الدرس الساس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

15621 18
الدرس الساس

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم.
أمَّا بعد، فأهلاً وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم محمد العجلان، أهلاً وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلاً وسهلًا، حياك الله، وحيا الله المتابعين جميعًا، جزاكم الله عنا خير الجزاء.
{أحسن الله إليكم وبارك فيكم، نستكمل ما توقفنا عنده.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَشُرِطَ لِصِحَّتِهَا الْوَقْتُ، وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعِيدِ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، فَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ التحريمةِ صَلَّوْا ظُهْرًا وَإِلَّا جُمُعَةً)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيًرا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم هداة مهتدين، غير ضالِّين ولا مضلِّين، وأن يحفظنا بالعلم والإسلام قائمين قاعدين راقدين، وألا يشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، وأن يحفظنا من الزَّيغ، وأن يمنعنا من الزَّلل، وأن يحفظنا مستقيمين قائمين على السنة والهدى، إنَّ ربنا جواد كريم.
لا يزال الحديث موصولًا استكمالًا لِمَا جرى في المجلس الماضي، وفي الدرس الذَّاهب، في أحكام صلاة الجمعة، فالمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد أن شرع واستهلَّ هذا الفصل بذكر مَن تجب عليهم الجمعة، وذكر فيهم ستة شروط، وذكر ما يتعلق بفعل صلاة الجمعة قبل وقتها، أو السفر بعد وجوبها وتفويتها، وما يتعلق بذلك؛ بدأ في شروط الصحة، قال: (وَشُرِطَ لِصِحَّتِهَا الْوَقْتُ)، فالوقت من شروط صلاة الجمعة، ولصلاة الجمعة وقت ابتداء ووقت انتهاء:
- أمَّا وقت الانتهاء فبإجماع أهل العلم أنَّه بانتهاء وقت صلاة الظهر سواء بسواء، على ما مرَّ بنا في أوقات الصَّلاة، وهو مصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال.
- أمَّا وقت الابتداء فلا إشكال فيه، فبإجماع أهل العلم أنَّ وقت وجوبها بعد زوال الشمس الذي هو ابتداء وقت صلاة الظهر.
بعد ذلك هل يجوز فعلها قبل هذا أو لا؟
هذه مسألة خلافية بين الحنابلة والجمهور، فمِن مفردات الحنابلة أنهم يقولون: إنَّ وقتها وقت صلاة العيد، فيبتدئ وقتها بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، ويجوز أن تُصلَّى في ذلك الوقت كله.
من أين أخذ الحنابلة ذلك؟
أخذوا ذلك من مجموع أدلة ليست قليلة، أوضحها حديث ابن سيدان وفيه نظر، واختُلف فيه وتُكلم في أسانيده ولا شك، «شهدتُ الجمعةَ معَ أبي بكرٍ الصِّديقِ -رضيَ اللَّهُ عنه- فكانَتْ خطبتُهُ وصلاتُهُ قبلَ الزَّوالِ» ، ثمَّ ذكرَ عن عمرَ وعثمانَ نحوَهُ، وهو أثر مشهور لكن متكلَّم فيه، لكن انضمَّ إلى ذلك عند الحنابلة مجموع أدلة، منها:
- أنَّها تقوم مقام صلاة العيد، فدلَّ على أن وقتهما واحد، ولذلك سيأتي إذا ما اجتمع العيد والجمعة، فصلى الإنسان العيد فإنه تسقط عنه الجمعة، بعضهم يقول: إلى غير بدل، وبعضهم يقول: إلى الظهر، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة.
- إلى جانب ما جاء في حديث سلمة بن الأكوع وما ماثله: «كُنَّا نُصَلِّي مع النَّبيِّ الجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وليسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ فِيهِ» ولو كان فيها خطبة وفيها صلاة وفيها كذا؛ مما يدل على أنهم صلوها قبل، وقوله: «وما كُنَّا نَقِيلُ ولَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ»، مع أنَّ وقت القيلولة قبل الزوال.
فالمهم كانوا يُؤخرونها، وبعض أهل العلم لَمَّا جمعوا مجموع هذه الأدلة خرجوا على هذا، وعلى كل حال؛ فلما كانت الصَّلاة بعد الزوال يخرج منها الإنسان بيقين من التبعة ولا يدخل في الإشكال فحتى عند الحنابلة يقولون: الأولى أن لا تصلى الجمعة إلا بعد زوال الشمس.
عند ابن قدامة قول فيه شيء من التقريب، وهو أنَّها تجوز قبل الزوال بساعة فقط، ليس كإطلاق المذهب عند الحنابلة، نشير فقط للمعرفة.
فإذًا هذا وقت صلاة الجمعة ابتداءً وانتهاءً ووجهه.
قال: (فَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ التحريمةِ صَلَّوْا ظُهْرًا وَإِلَّا جُمُعَةً)، يفهم من ذلك أنه لو أحرم -كَبَّرَ تكبيرة الإحرام- ثم خرج الوقت فإنهم يتمونها جمعة، وهذا هو مشهور المذهب وفيه خلاف.
وفيه إشكال من جهة أنَّ سائر الأوقات مَن أدرك ركعة من العصر فقد أدرك، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، فمناط الإدراك للوقت إنَّما هو بإدراك ركعة كاملة، لكن هنا يقولون: بالتحريمة، وجاء في حديث مسلم: «مَن أدرَكَ رَكعةً منَ الجُمُعةِ فقد أدرَكَ» ، يعني أنَّ من لم يدرك أن يركع فقد فاتته الجمعة، فهو تعلق به حكم صلاة الظهر.
فعلى كل حال؛ منهم من يقول: إنَّه أدرك؛ لأنَّه أدرك جزء من الوقت، وهذا هو مشهور المذهب.
وفي قول آخر عند الحنابلة ذُكر في الكشاف، وذَكره غير واحد من الحنابلة، ومال إليه بعضهم: أن الإدراك إنَّما يكون بإدراك ركعة لا بإدراك تكبيرتها.
أمَّا إذا ما صلوا إلا بعد خروج الوقت: فقد ذهب الوقت وتعلق بهم حكم صلاة الظهر، ولذلك قال: (صَلَّوْا ظُهْرً)، يعني فيما لو لم يدركوها قبل خروج وقتها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحُضُورُ أَرْبَعِينَ بِالْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا فَإِنْ نَقَصُوا قَبْلَ إِتْمَامِهَا اسْتَأْنَفُوا جُمُعَةً إِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا ظُهْرً)}.
اشتراط العدد وهو اعتبار الأربعين هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وأصل ذلك في الحديث لَمَّا قال: «كَم كنتُمْ يومئذٍ؟ قالَ: أربعينَ رجلً» ، فهذا الاستدلال عند الحنابلة في مواطن ليست قليلة وهو الوجود، يعني: هذا أقل ما وجد، فيقولون: أربعين نثق ونتيقن أنَّها تصح بها الجمعة، ما دون ذلك لا ندري، والجمعة فيها معنى الاجتماع، بما يظن أنَّه يطلب لها العدد الكثير، فبناء على ذلك شرطوا هذا الأعداد واعتبروه، وأنَّه هو الذي يتأتى تحصيل براءة الذمة وأدائها على وجه لا يشك فيه، وإلا فقيل باثنا عشر وقيل بأربعة وقيل: بأقل، وقيل: بأكثر، وقيل: مثل صلاة الجماعة، وللفقهاء في ذلك خلاف مشهور، لكن هذا هو وجه مذهب الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
قال: (مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَ)، أمَّا لو وجد أربعين بعضهم ليسوا أهلاً للوجوب كان يكون نصفهم نساء فلا تقام بهم الجمعة، هؤلاء تصح لهم لكن لا تصح بهم، فلابد أن يوجد أربعين من أهل الوجوب، يعني تنطبق عليهم الشروط الستة المتقدمة: مسلم، مكلف، ذكر، حر، مستوطن ببناء، المكلف يشمل البالغ العاقل.
فإذًا لابد من أربعين ممن انطبقت عليهم هذه الشروط، فلو وجد عندنا خمسة وثلاثين وستة مسافرين قالوا نصلي معكم؛ ما تقام، أو حتى مقيمين، البلد فيها خمسة وثلاثين شخصًا أو ستة وثلاثين شخصًا هم أهل البلد وفي مزارعهم، وهؤلاء أتوا يشتغلون ويسترزقون وينتقلون بعد مدة أو كلما حانت لهم الفرصة، فنقول: لا تقام في هذه البلد، فلا يوجد فيها عدد على مذهب الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- فلابد أن يوجد أربعين من أهل وجوبها الذين يحصل بهم الاستيطان، أو تنطبق عليهم الشروط الستة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ نَقَصُوا قَبْلَ إِتْمَامِهَا اسْتَأْنَفُوا جُمُعَةً إِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا ظُهْرًا)}.
يعني: لو أنهم كانوا أربعين وفي أثناء الخطبة أغمي على أحدهم فذهبوا به إلى مستشفى فيقول المؤلف: لا تقام في يوم الجمعة فقد نقص العدد، فإن أمكن أن يستأنفوا الجمعة استأنفوها، فلوعالجوه ورجع قبل خروج الوقت؛ فيخطبون ويصلون، أمَّا لو لم يرجع فنقول في مثل هذه الحالة: صلوا ظهرًا.
قال: (اسْتَأْنَفُوا جُمُعَةً إِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا ظُهْرًا)، فلو رجع قبل وأمكن أداؤها فيستأنفها، وإلا فلا، أو أنهم لما ذهب هذا راحوا يبحثون فقالوا: فلان في بيته، فقالوا له: تعالَ، وأكملوا به العدد؛ فالحمد لله، المهم كيفما أمكن استئنافها جمعة ففعلوا فصحت، وإلا فلا، وينتقلون إلى كونها ظهرًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً)}.
هذا لا إشكال فيه لِمَا تقدم من الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، أمَّا لو أدرك أقل من ركعة كما لو جاء وهو في التشهد فهذا يصليها ظهرًا، لكن ينبغي أن يُعلم هنا -كما يقول الفقهاء- إنَّه إذا كان قد نواها ظهرًا فيصليها وتكون أربعا وينتهي، لكن إذا كان قد جاء وهو ما يدري بعد ركعة وكبَّر على أنَّها صلاة الجمعة ظانًّا أنَّ هذه جلسة بين السجدتين ويقوم للركعة الثانية، فكانت التشهد الذي سلم فيه الإمام فتشهد وسلم، هذا لم ينوها ظهرًا أربع ركعات، ولم تصح له جمعة، فبناء على ذلك يقول الفقهاء هنا: إنَّه يصلي ركعتين نافلة ثم يعيد الظهر، لأنَّه لم ينوِ الظهر من ابتداء الصَّلاة فتصح له، ولا تُدرك الجمعة إدراك جزء منها، خلافًا لسائر الصلوات التي تدرك الجماعة بإدراك جزء منها، فبناء على ذلك قالوا من أنَّه في مثل هذه الحال يصلي ركعتين نافلة ثم يستأنف صلاة ظهر، هذا هو المشهور والمستقر والأحوط، وإن كان بعضهم يقول يمكن أن تنقلب نيته هنا فيصلي أربع ركعات ولا إشكال، لكن على كل حال لا قضاء إلا أربع ركعات في المشهور من المذهب وقول جمهور العلماء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَقْدِيمُ خُطْبَتَيْنِ مِنْ شَرْطِهِمَا: الْوَقْتُ، وَحَمْدُ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ وَقِرَاءَةُ آيَةٍ، وَحُضُورُ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِقَدْرِ إِسْمَاعِهِ، وَالنِّيَّةُ، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا، وَأَنْ تَكُونَا مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا لَا مِمَّنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ)}.
لا زال المؤلف في شروط الصحة، فذكر الوقت، وحضور الأربعين، والثالث: تقدم خطبتين، فلا بد في الجمعة من وجود خطبتين، وأن تكون سابقة للصلاة، فلا تكون بعدهما، وهذا بالاتفاق في اعتبار الخطبة، والمشهور من المذهب أنَّها لابد من خطبتين، لاستقرار السنة عن النبي أنَّه كان يخطب في الجمعة بخطبتين يفصل بينهما بجلوس.
بعد ذلك ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما يعتبر في خطبة الجمعة، قال: (مِنْ شَرْطِهِمَا: الْوَقْتُ)، فلابد أن تكون في وقت صلاة الجمعة، فإذا قيل: إنَّ الوقت بعد الزوال فلا بد أن تكون وقعت بعد الزوال، فلو دخل الإمام قبل الزوال وهو مالكي أو شافعي أو حنفي، وهم لا يجيزون هذا، فعندنا أنَّ هذه الخطبة لم تفعل في وقتها، أو كان حنبليًّا لا يرى أن تكون قبل الزوال، ويضعِّف ذلك القول، ويذهب إلى قول مَن قال من أهل التحقيق عند الحنابلة: إنَّها بعد الزوال.
وأيضًا من جهة المعنى يقولون: إنَّ الخطبة بدل عن الركعتين في الظهر، جاء هذا عن عائشة في بعض الآثار، وقرَّره الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
فإذًا من شرطهما الوقت، فلابد أن تكون الخطبتين واقعتان في وقت صلاة الجمعة لا قبلهما.
ثم أيضًا هذه الخطبة حتى تكون خطبة -سواء الأولى أو الثانية- ينبغي أن تشتمل على ما ذكره المؤلف: حمد الله -جَلَّ وَعَلَا- والثناء عليه، وفي الحديث: «كلُّ كلامٍ لا يُبدأُ فيه بالحمدِ فهو أجذَمٌ» يعني مقطوع البركة لا خير فيه، ولأن النبي كان يبتدئ خطبه كلها بحمد الله والثناء عليه.
وكذلك الصَّلاة على النبي ، فإنَّها قرينة حمد الله، وهي تمام؛ وبهذا أمر المؤمنون أن يصلوا على النبي ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [الأحزاب: 56].
قوله: (وَقِرَاءَةُ آيَةٍ)؛ لأنَّها هي التي يحصل بها إصلاح القلوب ووعظها، وليس شيء أنفع للناس من كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- وعظًا وهداية، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس: 57]، الموعظة ما هي؟ هي القرآن، هي كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-، فهو واعظ للقلوب ومصلح لها، ومحرك لِمَا يكون من قسوتها، ومذهب لِمَا يكون من تصلبها.
قال: (وَحُضُورُ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَر)، يعني: فلا يصح أن تكون الخطبة فيها ثلاثين، ثم اكتمل العدد في وقت الصَّلاة؛ لا، لابد أن يكون في وقت الخطبة فيها أربعين رجلًا، فإذا كانوا قد خرجوا بما ينقص به العدد لم تصح الخطبة، ووجب استئنافها، لكن إذا خرج مَن خرج وبقي عدد يحصل به الخطبة، كأن يخرج خمسة لكن باقي ستين عندنا ما فيه مشكلة، أو أنهم خرجوا بعد أداء ما يجب فيها، الخطبة تتأتَّى بهذه الأشياء، ثم زاد في الحديث أو دعا أو نحو ذلك، فخروج مَن خرج في وقتٍ قد أُدي فيه ما تجب به الخطبة لا يمنع صحتها، فإذًا من حيث الأصل يجب حضور العدد المعتبر للخطبة وهو العدد المعتبر للصلاة سواء بسواء، لما ذكرنا من أن الخطبة أُقيمت مقام الركعتين كما هو عند الحنابلة وجاء في بعض الآثار، وإن كانوا -كما تقرر معنا- أنَّها ليست بدل عن الظهر ولا عوض عنها، وإنَّما هي صلاة مستقلة كما قررنا ذلك سلفًا.
قال: (وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِقَدْرِ إِسْمَاعِهِ)، أمَّا لو كان الخطيب يحدث نفسه فهذه ليست بخطبة! وإنَّما المقصود من الخطبة إسماع الناس وإفهامهم ووعظهم وتذكيرهم وتعليمهم، فالقدر الواجب ما يحصل به السماع، والقدر المستحب المبالغة في الرفع، ولذلك جاء عن النبي كما عند مسلم في الصحيح: «كانَ رَسولُ اللهِ إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يقولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» كمن جاء يحذر أهله من عدو آتٍ، فيكون بصوت مرتفع جدًّا، فكذلك ينبغي أن يكون الخطيب في إبلاغ الناس ورفع الصوت بما يبلغ أقصاهم كما يبلغ أدناهم، لكنه يتأتى الوجوب بقدر الإسماع.
قال: (وَالنِّيَّةُ)، لابد أن يكون نوى أن تكون خطبة الجمعة، فلو دخل شخص ورأى الناس مجتمعين في المسجد، فقال لعلها فرصة أن أعظهم؛ فوعظهم وأبكاهم وذكرهم، وتلا عليهم من القرآن والسنة، والحمد لله والثناء عليه والصَّلاة على نبيه، واستجمع في ذلك ما استجمع من الخطبة، فقالوا له: ما عاد نحتاج خطبة الجمعة! نقول: لا، هذه لم تُنوى فلم تقع موقعها، ولابد من الاستئناف، فإما أن يعيد فيخطب بنية أن تكون خطبة جمعة، وإمَّا أن يأتي من استعدَّ لذلك وتصدى لها فيؤديها، ولا يجوز أن تكون بغير نية كما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال: (وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ)، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131]، فهذه وصية الله -جَلَّ وَعَلَا- للأولين والآخرين.
الوصية بتقوى الله وما أعظمها محركًا للقلوب لو فقهنا! وما أكثر ما سمعناها وهي ربما تكون حجة علينا إلا لمن أصلح الله قلبه وتذكر واتعظ! فكم خالفناها فواقعنا ما واقعنا من المحظورات! اقترفنا ما اقترفنا من السيئات سواء فعل ذلك في القول وفي النظر أو في تعاطي بعض الشبه والتعاملات المحرمة والمالية وغيرها! والله يتولانا برحماته.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَ)، بمعنى أنَّه لا يتعين أن يقول "أوصيكم بتقوى الله" لا، إن قال: اتقوا الله، ليتق الله كل واحد منكم، أيها المؤمنون تقوى الله خلاص لكم من النار، وسلامة لكم من البلاء؛ فكله وصية، الزموا تقوى الله، الله الله في التقوى؛ كلها ألفاظ صحيحة مؤدية للمراد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَنْ تَكُونَا مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا لَا مِمَّنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ)}.
أي: لا تصح الخطبة ممن لا يصح أن يكون فيها إمامًا، أي: لو خطب الناس مَن لا يصح أن يكون إمامًا كما لو كان غيرَ بالغٍ، باعتبار أنَّه لابد من البلوغ عند الحنابلة في الإمامة؛ فلا يصح.
ولا يشترط أن يكون الخطيب هو الإمام، فلو أنَّ شخصًا خطب بما فتح الله عليه، ثم تقدم إمام المسجد فصلى وكلهم تجوز لهم الإمامة ويتأتى بهم ذلك؛ فحسن، لكن لا يجوز أن يكون الخطيب ممن لا يؤم في الجمعة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُسَنُّ الْخُطْبَةُ عَلَى مِنْبَرٍ أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ، وَسَلَامُ خَطِيبٍ إِذَا خَرَجَ، وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ)}.
إذًا هذا من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تفريعًا إلى مستحبات ومسنونات الخطبة، قال: (وَتُسَنُّ الْخُطْبَةُ عَلَى مِنْبَرٍ أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ)، فإن النبي أول ما كان يخطب الناس على جذع نخلة، ثم لما صنعت له امرأة من بني النجار منبرًا وذهب إليه ارتفع عليه، وكان يخطب فيه والقصة مشهورة لما حنَّ الجذع إلى النبي وبكى كبكاء الطفل حتى ضمَّه النبي فسكت، ولأن هذا أبلغ في حصول الصوت واسترعاء المصلين وانتباههم وحصول المقصود من الخطبة.
قال: (وَسَلَامُ خَطِيبٍ إِذَا خَرَجَ، وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ)؛ لأنَّ النبي «كان إذا صعِدَ المِنبَرَ سلَّمَ» كما في عند أهل السنن، فدخوله في المسجد هو مقابلة للناس، ثم إذا خرج ففيه ما يستدعي السلام مرة أخرى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجُلُوسُهُ إِلَى فَرَاغِ الْأذَانِ، وَبَيْنَهُمَا قَلِيلًا، وَالْخُطْبَةُ قَائِمًا مُعْتَمِدًا عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا قَاصِدًا تِلْقَاءَهُ، وَتَقْصِيرُهُمَا، وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ، وَالدُّعَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأُبِيحَ لِمُعَيَّنٍ كَالسُّلْطَانِ)}.
قال: (وَجُلُوسُهُ إِلَى فَرَاغِ الْأذَانِ، وَبَيْنَهُمَا قَلِيلً)، هذه هي سنة النبي ، فكان إذا دخل جلس، ولذلك كل داخل إلى صلاة الجمعة ينبغي أن يصلي ركعتين كما أمر النبي سليك الغطفاني أن يقوم فيصليهما لَمَّا جاء وجلس، إلا الخطيب، فإنه يفعل كما كان النبي يفعل فيجلس، حتى إذا انتهى المؤذن من أذانه قام فخطب الناس، فهذا كالمستثنى من عموم الداخل للجمعة، وذكر أهل العلم في ذلك بعض مَن يستثنى هذا محل تفصيله وبيانه.
قال: (وَبَيْنَهُمَا) الضمير راجع إلى الخطبتين، فيستحب أن يجلس بينهما؛ لأنَّه قد جاء في الحديث عن ابن عمر أنَّ النبي «كَانَ النَّبِيُّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَ» ، قد حددها بعض أهل العلم بقدر قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ، وهي من المواطن التي ذكرها أهل العلم فيما يتأكد فيها إجابة الدعاء، وترجى فيها ساعة الجمعة، التي يجاب فيها دعاء الداعي، فيدعو فيها الإنسان، لكنه ليس موطن طول وانتظار، بل لا يكون إلا قليلًا لئلا يشق على الناس في طول الانتظار.
قال: (وَالْخُطْبَةُ قَائِمًا)، هذه هي السُّنة الثَّابتة التَّامَّة الدَّائمة عن النبي ، لكن من تعذر عليه ذلك إمَّا لضعف أو مرض أو لارتجاج ينبغي عدم ثباته، أو لسبب آخر فخطب جالسًا، أو لغير سبب فخطب جالسًا؛ فإن خطبته تتأتى بذلك، لكنه ترك سنة محفوظة عن النبي .
قال: (مُعْتَمِدًا عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا)، وهذا جاء في بعض الآثار واختلف في ذلك من جهة الثبوت، وإن كان هذا مشهور ,متقرر عند فقهاء الحنابلة، قالوا: إنَّه من جهة المعنى أنَّ الاعتماد على شيء أثبت للخطيب وأمنع له من الحركة التي تفسد خطبته.
لكن هل اعتماده على القوس أو السيف -عند من ذكر ذلك- له وجه؟
بعضهم قال: إنَّه إشارة إلى عزة الإسلام، وإن كان ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كما في "الهدي" كأنه عارضَ ذلك واستدركَ عليه لأنَّه لم يثبت، وأنَّه لا وجه لذلك، فعلى كل حال متى ما تأتى للخطيب أن يعتمد على شيء حتى ولو كان على ما بُني من المنبر أو نحوه فيتأتى به المقصود ويحصل به الغرض.
قال: (قَاصِدًا تِلْقَاءَهُ)، يعني: أنَّ الخطيب لا يلتفت، لأنَّه إذا قصدَ تلقاءه الناس أعمَّ بالتوجه إليهم، فإذا التفت يمينًا أو شمالًا فإنه يعرض عن بعض الناس، فإذا انحرف إلى ذات اليمين انحرف عن أهل ذات الشمال والعكس بالعكس، ففيه شيء مما يحصل به الغض من حق المصلين؛ فعلى كل حال إن تحرك قليلًا فالأمر فيه يسير، لكن لا شك أن قصده تلقاء وجهه هو الأتم، أمَّا ما يحصل الآن من حركة كثيرة من بعض الخطباء والتَّحرك والإشارة بالأيدي فربما هذا من قلة العقل، ربما يكون فيه نوع سَفهٍ، وذهابِ لرزانة الخطيب، وربما قيل ما هو أكثر من ذلك، فينبغي للخطيب أن يكون على قدرٍ من التُّؤدة والوقار، وألا تكون منه حركة تزري به وتضعفه.
قال: (وَتَقْصِيرُهُمَ)، الخطبة إنَّما هي وعظ، والوعظ يحصل بالقليل، كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا، والنبي قال: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ؛ مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ» ، فهي علامة على الفقه، وقليل مسموع خير من كثير منسي غير مجموع، فكم ممن يطيلون الخطب، ولا يتأتى بذلك المقصود! ويكون فيه من الإدخال على الناس، وأن تتشتت أذهانهم، وأن يستدعوا وساوسهم وأفكارهم، فينبغي ألا يطال في الخطب قدر إلا الاستطاعة، وكلما كانت أقصر كانت أنفع بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا-، وهذا معلوم بقول النبي ، وقوله أصدق، وهديه أتم، ومعلوم بالواقع، ومَن خالف ذلك فقد خالف النبي .
قال: (وَالثَّانِيَةُ أَقْصَرُ) يعني: من الأولى، وهذا أيضًا ثابت في السنن الكثيرة عن النبي .
قال: (وَالدُّعَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ)، هذا موضع تجاب فيه الدعوات وهو وقت لاجتماعهم، والنبي دعا لهم لما احتاجوا كما في قنوت وغيره، وكما في استسقاء ونحوه، فيكون ذلك محلًّا مناسبًا، والدعوة لعموم الناس حصول للخير للعموم، فلا يكون في ذلك تخصيص فكان ذلك مناسبًا ومشروعًا، والنبي صلى الله عليه دعا وأشار بأصبعه كما جاء ذلك في حديث مسلم في الصحيح «كانَ النبيُّ لا يَرْفَعُ يَدَيْهِ في شيءٍ مِن دُعَائِهِ إلَّا في الِاسْتِسْقَاءِ» فوجد إذًا الدعاء في خطبة النبي وجد الاستسقاء ورفع اليدين.
أمَّا رفع اليدين في خطبة الجمعة فغير مشروع إلا في الاستسقاء، وهذا لخصوصية الجمعة، وأمَّا ما سوى ذلك من أدعية فإن كل دعاء من أكبر أسباب إجابته وحصوله رفع اليدين، ولا يختلف ذلك أن يكونَ في محاضرة أو أن يكون في كلمة بعد الصَّلاة أو في موعظة أو حتى في مثل مجلسنا؛ فلو أننا إذا دعونا في آخر المجلس أو في افتتاحه رفعنا أيدينا فإن ذلك أتم وأكمل، إلا خطبة الجمعة استناناً بسنة النبي ، ولما كان من الصحابة من الإنكار على من رفع، قال: «عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ رضي الله عنه أنه : رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا : وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ» ، يعني في الدعاء للمسلمين، إلا إذا استسقى وسيأتينا هذا في باب الاستسقاء، لما استسقى النبي بطلب ذلك الطالب وسؤال ذلك السائل لما قال: «هَلَكَتِ الأمْوَالُ وانْقَطَعْتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ رَسولُ اللَّهِ يَدَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَ» ، فهذا مستثنى في حال الاستسقاء، فإذا انتهى من استسقائه ولو كان له دعاء آخر فإن تمام السنة عدم الرفع في ذلك الموضع.
قال: (وَأُبِيحَ لِمُعَيَّنٍ كَالسُّلْطَانِ)، ليس على العموم، فإنه كما يقول أهل العلم: إن هذا تخصيص من لا وجه للتخصيص له، وتفويت على الناس، وقال بعضهم: هي خيانة للمصلين، لكن مَن بصلاحه مصلحة المسلمين فالدعاء له عظيم.
والدعاء للسلطان في خطبة الجمعة من أعظم ما يكون، ولأنه هو الفيصل كان، وإن لم يكن في أول الأمر، لكن لما وجدت الخوارج الذين خرجوا على الولاة وألَّبوا عليهم وشقوا عصا الناس والمسلمين؛ كان من علماء أهل السنة من يدعو للسلطان وإمامهم، وكان هذا هو الفيصل بين صاحب السنة ومَن سواه، ومَن كان على الهدي الأقوم ومَن كان دونه، ومَن طلب الهدى والتمام ومن أتبع نفسه للهوى الضلال، فالدعاء للسلطان نافع، وإذا صلح السلطان صلح أمر الناس في دينهم وفي دنياهم، ومهما وقعَ في القلب على السلطان فإنه لا تطيب النفس بترك الدعاء له وطلب صلاحه، والحث على اجتماع الناس عليه، ومنع كل ما يكون سببًا للاختلاف أو لبذرة الفتنة أو لحصول المحنة، لذلك جاء «مَن أتاكُمْ وأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ علَى رَجُلٍ واحِدٍ، يُرِيدُ أنْ يَشُقَّ عَصاكُمْ، أوْ يُفَرِّقَ جَماعَتَكُمْ، فاقْتُلُوهُ» ، فلأجل ذلك لما توالت الأهواء والفتن إلى وقتنا هذا كان الدعاء في مثل هذا للسلطان أتم وأسلم، وأبعد عن الفتنة، وأدعى لحصول الجماعة، وأمنع للنفس من الأهواء والضَّلالات، ولا يقع في قلب إنسان من الامتعاض للدعاء للسلطان أو الالتفات عن ذلك إلا لمرض في نفسه، وانحراف في قصده، ولعب الشيطان به، وهذا أمر واقع وجلي، ولا يزال أولئك تتخطَّفهم الأهواء حتى تصدر منهم الفتنة يظهر منهم البلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فينبغي أن نبقى على ذلك، هو ليس من أصل الخطبة، لكنه لا شك أنَّه لما كانت الفتن ولما وقع ما وقع، واحتيج إلى صلاح الولاة وإعانتهم بالدعاء، وطلب ما أعظم ما يكون فيه رجاء إجابة الدعاء في حصول اجتماع وفي يوم الجمعة وفي هذا الأمر الذي ترجى فيه الإجابة؛ أن يدعى لهم ولبطانتهم وأن يصلحهم، فإن صلاحهم صلاح للمسلمين بعامة، والله يجعل نفوسنا سليمة بريئة من الأهواء، وألا يقرَّ في قلوبنا شيء من الضلالات والانحرافات، وألا يسوقنا مساقَ أهل البدع والأهواء، والخروج والضَّلال، فإن ذلك إذا وقع في القلب واستحكم عليه وقع الإنسان في شرٍّ كثير وبلاءٍ عظيمٍ، وما استبيحت الدماء ولا وقع في الناس الشَّر إلا أكثر ما يكون ذلك بالاختلاف على الولاة، فكان أمرًا يجب أن يكون بمحلٍ من الاهتمام، وأن يكون طلبة العلم على ذلك، وأن يدعوا الناس إليه منعا لحصول الشرور والفتن، وإن الناس قد مرت بهم أهواء ليست عنا ببعيدة ولم تزل في بعض البلدان تأخذ وتأتي وترفع وتخفض بسبب ما حصل من الانفلات والانقلاب على الولاة، وما تبع ذلك من الشرور، وما حصل بسبب بذلك من الفتن التي الله بها عليم، فليس الأمر عند فساد الدنيا ولا نقص الأرزاق ولا فوات بعض الأمور، وإنَّما فاتَ على الناس أهم ما يكون من قيام دينهم واستقرارهم، وحصل تبعا لذلك من البلاء ما الله به عليم، بل لربما تسلَّط عليهم الكفار وحقَّ عليهم أنواع من البلاء كثيرة يوشك ألا يخرجوا منها إلا أن يتداركنا الله وإياهم برحماته، عسى الله أن يؤمِّن المسلمين في بلادهم وأن يجمعهم بعد شتات وأن يوحدهم بعد فرقة، وأن يولِّي عليهم خيارهم، وأن يجعلهم في خير وهدى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهِيَ رَكْعَتَانِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ الْجُمُعَةَ وَالثَّانِيَةِ الْمُنَافِقِينَ)}.
قال: (وَهِيَ رَكْعَتَانِ)، صلاة الجمعة ركعتان، وهذا قدر لا إشكال فيه وهو محل اتفاق وإجماع، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بالجمعة وفي الثانية يقرأ بالمنافقين، وهذا جاء في السنة الصحيحة كما روى ذلك مسلم في صحيحه.
وجاء أيضًا وهو مشهور معلوم وهو الذي أكثر ما يكون عليه العمل: القراءة بـ "سبح والغاشية".
وجاء في بعض الأحاديث قراءة الجمعة والغاشية، لكن الأكثر والذي يتتابع على ذكره العلماء والفقهاء: قراءة الجمعة والمنافقين أو سبح والغاشية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ إِقَامَتُهَا وَعِيدٍ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ بِبَلَدٍ إِلَّا لِحَاجَةٍ)}.
إقامة الجمعة من حيث هي التي تحصل بها الجمعة الواحدة فهذه ثابتة ولا تحتاج إلى إذن الإمام، بل تقام الجمعة كما تقام سائر الصلوات، لكن ما زاد عن الأولى فلا يجوز، والأصل أن النبي جمَّع في المدينة بموضع واحد، وعلى ذلك استقر الوضع، وعلى ذلك كان عمل الخلفاء، حتى إذا اتَّسعت الأمصار وكبرت البلدان فحصل في بغداد ما دون نهر دجلة وفي شطه الآخر وتفرَّق الناس فشق عليهم الانتقال إلى شقها الآخر؛ افتى العلماء بجواز إقامتها في شط بغداد أو في جهته الأخرى من جهة دجلة، فمن هذا أخذ أهل العلم أنَّها لا تقام في الموضع الثاني إلا إذا احتيج إليه، وينبغي أن يكون ذلك في أضيق دائرة، وألا يُتوسَّع فيه بغير حاجة، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (حَرُمَ)، وذكروا أنَّها لو أقيمت بغير حاجة لكانت باطلة، وهذا مما يستدعي ألا يُتساهل في ذلك ولا يُتوسع، لكن إذا احتاج الناس فإنه يجوز بقدر ما يحتاجون إليه، لضيقٍ أو خوف فتنة، كما لو تكون في البلد مثلًا قبيلتين متنازعتين لو كانا يجتمعان في محلةٍ واحدة أذكى ما بينهما من الخلاف، فجُعل لهؤلاء موضع ولأولئك موضع، فذكر أهل العلم مثل ذلك ما يجوز به كونها في أكثر من موضع، ولا يزاد في ذلك إلا بقدر الحاجة، ولأجل هذا فالذي جرى عليه العمل عندنا أنَّه لا تقام في موضع من المواضع إلا بفتوى من اللجنة الدائمة للإفتاء، يخرجون في ذلك لجنة ويعتبرون في ذلك اعتبارات، وينبغي أن يُتوقَّى في ذلك لأنَّه موضع خلاف الأصل، فتُقدر بقدرها، والتقدير لمن كان له نظر في التقدير، ولا ينبغي أن يُتوسع ذلك، لئلَّا يفضي في هذا إلى فساد صلاة الناس وبطلانها.
ومثل ذلك: العيد، لأن المقصود بها الاجتماع، ولأن أهل العلم يقولون: إنَّها لا تتكرر كثيرًا، فلا يشق على الناس أن لو اجتمعوا في هذا الموضع مرة كل أسبوع، كيف إذا كان في العيد الذي هو مرتان كل سنة؟!
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَقَلُّ السُّنَّةِ بَعْدَهَا رَكْعَتَانِ وَأَكْثَرُهَا سِتٌّ)}.
قوله: (وَأَقَلُّ السُّنَّةِ بَعْدَهَا رَكْعَتَانِ)، جاء هذا في الصحيح وفيه أربع ركعات، وجاء في بعض الآثار أنَّها مجموعة ست، أو جاء عن ابن عمر فعل ذلك، وبعضهم يقول: إنَّه إن صلاها في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في البيت صلَّى ركعتين، المهم أن يكون بين ذا وذاك.
ويفهم من هذا: أن ما قبل الصَّلاة ليس فيه سنة راتبة.
بعض أهل العلم يقول: يصلى أربع ركعات.
وبعضهم يقول: لا شيء في ذلك متعلق، بل يأتي ويصلي تحية المسجد، لكن المذهب يقول: يصلي أربعًا لكنها ليست سنة راتبة، وإنَّما الراتبة بعد الجمعة كما قال (وَأَقَلُّ السُّنَّةِ بَعْدَهَا رَكْعَتَانِ وَأَكْثَرُهَا سِتٌّ)، دونما تفريق في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ قَبْلَهَا أَرْبَعٌ غَيْرُ رَاتِبَةٍ، وَقِرَاءَةُ الْكَهْفِ فِي يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَ)}.
قوله: (أَرْبَعٌ غَيْرُ رَاتِبَةٍ)، وجاء فيها هذا بعض الأثر وإن كان فيه مقال، لكنهم اعتبروه.
قوله: (وَقِرَاءَةُ الْكَهْفِ فِي يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَ)، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، هذا جاء في حديث الدارمي، رُوي موقوفًا ومرفوعًا إلى النبي أنَّه «مَنْ قَرَأَ سورة الكهفِ يومَ الجمعةِ أَضاءَ له مِنَ النُّورِ ما بيْنَ الجُمعتينِ» في بعضها «وزيادةُ ثلاثةِ أيامٍ» ، في هذا قال أهل العلم: إن هذا الحديث وإن كان موقوفًا لكنه لا يُقال من جهة الرأي، فلأجل لذلك استقر كثير من أهل العلم على استحباب ذلك، وهو لا إشكال في كونه في يوم الجمعة، لكن هل يشمل ليلتها قبل ذلك أو لا؟ هذا ظاهر ما ذكره المؤلف هنا وذكره بعض الفقهاء، واستندوا على ما جاء في بعض الروايات، لكن الأكثر على أن الذي جاء هو في يوم الجمعة، فينبغي للإنسان متى ما قدر على ألا يجاوز يوم الجمعة فهو أحسن وأتم وأمنع من الوقوع في الخلاف، وتفويت ما جاء من الفضل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَثْرَةُ الدُّعَاءِ، وَصَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ )}.
يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافق عبد مسلم قائم يصلي إلا استجاب الله له، اختلف أهل العلم في ذلك، ولهم في هذه أقاويل كثيرة، وربما بعضهم أفاض القول فيها، لكن ينبغي للإنسان أن يتحرى ذلك في كل حين، فلا يزال يلهج لسانه بالدعاء في كل أوقات الجمعة، رجاء حصول الإجابة وموافقة تلك الساعة، سواء كما ذكر أهل العلم أنَّه حال صعود الإمام إلى أن يفرغ من الصَّلاة، أو في آخر ساعة الجمعة، أو بعد العصر وأرجاها ما يكون قبل الزوال، وجاء في بعض الأحاديث أنَّه «وأَشَارَ بيَدِهِ يُقَلِّلُهَ» ، يعني: هي وقت قصير.
فهل مقصود بالساعة: الساعة الكاملة أو الساعة التي هي برهة من الزمن؟
أيضًا هذا محل كلام، أيًا كان؛ فلكل مجتهد نصيب، وكلُّ مَن طلب ذلك واجتهد فيه يوشك أن يحصِّل.

أَخْلِقْ بِذي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بحاجَتِهِ ... ومُدْمِنِ القَرْعِ لِلأَبْوابِ أَنْ يَلِجا

فمن عَوَّدَ نفسه على أن يتعرض لهذا الفضل، لا شك أنَّه موفق -بإذن الله- إلى ذلك، ولذلك جاء عن بعض السلف أنَّه في يوم الجمعة لا يخرج بعد العصر مِن مسجده، ويبقى يذكر الله -جَلَّ وَعَلَا- ويتعرض لرحمته، ويتأتى في هذا أنه قائم يصلي؛ لأنَّ الإنسان لا يزال في صلاة ما انتظر الصَّلاة، فإذا كان في ذلك داعيا وذاكراً لله -جَلَّ وَعَلَا- اجتمع له من الخيرات، وتعرَّض لفضل الله -جَلَّ وَعَلَا- ورحماته.
قوله: (وَصَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ )، لَمَّا أمر النبي من الصَّلاة عليه في يوم الجمعة، وذكر بعضهم "وفي ليلتها".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَغَسْلٌ وَتَنَظُّفٌ، وَتَطَيُّبٌ، وَلُبْسُ بَيْضَاءَ)}.
الغسل يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة سنة مستحبة، لابد أن يُعرف أنَّه قبل الصَّلاة، لأن المقصود هو حصول الصَّلاة بذلك، ولا يتأتى هذا إلا أن يكون قبلها، وحديث «غُسْلُ يَومِ الجُمُعَةِ واجِبٌ علَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» أو في بعض الروايات «حقٌّ على كلِّ مُسلمٍ : الغُسلُ يومَ الجمعةِ» ، وجمهور أهل العلم كما هو مشهور المذهب وذكره المؤلفون أن ذلك مستحب، وهذا أكثر ما ينبغي أن يُقال في ذلك، ولا يحرَّج الناس ويضيَّق عليهم في القول بالوجوب أو باللزوم، فإنَّ الأمر فيه سِعة، ولذلك جاء في حديث مسلم أنَّ النبي قال: « لغُسلُ يومَ الجُمُعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ، وأن يَستنَّ، وأنْ يمسَّ طِيبًا إنْ وَجَد » ، قال أهل العلم: ومس الطيب بالإجماع أنَّ ذلك مستحبًا، فكان كذلك الغسل، وإن كانت دلالة الاقتران فيها ضعف عند أهل العلم لكن استدلوا به، وعامة أهل العلم على ذلك، وفي الأثر: «بيْنَما عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ الجُمُعَةِ، إذْ دَخَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، فَعَرَّضَ به عُمَرُ، فَقالَ: ما بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ؟ فَقالَ عُثْمَانُ: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ما زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ، فَقالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا» ، وفي الحديث الآخر: «مَن تَوضَّأ يَومَ الجُمعَةِ فَبِهَا وَنِعمَتْ. وَمَن اغْتَسَل فَالغُسلُ أفضلُ» فإذًا إنَّما هو محل استحباب وفضل.
بعضهم قال: إنَّه إذا احتاج الإنسان كمن به رائحة عفنة ونحوه؛ فيتأكد في حقه ويكون أولى من غيره.
قال: (وَتَنَظُّفٌ)؛ لأنَّ هذا من كمال الاستعداد والتجمل للطاعة ولحسن الاستعداد لها.
قال: (وَتَطَيُّبٌ)؛ لأنَّ النبي كان يتطيَّب للجمعة، وجاء أيضًا في الحديث: «وليمَسَّ أحدُهُم من طيبِ أَهلِه» .
كيف يمس من طيب المرأة؟
قالوا: يعني أنَّه حتى ولو لم يجد إلا طيب المرأة الذي هو يظهر لونه ويخفى ريحه فليفعل، مما يدل على تأكد ذلك، وإلا أنَّه يتطيب بطيبه الذي يخصه.
قال: (وَلُبْسُ بَيْضَاءَ)، لبس الثياب والتجمل للجمعة مستحب، وأفضل ذلك البياض، أمَّا كون اللبس تجمل للجمعة فقد جاء في هذا «ما علَى أحدِكُم لوِ اتَّخذَ ثوبينِ لجُمعتِهِ سِوى ثوبي مِهْنتِهِ» ، وفي الحديث الآخر الذي بوب عليه البخاري "باب التزين للجمعة والعيد" أورد فيه حديث عمر، وفيه: «أنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ تُبَاعُ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَوِ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إذَا أتَوْكَ والجُمُعَةِ؟ قالَ: إنَّما يَلْبَسُ هذِه مَن لا خَلَاقَ له» ، فقال أهل العلم: في هذا -كما بوب عليه البخاري- إنَّ في هذا استقرار السنة باللبس والتجمل للجمعة، والنبي إنَّما استنكر أن تكون من حرير، ولم يستنكر التجمل للجمعة والعيد.
والبياض أفضلها وأتم ذلك، قال : «الْبَسُوا البَيَاضَ، فَإِنها أَطْهرُ وأَطَيبُ، وكَفِّنُوا فِيها مَوْتَاكُمْ» ، كما جاء في الحديث.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَبْكِيرٌ إِلَيْهَا مَاشِيًا، وَدُنُوٌّ مِنَ الْإِمَامِ)}.
التبكير إلى الجمعة من أفضل ما يكون، وهو في هذه الأزمنة أقل ما يكون، والله يتولانا برحمته، قال : «مَنِ اغْتَسَلَ يَومَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَدَنَةً، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَقَرَةً، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ كَبْشًا أقْرَنَ، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ دَجَاجَةً، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ المَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» ، فينبغي للإنسان أن يحرص على أن يبكِّر، قال : «ثمَّ بَكَّرَ وابتَكرَ ومشى ولم يرْكب ودنا منَ الإمامِ» ، وهذا من أعظم الأحاديث التي جاء فيها فضل عمل غير واجب، وإن تكلم أهل العلم في عِظم هذا الفضل والاستنكار فيه لأن إسناده مستقر، وأهل العلم على تقرير ذلك وتثبيته، والمشي إلى الجمعة كذلك سنة لما جاء في الحديث هذا حديث أبي هريرة.
قال: (وَدُنُوٌّ مِنَ الْإِمَامِ)، القرب من الإمام سنة مستحبة، كما في الحديث: «وَمَشَى وَلَمْ يرْكَب وَدَنَا مِنَ الإمَامِ».
نكتفي بهذا القدر، ولعل فيما ذكرناه بركة وكفاية، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، والإعانة على الخير، وأن يجعلنا وإيَّاكم على الهدى والسنة غير مفتونين ولا ضالين يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد.
{اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي بمجالس قادمة إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك