الدرس الرابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

23141 18
الدرس الرابع عشر

أخصر المختصرات 2

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم، أمَّا بعد، فأهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديدٍ لمجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم محمد العجلان، أهلا وسهلا بك صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، حياك الله وحيا الله المشاهدين والمشاهدات جميعا.
{بارك الله فيكم، نستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده.
أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (فصل زَكَاةُ الْمَكِيلِ.
وَتَجِبُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ مُدَّخَرٍ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَنِصَابُهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، وأوليائه المتقين، وأن يُجنبنا المعاصي والآثام، والشهور والبلايا، وأن يحفظنا وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في: (كتاب الزكاة) وفي المال الثاني من الأموال الزكوية.
أول الأموال: بهيمة الأنعام، فذكر ما تجب فيه الزكاة، وأنصبة ذلك، وتفاصيل الكلام عليه، وبعد أن أنهى ذلك ولج ودلف إلى ما يتعلق بزكاة الخارج من الأرض، أو زكاة الحبوب والثمار، فإنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ [البقرة:267]؛ ولأن الله -جل وعلا- قال: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام:141] والسنة في ذلك متوافرة بوجوب الزكاة في الحبوب والثمار، فيقول النبي : «وليسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ»[1]، فهذا من الكتاب والسنة، والإجماع مُنعقد على ذلك، في أنَّ الزكاة واجبة في الحبوب والثمار فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر، أحاديث كثيرة دالة على الوجوب في ذلك،  والإجماع منعقد على هذا كما ذكرنا.
وبناء على هذا، فهذه الأحاديث دالة على الوجوب في الأصل، لكن ما الذي يجب فيه من الحبوب والثمار؟ وما الذي لا يجب فيه؟ وهل ثمَّ فرق بين الفاكهة، والخضروات، والتمر، والأرز، والقمح والذرة!
تفاصيل ومسائل كثيرة، مما اتسع فيها الكلام واختلف، فبعضهم قصرها أشد ما يكون حتى جعلها في أربعة أصناف، ومنهم من فتحها حتى جعلها في كل الثمار، وهذا هو مسلك عند الحنفية.
والحنابلة وبعض الفقهاء اجتهدوا في ذلك، فقالوا: إنها إنما تجب فيما كان مكيلاً، وما كان مُدخرًا، أمَّا كونه مكيلاً؛ فلأنَّ النبي قال: «وليسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أوْسُقٍ» والوسق كيلٌ، والكيل ما معناه؟
انتبه؛ لأنَّ كلمة "الكيلو" كلمة إنجليزية، فأبعدوها في دراسة الفقه، و "الكيلو" هذا من الوزن، مع أنَّ اسمها "كيلو".
لكن "الكيل" يُقابله "الوزن"، فما هو الكيل؟
الكيل هو اعتبار الشيء بحجمه، ولذلك الصاع والجالون ونحوها كلها قياس بالحجم، فهذا هو المكيل، وقالوا: إنه مأخوذ من لفظ الحديث، فجعلنا ذلك وصفًا مُعتبرًا في كل ما تجب فيه الزكاة، وقالوا: إنَّ المدخر هو الذي تعظم به النعمة، ويحصل به التقوت والنفع، وأمَّا الفواكه التي تخرب لأول وهلة ولا يمكن حفظها؛ فإنه لا تجب فيها زكاة، ولأجل ذلك أوجبوا الزكاة في التمر، وفي الذرة، وفي الأرز، وفي القمح، ونحو ذلك مما يحفظ ويُكال؛ لعظم النفع به، وإمكان ادخاره، وطول حفظه لأوقات طويلة، ولم تجب في الثمار التي يُسرعُ الفسادُ إليها، مثل: الكمثرى والبرتقال وما ماثل ذلك.
كما أنهم قالوا: إنَّ الخضروات لا زكاة فيها، لِمَا جاء في الأثر عن مُعاذ وغيره: ليس في الخضروات صدقة[2].
فإذًا فقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- جعلوا ذلك في المكيل المدخر، ولذلك يدخل فيه حتى الأُشنان، مع أنَّ الأُشنان الذي هو ورق السدر ونحوه، هو مما يتخذ في الغالب للتنظيف وليس للأكل، ولكنه ما دام أنه مما يخرج من الأرض، وتعلق به الوصفان، الكيل والادخار؛ تعلق به حكم وجوب الزكاة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَنِصَابُهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ)}.
الوسق: ستون صاعًا، و (خَمْسَةُ أَوْسُقٍ) تساوي ثلاثمائة صاع، فمن وُجِدَ عنده فيما أخرجت مزرعته أو حديقته أو نحوها ثلاث مائة صاع، أي: (خَمْسَةُ أَوْسُقٍ) وجبت عليه الزكاة.
لماذا قال المؤلف: (وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلً)؟
لأنَّه في عهد النبوة، وما تلاها بقليل، كان الكيل موجودًا والوزن موجودًا، وَثَمَّ أشياء معتبرة بكيلها، وأشياء مُعتبرة بوزنها، ثُمَّ بعد مُضي مُدة من الوقت، صار الكيل يتلاشى، وصار الوزن ينتشر، حتى صار هو المعتبر؛ لأنَّ هذه من عادات الناس التي تدخل في الأسواق، وينظر التجار فيما هو الأسهل، وفيما هو الأربح، ونحو ذلك؛ فانتقل كثيرٌ من هذه المكيلات إلى الوزن، فلمَّا كانت هذه الأشياء التي هي الأرز والقمح وغيرها، انتقلت إلى كونها وزنا موزونًا، والوزن اعتبار الشيء بخفته وثقله، أراد المؤلف -رحمه الله تعالى- أن يُقَرِّبَ ذلك بما آل إليه الأمر، وهن الأرطال التي تعرف بخفتها ووزنها؛ فنقل الحكم إليها، حتى يتبين الإنسان ذلك.
والأرطال مختلفة اختلافًا كثيرًا، ولذلك قال: (رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ) وهي وحدة من وحدات الوزن التي تعرف بثقلها وخفتها.
والمهم الآن أنَّ الناس يعتبرون "الكيلو" وهي الكلمة التي قلنا: إنها كلمة أعجمية، لكنها من وحدات الوزن، وهي التي تكون ألف جرام.
فهذه اسمها الأول مزعج للغاية بالنسبة للمتفقه لأنها يظنها من الكيل، وهي ليست من الكيل بالمرة، فإذًا "الكيلو" من وحدات الوزن التي انتشرت.
لو جئنا إلى الصاع كمْ يساوي بالكيلو الموزون (الذي هو ألف جرام)؟
لابد أن تعلم أنه لا يمكن أن يكون كل ما استويا في حجمهما يستويان في ثقلهما، حتى الشيء الواحد كما لو جئت بتفاحة وتفاحة، ربما تكون هذه ممتلئة ماء فتكون ثقيلة، وهذه ناشفة فتكون خفيفة، وكذلك البر إلى غير ذلك.
ولكن النقل هنا إنما هو من تقريبي، ولذلك قد نأتي إلى صاع ونملؤه من الأرز ثم نزنه، فيكون مثلا ألفان وستمئة جرام، ثم نأتي بصاع آخر فيه أرز من نفس النوع الذي تقدم، فنزنه فيكون ألفين وخمسمئة جرام، ولكن -مع ذلك- لَمَّا كان مُتقاربًا ينقله الفقهاء على سبيل التقريب، ويحتاط المكلف في التوثق واعتبار الأقل؛ لأنه نقل تقريبي وتوضيحي، ولذلك ينص أهل العلم كثيرا في هذا الموضع بأن يقولوا: تقريبًا كذا، كما جاء في أول الكتاب في مسائل الطهارة ونحوها، حيث نصوا على أن ذلك على سبيل التقريب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَشُرِطَ مِلْكُهُ وَقْتَ وُجُوبٍ، وَهُوَ اشْتِدَادُ حَبٍّ، وَبُدُوُّ صَلَاحِ ثَمَرٍ)}.
إذًا من الواجب أن يكون مملوكا له وقت وجوبه، وَهُوَ (اشْتِدَادُ حَبٍّ، وَبُدُوُّ صَلَاحِ ثَمَرٍ)، أمَّا إذا كان الإنسان مثلا قد اشترى خمسين وسقًا، فلا تجب عليه الزكاة، فإذا إنما هي واجبة على الفلاح الذي يزرع، على هذا الذي بدا صلاحه وهو في مِلكه، واشتد الحب وهو عنده.
لكن متى يستقر؟ سيأتي الحكم.
قال -رحمه الله: {(وَلَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِجَعْلِهَا فِي بَيْدَرٍ وَنَحْوِهِ)}.
تجب عليه بهذا في ملكه، لكن لا يستقر حكم الوجوب إلا إذا جعلت في البيدر، الذي هو المستودع، أو المخزن، وبناء على ذلك لو أنه اشتد الحب ثم أتت صاعقة من السماء، نسأل الله السلامة والعافية، فخربت هذا الزرع كله، وهنا نزل برد شديد، قطعها، فتفرقت هذه حتى لم يمكن جمعها، فنقول في مثل هذه الحال: إنه لم يستقر الوجوب عليه، فلا يخرج شيئًا من الزكاة.
فإذًا في وقت الوجوب، لابد أن يكون مالكًا لها، وتمام لزوم الزكاة إنما هو باستقرارها، بأن تجعل في مخزنها؛ لأنها تتم النعمة بها، أمكن الانتفاع بها، وأمكن بيعها، وأمكن تخزينها، وآُمِنَتْ عليها من الآفات كلها.
{أحسن الله إليك.
وقال -رحمه الله: (وَالْوَاجِبُ عُشْرُ مَا سُقِيَ بِلَا مَئُونَةٍ وَنِصْفُهُ فِيمَا سُقِيَ بِهَا وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فِيمَا سُقِيَ بِهِمَا فَإِنْ تَفَاوَتَا اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ، وَمَعَ الْجَهْلِ الْعُشْرُ)}.
نعم، هذا هو الواجب الذي يُخرج، فلمَّا كانت الزراعة في الأصل أنَّ المعاناة فيها أقل، والنتاج فيها أكثر، فلذلك يجب أن يخرج الإنسان فيما سُقي بلا مُؤنة أي: بلا تعب ومشقة، ليس مثل من يستخرج الماء، ويجري الجداول ونحوها، فهنا التبعة عليه خفيفة، ولذا رفع الشارع القدر الواجب عليه بالعشر.
فإذا استخرج ألفي وسق مثلا، فيخرج مائتي وسق، وإذا كان عنده عشرة آلاف صاع، فيخرج ألف صاع؛ لأنَّ غاية هذا أنه حرث الأرض، ثم زرعها، ثم استبقاها، فجاءت الأمطار بعد ذلك، ثم يبدأ بمراعاتها وإبعاد ما قد ينزل بها من آفات، أو ما يقرب منها من حشرة، حتى إذا اشتدت وطابت؛ قطفها وحصدها، فليس في ذلك كلفة كثيرة، فلذلك رفع الشارع ما وجب عليه فيه.
أمَّا إذا كان عليه فيها كلفة، كما إذا كان قد حفر بئرًا، واستخرج ماءً وأجراه في الأرض، فيسقي اليوم هذا ويسقي الغد هذا، وما جدَّ الآن للناس من آلات كثيرة، قد ينفقون فيها نفقات عظيمة، ونحو ذلك، فهذا المنة به أقل، والكلفة به أكثر؛ فراعى الشارع ذلك رحمة منه، وجعل كل شيء بحسبه، فلم يوجب إلَّا نصف العشر، وهو خمسة بالمائة.
كان التعبير بالعشر ونصف العشر فيما مضى، ولكن التعبير بعشرة في المائة أو خمسة في المائة أدق بكثير، طبعا نصف العشر يساوي خمسة في المائة؛ لأنهم يقولون أحيانًا: ثلاثة أرباع وربع، أو ثلث خمس، أو نحوه، ففيها من الصعوبة في إدراكها، أمَّا إذا جئنا بالنسبة إلى مائة فتكون يسيرة جدًا ودقيقة، خمسة عشر، ثلاثة عشر، الثمن، إحدى عشر، ستين أو قريبا منها، فيسهل الحساب بالمرة.
فإذًا نصف العشر هو خمسة بالمائة، فيخرج ذلك فيما استقر من الثمرة في بيدره، مما تجب فيه الزكاة مما يكال ويدخر.
{أحسن الله إليك.
قال -رحمه الله: (وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فِيمَا سُقِيَ بِهِمَ)}.
يعني: نصف السنة يسقونه بالجداول ونحوها، ونصف السنة الآخر يسقونه بالأمطار، وما يفد من خيرات ورحمات من الله -جل وعلا-، وإذا كان بَين بَين فثلاثة أرباع العشر، يعني: سبعة ونص بالمائة.
(فَإِنْ تَفَاوَتَا اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ) يعني: نسقيه أكثر بلا مؤنة فنعتبره، أو نسقيه أقل بلا مؤنة وأكثر بالمؤنة، نعتبر نصف العشر وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَمَعَ الْجَهْلِ الْعُشْرُ)}.
العشر لأنه هو الأصل على سبيل الاحتياط، وعلى سبيل المثال: كان والده هو الذي يسقيها ثم مات، وأشكل علينا، هل كان في سقياها معدات للسقي أو لا، فجهل الناس، أو كانت بعيدة منهم، أو شغلوا بما يشتغل به أبناء العصر من أعمال وسواها، أو لم يكونوا حاضرين، أو كان الورثة من الناس الأبعدين، يعني: ليس له ولد إلا ابن عم أو غيره، فجاءوا فوجدوا هذه المزرعة، وإذا هي قد نتجت نتاجًا كثيرًا، ولا يدري هل سقاها أو تعب فيها؟ أم أنها سقيت بلا مؤنة ونحوه؟ فنقول: يخرج العشر؛ لأنَّ هذا هو الأصل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ سَوَاءٌ أَخَذَهُ مِنْ مَوَاتٍ أَوْ مُلْكِهِ أَو مِلكِ غَيرهِ، إِذَا بَلَغَ مِائَةً وَسِتِّينَ رِطْلًا عِرَاقِيَّةً)}..
وجوب العشر في زكاة العسل هذا عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- اعتبارًا بما جاء في أثر عمر، فإنه أوجب فيه العشر، ولأجل ذلك ذهبوا مذهب قول الصحابي، فكيف إذا كان الخليفة الذي قوله ينتشر، فيكون قوله آكد وأتم من حيث إنه قد يبلغ الإجماع السكوتي، فلأجل ذلك أوجبه الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وإلا فهو من حيث الأصل لا يدخل في زكاة الحبوب والثمار، ولكن على سبيل الاتباع، لِمَا جاء عن الصحابي -رضي الله عنه-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ سَوَاءٌ أَخَذَهُ مِنْ مَوَاتٍ أَوْ مُلْكِهِ أو ملك غيره إِذَا بَلَغَ مِائَةً وَسِتِّينَ رِطْلًا عِرَاقِيَّةً)}.
قال: {(إِذَا بَلَغَ مِائَةً وَسِتِّينَ رِطْلًا عِرَاقِيَّةً)}.
لابد أن يبلغ هذا النصاب، فإذا بلغ وجبت فيه الزكاة.
مائة وستين رطل عراقي، بعضهم يقول: قرابة الستين كيلو، يعني: واحد وستين كيلو ونحوها، تجب فيه الزكاة إذا كان على هذه الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَمَنْ اسْتَخْرَجَ مِنْ مَعْدِنٍ نِصَابًا فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ فِي الْحَالِ)}.
استخراج المعادن عند الحنابلة تعد من الخارج من الأرض، فتدخل في عمومه، وأوجبوا فيه ربع العشر في الحال، يعني: وكأنهم لا يرون في ذلك حولاً، باعتبار أنه خارج من الأرض ولا أيضًا فيه نصاب محدد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا وُجِدَ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ)}.
الركائز هذا ما كان من دفن الجاهلية، كيف يكون من دفن الجاهلية؟ هو أن يوجد عليه علامة من علاماتها.
أمَّا إذا لم يوجد شيء من ذلك، خاصة مع تقادم العهد، والبعد أن يكون شيئًا من الجاهلية مدفونًا إلى الآن، فالأصل أنَّ كل موجود هو لُقطة، إلَّا أن نتبين أنه من دفن أهل ألجاهلية، بأن تكون عليه علامة من علاماتهم أو ما يدل على ذلك قطعًا أو ظاهرًا، فيحكم بأنه ركاز؛ فيخرج الخمس، الذي هو عشرون بالمائة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (فصل زَكَاةُ الذَّهَبِ.
وَأَقَلُّ نِصَابِ ذَهَبٍ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَفِضَّةٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَيُضَمَّانِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، وَالْعُرُوضُ إِلَى كُلٍّ مِنْهَا، وَالْوَاجِبُ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ)
}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذا الفصل: (وَأَقَلُّ نِصَابِ ذَهَبٍ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَفِضَّةٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ) إذًا هذا هو زكاة النقدين، والنقدان هما: الذهب والفضة، واختص الذهب والفضة لعظيم المنة بهما؛ ولأنهما كانا على مر الدهر ثمنًا للأشياء، ومقياسًا للحوائج والحاجات، وهذا مما جُبلت عليه البشرية، وطبيعة الناس أنهم يقيسون كل شيء بالذهب والفضة، فصارت كالمعيار لهما، إذا أشكل على الناس هذا قليل ولا كثير، هذا غال أو أقل من ذلك، إنما يعرفون هذا بما يُقابله من الذهب أو الفضة.
إذًا الذهب والفضة فيهما زكاة، وجاء عن النبي في الرقة ربع العشر، وفي كل عشرين مثقالا نصف مثقال، قال أهل العلم: إنَّ هذا دالٌّ على وجوب الزكاة فيهما، وأصل ذلك في قول الله- جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة:34]، وجاء عن ابن عمر وغيره: «كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»، والإجماع منعقد على وجوب الزكاة فيهما.
ما نصاب الذهب؟
قال: (عِشْرُونَ مِثْقَالً) والمثقال كمْ يكون؟
هو أربع جرامات وشيئًا، ولذلك بحساب المعاصرين بنقله إلى الجرامات يتفاوتون في ذلك، فبعضهم يجعلها إلى خمسة وثمانين جرام، أو ينقص قليلا، وبعضهم يجعله إلى واحد وتسعين جرامًا، فعلى كل حال يحتاط في ذلك ما كان الأقل.
أمَّا الفضة فهي (مِائَتَا دِرْهَمٍ) وكل درهم تقريبًا يساوي ثلاث جرامات إلا شيئًا قليلاً، وأكثر ما قيل في هذا أنه خمس مائة وتسعين، وبعضهم ينقص إلى خمس مائة وسبعين ونحوه، وأغرب بعضهم فجعلها أربع مائة وثمانين جرام، لكن هذا غريب، وعلى كل حالٍ فهي دائرة في الخمسمائة تسعين وما قاربها.
قال: (وَيُضَمَّانِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، وَالْعُرُوضُ إِلَى كُلٍّ مِنْهَ) يعني: كأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: لو أنَّ شخصًا عنده تسعة عشر مثقالا، وعنده عشرون درهما، التسعة عشر ليس فيها زكاة، المائة وثمانين درهمًا ليس فيها زكاة، فهل نقول: إنَّ هذا كما لو ملك عشرين مثقالا؛ لأنَّ مئة وثمانين درهمًا مع تسعة عشر مثقالاً تكون أكثر من عشرين مثقال قطعًا.
قال أهل العلم -وهذا هو الذي جرى عليه المؤلف والحنابلة، رحمهم الله تعالى-: إنَّ النقدين غير مقصودين لنفسهما بل لغيرهما، النعمة بهما واحدة، وهي كونها ثمنًا للأشياء، وبناء على ذلك من ملك شيئًا من نصاب الذهب، وشيئًا من نصاب الفضة، فكما لو كان قد ملك نصابًا واحدًا فـ (يُضَمَّانِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ).
إذا قيل بالضم، فهل يعتبر ضمهما بالأجزاء أو بالقيمة؟
إذا قلنا بالأجزاء، يعني: هذا عنده نصف نصاب فضة وعنده نصف نصاب ذهب، فيكون كما لو كان يملك نصابًا كاملا.
ولو قلنا بالقيمة، مائة وثمانين درهم تساوي ستة مثاقيل، فبناء ذلك عند أخيه "تسعة عشر مثقالا" كما لو كان عنده "خمسة وعشرون مثقالا"، والمصير إلى القيمة هو الأقرب والأتم.
فينظر إلى ما كان كذلك قيمة، فتجب فيه، والحقيقة أنَّ هذا يستدعينا الكلام على وجوب الزكاة في الأوراق النقدية.
هل الأوراق النقدية ذهب أو فضة؟
طبعا الأوراق من حيث الأفضل كانت تسمى: الفلوس، والفلوس هي ما ضربه السلطان من النحاس، "صُفُر"، وصار يستعمل كما تستعمل الدراهم والدنانير، فكان الناس يستعملون الذهب، التي هي دنانير الذهب، وجنيهات الذهب، وكان عندهم جنيهات الفضة، ودراهم الفضة، وكان عندهم الفلوس، والغالب أنَّ الفلوس تستخدم للأشياء التافهة، والدراهم لِمَا هو أعلى من ذلك، والذهب يستخدم للأشياء النفيسة، والزيجة وما يتعلق بذلك.
فهذه الفلوس لَمَّا كانت فيما مضي بإزاء الذهب والفضة، هل تجب فيها الزكاة أو لا؟
طيب آلت الآن إلى الأوراق النقدية، فقال أهل العلم: إن المراد منها الثمنية، وبناء على ذلك ما وجبت من زكاة فيهما وجبت الزكاة فيها، وما وجب من الربا فيهما وجب الربا فيها، سواء بسواء.
جاءت الأوراق النقدية، والأوراق النقدية في الحقيقة هي مركبة من الفلوس ومن الدراهم ومن الدنانير. كيف؟ لأنَّ الأوراق النقدية ليست فلوسًا من كل جهة. لماذا؟ لأنها حينما ابتدأ طبعها والتعامل بها، أصل ذلك كان بجعل ما يقابلها من الذهب والفضة. هل انتهى هذا؟ لا لم ينته، حتى في الدول الكبرى أو العظمى، وصحيح أنها لم تكن المقابلة الآن مائة بالمائة، ولكن بد من أن توجد في كل الدول على اختلاف قوتها الاقتصادية وغيرها، في البنوك المركزية أن يكون لها قدر من احتياطات الذهب، التي هي توزن بالفلوس أو بالأوراق النقدية، ولذلك تتفاخر وفي كل فترة يخرج قدر المخزون من الذهب والفضة والمعادن الثمينة لدى الدول، لكن أخصُّ ما يكون في ذكر الذهب والفضة، والذهب الآن على وجه الخصوص؛ فبناء على ذلك هذه الأوراق الآن تكون في بعض الدول تغطيتها ذهب وفضة كاملة أو غالبة، وتنزل إلى تكون قليلة، قد تصل إلى عشرين في المئة أو أقل؛ لأنه يقابل طباعة هذه الأوراق هو القوة الاقتصادية وحماية السلطان وما يقابلها من ذهب وفضة، ومن عملات خارجية، طبعا إذا قلنا عملات خارجية أيضا يرجع إلى كونها ذهب أو فضة في بعضها، ونحو ذلك.
فإذا هي من جهة مشمولة بالمعنى أنها ثمنية، ومن جهة أخرى أن بعضها ذهب وفضة يزيد وينقص، فبناء على ذلك قال أهل العلم المعاصرون: إن الذهب والفضة والأوراق النقدية تجب فيها الزكاة سواء بسواء، ولعله يمكن أن يقال: إن المنة بالأوراق النقدية في هذه الأوقات أعظم من المنة بالذهب والفضة، ولذلك لو أعطيت شخصًا خاصة من الأوراق النقدية التي لها نفوذ وقوة، ولو أعطيت شخصًا ذهبًا مُقابل سلعة من سلعه، لربما تردد كثيرًا في قبول ذلك، لكن لو أعطيته هذه الأوراق، مثلا: الدولار أو اليورو أو العملات التي لها نفوذ وقوة، حتى لو أعطيتها أقل من الذهب الذي أعطيته بقليل؛ فَضَّلَ أن يكون هذا هو مُقابل ما يبيع، وما يشتري.
فإذًا هي حتى من جهة المعنى صارت الثمنية فيها طاغية، لا شك في أنَّ هذا يزيد من كونها ثمنًا للأشياء وأن الزكاة فيها واجبة، وأن تعلق الحكم فيها ظاهر لا فيه ولا غضاضة.
فلأجل ذلك نقول: هذه الأوراق النقدية، من ملكها واستقر عنده شيء منها، وتم عليها الحول، أي: سنة؛ فتجب فيها الزكاة، كما تجب في الذهب والفضة.
إذا قلنا ذلك: فما الذي يعتبر من النصاب فيها؟ هل تعتبر الفضة أو الذهب؟
قالوا: ما دام أنها قائمة مقامها؛ فأقلهما نصابًا يعتبر للأوراق النقدية؛ لأنها تقوم مقام الفضة، وتقوم مقام الذهب، فأقلهما نصابًا اعتبار بالحظ للفقراء؛ لأن يكون نصابًا لهذه الأوراق، ونجعله أصلاً فيها.
قال: (وَيُضَمَّانِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، وَالْعُرُوضُ إِلَى كُلٍّ مِنْهَ).
أيضا وهذا سيأتينا في عروض التجارة، أنَّ التاجر يقلب السلع، فاليوم عنده ذهب كثير، أو دنانير، أو دراهم، أو أوراق نقديه، أو عملات أخرى.
ويمكن أن يكون عنده سلعة، ربما تكون سيارات، وغدا ربما يكون عنده مراتب وأماكن للجلوس، وبعد ذلك يمكن أن يشتري أدوات طبية وخلاف ذلك.
فلابد من أن تعتبر عروض التجارة، وما تستبدل به من أوراق نقدية، أو من ذهب أو فضة شيئًا واحدًا، ولذلك قال: (وَيُضَمَّانِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ)، ولذلك إذا جاء نهاية العام ينظر الإنسان فيما عنده من ذهب وفضة ومدخرات، سواء كانت للزواج أو لشراء بيت أو لسواها، وما عنده من عروض تجارة يقلبها، فيجمع ذلك كله، فتجب فيه الزكاة، ويعتبر فيه النصاب واحد، نصاب الذهب أو الفضة، الأقل منهما، ويجب فيهما ربع العشر، كما سيأتي في كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَالْوَاجِبُ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ)}
كما جاء في الحديث: «في كل عشرين مثقالا نصف مثقال، في كل خمسة أوقية صدقة»، فوجب في ذلك ربع العشر، وهذا محل إجماع واتفاق بين أهل العلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَأُبِيحَ لِرَجُلٍ مِنَ الْفِضَّةِ خَاتَمٌ وَقَبِيعَةُ سَيْفٍ، وَحِلْيَةُ مِنْطَقَةٍ وَنَحْوِهِ)}.
طبعًا ربع العشر والذي هو: (اثنان ونصف بالمائة)، وإذا أراد الشخص أن يعرف ذلك، فهو إمَّا أن يقسم المائة على اثنين ونصف، أو يقسم ما عنده على أربعين؛ فيخرج. فإذا كان عنده ستة ملايين مثلاً، فإذا قسمها على أربعين، فتصير الزكاة مائة وخمسين ألفًا، وهكذا، فيقسمها على أربعين، وهذا مشهور مما يتداوله العوام، وهو صحيح، ومؤد للنتيجة بدقة.
هنا قال: (وَأُبِيحَ لِرَجُلٍ مِنَ الْفِضَّةِ) هذا استطراد من المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام الذهب والفضة، في الاستعمالات ونحوها، وإلا فليس لها تعلق بالزكاة من حيث وجوب الزكاة فيها، إلا أن يُقال: إنها إذا وجدت عنده؛ أخذت حكم الزكاة، وهذا سيأتينا.
لكن من حيث الأصل أنَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- جرت عادتهم أن يذكروا الشيء عند وجود سببه، فلما كان ذكرى أحكام الذهب والفضة والزكاة فيهما، مستدع إلى استعمالاتهم، وما يجوز للإنسان في ذلك، وما لا يجوز ذكره.
(وَأُبِيحَ لِرَجُلٍ مِنَ الْفِضَّةِ خَاتَمٌ)؛ لأنَّ النبي اتخذ خاتمًا من فضة، منقوش عليه: "محمد رسول الله"، وهذا كما جاء به الأثر، قرره المؤلف -رحمه الله تعالى.
قال: (وَقَبِيعَةُ سَيْفٍ)؛ فإنه يُزين بها السيف، وجاء ذلك عن أصحاب النبي .
قال -رحمه الله: (وَحِلْيَةُ مِنْطَقَةٍ وَنَحْوِهِ) كذلك حلية المنطقة، والمنطقة هي التي يشد بها الإنسان وسطه، فإذا حُلِّيَتْ أو زُوِّقَت أو كُحِّلَت بشيء من الفضة، فلا بأس بذلك، وهذه كلها جاء فيها بعض الآثار، وربما اعتمدوا في ذلك أيضًا على التوسع فيها، باعتبار ما جاء في الحديث، الذي حسنه جمع من أهل العلم «وأما الفِضَّةُ فالعبوا بها لَعْب»[3].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَمِنْ الذَّهَبِ قَبِيعَةُ سَيْفٍ وَمَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَأَنْفٍ وَلِنِسَاءٍ)
باب الذهب والاستعمالات فيه للرجال أقل، ولذلك كان الذهب من حيث الأصل محرم على الرجال استعماله «إنَّ هَذينِ مُحرَّمٌ علَى ذُكورِ أمَّتي حِلٌّ لإناثِهِم»[4]، وذلك لَمَّا أشار إلى الذهب، ولَمَّا اتخذ ذلك الرجل خاتمًا من ذهب، قال النبي : «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِن نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ»، فلأجل ذلك كان هذا هو الأصل في الذهب، إلا أنه يمنع من اتخاذها واستعمالها فيه.
قال: ما الذي يستعمل؟ (قَبِيعَةُ سَيْفٍ) وتزين بها السيف، ولأنَّ هذا مُشعر بالقوة، ومشعر بالعزة المناسبة لحال الحرب، والإقبال على العدو، وفتُّ العضد فيه، بخلاف ما إذا جاءوا بآلات ضعيفة أو فيها أثر صدأ أو غيره؛ فإنَّ هذا مما تضعف فيه النفوس، فجاء في بعض الآثار ما يدل لذلك، ولهذا أَذِنَ فيه الفقهاء، وللمعنى الذي ذكرناه.
قال: (وَمَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ) أمَّا ما سوى ذلك فمتعلق هذا هو الضرورة، فما اضطر إليه جاز، وما لا فلا؛ لأنَّ ذلك الرجل "عَرْفَجَةَ"[5] لَمَّا انقطع أنفه اتخذ آنفًا من ذهب؛ لئلا يفسد، لئلا يتعفن، أمَّا إذا وُجد من الأشياء ما يقوم مقامها، كما كان في الزمن الماذي، كانوا يحتاجون إلى أسنان الذهب كثيرًا، ولكن لَمَّا تقدم الناس وصارت هناك إمكانية اتخاذ بعض الأشياء التي لا تدخل في المحرم، ويحصل بها المقصود وزيادة، لم يجز استعمال تلك، وحتى الأنف الذهب، إذا أمكن استعمال غيره، وحصول ما تندفع به الحاجة، ويحصل به المقصود؛ فإن الذهب يبقى على حرمته والمنع منه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَلِنِسَاءٍ مِنْهُمَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ)}.
فسواء لبست على رأسها أو على أذنيها، أو جعلته في أنفها، أو محيطًا بعنقها، أو لبسته في ذراعيها؛ كل ذلك مما يجوز؛ لأنَّه حل لهن.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَلَا زَكَاةَ فِي حُلِيٍّ مُبَاحٍ أُعِدَّ لِاسْتِعْمَالٍ أَوْ عَارِيَةٍ)}.
قال: (وَلَا زَكَاةَ فِي حُلِيٍّ مُبَاحٍ أُعِدَّ لِاسْتِعْمَالٍ) هذه مسألة زكاة الحلي من المسائل التي يقع فيها الإشكال كثيرًا، وذلك أنه يتنازعها أصلان قويان في الزكاة، من جهة أنَّ الذهب والفضة من آكد ما وجبت فيهما الزكاة وتعينت، ولذلك تلون الآية ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ، وما جاء من الأحاديث المتقدمة في وجوب الزكاة.
ومن جهة أخرى، أنَّ الزكاة لم تجب فيما يتخذه الناس قنية ويستعملونه عادة، لأن الزكاة إنما هي في الأموال النامية، أمَّا القنية والحاجة؛ فإنها مما لابد للناس من الحاجة فيه، فهذه الأموال النامية إذا زكيت لا تنقص؛ لأنها تتنامى ويباع فيها ويشترى وتزيد، لكن هذه الزكاة إذا وجبت في الحلي نقصت، فهل نرجع إلى الأصل وهو أنَّ الذهب والفضة تجب فيه الزكاة؟ أو نعتبر المعنى المتفق عليه وهو أنها للقنية؟
قال هنا: (وَلَا زَكَاةَ فِي حُلِيٍّ مُبَاحٍ أُعِدَّ لِاسْتِعْمَالٍ)؛ فرجح هذا الجانب، ليس فقط لأنَّ هذا الأصل هو الذي اعتمد عليه، لكن لأنه أيضا جاء في آثار كثيرة، عن خمسة من أصحاب النبي ، لا زكاة في حلي.
قالوا: إنَّ هذا مع ما اجتمع من آثار، وروي من حديث جابر مرفوعًا إلى النبي -وإن كان ذلك لا يصح، وإلا كان قاطعًا للنزاع- أنه لا تجب فيها الزكاة؛ ولأنهم قالوا: إنه ما جاء من أثر: "أتؤدين زكاة هذا" أنه لا يخلو من ضعف، وأنَّه أيضًا قيل: زَكَاتُهُ عَارِيَّتُهُ.
إذًا له معنى مخصوص ليس هو داخل في عموم المعنى مما يجب للزكاة؛ وهذا هو قول أصحاب النبي ، وهو المأثور عنهم، وهذا قول جماعة من أهل العلم، كما هو ذهب الجمهور، وهو قول أهل التحقيق كابن تيمية وغيره، وعليه الفتية عند متأخر مشايخنا، أنه لا زكاة واجبة في الحلي، ومن فعل ذلك؛ فإنه على سبيل التحوط والاحتياط.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَلَا زَكَاةَ فِي حُلِيٍّ مُبَاحٍ أُعِدَّ لِاسْتِعْمَالٍ أَوْ عَارِيَةٍ)}.
 لأنها من باب الإحسان، وباب القنية، فلم يخرج عن دائرة أن يكون حليًا، وقالوا: لأنَّ الحلي أيضًا لها اسم أخص من اسم النقد والذهب والفضة؛ وبناء على ذلك ما يتعلق الحكم فيه بالزكاة إنما هو في المضروب، الذي هو دراهم فضة أو دنانير ذهب، وهذه خارجة عن ذلك الاسم، فخرجت عن ذلك الحكم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَيَجِبُ تَقْوِيمُ عَرْضِ التِّجَارَةِ بِالْأَحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمَا، وَتَخْرُجُ مِنْ قِيمَتِهِ)}.
قوله: (وَيَجِبُ تَقْوِيمُ عَرْضِ التِّجَارَةِ) يجوز (عَرْضِ) أن تكون بالتسكين أو بالفتح، وهذا دخول من المؤلف -رحمه الله تعالى- في وجوب الزكاة في عروض التجارة، ما هي عروض التجارة؟
كل ما أُعِدَّ للبيع والشراء والتكسب، الأصل في وجوب الزكاة فيها، طبعا أشهر ما في ذلك حديث سمرة: «كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ»[6]، لكن ذلك ليس مقصورًا على هذا، فعمومات الأدلة دالة عليه، فإنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَ﴾ والإجماع منعقد على ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "ولم يقل أحد بعدم وجوب الزكاة في عروض تجارة إلا أهل الشذوذ"، فهو قول شاذ لا يعتبر، وإذا وجبت الزكاة في الذهب والفضة في أعيانهما، فإنَّما تجب في الأموال التي فيها نماء وزيادة أولى؛ لأن المقصود من الزكاة هو إعطاء الفقراء حقهم، والغالب أنَّ الناس لا ينفكون من الانتقال من الذهب والفضة إلى المبادلة والمبايعة، فلو قيل بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لأفضى ذلك إلى منع الزكاة حتى في الذهب والفضة؛ لأنها يقل أن تبقى دونما تحريك وتدوير، وبناء على ذلك وجبت الزكاة في عروض التجارة.
وعروض التجارة هي المعدة للبيع والشراء، دون المعدة للتأجير، وعلى هذا فلو أنَّ شخصًا مثلا عنده سيارة يركبها، ويتكسب عليها من إركاب الأمتعة أو إركاب الناس أو نحو ذلك؛ لم تجب عليه الزكاة فيها.
ولو أنَّ شخصًا عنده مصنع يصنع فيه الأشياء، فهذا المصنع هو مما أُعِدَّ للبيع أو لا؟ لا مواده الخام هي التي تعد للبيع والشراء؛ فتجب الزكاة فيما أعد للبيع والشراء دون ما سواه، فلا تجب عليه في مصنعه، وما يتكسب ويرتزق منه، ومثل ذلك آلة الصباغة ونحو ذلك، كل هذه الأشياء ما دام أنها لا تدخل في البيع والشراء مباشرة؛ فلم تجب فيها الزكاة.
ومثل ذلك أيضًا آلة حفر أو آلة حمل أو غيرها، إذا كان يتكسب فيها فلا تجب فيها الزكاة، حتى ولو كثرت قيمها؛ لأنه كما ذكرنا، هذا عند سيارة يتكسب بها، لكن الآن ممكن يصير عنده مائتي سيارة، وضع عليها أُجراء يستعملونها ويتكسبون منها، فيدخل عليه مداخيل كثيرة منها، نقول: لا تجب عليه الزكاة في هذه السيارات التي أعدت للإجارة، وإنما يجب عليه في الدخل إذا دار عليه الحول بشرطه.
وهكذا في أشياء كثيرة مماثلة، فبناء على ذلك نقول: ما كان عرضًا للتجارة وجبت فيه الزكاة، تبيعه وتشتريه.
وهنا تأتي مسألة، وهي مسألة من المسائل المشكلة، وهي التي يحتال بها بعض الناس على الزكاة، وهي في الأشياء التي يطول المكث فيها والانتظار، وتربص الربح بها كالأراضي، بعضهم يبقي الأرض عنده عشرين سنة، يقول: أنا الآن لم أعرضها للبيع، ولو جاء شخص سأقول له: لا أبيع. لماذا؟ لا لأنه لم يُعدها للبيع والتجارة، ولكن لأنه لا يكتفي بالربح المتوقع فيها الآن.
فإذًا هي من حيث المعنى هي معدة للبيع والتجارة، ولكن نظره التجاري ورغبته في زيادة الكسب، وفي عوائد الربح ونحوها، تجعله يتأخر في بيعها، فنقول: هذه معدة للبيع والاتجار، سواء بيعت هذه العام أو بعد خمس سنوات.
أمَّا قولهم: إنه لابد أن تعرض عند مكتب وكذا، فهذه أشياء لا أثر لها؛ لأنَّ التجارة وطرائق الاتجار لها مسالك كثيرة لإبداء الرغبة في السلعة وعدم امتهانها، فإذا قصرنا ذلك على العرض الفعلي، قد يمتنع الناس من البيع في ظاهر الأمر حتى يتحصلوا على أكثر من قدر من الربح، وبناء على ذلك ننظر إلى ما أُعِدَّ للبيع والتجارة، ولو طالت مدة عرضه.
وبناء على ذلك نقول: إنه تجب فيه الزكاة، لكن إذا لم يكن عنده مال يُزكيه، أي: يخرجه للعام لكونها لم تبع، فكل عام يحسبه، حتى إذا باعها زكاها لِمَا مضى من الأعوام.
قال: (بِالْأَحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمَ) يعني: من الذهب أو الفضة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَتَخْرُجُ مِنْ قِيمَتِهِ)}.
عروض التجارة تخرج من قيمتها. لماذا؟
قالوا: لأنها لا تُقصد لأعيانها، اليوم يشتري ويبيع في البصل، وغدًا يبيع في الذهب، وبعد غد يبيع في الملابس، ثم في الأدوات الطبية، فهو يتجر، فهذه ليست الأعيان المقصودة، وإنما الأموال المدارة، فبناء على ذلك ينظر إلى قيمتها ويخرجها، فإذا كان قد بقي عنده بعض البصل، وبعض الذهب، وبعض الملابس، وعنده شيء من الدنانير والدراهم؛ يجمع قيمة هذا إلى قيمة هذا إلى قيمة هذا؛ فيؤدي زكاته.
طيب متى يحتاج إلى النظر إلى (الْأَحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ)؟
يعني بعض الأحيان أن يكون نصابًا بالذهب، ولا يكون نصابًا بالفضة، وبعضها أحيانًا إذا أخرج من الذهب كان أحظ لهم، وإذا أخرج من الفضة كان أحظ لهم، فيخرج مما كان الْأَحَظِّ في ذلك.
{أحسن الله إليكم. نكتفي بهذا القدر}.
فيه خير وبركة وكفاية، أسأل الله أن يُتم علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا الخير والهدى، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المصطفى، وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
{جزاكم الله خيرًا، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في المجالس القادمة -إن شاء الله- إلى ذلكم الحين، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
-------------------------------
[1] رواه البخاري (1405).
[2] كتبَ إلى النَّبيِّ عنِ الخَضراواتِ وَهيَ البقولُ فقالَ: «ليسَ فيها شيءٌ»، ورواه الترمذي وصححه الألباني.
[3] أخرجه أبو داود (4236) واللفظ له، وأحمد (8910).
[4] رواه ابن ماجه.
[5] حسنه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود.
[6] رواه أبو داود والبيهقي.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك