الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

23141 18
الدرس العاشر

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله ربَّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيِّنا محمد، عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم.
أمَّا بعد؛ فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان.
أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا حياكم الله جميعًا.
{بارك الله فيكم ونفع بكم، نستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده.
أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصلٌ: وَإِذَا أَخَذَ فِي غُسْلِهِ سَتَرَ عَوْرَتَهُ، وَسُنَّ سَتْرُ كُلِّهِ عَنِ الْعُيُونِ، وَكُرِهَ حُضُورُ غَيْرِ مُعِينٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإياكم ممن طابت حياتهم، وحسنت خاتمتهم، وصلح أمر آخرتهم، وألا نرى وإياكم مكروهًا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا في كتاب الجنائز، وكنا قد ذكرنا ما يتعلق بالميت إذا مات، وبالمنزول إذا نُزِل به الموت، وما يتبع ذلك من المسائل، إلى أن وقفنا عند بداية هذا الفصل وهي أحكام التغسيل، والميت إذا مات غُسِّل، وهذه سنة محفوظة عن النبي وفرض كفاية، تغسيله وتكفينه وحمله ودفنه والصلاة عليه كل ذلك من فروض الكفايات التي يجب على المسلمين القيام بها لمن مات من المسلمين والمسلمات، فالنبي قال: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ»[1] في حديث جابر في الذي مات وقد وقصته دابته، وأمر النبي أن يغسَّل الميت في قوله لأم عطية: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعً»[2] وفي رواية: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِن ذلكَ»[3]، كما في الحديث الذي عند البخاري ومسلم في صحيحه لما ماتت ابنته -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأرضاها- وفي ذلك قول عامة أهل العلم لا يختلفون فيه، فالمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر أحكام التغسيل هنا، وهي يسيرة ميسورة سهلة محفوظة، لكن مع ذلك ربما كان في معالجتها في الواقع ما يحتاج معه إلى حسن نظر، ولأجل ذلك كنت إذا درَّست الطلاب في هذه الأبواب نصحنا وربما أمرنا وألزمنا، وهي وصية لكم وإن كان لي أمر عليكم فهو لازم أن يُعقِب الإنسان ما تعلمه بمباشرة ذلك والعلم به علمًا واقعيًّا، بحيث إذا أراد يطبقه قدر، وإذا أراد أن يعمله عَرَف، لا أن تكون معلومة مجرَّدة، إذا ابتُلي بتغسيل ميت وقيل أنت الذي حضرت (جادة المتعلم) أو أنت الذي تعلمتها في كذا وكذا، أنت أولى الناس بالتغسيل فإذا أن الإنسان يتلكأ ولا يعرف؛ فإن هذا لا يليق! فلأجل ذلك كما أنك تعرف هذه خطوة بخطوة فينبغي لك أن تباشر ذلك أيضًا بنحوها، تكون استحضرت ما درست ثم تباشر، ثم ترجع وتقرأ لتنظر ما فاتك وما قصرت فيه من العلم.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا أَخَذَ) يعني: المغسل، والمغسل إما أن يكون مَن أوصى به الميت وهو أولى من يكون له حق التغسيل، ثم بعد ذلك: الأولى عِلمًا وأمانة ومروءة وديانة، فلا يكون فاسقًا يفشي سرًّا أو يظهر مخبأ، ولا يكون إنسانا غير عالم فيخلُّ بأحكام الغسل ويفسدها، ولا يكون قليل الديانة، فمع علمه يرش عليه الماء كيفما اتفق وينهي الأمر على ما حصل دون رعاية له! فهذا من أعظم أحوال المرء التي يقدم بها على مولاه، ويجهز فيها لآخرته، ولأجل ذلك ذكر الفقهاء وقالوا: إنه يلبَّس ما يلبسه في جمعة وعيد، وكثير من الناس ما يعرفون هذا، وأخشى أن ننساه فلذلك وإن كان محله في التكفين لكن نذكره هنا، كثير الناس لا يُعني بملابس كفنه، فينبغي أن تكون على أتم ما يكون من الحال، ولعلنا أن نذكرها في موضعها، فنقول إذًا: أخذ الغاسل سواء كان وصيًّا أو قريبًا في غسله ستر عورته، فإن عورته كما هي محرم النظر إليها في حال الحياة فهي أشد ما تكون في حال الممات، فإن المرء في حال حياته هو المأمور بستر عورته وحفظها، وبعد وفاته فإنه لا حول له ولا قوة، فيجب على مَن وَلي ذلك من غاسل ومساعد يستر العورة فلا تكشف، وأن يحرص عليها فلا تنتهك، وأن يكون أتم في ذلك رعاية وعناية.
قال: (وَسُنَّ سَتْرُ كُلِّهِ عَنِ الْعُيُونِ)، فهو ليس فرجة ولا عرضة لأن يراه الذاهب والآتي، وإنما فيستر، فكما أن الإنسان يلبس ما يغطي أجزاءه فكذلك ينبغي أن يكون في حال تغسيله، فإنَّما يُكشف بقدر ما يغسَّل وبقدر ما يكون أتم في تهيئته وتجهيزه، فإذا أمكن ذلك بستر جميعه فيكون ذلك جيدًا.
ويتفرغ على ذلك -هي محل نظر- خاصة إذا كان فيه موضع عاهة أو شيء يتقي أن يراه فيه أحد سواء من عامة أو خاصة؛ فإن ذلك ينبغي أن يكون أتم في الاحتياط وأمنع من إمرار النظر والرؤية.
قال: (وَسُنَّ سَتْرُ كُلِّهِ عَنِ الْعُيُونِ)، أي: متى ما أمكن ذلك.
قال: (وَكُرِهَ حُضُورُ غَيْرِ مُعِينٍ)، بعض الناس إذا حضر الميت تداخل عليه البعيد والقريب، يقول أهل العلم: إن هذا مكروه، وينبغي للإنسان ألا يعرض نفسه لحصول ذلك، وألا يتطفَّل لرؤية ميت على تلك الحال، حتى ولو لم من أهله أو من حضره ممن يحسن الدفع والمنع والاقتصار على مَن له مدخل في ذلك بأن يكون من وصي أو معين غاسل، وما سوى ذلك فلا ينبغي أن يرى على تلك الحال، حتى ولو كان من أحب الناس إليه أو أقربهم له من صلبه وولده، فإنه إذا غُسِّل وهيء يكشف لهم وجهه ويسلِّمون عليه، لكن إن لم يكن له حاجة في إعانة في تغسيل وتهيئة فإنه ينبغي ألا يكون له موضع في حضور تلك الحال، هل أحد يدخل مع الإنسان الآن إذا أراد أن يغتسل في حال حياته؟ لا، ولا يستحب ذلك أحد ولا يستحب له أن يفعل ذلك، حتى ولو كانت العورة مستورة، وإنَّ أناسًا ليتزاحمون على ميتهم إذا مات ليغسلوا، وكانوا في أوقات حياتهم أحوج ما يكون إليهم رعاية وعناية واهتمام، لكنهم في ذلك مفرطون! فينبغي للإنسان أن يستدرك ما أمكنه في العناية بوالد أو والدة أو زوجة أو قريب أو أخ كبير أو غير ذلك، لكن إذا مات فينبغي ألا يكشف إلا لمن احتاج أن يكشفه، فيعري جسده إلا عورته، وإن أمكن أيضًا ستر سائر جسده وجرى في ذلك حسن تجهيز فهذا هو الأتم والأكمل، لكن أن يحضر مَن لا حاجة إليه فهذا مكروه، ولذلك قال: (وكره حضور غير معين)، يعني معين إما بوصاية وإما بكونه غاسلًا حاذقًا أو معينًا قادرًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ حُضُورُ غَيْرِ مُعِينٍ ثُمَّ نَوَى وَسَمَّى، وَهُمَا كَفِي غُسْلِ حَيٍّ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَ غَيْرِ حَامِلٍ إِلَى قُرْبِ جُلُوسٍ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ بِرِفْقٍ، وَيُكْثِرُ الْمَاءَ حِينَئِذٍ)}.
قوله: (ثُمَّ نَوَى وَسَمَّى)، النية مطلوبة، وهي في حال الحياة من المغتسل، وفي حال الموت من الغاسل، فلو أنه أجري عليه الماء بغير قصد فلا يكفي ذلك، ولا يحصل بذلك تجهيزه، فلابد من النية وهي لازمة لا تسقط بحال، إنَّما الأعمال بالنيات.
قوله: (وَسَمَّى)، فيسمي الغاسل عند تغسيله، فإنَّها كما في حال المغتسل واجبة مع الذكر ولا تسقط إلا سهوًا.
قال: (وَهُمَا كَفِي غُسْلِ حَيٍّ)، يعني: من جهة الوجوب ولا تسقط التسمية إلا مع النسيان.
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَ غَيْرِ حَامِلٍ إِلَى قُرْبِ جُلُوسٍ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ بِرِفْقٍ، وَيُكْثِرُ الْمَاءَ حِينَئِذٍ)}.
قال: (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَ غَيْرِ حَامِلٍ)، يعني: إذا كان الميت غير حامل، فيرفع رأسه حتى يكون كهيئة الجالس، ثم يمر يده على بطنه فيضغطه قليلًا، فإن هذا فيه إخراج الفضلات التي استعدت للخروج؛ لأنه لو لم يفعل ذلك وغسِّل وانتهى فربما مع التَّحريك والتَّكفين تخرج تلك الفضلات، فيكون فيها تنجيسٌ لكفنه وتقذير له، فلمَّا أمكن دفع ذلك ومنع حصوله كان أولى.
قال: (غَيْرِ حَامِلٍ)، فإن الحامل فيه إضرار بما في بطنها، وربما خرج ذلك منها فيكون في ذلك إشكال كثير.
قال: (وَيُكْثِرُ الْمَاءَ حِينَئِذٍ)؛ لأنه لما كان حالًا يمكن أن يخرج منه شيء، فكام ذلك فلئلا تظهر رائحة كريهة وحفظًا لحق الميت وقد حضر في تغسيله؛ فإنه يصب الماء حتى تجلوه عن أن تنتقل إلى سائر بدنه، وحتى تخرج وتذهب، ولذلك مما استحبه الفقهاء في تلك الحال أن يجعل بإزاء الميت طيب يجعل على جمر حتى تخرج وتفوح هذه الرائحة الطيبة فتدفع ما تكون مما قد يخرج من رائحة كريهة، أو يفوح من الميت لعفونة أو لغيرها بسبب أو بغيره.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً فَيُنَجِّيهِ بِهَا، وَحَرُمَ مَسُّ عَوْرَةِ مَنْ لَهُ سَبْعُ سنين)}.
قال: (ثُمَّ يَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً)، يقولون: إنه يجعل خراقًا، بعضهم يقول: خرقتين. وبعضهم يقول: ثلاث، لكن على كل حال فالتنجية -التي هي غسل سبيليه- لابد أن يلف خرقة، لأنه كما أنه ممنوع من أن ينظر إلى العورة فإنه ممنوع من أن يباشرها بيده، فيجعل خرقة أو قفازات ونحوها وما يتبع ذلك وينجِّيه بها ثم يلقيها، ثم يأخذ خرقة ثانية لسائر بدنه.
وبعضهم يقول: خرقتان، إحداهما لقبله والثانية لدبره، والخرقة الثالثة تكون لسائر بدنه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ مَسُّ عَوْرَةِ مَنْ لَهُ سَبْعُ سنين)}.
أما مَن كان دون سبع سنين فلا عورة له، فبناء على ذلك لو غسَّل بنتَ ست سنين رجلٌ أو غسَّلت امرأةٌ ابن ست سنين حتى ولو كان ابن ست ونصف، بل قالوا: لو كان سبع سنين إلا شيئا قليلا فيغسِّله ولو كشف عورته لا بأس؛ لأنه لا عورة لمن كان أقل من سبع سنين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يُدْخِلُ إِصْبَعَيْهِ وَعَلَيْهَا خِرْقَةٌ مَبْلُولَةٌ فِي فَمِهِ، فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ، وَفِي مَنْخِرَيْهِ فَيُنَظِّفُهُمَا بِلَا إِدْخَالِ مَاءٍ، ثُمَّ يُوَضِّئُهُ)}.
يدخل أصبعيه وعليهما خرقة مبلولة في فمه، وما يدخل ماء؛ لأنَّ الماء إذا دخل إلى جوفه فربما حرك ما في بطنه أيضًا واسترسل واستطلقت نجاساته، لكنه يدخل خرقة مبلولة، فهي بمثابة المضمضة؛ لأنَّ الغسل للميت هي توضية ثم إفاضة الماء عليه، لكن في بعض المواطن لا يتأتَّى بوجهٍ ما يراد من نحو ما يكون للحي من صب الماء أو استنشاق بالمنخرين، لكنه بحسبه أنه يبل ذلك فيدخله أو فيصيب داخل فمه وداخل منخيريه.
و"المَنخرين" بالفتح، وربما كسرت لمجانسة، لكن الأصل أنها مَنخريه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يُدْخِلُ إِصْبَعَيْهِ وَعَلَيْهَا خِرْقَةٌ مَبْلُولَةٌ فِي فَمِهِ، فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ، وَفِي مَنْخِرَيْهِ فَيُنَظِّفُهُمَا بِلَا إِدْخَالِ مَاءٍ)، لما ذكرنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يُوَضِّئُهُ وَيَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِرَغْوَةِ السِّدْرِ وَبَدَنَهُ بِثُفْلِهِ)}.
قال: (ثُمَّ يُوَضِّئُهُ)، يعني: يكمل الوضوء كما في الغسل الكامل، فيغسل يدَه اليمنى إلى مرفقه، ثم اليسرى كذلك إلى المرفق، ثم يمسح رأسه وأذنيه، ثم يغسل قدميه فيوضئه وضوءًا كاملًا ثلاثًا ثلاثًا، ثم يفيض الماء على بدنه كغسل الجنابة.
وهنا فيه الإشارة إلى أنه لو لم يوضئه وغسله فقط ما دام أنها غسلة كاملة أصاب جميع بدنه وكانت فيها نية فإنَّها كافية، كما أنَّ الغسل المجزئ هو إفاضة الماء على سائر البدن.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: بعد أن يوضئه يبدأ في غسل رأسه ولحيته، يقولون: يأتي إلى رغوة السِّدر، والسدر لها رغوة كما للصابون رغوة، فيجعل على رأسه ولحيته، ثم يؤتَى للثُّفلى -وهي فتات السدر الذي يكون تحت الرغوة فوق الماء- فيؤخذ هذا فيجعل على بدنه ثم يفيض عليه الماء، فيصب الماء عليه، فيصب على رأسه، ثم يصب على جهته اليمنى، ومواطن الوضوء منها، فيبدأ باليمين، ثم إذا انتهى بدأ بالشمال، وهكذا..
وينبغي أن يعلم هنا أنَّ الميت يجعل مستلقيًا، فيغسل أول شيء جنبه الأيمن ظاهره، ثم جنبه الأيسر كذلك، ثم يجعل على جنبه ما يقلب على وجهه كما يقولون، فيغسل جنبه الأيمن من خلفه، ثم جنبه الأيسر مِن خلفه، فيكون غسل جميعه دون ما أن يكب على الأرض.
قال: (ثُمَّ يُفِيضُ عَلَيْهِ الْمَاءَ)، على ما ذكرنا وستأتي زيادة تفصيل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ تَثْلِيثٌ وَتَيَامُنٌ وَإِمْرَارُ يَدِهِ كُلَّ مَرَّةٍ)}.
إذا أفاض الماء عليه حصل المقصود وتمَّ غسله، لكن إذا زادَ إلى ثلاث مرات فهذا هو الكمال، لأنَّ النبي قال: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثً»، فكان هذا هو المستحب، وهذا إذا حصل بذلك الإنقاء، أما إذا لم يحصل بذلك الإنقاء فيزيد بما يذهب به القذر على سبيل الاستحباب والتمام، لكن لو كان بعد ما غسل غسلة أو غسلتين خرجت منه نجاسة فإن الإعادة في ذلك واجبة ليحصل انتهاءٌ من غسله على طهارة، حتى يصل إلى سبع، فإذا وصل إلى سبع ولم يحصل انكفاء لهذا القذر أو انتهاء لهذه النجاسة فإنَّها تمنع وتحفظ أما بلصقة أو بأن يربط عليها شيء بما يمنع خروجها قدر الاستطاعة، ثم بعد ذلك لا يزاد على سبع، لأنه في الحديث قال: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِن ذلكَ»، في بعض الروايات قال: «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعً»[4]، فهل الزيادة على الخمس إنَّما هي للسبع؟ أو يمكن أكثر من ذلك على الإطلاق؟ كلامٌ لأهل العلم، والبخاري -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كأنه رأى أن الزيادة إنَّما هي للسبع، فجعلوا ذلك هو الغاية التي يوصل إليها في التغسيل، وتهيئة الميت والتنقية والتجهيز.
قال: (وَتَيَامُنٌ) مثل ما ذكرنا على سبيل الاستحباب، هذا هو السنة والأكمل، وكلما كان الغاسل أحذق في ذلك فهو أحسن إلى الميت، ولأجل ذلك أمر الإنسان أن يوصِيَ بمن يحسن تغسيله والقيام عليه ويأمنه على سره لئلا يُفضح، أو يُقال: رأيت منه كذا أو خرج منه كذا، أو كان فيه سواد، أو كان فيه بياض، أو كان فيه كذا وكذا؛ كل ذلك لا يحصل إذا كان الغاسل ثقة أمينًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِمْرَارُ يَدِهِ كُلَّ مَرَّةٍ على بطنه، فإن لم يُنقي زاد حتى يُنقي)}
يعني: إمرارًا بسيطًا، ما يضغط بقوة، لأنه إذا ضغط بقوة لا شك أن ما كان في بطنه إن لم يستعد للخروج مع ضعف أعصابه فإنَّها تخرج، لكن إذا ضغط قليلًا أو أمرَّها إمرارًا يسيرًا فهذا، وإذا كان فيه ثَم شيء على باب الخروج خرجَ، وإن لم يكن فإنه يقبض ذلك ويمسكه في داخله، ولا يكون من ذلك تقذير ولا تنجيس.
قال: (فإن لم يُنقي زاد حتى يُنقي)، مثل ما ذكرنا قبل قليل في القذر على سبيل الاستحباب، وفي النجاسة على سبيل الوجوب إلى سبعٍ في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكره اقتصار على مرة، وَمَاءٌ حَارٌّ وَخِلَالٌ وَأُشْنَانٌ بِلَا حَاجَةٍ، وَتَسْرِيحُ شَعْرِهِ)}.
قال: (وكره اقتصار على مرة)، لأنَّ هذا هو الأصل وهو الإحسان إلى الميت، والنبي أمر بالخمس، فكان الاقتصار على ذلك هو ترك للأكمل، وتفويت على هذا الميت ما ينبغي أن يكون عليه أتم، فكان ذلك محلًّا للكراهة، والميت لا يعبر عن نفسه، فكان الأولى أن يقام عليه خير القيام.
قال: (وَمَاءٌ حَارٌّ)، لأنَّ الماء الحار قد يتأذَّى منه الميت، وربما يعني تفتَّت بذلك بعض لحمه أو سقط بعض شعره أو تأثر به، لكن الأصل أنه ماء بارد، لكن يقولون: إن احتيج إلى ماء حار لإزالة نجاسةٍ أو قذرٍ لصق، فبعض الأحوال الماء الحار هو الذي يحرك هذه الأشياء، فلا بأس بذلك، فإذًا الكراهة ما لم يحتج إليه.
ومثل ذلك الخلال، لأنها قد تؤثر فيه فيسيل دمه أو نحو ذلك، فلأجل ذلك قال إن هذا مما يكره.
قال: (وَأُشْنَانٌ بِلَا حَاجَةٍ) يعني السدر كافٍ وهو قائم مقام هذا، لكن إذا كان في ذلك حال أتم أو أكمل فلا بأس بذلك، ولا شك أنَّ في السدر كفاية وتمام.
قال: (وَتَسْرِيحُ شَعْرِهِ)، يقولون: إنه ربما سقط بعض الشعر، فلأجل ذلك ربما كرهوه، مع أن النبي جاء في الحديث «ومَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ»[5] كما في حديث أم عطية في الصَّحيح.
على كل حال يقول أهل العلم: لو سقط منه شيء كنحو شعر، أو ظفر انكسر أو نحو ذلك فإنه يلف ويجعل معه في كفنه؛ لأنَّ ما ينفرد من الحي حال حياته من سنٍّ يسن أن يدفن، فلو انقطعت من الإنسان رجلٌ أو يدٌ أو أصابع أو أظافر أو سن فإنَّها تدفن، ودفنها جاء عن ابن عباس، وجاء أظن عن ابن عمر، جاء عن ابن عباس قطعًا وعن غير واحد من أصحاب النبي ، فيكون ذلك على ما هو مشهور المذهب سنانٌ بالصحابة واعتبارٌ لقولهم، وقولهم معتبر معتمد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ كَافُورٌ وَسِدْرٌ فِي الْأَخِيرَةِ، وَخِضَابُ شَعْرٍ، وَقَصُّ شَارِبٍ، وَتَقْلِيمُ أَظْفَارٍ إِنْ طَالَا، وَتَنْشِيفٌ)}.
الكافور: هو نوع من الخلط فيه رائحة طيبة وفيه حفظٌ للميت، أما حفظه للميت فإنه يمنع جسده من التحلل، ويمنع الهوام من التسلط، وفيه منفعة كثيرة، ولذلك قال النبي -: «واجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شيئًا مِن كَافُورٍ»[6].
قال: (وَسِدْرٌ فِي الْأَخِيرَةِ)، يعني الكافور والسدر يخلط مع بعض ويجعل، لكن هنا عند فقهاء الحنابلة كما هو قول بعض الفقهاء يقولون: إن الغسلة التي معها سدر لابد أن يعقبها غسلة ماء وهاتان تعتبران واحدة، يعني هذه غسلة واحدة، فكأنها عندهم لابد من ست، كل غسلة بكافور معها غسلة بالماء القراح، يقولون: لأنه لابد من الماء القراح الذي يصدق عليه أنه طهور وهو الذي يحصل به التطهير به التغسيل، وأما ما خالطه سدر فإنه ينتقل إلى من كونه طهورًا إلى كونه طاهرًا.
على كل حال؛ إن تأتى ذلك فهو حسن وهو أحوط باعتبار ما ذكره الحنابلة وذكره أيضًا بعض الفقهاء من أنه لابد من الماء والقراح، وأن الماء المخالط بالطهارة ينقله إلى طاهر، فلا يكون بذلك تطهير.
قال: (وَخِضَابُ شَعْرٍ)، جاء في بعض الآثار وإن كانت لا يوجد لها أسانيدها ضعيفة «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ»[7]، وهو من جهة قلنا إنه يُهيَّئ كأتمِّ ما يكون من حاله، فإنه في لقاء ربه وإقباله على آخرته فكان أولى ما يكون من تلك الأحوال التي يحسن أن يطلب فيها تمامه وكماله.
 قال: (وَخِضَابُ شَعْرٍ، وَقَصُّ شَارِبٍ، وَتَقْلِيمُ أَظْفَارٍ إِنْ طَالَ)، هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وإن كان بعض الفقهاء يخالفون في ذلك، فيقولون: إن هذه من سنن الفطرة، وأنها يزال ما زاد، فحسُن ذلك، ولعلَّك أن تلحظ أنهم لم يشيروا إلى حلق العانة، وذلك لأنَّ حلق العانة له جهتان: جهة مباشرة العورة، وجهة تحصيل السنة، وما يكون من مباشرة العورة وهتكها أشد، فلأجل ذلك قالوا: وحرم حلق عانة ونحوه، لكن الأظفار والإبط ونحوها التي لا عورة فيها وهي فيها كمال للميت فكما يُهيَّأ الحي في حال حياته بالتَّخلص من تلك الزائدات فكذلك يكون، على ما ذكرنا مِن أنها تجمع وتُجعل في شيء ثم تُجعل معه في كفنه وتدخل معه إلى قبره.
قوله: (وَتَنْشِيفٌ)، فيُؤتَى بمنشفة ينشَّف بها الميت كما جاء ذلك في الأثر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُجَنَّبُ مُحْرِمٌ مَاتَ مَا يُجَنَّبُ فِي حَيَاتِهِ)}.
المحرم المقصود به: من مات في حال الإحرام، وهو الذي أحرم بالعمرة ولم ينته منها، أو أحرم بالحج ولم يتحلَّل التَّحلُّل الأول؛ لأنَّ مَن تحلَّل التَّحلُّل الأول يعتبر لا زال فيه بقية إحرام، لكنه ارتفع عنه المنع من الطيب والثياب، فإذًا محل الكلام إنَّما هو من قبل التَّحلل الأول، ومَن كان في العمرة قبل الخلاص منها، فإذا مات على ذلك فإنَّ إحرامه باقٍ، ويُبعث على ما مات عليه، كما جاء في الحديث «فإنَّه يُبْعَثُ يُلَبِّي»[8]، فبناء على ذلك يجنَّب الميت المحرم ما يجنب في حال الحياة، من طيب ومن تغطية رأس وغيره.
والحقيقة أني درَّست هذه المسألة مرات كثيرة، وندرِّسها كالتي قبلها والتي بعدها، حتى إذا كنتُ في عامٍ من الأعوام في حج سنة من السنوات ودخلت المسجد الحرام للطواف ورأيت بعضَ مَن مات في الحجِّ وقد كُفِّن تكفينَ محرم فلم يغطَّى رأسه، فرأيت شيئًا كأني لم أعرفه قبل! فليس العلم كالواقع، وليس راءٍ كمن سمعَ وتلك حال عظيمة وفي تلك الحال عرفتُ أنه لو كان شيء يُتمنى لكانت الميتة الطيبة والخاتمة الحسنة، وأعظم شيء في هذه الحياة يشترى بالمال وبكل شيء، فإذا لم يكن مالٌ يدفع لشراء الميتة فلا أقل من أن يبذل الإنسان حياته، وأن يمضي وقته في طاعة ربِّه وطلبِ مرضاته رجاء أن يوافي أجله في حال طيبة يحسُن بها اللقاء، ويتم الفوز ويعظم بها أمره في الآخرة، والرفعة عند ربه، والله يجعلنا وغياكم ممن كان كذلك في أحسن حال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسِقْطٌ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَوْلُودٍ حَيًّ)}.
السقط إذا سقط من أمه فإنه يصلَّى عليه إذا كان لأربعة أشهر، لأن الذي سقط لأربعة أشهر يكون قد نفخت فيه الروح، فإذا نفخت فيه الروح فإنه نفس منفوسة فهي نفس محترمة إذا ماتت لها ما لموتى المسلمين مِن التَّجهيز والصَّلاة والدَّفن وسواه، بخلاف ما إذا كانت قد أسقطت مضغة أو قطعة لحم أو ما تبين فيه يد أو رجل فما دام أن الروح لم تنفخ فيه، فإنه لا يكون لها حكم الصلاة والاحترام، وإن كان الذي تخلَّق أو بدأ فيه خلق الإنسان ينقل أمه إلى أحكام النُّفساء لكن من جهته هو لا ينتقل بذلك إلى ما يجب للنفس المنفوسة من الصَّلاة والتَّجهيز والتَّكفين والدَّفن وسواه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا تَعَذَّرَ غُسْلُ مَيِّتٍ يُمِّمَ)}.
وإذا تعذَّر غسل ميت لكونه أصابه حرق مثلًا، فيكون لو غُسِّل لتفتت جسده، أو -نسأل الله السلامة والعافية- من ماتوا في الحروب أو في الحوادث التي تتقطع أجزاءهم وتذهب أوصالهم، وما شابه ذلك من أحوال يتعذَّر فيها الغسل فإن حق المسلم إذا تعذر غسله أن ينتقل إلى بدله فيُيَمَّم لذلك اعتبارًا أن التيمم يقوم مقام الغسل عند تعذره ويحصل به المراد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ تَكْفِينُ رَجُلٍ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيضٍ بَعْدَ تَبْخِيرِهَ)}.
هذا من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كما ذكرنا هو شروع في لبس الميت وتهيئته وتجهيزه بما يكفَّن فيه، فذكرنا قبل قليل أنه ينبغي أن يعتنى بذلك أتم العناية، والغالب أن الناس يخفقون في ذلك في أمرين:
أولًا: أنهم يشترون من الأكفان أرخصها، وهي التي لا تكون لبسًا إلا لأقل الناس ومَن لا يجدون شيئًا، فينبغي للإنسان أن يُهيئ كفنًا يليق به، كما أنه يهيئ لباس صلاته للجمعة وذهابه للعرس والحفلة، وما يتبع ذلك من أمور الفرحة والعيد والجمعة، فإنه ينبغي له أن يهيئ ما يكون لبسًا له عند موته ولقائه بربه وحضوره في يوم بعثه، فإذا كان الإنسان يلبس من غالِيَ الثياب وطيبها فينبغي أن يهيأ شيئًا من ذلك يجعله في البيت، متى ما سُلِّمت أمانته وذهبت حياته استُعمل ذلك كما يستعمل سائر ثوبه.
والحالة الثانية التي يخطئ فيها الناس: أنهم يجعلون غيرهم يقومون عليهم في تجهيزٍ وتكفينٍ، وينبغي في مثل هذا أن لا يؤذَن لأحد بأن يقوم مقام الميت، والميت أولى بنفسه، وما يحصل مثلًا عندنا في مغاسل تجهيز الموتى وتهيئتهم من إلزام الميت بأن يأخذ ما عندهم من أكفان أو ما لديهم من حنوط أو ما هيئوه من أشياء؛ فإن هذا خلاف الأصل، ولا يقدَّم على الميت أحد ولو كان الميت حيًّا لما رضي أن يلبسه أحد من لباسه، أو يتصدق عليه من متاعه، فكذلك الميت، وإذا كان الميت قد مات وذهب أن يمنع أو يدفع أو يأتي أو يرفع فإن مَن ولي ذلك من الأمر ينبغي له أن يقوم مقامه، وأن يمنع ذلك منه، مَن احتاج ومن لا متاع عنده ومَن لا ثياب له واحتاج إلى غيره فلا بأس، لكن شخص قادر مليء غني أتم ما يكون لبسًا في حياته وإنفاقا على نفسه في أيامه، إذا مات وهو اللقاء بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا-، يُتصدَّق عليه من صدقة المسلمين، ومن قذر مالهم ووسخه فلا! وينبغي أن يتنبه لذلك أتم بيان.
ومثل ذلك أيضًا أنه في تكفين الميت لو هُيئ هذا الكفن كما سُئل عن ذلك الإمام أحمد وغيره، فيكون في أثر عبادة، كما لو كان هذا الكفن مما اعتمر فيه أو حج، وجعله وحفظه بأنه إزار ورداء بحسب ما يحتاج إليه، فجعلها شيئًا واحدًا وطلبها لأنَّ كفنًا له فإن هذا من أثر العبادة ويرجى حصول بركته وهو حال أتم وأكمل، كما ذكر ذلك الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال: (فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ) يعني: لفائف غير مخيطة ولا غيرها، بل لفائف منسوجة ومفرودة ثم تُلف يمناها على يسراها؛ لأنَّ النبي كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية، كما في الحديث الذي في الصَّحيح والسنة أن تكون من البياض، قال النبي : «البِسوا من ثيابِكُمُ البياضَ فإنَّها مِن خيرِ ثيابِكُم، وَكَفِّنوا فيها موتاكم»[9].
قال: (بَعْدَ تَبْخِيرِهَ)، كذلك تبخَّر على أتم ما يكون من الحال، وكما قلنا: لا يُستكثر في ذلك ما ينفق، كما أن الإنسان في حال حياته أكثر ما يكون تهيئة وتجهيزًا.
قال: (وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ)، وهي أخلاط من الطيب تجعل في كل أكفانه، في أولها وثانيها وثالثها، وينبغي أن يكون ثالث الأكفان هو أرفعها وأتمها، لأنه هو الذي سيجعل عليها جميعًا فيكون بارزا للناس وظاهرًا للخلق، فيُجعل فيها الحنوط ويتم فيها الأمر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ فِيمَا بَيْنَهَا، وَمِنْهُ بِقُطْنٍ بَيْنَ أَلْيَيْهِ، وَالْبَاقِي عَلَى مَنَافِذِ وَجْهِهِ وَمَوَاضِعِ سُجُودِهِ)}.
ما بين إلييه يجعل فيها قطن من الحنوط -وهو الطيب- فيمن ما يكون من رائحة، وتفوح هذه الرائحة فتمنع غيرها.
قال: (وَالْبَاقِي عَلَى مَنَافِذِ وَجْهِهِ)، فيجعل المنافذ لأنها هي التي يتنفس منها الجسد، فربما خرجت منها الروائح الأخرى.
قال: (وَمَوَاضِعِ سُجُودِهِ)، أكرم ما تكون وأعظم ما تكون، فيصب على جبهته وأنفه من طيب طيبه، وحسن ما يكون من عطره، ويجعل ذلك أيضًا على وضوئه وسجوده ككفيه وركبتيه وأطراف قدميه، وإذا شُمِّل بذلك سائر جسده فحسن، لكن هو يقول الأهم، لكن كما أن الإنسان يصيب بطيبه سائر جسده فليفعل، لكن هذه أكمل ما تكون وأهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَرُدَّ طَرَفَ الْعُلْيَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ كَذَلِكَ)}.
هي ثلاث الآن، وحدة فوق وحدة فوق وحدة، العليا التي ستكون مباشرة لبدنه وستكون خفيَّة عن الناس، فهذه هي العليا بين الأكفان، فيضع الأولى من الجانب الأيسر، لأنه يغطي الجانب الأيمن، ثم قال: (مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ)، ثم اليسرى كذلك، فإذا جعلت على هذا النحو ثم تُجعل الثانية، ثم تجعل الثالثة، ثم تشد، ويجعل الزائد من جهة الرس ويغطى، ثم تربط من جهة القدم ومن جهة الرأس، وتردُّ على ما يكون زائدًا، ثم تربط كذلك، فيكون بذلك قد كمل كفنه وتم لبسه في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَجْعَلُ أَكْثَرَ الْفَاضِلِ عِنْدَ رَأْسِهِ)}.
مثل ما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- لأنه أعظم وأتم، فيُجعل له ذلك، لئلا يكون من تلك الجهات انكشاف، حتى لو حصل انكشاف فيكون من جهة القدم لا من جهة الرأس.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ لِامْرَأَةٍ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ وَخِمَارٌ وَقَمِيصٌ وَلِفَافَتَانِ)}.
هذا جاء في السنة؛ ولأن المرأة أولى بالستر، قال: (وَسُنَّ لِامْرَأَةٍ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ)، الثوب هو كل ما يلبس.
قال: (إِزَارٌ وَخِمَارٌ)، فكلها داخلة في اسم الثوب، الإزار ما يلبس على أسفل البدن، والخمار ما تغطي به المرأة رأسها وأعلى بدنها وهو قريب من الرداء، والقميص هو الذي نسميه الآن الثوب، الذي يلبس على البدن ويصل إلى الرجلين وله أكمام طوال على اليدين، فهذا يسمى قميصًا.
قال: (وَلِفَافَتَانِ)، إذا جُعل الإزار الذي يغطى به أسفل بدنها، وجُعل عليها الخمار الذي تُغطِى به أعلاها، ثم أُلبست ثوبًا -الذي هو قميص- ثم جعلت لفافتان عليها، فتتم بذلك خمس.
على كل حال هذا هو الكمال والتمام، لكن بأي شيء كُفنت بما يستر بدنها وبدن الرجل، يحصل بذلك القدر الواجب ولو بثوب واحد.
هنا يقول الفقهاء مسألة مهما قلنا لن تتصور، قالوا: "ويكره شق أو تخريق الكفن"، ما معنى هذه الكلمة؟ لماذا يقولها الفقهاء؟
كانوا فيما مضى ربما إذا كفَّنوا الميت خرَّقوا الكفن؛ لأنَّ الناس فيما مضى كان فيهم من الفاقة والفقر والشِّدة ما الله به عليم، فإذا لم يكن الكفن مخرَّقًا فإنَّ النبَّاش يأتي ويحفر القبر حتى يأخذ هذا الكفن فيلبسه، مع ذلك يقولون: إنه ولو كانت تحصل منه مصلحة في أن لا تطاله يد النباش، لكن ذلك أمر مكروه؛ لأنه يفسد الكفن، ويذهب جمال المتكفِّن به واللابس له، فلنحمد الله -جَلَّ وَعَلَا- على ما بسط علينا من النعم، وأفضى علينا من الخيرات، وتفضَّل علينا من الرَّحمات، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يحفظها لنا على الإسلام والهدى، اللهم آمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَصَغِيرَةٍ قَمِيصٌ وَلِفَافَتَانِ)}.
وإذا كانت صغيرة فيكفيها قميص واحد الذي هو الثوب ولفافتان، يعني ما تحتاج إلى الإزار والرداء، لأنها أخف من المرأة فيما يجب عليها من السِّتر والصِّيانة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْوَاجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَيِّتِ)}.
مَن حصل له التَّمام والكمال فعلى ما تقدَّم على التفصيل للرجل والمرأة والصَّغيرة، وإن كان لا يتأتَّى مثل ذلك، فبقدر ما يستر البدن، وفي قصة مصعب بن عمير شهرة تغني عن زيادتها، فهو الذي كان مرفَّه في الجاهلية حتى إذا أسلم ومات لم يجد ما يكفن به إلا ثوبًا واحدًا إذا غُطي به رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه؛ فغطي رأسه، وجُعل على رجليه شيء من الإذخر كما جاء ذلك عن النبي .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَتَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِمُكَلَّفٍ وَتُسَنُّ جَمَاعَةً)}.
لما نهى المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما يتعلق بما يستحب للميت عند نزول الموت به، وما يفعل به إذا مات، وما يكون من تجهيز وتغسيله وما يتبع ذلك من تكفينه؛ شرع في الصَّلاة عليه.
قال: (وَتَسْقُطُ الصَّلَاةُ)، الصلاة على الميت فرض كفاية مثل ما ذكرنا، النبي صلَّى على النجاشي، وصلى على مَن مات من المسلمين، وفي ذلك أحاديث كثيرة محفوظة عن النبي معلومة.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ)، إذًا هي فرض كفاية تتأتَّى بصلاة شخص ولو أنثى، متى ما صلَّت عليه أنثى، فيحصل بذلك الكفاية، يحصل في بعض الأزمنة المتأخِّرة خاصَّة عندنا: أن بعض الناس إذا جاء إذا أُتي بالجنازة ليصلى عليها، دخل إلى مكانها فصلى ثم ذهب. هل هذا عمل صحيح؟ هو يطلب الأجر على الجنازة، لكن أليس في ذلك افتيات على حق الميت؟ فإن الصلاة التي هي أعظم ما تكون للميت هي الصلاة التي يسقط بها فرض الكفاية، والتي يحصل فيها الجمع الكثير، وهو الذي يوصَى فيها بالوصي أن يصلي عليه من قريبٍ أو صاحب علمٍ أو دينٍ أو مكانةٍ أو وجاهةٍ أو سواها، فإن من محالِّ البحث التي يجب أن يتنبه لها وينظَر فيها، وعندي في ذلك تردد، وربما -لكن لا أقطع بذلك- أن يكون في هذا نوع افتيات لا يتأتى به المقصود، وكانت الجنائز في عهد النبي كثيرة، ما كان أحدا يأتي ويصلي ليذهب، أو يسبق الناس ليباشر عمله، إما أن يبقى فينتظر الصلاة عليها فيصلي مع المسلمين، وإما أن يذهب فلا يفتات عليهم الصلاة، ولا يتقدم فيما ليس له فيه حق، لكن من جهة الأصل إذا صلَّى مكلَّف رجل أو امرأة بالغ عاقل أو بالغة عاقلة فحصل بذلك المقصود.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُسَنُّ جَمَاعَةً)}.
هذا هو الأصل وهذا هو الأولى، والنبي أمر أن تكثَّر الصفوف، حتى لو كانوا كما يقول الفقهاء ستة فيجعلون ثلاثة صفوف لأنه سبب لحصول المغفرة كما جاء في الحديث عن النبي ، لكن في موت النبي صلَّى عليه الصحابة فرادى، وهذا يقول أهل العلم أنه كان إجلالًا له وتعظيمًا -صلوات ربي وسلامه عليه- لكن من حيث الأصل والسنة القائمة المحفوظة الدَّائمة والتي عليها العمل بإذن الله إلى قيام الساعة أن صلاة الجنازة تكون جماعة، يصلون عليها ويجتمعون.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقِيَامُ إِمَامٍ وَمُنْفَرِدٍ عِنْدَ صَدْرِ رَجُلٍ وَوَسَطِ امْرَأَةٍ)}.
السنة إذا كان الميت رجلًا فإنه يقام على صدره، وإذا كانت امرأة يقام على وسطها حتى يعرف الناس أن الميت رجل أو أن الميت امرأة كما جاء ذلك في الحديث أن النبي «أنَّ امْرَأَةً مَاتَتْ في بَطْنٍ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النبيُّ ، فَقَامَ وسَطَهَ»[10] كما في الصحيح.
{أحسن الله إليكم، لعلنا نكتفي بهذا القدر}.
نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتم عليكم نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يجعلنا من عباده الشاكرين وأولياءه الصالحين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا، وجميع المسلمين، اللهم آمين.
{بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، السلام ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1] صحيح البخاري (1849).
[2] صحيح البخاري (1254).
[3] صحيح البخاري (1254).
[4] صحيح مسلم (939).
[5] صحيح البخاري (1254).
[6] صحيح البخاري (1254).
[7] قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 2/106: هذا الحديث ذكره الغزالي في الوسيط بلفظ: "افعلوا بموتاكم ما تفعلون بأحيائكم" وتعقبه ابن الصلاح بقوله: بحثت عنه فلم أجده ثابتاً، وقال أبو شامة في كتاب السواك: هذا الحديث غير معروفٍ.
[8] أخرجه البخاري (1268)، ومسلم (1206).
[9] أخرجه أبو داود (3878) واللفظ له، والترمذي (994)، وابن ماجه (3566)، وأحمد (2219).
[10] صحيح البخاري (332).
وجاء عن أنسَ بن مالِكٍ أنه صلَّى علَى جنازةِ رجلٍ فقامَ حيالَ رأسِهِ فجيءَ بجنازةٍ أُخرى بامرأةٍ فقالوا يا أبا حمزةَ صلِّ عليها فقامَ حيالَ وسطِ السَّرير فقالَ العلاءُ بنُ زيادٍ يا أبا حمزةَ هَكَذا رأيتَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قامَ منَ الجنازةِ مقامَكَ منَ الرَّجلِ وقامَ منَ المرأةِ مقامَكَ منَ المرأةِ قالَ نعَم فأقبلَ علَينا فقالَ احفَظوا. (أخرجه الترمذي (1034)، وابن ماجه (1494) واللفظ له).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك