم القيامة.
فاليهود الآن لا يشربون ألبان الإبل ولحومها، بل هي محرمة عليهم كتحريم الخنزير على المسلمين، ولكنها من الأمور المستطابة، بل هي من أطيب الطعام، وهي كانت غالب طعام رسول الله ، أو لم تقل عائشة -رضي الله عنها- لَمَّا قال لها عُروة: "ما كانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالَتْ: الأسْوَدَانِ التَّمْرُ والمَاءُ، إلَّا أنَّه قدْ كانَ لِرَسولِ اللَّهِ جِيرَانٌ مِنَ الأنْصَارِ، كانَ لهمْ مَنَائِحُ، وكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسولَ اللَّهِ مِن أبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ"، ما معنى المنائح؟ هل هي الأبقار، لا، لأنَّ الصحابة ما كانوا يعرفون الأبقار، وإنما كانوا يعرفون الإبل، فكان النبي يستعذب طعمه، وغالب إطعامه في اللحم إنما هو من الإبل؛ فدلَّ ذلك على شرف هذا المطعوم من اللبن واللحم.
والحقيقة أنَّ من جرب يعلم أن أطيب اللحوم هي لحوم الإبل، وأنَّ أطيب الألبان هي ألبانها، وليس هذا حكمًا عامًا، بل نقول للإنسان: اشرب ما شئت، وكل ما شئت مما أحل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لك، ولكن إذا سألت ما الذي كان النبي يشربه؟ قلنا: هذا.
وقد يقال: إن ذلك بسبب توافرها عند الصحابة -رضي الله عنه-، ونقول: نعم، إن من دواعي توافرها محبتهم لها، وإلا لو أحبوا الغنم والبقر مثل حبهم لها؛ لسهل عليهم أيضًا رعايتها وتوفيرها.
قال: (فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا صَحُّوا) انظروا -والعياذ بالله- قُبح صنيع هؤلاء القوم، لَمَّا شربوا من الأبوال والألبان تعافوا، ورجعوا كهيئتهم، (فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ )، نعوذ بالله، (وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ).
إذًا قاموا الآن بجريمتين، وهما: القتل واستياق النعم، وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة أنهم سملوا عين الراعي، أي: فقؤوها قبل قتله، وهذا من التعذيب، وهذا يدل على أنَّ هؤلاء القوم موغلين في الجريمة، من أعظم الناس إجرامًا.
قال في حديث أنس -رضي الله عنه-: فدعا النبي شبيبة من الأنصار وأرسل معهم قاصًّا يقص الأثر، فاقتصوا آثارهم.
قال: (فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ: فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ) يعني: قبض الأنصار -رضي الله عنهم- على هؤلاء، وجيء بهم إلى النبي .
قال: (فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ) فحاكمهم النبي . قال: (فَأَمَرَ بِهِمْ: فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ)؛ لماذا؟ لأنهم محاربون، (وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ). لماذا؟ لأنهم سملوا عين الراعي، وهذا من العقوبة بالمثل، وقد سبق وقررناه كما في حديث الجارية، (وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ) وذلك حتى ماتوا.
(قال أنس -رضي الله عنه-: ولقد رأيت أحدهم يكدم الحجارة بفيه)، أي: يعض الحجارة من شدة العطش، حتى ماتوا على حالهم.
ولا يُستغرب مما فعله النبي المبعوث بالرحمة، فإنَّ هذا الدين وهو دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- دين متوازن، تستعمل الرحمة في مواضعها، وتستعمل الشدة في مواضعها، ولهذا (قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يعني: ماذا بقي من الجرائم التي لم يفعلها هؤلاء؟! فكل الجرائم قد فعلوها، فقد خانوا الأمانة، وقتلوا الراعي، ومثلوا به، وسملوا عينه، وقتلوا، وكفروا، وسرقوا؛ فلأجل ذلك لا يُستنكر أن يُطبق عليهم أبلغ حدود الحرابة، ولكن ما ثبت أنَّ النبي صلبهم، وإنما قَطَّعَ أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم تركهم في الحر حتى ماتوا عطشًا.
فإن قيل لم؟ قيل: هذا مما يدل على جواز القتل بمثله، وقد سبق أن ذكرناه.
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء، ومذهب الإمام أحمد أنه لا يُقاد إلا بالسيف، ولكن في هذا الحديث ما يدل على جواز القتل بالمثل. قال: لأنهم سملوا عين الراعي، وألقوه في الحر حتى مات عطشًا، كما جاء في بعض الروايات، ففعل بهم النبي ذلك، أي أنه قَطَّعَ أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، ثم تركهم في الحرة حتى ماتوا.
قال: («وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ»). قال: (أخرجه الجماعة)، إذًا هذا الحديث هو الأصل في حَدِّ قُطَّاع الطريق، والأصل أنه إذا قُطِّعت اليد والرجل، فإنما تقطع اليد اليمنى؛ لأنها هي الأصل في القطع، ولهذا جاء في قراءة ابن مسعود: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيمانهما}، فإذًا تقطع اليد اليمنى، ويقطع ما يقابلها، أي: الرجل اليسرى، ولا يُقطعان من جانب واحد، هذا هو الأصل. يعني: ما تقطع اليد اليمنى والرجل اليمني، وإنما تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو العكس.
إذًا هذا الحديث -كما ذكرنا- هو الأصل في أحاديث الحرابة.
وفيه أيضًا معنى آخر، وهو أنَّ بعض العلماء -رحمهم الله- قال: إنَّ الصلب الواقع في هذا الحديث؛ لأنه قد وقع الصلب في هذا الحديث. كيف؟ قال: وقع الصلب في هذا الحديث بإلقائهم في الحرة، لَمَّا رُموا في الحرة أصبحوا أمام الناس وكأنهم مصلوبين، وبقوا ينزفون حتى ماتوا، فدلَّ ذلك على أنَّ الصلب لا يُشترط فيه هيئة معينة، وإنما هو إشهاره للناس بحيث ينظرون إليه، ويعتبرون منه، هذا هو الصلب، وليس الصلب معناه: أن يُعَلَّقَ على سارية أو نحو ذلك، والله -تبارك وتعالى- أعلم.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (كتاب الحدود.
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيْت بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ -وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : «قُلْ»، فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك، وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ- عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ فَرُجِمَتْ)
}.
هذا حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهذا الحديث يلقب بحديث العسيف، ويرويه عن أبي هريرة، وعن زيد بن خالد الجهني، وجاء في بعض الروايات عن شبل، وهذه الزيادة مما زادها ابن عيينة -رحمه الله-، وهي زيادة غير محفوظة.
وليس غرضنا في هذه المجالس التكلم على الأسانيد البتة، من جهة أن هذا الكتاب هو من الكتب المتفق على صحة كل ما فيها، أعني: كتاب (عمدة الأحكام)؛ لأنه إنما أَخَذَ من الصحيحين زُبدتهما، وانتقى منهما أجل ما فيهما من أحاديث الأحكام غالبًا، وما يفوته من ذلك إلا الشيء اليسير، الحديث بعد الحديث مما لا يسلم منه أحد، ومما يحصل غالبا مع الذين يقومون بالمختصرات.
قال ها هنا: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ) هذا الحديث هو أصل في حد الزاني الثيب والزاني البكر. لماذا ترك المصنف مثلا حديث الجارية، والذي فيه: «إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ»، وأتى بهذا الحديث؟
نقول: إنما أتى بهذا الحديث؛ لأجل أنه هو الأصل، وهو سيذكر حديث الأمة بعد قليل، ولكنه قدم هذا الحديث لأجل أنه هو الأصل فيما يتعلق بأحاديث الزنا.
قال ها هنا: (إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيْت بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ)، والأصل أنَّ مثل هذا الخطاب لا يَسوغ مع النبي ؛ لأنَّ النبي لا يقضي إلا بما في كتاب الله، ولكن الأعراب قد يحتمل منهم هذا الجفاء، ولهذا كانوا ينادون النبي أحيانًا باسمه، ويقول الرجل منهم: "أقبل علي يا محمد"، فكان النبي يحتمل ذلك منهم، ومن أجل قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- له: ﴿لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159]، فكان النبي يلين لهم ويرحمهم، ويتلطف معهم بالعبارة، وهذا هو دأب العالم، ألا يشتد على الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يعني ذلك أنَّ العالم لا يغضب، بل قد يغضب، وقد يخرج -كما يقال- عن طوره أحيانًا، ولهذا فالنبي قد غضب في الموعظة، وقد بَوَّبَ الإمام البخاري -رحمه الله- فقال: "باب من غضب في الموعظة والتعليم"، وغضب كما جاء في حديث ضالة الإبل، قال: "فغضب حتى احمرَّ وجهه"، وغضب النبي لَمَّا أخذوا يسألونه ويكثرون عليه في المسألة، حتى جثى عمر -رضي الله عنه- على ركبتيه وقال: «رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا».
إذًا يجوز للعالم أن يغضب إذا احتاج، وإن غضب في شيء موجب للغضب فلا يلام على ذلك؛ لأنَّ الأصل بالإنسان أنه ما يستطيع أن يتحكم بعواطفه في كل الأحوال.
إذًا جاء هذا الأعرابي (فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَنْشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيْت بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ -وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي)، أي: ائذن لي أن أتكلم وأن أشرح الأمر (فَقَالَ النَّبِيُّ : «قُلْ» فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا)، والعسيف هو الأجير، يعني: كان يخدم هذا الرجل.
(فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ)، وهذا مما يدل -يا إخوان- على أنَّه لا ينبغي للإنسان أن يُخَلِّي بين المرأة وبين الأجنبي البتة، وقد نرى تساهلاً كثيرًا من الناس مع الخدم، ويظنون أنه لا يقع منهم الشر.
فنقول: اذكروا حديث "الحمو الموت"، وهو أن زوال الشبهة أحيانًا قد يعين الإنسان على الوقوع في المحرم، وحينما ترفع عنه الشبهة، فيقال: هذا خادم، فيدخل ويخرج من البيت.
نقول: لا، بالعكس هذا مما يُعينه على فعل المحرم، إما هو أو غيره، ونذكر ما جاء في قصة يوسف -عليه الصلاة والسلام-.
إذًا الأصل في ذلك أن يقال: ينبغي الاحتياط من هؤلاء والحذر منهم أكثر ممن سواهم؛ لأنَّ وقوع الحرام منهم أكثر، ونذكر قصة الأعرابية -التي ذكرناها سابقا- لَمَّا زنت بغلامها، فقيل لها كيف؟ فقالت: كثرة السرار وقرب الموساد، فوسادته قريبة.
والخادم كذلك؛ لأنه يسكن معكم في البيت، وقد يكون في الملحق الخارجي، يعني: هو أقرب الناس إليكم. وكثرة السرار، يعني كلما خرجت المرأة فإنها تخرج معه وترجع معه، يا فلان ويا علان، ويعرف ذهابها وإيابها، يعرف هيأتها، ويعرف صوتها، ويعرف طريقتها، كل هذا وهو ليس بمحرم لها، وله الشهوة ولها هي كذلك الشهوة، فيقع منهم المحرم، كما حدث مع هذا العسيف، وهو رجل من الإعراب يعمل أجيرًا عند آخر، فَيُنْظر إليه نظرة دون، ومع ذلك فقد زنى بامرأته برضاها، أي: برضاها واختيارها؛ لأنها ما قالت: إنها مغتصبة، وسنرى ذلك بعد قليل، حينما أَمَرَ أُنيسًا أن يذهب إليها. فوقع منهما هذا الفعل المحرم.
قوله: (وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ) أي أنَّ رجلاً من الناس قد نقل إليه أنَّ الحد في الزاني هو الرجم، والرجم جد مفزع ومخيف، فأصبح ينتشر بين الناس أنَّ حدَّ الزاني هو الرجم.
قال: (فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ) هو ظنَّ أنَّ الحدود شأنها كشأن القصاص، كما في القتل، فإذا قتل الرجل آخر فقد يستطيع أن يفتدي منه، وإذًا ما هو دون القتل يكون أسهل منه، وبحكم أنه قد اعتدى على زوجته، فقال: أفتدى مِنْهُ ابني (بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ).
والحقيقة أنَّ هذا يدل على أن الأعرابي الأول لم يكن رجلا صلبا، ولم يكن رجلا حازمًا؛ لأنَّ الرجل الحازم ما يُذهب عرضه (بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ)، والوليدة التي هي الجارية، وكان يظن أن الذي سيأخذ الحد هو ولي الجناية، الذي هو زوج المرأة التي زُني بها.
المهم أنه ذهب إليه وقال له: تنازل واعف عن ذلك وأنا سأعطيك مائة شاة ووليدة، وكان أمره حقيقة عجيبا.
وانظروا إلى الجهل -يا إخوان- ونحن نتكلم عن زمن الصحابة -رضي الله عنهم-، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحتاط في الأحكام الشرعية، وألا يتهور ويتلقاها من الكل، انظر كل هذه الأحكام منقولة إلينا من أناس أخطأوا.
يقول: (وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ) هذا هو الأهم، أنه قال: (فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ)، إذًا القول السابق إنما نقل إليه من بعض الجهال والعوام، ويسري بذلك الحديث فيقع فيه اللبس والخلط.
(فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ) فإذا كان كذلك فأنا أريد المئة شاة وأريد الوليدة، ولا بأس أن يغرم ابني، ما في بأس.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ») وهذا فيه دلالة على أنَّ الرجم وارد في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، مع أنه لم يرد نصًا، لكنه مما نُسِخَ لفظه وبقي معناه، كما قال عمر -رضي الله عنه-: «فَكانَ ممَّا أُنْزِلَ عليه آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسولُ اللهِ ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ»، وآية الرجم المنسوخة هي: {والشَّيخُ والشَّيخةُ إذا زَنَيا فارجُموهما البتَّةَ نَكالًا مِن اللهِ}، ثم نسخ لفظها وبقي معناها.
فقول النبي : («وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ») دلالة على أنَّ الرجم ثابت في كتاب الله، ولكنه مما نُسخ لفظه وبقي معناه.
وقد جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: سيأتي قوم يكذبون بالرجم وقد جاءوا، وهُم الخوارج، فالخوارج الآن ينكرون الرجم، ولا يرون الرجم أبدا، وحدد الزنا عندهم إنما هو الجلد فحسب.
قوله: («الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك»)؛ لأنه لا تجوز المفاداة في الحدود، هذه قاعدة، الحدود ما يفتدى فيها، فإن ثبت الحد ووصل الأمر إلى السلطان ففيه الحد الشرعي، وإن لم تصل إلى السلطان واستطاع الإنسان أن يسترها فيما بينه وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويتوب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه، وهذا هو الأولى في الإنسان أن يستر ما كان من جرائم ارتكبها، يسترها ويتوب فيما بينه وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
وأما ما كان من حد فبلغ السلطان فإنه يجب على السلطان أن يقيمه.
قال: («الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك») إذًا هذا المعنى ليس صحيحا، أو أنَّ فعلك أنت أيها الأعرابي ليس صحيحًا.
(«وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ») صَدَّقَ النبي وصادق على حكم أهل العلم؛ لأن على الزاني البكر جلد المئة وتغريب عام.
بقي مسألة مهمة، وهي أن نحرر المعنيين ما دام أنه قد قال: («وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ») والنبي سيغاير في الحكم بين الرجل وبين المرأة، وقال: («وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ- عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»). هل معنى هذا أن الحدَّ يختلف باختلاف الرجل والمرأة؟
نقول: لا. الحد لا يختلف باختلاف الرجل والمرأة، وإنما يختلف بحال الفاعل، يعني: بالبكارة والثيوبة، والبكر كما يطلق على المرأة، فإنه يُطلق على الرجل. فيقال: رجل بكر، ورجل ثيب، ويقال: امرأة بكر، وامرأة ثيب.
طيب، يبقى السؤال المهم، وهو: ما هو ضابط البكارة والثيوبة في المرأة. هل ضابط البكارة والثيوبة في المرأة أن تبقى بكرًا في عضوها، أي أن تكون لم تفتض؟
نقول: لا، هذا معنى آخر، وهذا معنى يتعلق بالنكاح والصداق، وأمَّا المعنى الذي يتعلق بالنكاح، فهو أن يقع الجماع من الرجل أو المرأة على وجه صحيح شرعي. كيف يعني؟
يعني: يتزوج الرجل زواجًا صحيحًا شرعيًا، وتتزوج المرأة زواجا صحيحًا شرعيًا، فهذا هو الذي ينتقا الإنسان به من كونه بكرا إلى كونه ثيبًا.
ولذا فهذه المرأة متزوجة، وقد وقع منها النكاح الصحيح والجماع الصحيح، ولذا فهي أصبحت ثيبًا، وأمَّا هذا الرجل؛ فإنه لم يقع منه أي نكاح، أي لم يتزوج بعد، ولم يسبق له الزواج فكان يسمى: بكرًا، ولكن لو تزوج وجامع في نكاح صحيح؛ لانتقل مباشرة من كونه بكرًا إلى كونه ثيبًا.
حتى وإن كان مطلقًا؟ نقول: نعم، فلو فرضنا أنه تزوج ليوم واحد، وحصل منه النكاح والدخول، ثم طَلَّقَ لقلنا: قد ارتفع عنه حد البكارة، صار ثيبًا في حد الزنا، وعليه فإنَّ حَدَّ الزني للبكر سواء كان رجلا أو امرأة جلد مئة وتغريب عام، يعني: أن يُخرج من بلده، فإذا كان ساكنًا في الرياض مثلا فإنه يخرج منها إلى مكة مثلا، ولمدة سنة كاملة ما يرجع إلى بلدته، هذا هو معنى التغريب.
السؤال الخامس
وقال بعض العلماء: إنَّ السجن قد يقوم مقامه، والحقيقة أنَّ هذا ليس صحيحًا، والسجن لا يقوم مقام التغريب؛ لأن السجن قد يكون زيادة عذاب على هذا الرجل، وفي حال إذا ما تعذر التغريب؛ فإنه قد يُستعاض عنه بالسجن. هذا حد البكر.
وأمَّا حد الثيب؛ فإنَّ العلماء -رحمهم الله- قد اختلفوا فيه على قولين، هل يجلد مئة ويرجم أو يكتفى فيه بالرجم؟ في حديث عبادة بن الصامت: «البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ والرَّجْمُ» ، ففي حديث عبادة بن الصامت أثبت جلد المئة والرجم، يعني أنَّ الثيب الزاني يقام عليه حدين، الحد الأول: أنه يجلد، والأمر الثاني: أنه يُرجم.
وفي حديث أنيس هذا، وهو حديث العسيف، وهو متأخر؛ لأنه من رواية أبي هريرة، وأبو هريرة ما أسلم إلا في سنة سبع، وفيه ذكر الرجم فحسب.
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- فذهب الإمام أحمد إلى هذا الحديث، وهو أنه يكتفى في الزاني الثيب بالرجم، وهو المعمول به في المحاكم، فإنه يرجم فحسب، ولا يجلد قبل ذلك، قالوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال: («وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ- عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ فَرُجِمَتْ) الحد الذي يوجب الزنا هو الإيلاج الصحيح، بمعنى أن يتم الإيلاج كما ذكره النبي في حديث ماعز الأسلمي، هذا هو الأصل فيه، وما سوى ذلك مما لم يحصل فيه الإيلاج، وإنما حصلت فيه مقدمات الإيلاج فإنه لا يكون زنا، هذا هو الأصل الذي يجب به الحد.
وبناء عليه فإنه ينبغي للقاضي قبل أن يُقيم الحدَّ أن يحتاط من هذه المسائل، فإذا إذا جاء الرجل وقال: زنيت. يقال له: كيف زنيت؟ اشرح لنا أو أصف لنا كيف زنيت؟ فإنه قد يصف شيئًا ما يكون به الزنا، وقد يصف شيئًا يكتنفه أمور، مثل المرأة التي لَمَّا جاءت معترفة بالزنا، فقيل لها: كيف زنيت؟ قالت: كنت نائمة فلم أشعر إلا برجل قد وثب عليَّ، فزنى بي، فسقط عنها الحد لماذا؟ لأنها مُكرهة. وقد اكتنف هذه الحالة أمر يصرفها عن كونها حالة يُقام فيها الحد.
وإذًا كان ثم شهود، فإنَّ الشهود يُستنطقون أيضًا، كما استنطقهم عمر -رضي الله عنه-، لَمَّا شهدوا على المغيرة بن شعبة، فاستنطقهم، أي سألهم: كيف زنا؟ حتى وصفوا له الزنا، حتى كان الرابع، فقال: ما رأيت الشيء الدقيق، يعني: ما رأيته كالميل في المكحلة، فقال عمر -رضي الله عنه-: "الحمد لله"، فإذًا هذا هو الزنا الذي يثبت به الحد الشرعي، وهذا هو الفرق بين البكر وبين الثيب.
إذًا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- كما ذكرنا هو الأصل في التفريق بين البكر وبين الثيب، وهو الأصل في حد الثيب، كما ذكرنا أنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- اعتمد عليه.
ومن الفوائد في هذا الحديث أنه لا يجوز المعاوضة على حدود الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فالمعاوضة أي: أخذ العوض ما يجوز البتة.
ومن الفوائد في هذا الحديث أنَّ من عاوض على شيء من الحدود الشرعية، فإنَّ هذا العوض باطل، ووجوده كعدمه، ويرد إلى صاحبه، وما يقال: يؤخذ منك وتعاقب عليه؛ لأن النبي قد رَدَّ على الأعرابي معاوضته.
قوله: («وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ- عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا») فيه دلالة على جواز التوكيل في الحدود من جهة الإمام، أي: يجوز للإمام أن يوكل في إقامة الحد، فيقول لبعض نوابه كما هو واقع الحال الآن، فالإمام ليس هو الذي يباشر الآن النظر في الحدود، ولا في المظالم، وإنما يوكل من تحته فيأمرهم بأن يباشروا هذه الحدود، فيقيمون الحدود الشرعية على من وقعت منه، وحتى القاضي الذي يحكم ليس هو الذي يُباشر، وإنما الذي يباشر هم الشرطة، فهذه سلطة قضائية، وهناك سلطة تنفيذية، وإذا فرغت من السلطة القضائية ذهبت إلى السلطة التنفيذية حتى تنفذه. هل يجوز ذلك؟
نقول: لو جاء رجل فقال له: أين القاضي؟ يقول: ما يجب حضور القاضي؛ لقول النبي لأنيس: («وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا») الأهم أن يكون الحد يقام وفق المعنى الشرعي لإقامة الحدود.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وعنهما -رضي الله عنهما- قال: سُئِلَ النَّبِيُّ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ: «إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ».
قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو والضفير الحبل)
}.
هذا الحديث، وهو حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، والحديث السابق إنما هو في الحر، والأصل في الحر كما ذكرنا، هذا هو حده، وأمَّا هذا الحد فهو حد العبد أو الأمة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قد قال في كتابه: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء:25]، ومن المعلوم عند العلماء الله أنَّ حد الرجم لا يتبعض، وبناء عليه ليس هناك في العبيد سواء كانت أمة أو عبدًا إلا حدٌّ واحد، وهو حد الجلد منصفًا، وهذا من التخفيف عليهم، فهذا حكم يتعلق بالمملوك أيا كان، سواء كان عبدًا أو أمة.
فإذا زنت الأمة أو زنا العبد، فإنه يجلد خمسين جلدة لماذا؟ لأنَّ البكر الحر يجلد مئة جلدة، والبكر الحرة تجلد مئة جلدة، وقد رأينا أنَّ الشرع سوَّى بين الذكر والأنثى في الجلد، فلما كان كذلك كان هذا هو الحكم في الإماء، أي: النصف، فإذا كان كذلك؛ فإنه يُسَوَّى بينها وبين العبد، ولا يُقال: هناك تفاضل بينكما، فلا يقال: الأمة تجلد خمسين جلدة، والعبد يجلد مئة، هذا خطأ، بل الأصل ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ ، وأنَّ هذا شامل للعبد وللأمة، بما ذكرناه وقررناه قبل قليل، وهو أنَّ الأصل في الحدود أنها لا تتفاضل بالأشخاص، وما تتفاضل بالجنس، فالحدود ليس فيها تفاضل، والشرع لا يفرق في الحدود بين الرجل والمرأة، سواء في الزنا أو القذف أو السرقة، فالرجل والمرأة سواء في حكم الشرع.
ولذا نقول: على أي أساس نفاضل بين الرجل والمرأة إذا كان عبدًا أو أمة، أي أنَّ الأصل في ذلك ألا يفاضل بينهما، فإذًا من زنا من الإماء فعليها جلد خمسين، وكذلك من زنى من العبيد.
من يقوم بتنفيذ هذا الحد؟
الأصل في الحدود -يا إخوان- وهذه مسألة مهمة، أنه لا يقيمها إلا السلطان أو نوابه، ما يقيمها أحد غيرهم، فما يأتي رجل وقع في الزنا فيقول: إذا ذهبت إلى القضاء سيقام عليَّ الحد وسأشتهر، وستكون قضية، وستسجل سابقة، وكلام طويل، إذًا ما الحل؟
يقول: الحل في ذلك أن أذهب إلى شيخ من المشايخ، فأقول له: قد وقع مني شرب للخمر وأريدك أن تطهرني، أي: تجلدني، فيقال: لا، إنما يقيم الحد السلطان أو نوابه، وهذا حكم إجماعي عند العلماء -رحمهم الله-، إلا حدَّ الأمة والعبد، فإنهم قد اختلفوا فيه.
فرأى بعض العلماء -رحمهم الله- أنه يجوز للسيد إقامته بهذا الحديث، قال: (سُئِلَ النَّبِيُّ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ: «إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا»). قالوا: إنما هذا أمر لسيدها، فيجوز جلدها، وهذا ذهب إليه بعض العلماء -رحمهم الله-، وهذا لا بأس به -إن شاء الله- أنه يجوز للسيد أن يجلد أمته، قالوا: لأنَّ ولاية السيد على أمته أعظم من ولاية الإمام على رعيته.
ولعلنا نتوقف هنا، والله- تبارك وتعالى- أعلم.
{أحسن الله إليكم، وشكر لكم مشاهدينا الكرام على حسن الاستماع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك