الدرس السادس عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

23747 18
الدرس السادس عشر

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام، وتعبد وقام، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام، أمَّا بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بك يا صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حياكم الله تحية عطرة والإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{بارك الله فيكم ونفع بكم، أستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده، أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَلَا تُدْفَعُ إِلَّا إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَهُمْ: الْفُقَرَاءُ َالْمَسَاكِينُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقَابِ، وَالْغَارِمُونَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا ممن وفق للهدى، وأُعين على الطاعة، وألا يخذلنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، وأزواجنا، وذرياتنا، وأحبابنا، والمسلمين جميعًا.
كنا أيُّها الإخوة الطلاب والطالبات، في الدرس الماضي شرعنا أو زلفنا أو ابتدأنا فيما يتعلق بأهل الزكاة، وذكرنا أنَّ أهل الزكاة محصورون في الأصناف الثمانية، وبينا وجه ذلك من جهة النظر والدليل، وستأتي إشارة إلى ذلك أيضًا في السابع منها، في قول: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ).
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَهُمْ: الْفُقَرَاءُ َالْمَسَاكِينُ) بدأ المؤلف بالفقراء والمساكين، والفقراء والمساكين تعبيران مُتقاربان جدًا، وقد ذَكَرَ أهل العلم المقصود بكل واحد منهما، وأكثر ما نحا إليه العلماء إلى أن الفقر والمسكنة فيها حاجة عيلة، ولكن الفقر أشد من المسكنة، ولأجل ذلك حده بعضهم بأنَّ المسكين هو الذي يجد أكثر كفايته ولا يجد تمامها، والفقير هو الذي لا يجد أكثر حاجته، يعني: لا يجد إلا شيئًا قليلًا، فلو افترضنا مثلًا أنَّ شخصًا عنده من المصاريف اللازمة للكهرباء والنظافة والطعام والشراب، وما يحتاجه أهله من اللباس في الشهر يقدر بأربعة آلاف ريال، وبعض حاجات ولده، من كسوة، وآلة الدراسة، ونحوها، يعني: كلها خمسة آلاف وخمسمائة أو ستة آلاف، فلو كان راتبه أربعة آلاف، فنقول هذا مسكين، لماذا؟ لأنَّه لا يجد أكثر كفايته، أي: لا يجد تمامه.
لكن لو كان راتبه ألفان، فهنا يكون فقيرًا؛ لأن عندك أربعة آلاف أو أكثر من ذلك بقليل لا يجدها، فهذا هو الفقير والمسكين، وكلاهما تجب عليه بتمام حاجته، فإذا كان مثلا عنده أربعة آلاف مثلاً، فيعطى ما يكفيه وهو تمام الستة، إذا كانت حاجته تندفع بذلك، وهذا هو المقصود.
ويقول أهل العلم: أحيانًا يعبر عن هذا بهذا، أي: عن الفقير بالمسكين، والمسكين بالفقير، ولذلك يقولون: إذا ذُكر أحدهما فيشمل الآخر، لكن إذا اجتمعت كما في هذا الموضع فَيُبَيَّنَ هذا وهذا.
وفي هذا إشارة أولًا إلى اهمية بذل الزكاة لمن احتاج، وأنَّ الأمر متعلقٌ بالحاجة على كل حال، سواء كانت حاجة تنقص به عن كل أحواله، أو حاجة يحصل بها تمامه، وهم الفقراء المساكين.
وإنه من المعلوم، وهذا من عظيم ما جاء به الشرع، أنَّ الإنسان إذا احتاج عَظُمَ به الهَمَّ، واشتدت به الأمور، وذهبت عليه كثير من قواه وقدرته، فضلًا عمَّا من يفوته من أُنسه واجتماع شمله، وكلمَّا نقص على الإنسان في بعض حاجاته، ربما أفسدت عليه استقرار أسرته، وربما حصل بها فساد بعض أهله، وربما فات بها تعليمهم، ولا تسأل عمَّا يحصل تبعًا لذلك من البلية.
ولذا كان من عظيم فضل الله في الشرع، أن جعل هذه الزكاة تُقْضَى بها حاجة المحتاج، وتُسَدُّ بها ما يجده وتتوق إليه نفسه، مما لابد له منه لتلتئم البيوت، ولتستقر الناس والأسر، وليكملوا المسيرة، وكل ذلك يُراد به تحصيل المقصد الأول من خلق الناس في هذه البسيطة، وهو عبادة الله -جل وعلا، فالتاجر يتعبد الله بما أوتي، ويتعبد لله ببذل زكاته، والمسكين يتعبد الله -جل وعلا- بصبره على بلائه، ويتعبد الله بما يجود عليه به أهل الإحسان؛ ليسدوا حاجة أهله، منعًا لهم من أن يسيروا في مسيرة البلاء، أو طريق الشر، وما يتبع ذلك من السوء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ)}.
قال: (وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَ) العاملون عليها، يعني هم الذين يعملون عليها، يعني: من يحسب ويجمع ونحو ذلك، لكن يجب أن يُعلم في العامل على الزكاة أنَّه لا يحق له إذا عمل أن يقتطع من نفسه، بل تدفع إليه، فالعامل له حق فيُعطى هذا الحق، ولكن ليس للإنسان أن يستطيل بيده، فيأخذ ويلطخ نفسه في ذلك، ولقد رأينا أناسًا كثيرين، يعطون لبذل الزكاة والوكالة فيها؛ فينتفعون بها لأنفسهم، ويتأولون أنهم إمَّا عاملون عليها، أو محتاجون إليها.
ولذا ينبغي ما دام أنه وكيلٌ، ألا تكون الوكالة ببذلها لنفسه؛ لأنه جرَّ بالوكالة نفعًا لنفسه، وهذا لا يجوز، ولا أيضًا هو الذي يقضي حاجة العمل، ولذلك كثيرٌ ممن يعملون في بعض أبواب البر يتوسعون في ذلك، ويفتحون على أنفسهم أبواب الشرور، فنقول: إن هذا مقيد بمن له حق توزيع الزكاة وبذلها، وهو ولي الأمر، ومن أنابه في بيت المال وغيره، وهذا أيضًا مخصوص بمن ليس أجرة يأخذها مقابل ذلك، كموظف حكومي، أو أجرة يتقاضاها كل شهر، أو نحو ذلك من الأشياء.
فإذًا، سهم العاملين في الزكاة، سهم صحيح، لكنه مخصوص، وله قيوده، وله وجهه، فينبغي ألا يتجاوز فيه ولا يتوسع.
قول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ) هذا باب من أبواب مَن تدفع لهم الزكاة، وهو باقٍ إلى قيام الساعة، خلافًا لمن قال: إنَّ هذا الباب إنما كان في أول الأمر حال ضعف المسلمين؛ لأنه يُحتاج إليه في كل وقت وزمان، وهذا هو المستقر عند أكثر علماء الإسلام، و(الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ) إمَّا ممن رُجِيَ إسلامه أو رُجِيَ ثباته بعد إسلامه، لأول وهلة أسلم أو نحو ذلك، أو من يرجى دفع شره ومنع بلائه، فكلهم يدخلون في سهم المؤلفة قلوبهم.
وهنا باب مُهم، والتنبيه عليه لازم؛ لأنَّ كثيرًا من المتصيدة للشرور يفتحون هذا الباب ويوغرون به الصدور، خاصة أهل البلاء ممن دخل في الفتن والدماء، كداعش، والقاعدة الخوارج، ومن سار مسارهم من الفئة الضالة، وهو أنه توجد في بعض المعاملات، وبعض المنتديات، وبعض المؤتمرات ونحوها، بين المسلمين وبين غيرهم من أن تدفع بعض المساعدات، أو يُدخل في غيرها من أبواب معينة، هذه تفسر عند كثير من أهلها على غير وجه، ونقول: في شرعنا فُسحة، فربما كان نفعًا لفقراء منهم، «في كلِّ ذات كبدٍ رطبةٍ أجرٌ»[1]، من مسلم أو كافر أو غيره، كما جاء بذلك الحديث، وربما كان ذلك من دفع شر، أو جلب خير للمسلمين أو مصلحة، وللإمام أن ينظر في ذلك، ونظره نظر مصلحة، فلا ينبغي أن تفتح أبواب الظنون، أو أن يُسلك مسالك أهل الأهواء، الذين يُوغرون الصدور بمثل ذلك، فإذا كان لولي الأمر أن يأخذ الزكاة منك ومني ومن فلان، وأن يعطيها رأسًا من المشركين، لدفع شره لشخصه، ولو كانت أموالًا طائلة، وزكواة المسلمين، فكيف إذا كان يدفعها لأبواب معينة، أو لجلب خيرات، أو لفتح آفاق في تعاون، أو في صناعة، أو في غيرها، وكذلك لو كانت من غير الزكاة، كما لو كانت من موارد بيت المال الأخرى، فبابها أوسع، فلا ينبغي أن يُشغّب على الناس، وأن توغر بذلك الصدور، فإنَّ ولي الأمر لا ينفق إلا لمصلحة، ولا يعمل إلا لمصلحة، وهذا هو الأصل، وربما تكون تلك المصلحة خفية، وربما تكون تلك المصلحة ليس من الحكمة إظهارها، وما كان أيضًا قد اجتهد فيه ولم يكن قد وفق فيه، فهو معذور ما دام أنه قد بذل أسباب الاجتهاد والنظر وغيره.
وما سوى ذلك أيضًا لو كان فيه نوع ترهل، فإن ذلك لا يعني إغارة الصدور، ولا فتح الثغرة، ولا إظهار الفتنة، ولا الاختلاف عليه؛ لأنَّ هذا شره أكبر، وبلاؤه أعظم، فينبغي أن يغلق هذا الباب برُمته، وألا يفتح من أصله، منعًا للشر؛ لأنَّ فيه أصل صحيح، فما سلكه فيه الولاة، وما قام عليه ولي هذا الأمر، فله فيه ممدوحة، وله فيه مسلك صحيح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَفِي الرِّقَابِ، وَالْغَارِمُونَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ)}.
قوله: (وَفِي الرِّقَابِ) الرقاب هي التي وجدت مملوكة فتعتق بها، سواء كان ذلك في المكاتبين ومن في حكمهم، فإذا بذلت الزكاة في ذلك؛ كان هذا من أعظم ما يكون، ومن المعلوم أنَّ من أعظم ما تُدْفَع فيه الزكاة، مَا تَطَلَّعَ إليه الشرع من نبذ العبودية والرق، وحصول الحرية والانطلاق، فجعل الشارع في كل باب من أبواب الشرع، ما يحصل به منع زيادة الأرقاء ونحوهم، فجعل في كفارة القتل، وفي كفارة الجماع في نهار رمضان، وفي حتى كفارة اليمين على أنها أمر أيسر من غيرها أو أقل، وفي الظهار، وفي مسائل كثيرة.
والمقصود في ذلك هو ما يَتوق إليه الشارع، من إعتاق الأنفس وتحريرها، ولذلك جاء عن النبي «مَن أعتَق رَقَبةً مُؤمِنةً؛ ستَرهُ اللهُ بكلِّ عُضوٍ منها عُضوًا منه منَ النَّارِ»[2]، فحتى في أموال الزكاة، فلبيت مال المسلمين أن يفعل شيئًا من ذلك، فيخصص جزءًا من هذا البيت؛ لعتق أرقاء المسلمين، وتخليصهم مما هم فيه، فيكون ذلك من الخير الكثير.
هل يدخل في ذلك الأسرى، الذين لدى المشركين من حرب أو غيره؟
قال بهذا أهل العلم، وهو لا يقل أهمية عن مثل من كان عبدًا بين المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَالْغَارِمُونَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ)}.
الغارمون هم الذين عليهم الديون، ولحقت بهم وأضنتهم، ومن المعلوم أنه من أعظم ما يلحق الإنسان به البلاء الدين؛ لأنه يلحق به الذل والمهانة، ويمنعه حتى من إتيان صلاة الجماعة، إذا ضيق عليه المطالب، فبذل الزكاة لهم نافع، وهم على قسمين، سواء كان الغارم لنفسه، والذي عليه دين، لكن قال أهل العلم: بشرط أن يكون الدين من سبب حلال، فلو كان الدين من سبب محرم، كما لو كان من تعاملاته المحرمة، أو سفه محرم، أو أفعال مشينة، أو غير ذلك، فإنه لا تُدفع فيه الزكاة؛ لأنَّ الزكاة لا تكون عونًا لأهل الشر والباطل في باطلهم، لكن لو كان مثلا من أثر الزواج، أو بناء بيت يحتاج إليه، أو في حادث سيارة، دفعه لديه أو لِمَا لحقه من نقص من الجناية وغيرها، فكل ذلك صحيح، قالوا: أو كان من السبب المحرم لكن تاب منه، وينبغي للناس ألا يتكثروا من الديون، فيرهقون أنفسهم، وألا يستشرفوا أموال الزكاة ليأخذوها، وإنَّ أقوامًا في هذا الوقت روي عليهم من السعة في الحال، والتوسع في الأمور، ألا يستكثروا من الديون حتى يستحلوا لأنفسهم أخذ الزكاة، فإنَّ هذا باب سوء، وباب شر، وكما قال النبي : «إنَّما هي أوساخُ النَّاسِ»[3]، فينبغي ألا يضايق من يحتاجها، وألا يتوسع فيها، ليتكسر الناس بزكوات المسلمين في توسع نفسه بذهاب ومجيء، وإنَّ أقوامًا لا يترفعون في دنياهم بسفه وتنقلات وغيرها، وتوسع في المساكن، أو في المراكب، أو ما سواها، ولا يكتفي بما يحتاج إليه، ثم بعد ذلك لا يزال طيلة عامه يتنقل بين هذا وذاك، يطلب ما يكون به سداد دينه، حتى ولو كان في ظاهر الأمر من أهل الزكاة، فإنما يكون في داخل هذا الأمر مما يلحقه من التبعة ما قد لا تكون خاتمته إلى خير، وفي آخرته إلى سلامة، فيتوفى الإنسان ولا يتعرض لمثل هذه الأبواب، إلا إذا اضطر إليها، فإذًا هذا الغارم لحظ نفسه.
وأمَّا الغارم لحظ غيره فهو كمن أصلح بين فئتين، وانقضى بسببه خلاف بين قبيلتين، واندفعت به الشرور، فهذا مما يُعان حتى وإن كان غنيًا؛ لأنَّ هذه أبواب بر، ولا يتصدى لها إلا الخلّص من الناس، ولذا فينبغي أن يكون مما يعان على بره وإحسانه إلى الناس، ورأب الصدع في المجتمعات، فيعان على ما تحمل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ)}.
قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) هنا مقصود بها لا محالة الجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله، أي: الجهاد الصحيح وهو ما كان مع الإمام، برًا كان أو فاجرًا؛ لإعلاء كلمة الله، تدفع فيه الزكاة، بل هو من أعظم أبواب البر الذي تدفع فيه الأموال، وتنفق فيه النفقات، ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فجعل الله -جل وعلا- الجهاد بالمال أسبق من الجهاد بالنفس، وهذا هو المقصود.
وذهب بعض المتأخرين إلى أنَّ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) يراد بها أبواب البر عامة، ولكن هذا ليس بوجيه من جهتين:
أولًا: أن السياق (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) أقرب ما يكون إليه ذكر ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في القرآن، وأكثر ما ورد فيه قوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المراد به الجهاد، وهذا بابه تفسير القرآن بالقرآن، وهو أخص ما يكون من التفسير وأقرب، فهذا واحد.
والثاني: أنَّ الآية مخصوصة، فلو قيل: إنَّ المقصود بقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أبواب البر لَمَا كان لهذا الحصر ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ فاللام في قوله ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ هي للاستحقاق، أي: إنما يستحقها هؤلاء، ولا يستحقها غيرهم، فتكون هذه الآية لو فسرت بأنها أبواب البر عامة، عائدة على ما سبق بالنقض، وحاشا كتاب الله أن يكون فيه تضاد، أو أن يكون فيه تناقض، بل هو مُضطرد متسق، بل هو يأتي على بيان لا يخلف أوله آخره، ولا آخره أوله، وهو كتاب الله -جل وعلا- الذي تكلم به -سبحانه وتعالى-، وهو المبرأ من كل نقص، والذي يحصل به التمام والكمال.
وقد يقال على سبيل أنه في الجهاد، وهو ما يكون من الأعمال التي يحصل بها منع تشويه الإسلام، وإبانة ما في الدين من حق، وهداية الناس وتوجيهم إليه، ودلهم إلى ما فيه صلاحهم وتمامهم بدفع شبهة ونحو ذلك، لأنَّ الجهاد قد يكون بالسنان وقد يكون باللسان، ربما يكون في هذا مأخذ، وفي المجامع الفقهية دُرِسَ هذا الموضوع، ومال إليه بعض أهل العلم والتحقيق، وفيهما يمكن أن يقال، لكن فتح هذا الباب إلى أبواب البر عامة هو في الحقيقة دفع أو منع للإحسان لهذه الأصناف الثمانيةـ التي لها خصوصية، والتي جاء بها كتاب الله -جل وعلا- والتي نص على تخصيصها.
قال: (وَابْنُ السَّبِيلِ) ابن السبيل هو المسافر الذي انقطعت به نفقته، فيقولون: إنه يعطى ما يعود به إلى أهله، وفيما مضي كان الناس يحملون أموالهم، ولا يجدون مخبأ، ولذلك كان أسهل ما يكون ضياعها، وأسرع ما يكون التسلط عليها وسرقتها، خاصة مع قطع الناس للفيافي، والتعرض لقطاع الطريق، وضعف الأمن والأمان، وعدم وجود الآلة التي تسرع تقارب الناس، وتسهل تواصلهم، ولذلك كان هذا من أعظم أبواب الزكاة التي تنفق فيه، وكان كثير من أهل الفضل والجاه والخير كثيرًا ما يتعرضون لذلك في بعض أسفارهم، سواء كان سفر طاعة أو سفر سنة، كصلة رحم، أو زيارة مريض، أو كان سفرًا مُباحًا، وإن كان الفقهاء يقولون: لا يُبذل له في سفر النزهة، ولعل المقصود في ذلك أن لا يعطى ما يكمل به نزهته، ولكن لو افترضنا أنَّ شخصًا ذهب لنزهة فانقطعت به نفقته، وانقضى ماله أو سرق أو غير ذلك، حتى ولو كان في بلده يملك مالا لكن لا يستطيع الوصول إليه، فيعطى ما يرجع به، حتى وإن كان في نزهة، ولكن لا يعطى ما يكمل به النزهة، أو يتمم به مدة راحته، وهذا باب قد انحسر إلى حدٍ ما في هذه الأزمنة، لتواصل الناس، ووصول الإنسان إلى ماله الذي في بلده بأي سبيل، لكنه لم يزل باقيًا، وخاصة فيمن يفدون إلى الحج، فإنَّ بعضهم لا يزال يتكلف، فيجمع كل ما لديه، ولربما وافت التمام والكمال وربما نقصت، فمثل هذا ليس عنده مال هنا ولا حتى في بلده، فهو داخل في ذلك في استحقاق الزكاة من جهتين:
من جهة انقطاع السبيل.
ومن جهة الفقر أو المسكنة والحاجة.
وإن كان الإنسان ينبغي له ألا يكلف نفسه إذا كان غير قادر على الحج، أن يحج وهو في مسكنة وفاقة، لكن من عرض له شيء من ذلك، فإن المسلمين بعضهم أولياء بعض، والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا، وجاء في الشريعة من حفظ هؤلاء إذا انقطعوا ببذل أموال لهم من الزكاة الواجبة حتى يعودوا إلى أهلهم، ويأمنوا في العود إلى أوطانهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ، وَالْأَفْضَلُ تَعْمِيمُهُمْ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ)}.
بعض الفقهاء يقول: كل مُزكٍ يعطي ثلاثة أصناف، وبعضهم يقول: لابد من التعميم، والمؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إن أعطيت واحدًا من الثمانية أو أعطيت الثمانية جميعًا، فالأفضل التعميم والتسوية بينهم، فيعطي الإنسان الفقراء ويعطي شيئًا يقضي به عن المدين، ويعطي ما يعين به في فك رقبة بتمامها إن كانت زكاته تكفي لذلك، وهكذا، فينبغي للإنسان أن يتفقد أبواب البر، وإذا كان الفقير قريبًا، فإنه أخص ما يكون، والنبي قال: «الصَّدقةُ على المسْكينِ صدقةٌ، وعلى ذي القرابةِ اثنتان: صدقةٌ وصلةٌ»[4]، فينبغي أن يتفقد الناس أقاربهم، والعجب العجاب أنَّ كثيرًا من الناس أسهل ما يكون عليه البر، وأقرب ما يكون إلى الإحسان والبذل، لكنه يثقل عليه في بعض أحواله أن يُعطي قريبه، كأخ لا تجب له النفقة، وكابن عم أو ابن خالة أو قريب، ينبغي أن يُشمل هؤلاء بالإحسان، وأن يتفقد في أحوالهم، سواء على وجه الخصوص ما يكون في الزكاة أو ما يكون في سواها، حتى أبواب البر الأخرى، إنَّ من تمام المروءات والإحسان والبذل وعظيم الأجر، أن يتفقد الإنسان قريبه في نفقة، وفي بعض ما يحتاج إليه، حتى ولو لم يكن في لَازمه، فما دام أنه قريب فإنها صدقة وصلة، كما قال النبي ، فإذا كانت الحاجة متحتمة فالإحسان إليهم أتم وأكمل، ولذلك جاء عن أهل العلم، وسيأتينا هذا لاحقًا، لكن لا مانع من ذكره هنا، خاصة وأن الناس يندون عنه وينسون، أن الوقف وهو من أعظم أبواب البر، ويقال: إن ثمانين من أصحاب النبي كلهم أوقفوا لَمَّا وجدوا، فإنَّ الفقهاء متفقون على أنَّ أفضل ما يوقف عليه القرابة، والنبي قال: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقَارِب» ولأجل ذلك ينبغي أن يكون له نصيب وافر من الأوقاف إذا أوقفت، وأن يكون لهم من الزكاة، وأن يكون لهم من الإحسان والبذل والصدقات، وألا يختص ذلك بشيء محدود، ولقد رأينا تفريقًا في هذه الثلاثة كلها، سواء كان في أن يوقف على الأقارب أو أن يتصدق عليهم من الصدقات المستحبة، أو أن يُعطوا حقهم فيما وجب من الصدقات الواجبة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَتُسَنُّ إِلَى مَنْ لَا تَلْزَمُهُ مَئُونَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ)}.
 طبعًا الذين يُعطون -قبل أن نصل إلى: (وَتُسَنُّ)- لأهل العلم فيه كلام، منهم من يقول: يعطى كفايته لسنة، وبعضهم يقول: حتى لو اشتري له بيت، لكن بالنسبة إلى قضاء الديون، وهذا ما نحب أن ننوه عليه، إذا أعطي للدين لم يجز له أن يجعله إلا في الدين، بعض الناس يُعطى لأنه مدين، فيأخذ هذا الدين وينفق به على بعض حاجته، فهذا لا شك أنه صرف للزكاة على غير وجهها، فإذا جاء إلى شخص وقال: أنا مدين؛ فيعطيه لدينه لم يجز له أن ينفقه على أهله ولو كان فقيرًا ومستحقًا للزكاة من وجه آخر، ولكن إذا قال: أنا محتاج وعلي ديون، وعندي حاجة وكذا وكذا، فأعطي لحاجته فينفقها على أهله، وانقضى بها دينه ليسهل عليه ما يجمعه من كسب ونحو ذلك، فلا بأس، لكن لا يكون البذل للدين سبب للإنفاق على الأهل، ولذلك يقول أهل العلم: إنه للفقراء والمساكين على سبيل التمليك، لكن (الغارمون) حقهم في قضاء الدين، فإذا لم يُقض به الدين لم يكن مالًا له، فإما أن يُقضي به الدين، وإما أن يرده، وهذا كثير ما يحصل بين الإخوة، فنقول: على كل حال ينبغي أن يعرف القدر الذي يبذل، ولأهل العلم فيه تفاصيل كثيرة، ليس هذا محلها، لكن بقدر ما يحتاجون في كل مسألة بقدرها، ولا ينبغي للناس أن يتوسعوا، ولابد أن يعرفوا هذه الأحكام وأن يدققوا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَتُسَنُّ إِلَى مَنْ لَا تَلْزَمُهُ مَئُونَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ)}.
هذا بالنسبة لما ذكرناه من الصدقة على الأقارب، وهذا قد فصلناه سواء من الزكاة أو من الصدقات أو من باب البر، لكن لو كانت نفقتك على قريبك واجبة، لم يجز لك أن تعطيه من الزكاة؛ لتستنقذ به مالك الذي يجب عليك، ومشهور المذهب عند الحنابلة، أنَّ النفقة حتى على غير الآباء والأجداد والجدات لازمة بشرطه، فإذا "كنت وارثًا له، ولا يجد نفقته، وعندك ما يكفيك وزيادة"، بهذه الشروط الثلاثة، يجب عليك النفقة على أخيك أو ابن أخيك أو ابن عمك، كلهم تجب عليك النفقة، فهؤلاء الذين تجب عليك نفقتهم، لا تعطيهم من الزكاة، وإذا أعطيتهم من الزكاة كأنك تريد أن تحمي مالك من الإنفاق عليهم، بل يجب عليك الإنفاق عليهم، لكن لو لم يكن واجبة النفقة عليك، كما لو كان له ولد فهو لابد من شرط أن تكون وارثًا له لو مات يجب عليك على إذا قدرت إذا كان كذلك فلا بد أن تعطيه نفقة واجبة، لكن لو لم يكن لعدم اكتمال هذه الشروط الثلاثة فيعطى، ويستحب أن تدفع له الزكاة، ناهيك عن الوقف والصدقة لما قلنا: صدقتك على قريبك صدقة وصلة، وبهذا صح الخبر في الصحيحين عن المصطفى .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَلَا تُدْفَعُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَمَوَالِيهِمْ، وَلَا لِأَصْلٍ وَفَرْعٍ وَعَبْدٍ وَكَافِرٍ)}.
وهذا كله أيضًا في النفقة الواجبة، التي هي لسد الحاجة ونحوها، أما قضاء الديون وغيرها فلا حتى ولو كنت تنفق عليه، ولكن إذا أعطيته لقضاء دين، فهذه مسألة أخرى، لا تعلق للحكم بها، فيجوز بتوضيحه وتفصيله عند أهل العلم.
ثم قال: (وَلَا تُدْفَعُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَمَوَالِيهِمْ، وَلَا لِأَصْلٍ وَفَرْعٍ وَعَبْدٍ وَكَافِرٍ) لا تدفع لبني هاشم آل النبي ، لأنَّ الصدقة لا تحل لهم، كما جاء ذلك في الحديث، وبنو هاشم هم: بنو العباس، وبنو جعفر، وبنو آل علي، وآل عقيل، وآل أبي لهب، وآل الحارث، ستة من الأفرع كلها لا يجوز بذل الزكاة لهم، وظاهر كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- على الإطلاق.
هل الممنوع يمنعون من الصدقة الواجبة أو حتى من الصدقة المستحبة على الإطلاق؟ قولان لأهل العلم وهل هذا على العموم؟ أم أنه إذا استقام سهم ذوي القربى في الغنيمة فمنهم من قال على الإطلاق ومنهم من يقول بشرط إن يوجد سهم الغنيمة وإلا كان في ذلك إظهار بال النبي وهم أحق بالصلة وأولى بالإحسان فعلي كل ينبغي آل النبي أوصى بهم النبي أعظم وصية في يوم غدير خم حينما قال تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضل كتاب الله وعترتي يعني احفظوا حقه أحسنوا فالعترة الذين هم القرابة لذلك كان تخصيص شيء من الهدايا لآل النبي وللإحسان إليهم خاصة أنه لا تجب لهم الصدقات من أحسن ما يكون ولقد عهدنا في هذه البلاد تخصيص وأشياء لآل النبي إتباعًا لما جاء في الحديث وسيرًا على ما كان عليه ملوك هذه البلاد الأولين وهذه سنة ماضية ونرجو- بإذن الله- -جل وعلا- أن تكون ثابتة باقية وأن يزيدهم من الخير والهدى وأن يعيننا على أداء حق آل المصطفى ومواليهم جاء هذا في مشروع المذهب وفي كلام طويل هل يدخلونه في ما دخل فيه الآل مولى القوم منهم وما في هذا بعضهم استدل به على أنه في حكمهم وهذا لا شك في أن فيه ما فيه ومحل للبحث والنظر قال ولا لأصل وفرع لأن الأصل والفرق تجب عليك نفقته ما دمت قائمًا فبناء على ذلك لم يجز للإنسان أن يبذل لهم صدقة أن يبذل لهم زكاة واجب لعلكم أن تلحظوا هنا أنه بدأ بمن ينفق عليهم ثم عقب بمن؟ لا يجوز بذل الزكاة لهم وهذا يعني فيه من الكمال والتمام وحسن الترتيب والتهليف ما هو ظاهر بين قال: وعبد،عبد الإنسان لازمة لنفقته عليه فلا يجوز أن تبذل له صدقة وزكاة
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَعَبْدٍ وَكَافِرٍ)}.
الكافر أيضًا الزكاة الواجبة إن للمسلمين فالكافر لا يعطى إلا في المؤلفة قلوبهم على ما مر، وهذا بخصوصه لكن على الإطلاق هو ليس من أهل الزكاة يعني في الغرم أو في العمل أو في الفقراء والمساكين كلها لا يكونوا أهلًا لبذل الزكاة في ذلك لكن يستثنى من هذا ما يتعلق بالمؤلفة قلوبهم، لكن لا يعني ذلك أنه لا تجز له الصدقة أو أنها لا تنفع فيه اللي ما تقدم أن في كل كبد رطبة أجر الإحسان إليهم إحسان مطلوب وأمر مشروع سواء كان في الجوار أو في الصداقة أو حال سفر الإنسان للنزهة أو في غير ذلك من الأمور لا ينفك من الإحسان إلى الكفار وإقامة حقهم ولا يجوز الاعتداء عليهم أو انتهاك فإن الشرع قد حد الحدود وبين الأحكام وأظهر ما يتعلق بذلك في كل مسألة من المسائل الصغار والعظام
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (فَإِنْ دَفَعَهَا لِمَنْ ظَنَّهُ أَهْلًا فَلَمْ يَكُنْ أَوْ بِالْعَكْسِ لَمْ تُجْزِئْهُ إِلَّا لِغَنِيٍّ ظَنَّهُ فَقِيرً)}.
 يعني الأصل فيه دفع الزكاة لمستحقيها أن يتأكد أنه أهل لذلك، ومستحقٌ لها، فابن سبيل معلوم والمجاهد في سبيل الله -جل وعلا- معلوم ونسينا أنه بعض أهل العلم قال حتى الحاج حج الفريضة يدخل في ذلك فإذًا هؤلاء معلومون الغارم الذي عليه الدين يعرف أن هذا الدين عليه وأن الدين لفلان ويعرفون أن هذا مدين وأن هذا دائن وأنه فهي أمور ظاهرة سهولة التحقق من ذلك تمنع العفو في الخطأ لا يعفى عن الإنسان إذا أخطأ في ذلك يقول لك أنا مدين مليون المليون معروفة وموثقة وتعرف لمن؟ وسهل على الناس لما كانت سهلٌ في هذا الوقت الذي فيه المجتمعات كبرت والمدن تفجرت فكيف إذا كانت في الأوقات الماضية في المدن الصغيرة الذي يعرف مالا فلأن ومالي على فلأن ونحو ذلك فيقول الغني ظنه فقيرًا لغني ظنه فقيرًا أحيانًا بعض الناس يظهر عليهم إما على سبيل التورع أو على سبيل أو لسوى ذلك من فيظنه فقير مظهر من مظاهر الفاقة التي وردت عليه فيعطيه فهذا راجع إلى الحديث تصدق على غني فأذن في ذلك النبي فدل جواز ذلك والعفو فيه فإذا التحقق في هذه الأمور مطلوب بما يحصل به مال الزكاة في وجهه ويحصل به المقصود منه لكن لو حصل في ذلك خطأ فإن كان في غير الفقير فلا يعفى وإن كان في من ظن فقيرًا فبأن غنيًا فإن المزكي قد أدى ما عليه، وبلغت الزكاة موضعها ولم يجب عليه إعادة بذلها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ بِالْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ)}.
لما أنهى المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالزكاة الواجبة أتى بالصدقة المستحبة، والتطوع هو من فعل الطاعة والتكثر منها تطوع يعني تابع الطاعة بالطاعة أو لزم الطاعة أو أدام الطاعة كما يقول أهل العلم وهي تأتي بالمعنيين أيضًا بترك الشيء فإذا قال تهجد فلأن هو من الجهود وهو النوم وتكون تهجد بمعنى الضد وهو ترك الشيء أيضًا تأثّم فلأن يعني ترك الإثم ليس معناه أنه فعله فتأتي بهذا المعنى وتأتي بضده هذا ما كان على وجه تفعله، فيقول المؤلف -رحمه الله: إن الإنسان كما أنه إذا أدى الزكاة الواجبة فلا يقتصر على ذلك بل ينبغي الإنسان أن يتكفل من عمل الصالحات وأن يزداد من البر وأن يبذل في الإحسان وأن يديم النفقة، وأن تكون يده مبسوطة والنبي يقول: في كل يوم ينادي مناديًا: «اللهم أعطِ منفقًا خلفًا وأعطِ ممسكًا تلفً» هذه أمور يجب أن الناس يحفظونها ويعتادونها، ويعلمون على ذلك أنهم كان الناس في زمن مضى خاصة في بلادنا هذه التي هي أفقر بلاد الأرض على وجه العموم والتمام فيما مضي ولم تعرف كثيرا من هذه البلاد من النعم والرخاء، وما أفاض الله علينا، فينبغي للناس وقد رأينا أيام فقر آبائنا وأجدادنا ما هم فيه من البذل، وما هم فيه من إيثار النفس ومشاركة الغير، والتزاحم على أبواب البر، فنحن وقد أوسع الله علينا، أوجب علينا أبواب الإحسان والإنفاق تعاطي ذلك الباب، والتسارع فيه، ولقد عجبت الحقيقة من بعض المواقف التي نسمعها فأذكر أن بعضًا ما عرفت تقول أنه ما جاءني من إرث فإنني أنفقته كله ولم أستبق لنفسي منه ريالًا واحدًا ما دام أن زوجي ينفق علىَّ فهو قادر على ذلك ما أننا نستذكر ما مضى في الأزمنة والقرون الماضية فلم يزل في هذه الأوقات الحالية من الخير والهدى فتسارع الناس إلى الاقتداء بهؤلاء والبذل لا التكثر والمفاخرات النعم المزايدات فيها وإظهار ذلك في غير وجهه، والتنافس في هذه الدنيا، فإن ذلك لا يجدي على أهله شيئًا، ومن فعل ذلك فهو مغبون ومأفون، فكمْ يلحق الناس من البلاء! وكمْ يلحق البيوتات من الإشكال! وكمْ يدخل عليهم من الحزن لأجل أن اشترى سيارة فارهة، أظهرها وحرق قلوب الناس بالحصول عليها، وفئام من الناس كثير لا يستطيعون الحصول على ذلك، فليتق الله هؤلاء، وباب البذل أولى لهم، وباب الإحسان أقرب عند الله، وهو خير وأبقى، وما يطلبون به في الآخرة أتم مما يكون من البهرجة، والأكثر في الدنيا والله يتولانا برحمته، ولذلك قال: (بِالْفَاضِلِ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ) كل ما كالزاد ما أحسن من أن يتصدق، ولقد عرفت شخصًا وقد حدثني بنفسه وقد توفي -رحمه الله تعالى- يقول: تعاهدت أنا وأخي أنه في كل عام نخرج ما زاد مما ادخرناه كله، فلا نبقي ريالًا واحدًا، فهذا هو التوكل على الله، وهو الإحسان، والحمد لله الأعمال باقية، وهو موظف وتفد عليهم مخصصات مخصوصة، فما لم يبق للإنسان إلا الإنسان ها هم قد ماتوا هو وأخوه وما بقي إلا ذكرهم الطيب، وما قدموا لأنفسهم، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ فنسأل الله أن يعيننا، ولذلك قال المؤلف: (سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَفِي رَمَضَانَ) والنبي كان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، وهو وقت البذل والبر والإحسان.
لكن ينبغي هنا أن يعلم أنَّ الزكاة الواجبة إذا وجبت أنفقت سواء كانت شهر رمضان في شهر رجب أو في رمضان أو في محرم وما يحصل عند بعض الناس من تأخيرها إلى رمضان هو تأخير للواجب عن وقته لكن الكلام في الصدقات المستحبة يجب على الإنسان أو يحسن به أن يسارع وأعظم ما يكون ذلك في مثل هذه الأوقات الفاضلة.
قال: (وَزَمَنٍ وَمَكَانٍ فَاضِلٍ) الزمن الفاضل مثل عشر ذي الحجة، فهو من أعظم ما ينفق فيه ويبذل، ومثل ذلك ما يكون من في آخر الليل، وفي زمن حاجة الناس، وفي المكان الفاضل كأن يكون بمكة، فكلما كان مكانًا فاضلًا أو زمانًا فاضلًا، فالنفقة فيه أكد وأفضل.
قال: (وَوَقْتِ حَاجَةٍ أَفْضَلُ) إذا احتاج الناس، وعمت المجاعة، فما أحسن من سد عوزهم، والقيام عليهم، وبذل المال لهم، فإن في مثل ذلك تتمايز النفوس، فإذا احتاج الناس وضاقوا، منهم من يدخر ويجمع لنفسه خشية أن يدركه الفقر والفاقة والجوع والخوف، ومن الناس من لا يزداد إلا بذلًا، ولا يحمله ذلك إلا إحسانًا، تضحيةً وتفقدًا لحاجة المحتاجين، فمثل هذا أعظم ما يكون من الخير، والنبي لَمَّا وفد إليه وفد من الأعراب، وعليهم رقاع مقطعة، وأحوال يضيق لها الصدر، تمعر وجهه ، ودعا الناس إلى الإنفاق، فمنهم من يأتي بهذا، ومنهم من يأتي بالتمرة، ومنهم من يأتي بالشيء القليل، حتى إذا جاء ذلك الرجل بما ثقلت به يداه، فوضعها فتتابع الناس بالخير، فتهلل وجه رسول الله كأنه وجهه مذهبة، يعني من فرحه بهذا، وقال الحديث المشهور: «مَنْ سَنَّ في الناس سُنةً حسنة كان عليه أجرها ووجه من عمل بها إلى يوم القيامة» فكان هذا الإحسان أتم ما يكون وأفضل.
ولذا ينبغي لنا أن نكون قدوة حسنة، وهذه الأبواب التي يتداعى الناس إليها في السوشيال ميديا أو نحوها إذا ملئت بالإحسان ونقل الناس ما رأوه من بذل وإنفاق فإن ذلك مدعاة إلى كثرة هذا البذل وزيادة في هذه التضحية تماهى في الخير وقصور عن أبواب الشر والإنفاق فيه والتزيد من سبل الشيطان وما يكون عليه التبعة عند الله -جل وعلا- في الآخرة
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (كِتَابُ الصِّيَامِ.
يَلْزَمُ كُلَّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ)
}.
قوله: (كِتَابُ الصِّيَامِ) بعد أن أنهى المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بـ (كتاب الزكاة) شرع في (كِتَابُ الصِّيَامِ)؛ لأنه ثالث شرائع وركائز وأركان الإسلام، «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان» فهو ثالث هذه الشعائر بعد الشهادتين، وهو من العبادات التي تعبد بها العباد، الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام، وإذا عددناها مع الأركان بعامة فيكون رابعها.
والصيام من أعظم الأعمال عند الله -جل وعلا- وله خصيصة لا يساويها سائر الأعمال، وهو أن النبي قال في الحديث القدسي: «إِلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» قال أهل العلم: اختصَّ الله -جل وعلا- بالصوم دونما سواه فما سبب هذه الخصيصة؟
منهم من يقول: إنَّ الله اختص به هذه الأمة فلم يشاركها فيه غيره، ومنهم من قال: إنه من الأعمال التي لا يدخلها الرياء؛ لأن الأصل أنَّ الصائم لا يُرى، لأنَّ المصلي إذا صلى قام وَرُئيَ على هيئة يُصلي فيها، والحاج إذا حج أيضًا كذلك يُرى، لكن الصائم ليس له حال تخصه يتبين أنه فيها صائم، ولا يتعلق الأمر بغيره، كالزكاة مثلا، فيعطي أحدًا صدقة فيراه الناس. فكان ذلك من أعظم ما يُؤجر عليه المرء ويثاب، ولذلك جاءت فيه أحاديث كثيرة، وفي فضله فضائل عظيمة، ونحن نقول: إنه مما ينبغي لطالب العلم في الصلاة والزكاة والصيام -وهذا ذكرناه سابقًا، ونعود فنذكره الآن- أن يحفظ من فضائلها ما يكون سببًا لحث الناس عليه، وتقريبهم له، وبيان ما فيه من الفضل، «لِلصَّائمِ فَرحتانِ: فَرحةٌ عِندَ فِطرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» وها نحن قد رأينا الفرحة الأولى، ونسأل الله أن يُرينا الفرحة الثانية.
وكذلك «لَخُلُوفُ فيه أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ» أحاديثٌ كثيرة في فضل الصيام، وما أعدَّ الله للصائمين، فذلك من أعظم ما يكون.
"وصام، يصوم، صيامًا"، وهو الإمساك، والمقصود به الإمساك عن الْمُفَطِّرَات من طُلوعِ الفجر إلى غروب الشمس، تعبدًا لله -جل وعلا-، فهذا هو الصيام.
ومشروعيته بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فإن الله -جل وعلا- قال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فهذا دليل وجوبه وتعينه، والسنة في ذلك كثيرة جدًا، أشهرها حديث ابن عمر «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ» وإجماع المسلمين مُنعقدٌ على ذلك.
ويعرف الصيام الجاهل والعالم، والصغير والكبير، على حدٍّ سواء، وهو مما علم من الدين بالضرورة، والصيام أول ما بدأ كان على سبيل التخيير، ثم جاء على سبيل التعيين، وكان الصيام أول ما فُرض، أنه إذا أذن المغرب فإن الناس يُفطرون إلى العشاء، وإذا نام أحدهم أمسك، حتى إن قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ جاء إلى أهله بعد أن تعب، وكان صائمًا، فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: لا، ثم ذهبت تبحث له عن طعام، فجاءته بشيء إلا أنها وجدته قد نام، فأمسك إلى اليوم الثاني، فلحق به تعب وأغمي عليه.
فذكر ذلك للنبي فنزلت آية الصيام في التخفيف ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ فكان ذلك تخفيفًا على الناس، وهو الذي عليه استقر الأمر في الصيام.
والصيام واجب على الحال التي يعلمها الناس، أنه إذا أذن المغرب جاز لهم من المفطرات كلها، ولم يحرم عليهم شيء، سواء ناموا أو بقوا، وذلك إلى أن يطلع الفجر، ولمن أراد أن يأتي أهله جاز، ولهم أن يفعلوا مما أحل الله لهم ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة:187]
{أحسن الله إليكم، نكتفي بهذا القدر}.
لعلنا أن نكتفي -وإن شاء الله- يكون بداية الدرس القادم، وبداية مسائل الصيام، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{جزاكم الله خيرًا، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة -إن شاء الله- إلى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244).
[2] أخرجه البخاري (6715)، ومسلم (1509).
[3] رواه مسلم (1072).
[4] أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844) واللفظ له، وأحمد (16279)..
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك