الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

15574 18
الدرس التاسع

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم.
أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد بمجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم، نستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الْجَنَائِزِ: تَرْكُ الدَّوَاءِ أَفْضَلُ، وسُنُّ اسْتِعْدَادٌ لِلْمَوْتِ، وَإِكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِهِ، وَعِيَادَةُ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُبْتَدِعٍ وَتَذْكِيرُهُ التَّوْبَةَ وَالْوَصِيَّةَ) }.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتم علينا وعليكم نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيُّها الإخوة المشاهدون؛ لا يزال الحديث موصولًا في هذا الكتاب المبارك، وفي هذا المتن الذي جرى به الركبان، وحصلَ به النفع الكثير مع اختصار لفظه وسهولة عبارته، وما اجتمع فيه مما لم يجتمع في غيره، وها نحن انتقلنا إلى (كتاب الجنائز) وكنا قد دلفنا فيها قليلًا، لكن لعلنا أن نبتدأ من أولها، ليكون ذلك أتم للكلام في الابتداء والانتهاء.
أيُّها الإخوة؛ أولًا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتاب الجنائز بعد كتاب الصَّلاة، لأنه مشتمل على الصَّلاة على الميت، ولما كان مشتملًا على الصلاة على الميت فالصلاة على الميت نوعُ صلاةٍ، فناسبَ أن يذكرها كتاب الصلاة، ولما كان للصلاة على الميت مكمِّلات سواء كان ذلك في الغسل أو التكفين، أو كان ذلك في مقدمات الموت وما يكون لمن نزل به الموت، أو كان ذلك في الحمل والدَّفن وما يتبع ذلك من نفقات؛ جمعها الفقهاء في محل واحد وجعلوها في كتاب هو في هذا الكتاب.
والجنائز: جمع جنازة، يقال جنازة بكسر الجيم وفتحها.
بعضهم يقول: إنه بالكسر اسم للميت. وبالفتح اسم للسرير أو النعش، وبعضهم يقول بالعكس؛ فالأمر في ذلك فيه سعة كبيرة جدًّا.
وهذا الكتاب الذي ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو كتاب الجنائز، ما أسهل قراءته، وما أسهل دراسته، وربما كانت مسائله في الجملة أيسر من غيره، غير أنه ما أعظم حصوله، وما أعظم نزوله، وما أشد ما يعرض للإنسان فيه، وما يكون من تغيُّر الحال ونزول الأمر، وفيه من العظة والعبرة ما لو استحضرناه لكان نعم الواعظ للقلوب والمحرك للنفوس، وإننا لندرس الكتاب من أوله إلى نهايته وكأن ذلك يمرُّ بغيرنا ولا يحصل لنا، وكأن الموت ومقدماته وما يتبعه، وما يكون فيه وما يعالَج من أحوال، وما يكون من حمل ودفن، إنَّما يحصل على الغير، وكأن الإنسان بمنأى من ذلك! وما هو إلا حاصل عليَّ وعلى غيري! لا ينفك الموت عن حصوله لكل أحد، فهو أعظم عبرة وعظة، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾ [الرحمن 26 – 27].
فإذا درس الطالب هذا الكتاب؛ فإنه يستحضر ما فيه من المسائل، ويستحضر ما فيه من العبر والعظات، ويستحضر ما هو معرَّض له فيه من حصول الموت به، أو حصوله بقريبه، أو حصوله بأحب الناس إليه، فيكون ذلك سببًا لحصول الخير والقرب من الطاعة، والبعد عن المعصية والسيئة، وسيأتي ذكر ذلك في قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِهِ) ، لكن ابتدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بقوله: (تَرْكُ الدَّوَاءِ أَفْضَلُ) ، هذه مسألة مشهورة عند الفقهاء، وهي حصول التداوي للمريض، وطلب العلاج للسقيم، هل هو مستحب أو واجب؟ وهل هو مباح أو مكروه؟ وفي ذلك تفاصيلٌ للفقهاء.
وأكثر ما يقال في ذلك على نحو ما ذكرنا في المجلس الماضي: أنَّ الأمر فيه سعة، وفيه فرجة للمسلم، والنبي تداوى، قال : «فتداوَوْا ولا تتداوَوْا بحرامٍ» ، وتقول عائشة -رضي الله تعالى عنها: "عرفت الطب من كثرة ما تطب برسول الله "، لكن مع ذلك هل تركه أولى؟ وهو أكمل في التوكل وأتم أم لا؟
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مشى على أنَّ تركه أولى، وأنه أتم في التوكل على الله -جَلَّ وَعَلَا-، وأصل ذلك حديث السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فإنه ذكر من صفاتهم: «هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ، فلمَّا ذكر عدم استرقائهم -يعني عدم طلبهم للعلاج- لأنَّ الرقية من أكثر ما يحصل به العلاج، إلا أنَّ بعض الفقهاء كما هو حال بعض المحققين من العلماء قالوا: إن هذا إنَّما هو في الرقية بخصوصها، وذلك لِمَا جُبلت القلوب من الانصراف أو الالتفات إلى الرقية، والتَّعلق بها المنقص للتوحيد والتوكل على الله -جَلَّ وَعَلَا-، وأمَّا ما سوى ذلك من الأدوية والعلاجات والذِّهاب للأطباء وبذلِ الأسباب لا يبلغ مبلغها في ركون القلب إلى ذلكم السبب والانصراف عن الله -جَلَّ وَعَلَا-، فلم يكن غيرها مثلها، فلأجل ذلك فرقوا بين طلب الرقية وما سواها من الأدوية، كما فرقوا أيضًا بين طلب الرقية وحصول الرقية، سواء الرقية الإنسان لنفسه أو أن يرقيه غيره بدون ما طلب، فإن ذلك أيضًا لا يكون مانعًا من حصول هذا الأجر والدخول في هذا الوعد من الله -جَلَّ وَعَلَا- بدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب.
فإذا تقرَّر ذلك؛ عُلم أن باب الأدوية فيه سَعة وفيه فسحة للعباد، يتداوون ويطلبون بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- ما يكون مخففًا لآلامهم، مذهبا لأسقامهم، طالبين في ذلك سلامتهم، فإذا صحَّت للعبد نية في ذلك بأن يستعين على الطاعة، وأن يطلب بذلك القربة إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- والقوة على الحسنات؛ فإن ذلك أتم ما يكون، ولذلك جاء في الحديث عن النبي أنه قال: «اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك؛ يَنكَأُ لك عَدُوًّا، أو يمشي لك إلى صلاةٍ» ، فإذا تداوى الإنسان بذلك القصد فإنه يكون أتم وأكمل.
ربما كنا ذكرنا مسألة متفرِّعة على هذه المسألة وهي من الأهمية بمكان لكثرة وقوعها وحصول الحرج فيها، وربما كان ذلك على نحو ما ذكرنا في المجلس الماضي أنه محل بحث، وذكرنا لها أو عرضنا لها إنَّما هو على سبيل التَّفقه والمدارسة لا على سبيل التقرير والمجادلة، وهو أنه مَن ابتُلي بما يسمى عند المتأخرين بالموت الدماغي وحاجتهم إلى مجموعة كبيرة من هذه الرعاية الطبيَّة، وما يتبع ذلك من الأجهزة وما يتبع ذلك من الكلفة ربما كانت كلفة على بيت المال، وربما كانت كلفة على أهله، ويتبع ذلك أشياء كثيرة ويتحرَّج الأطباء وذوو الميت مع ما يلحقهم من العنت والمشقة في بقاء هذا الرجل لا هو حي ولا هو ميت، وربما طالت المدة فبقي سنة أو أكثر، وربما تجاوز ذلك إلى أعوام كثيرة، ولربما جاز العشر سنوات على تلك الحال، كما هو واقع في بعض الأحوال، ويتحرَّج الناس من رفعِ هذه الآلات عن ذلك المريض.
فنقول: قرر بعض المتأخرين من العلماء أنه راجع إلى هذه المسألة، فإذا قلنا: إنَّ التداوي ليس بواجب، فإنه لا يلزم من ذلك إبقاء هذه الأجهزة على ذلك الرجل فترفع، وإذا انضم إلى ذلك ما يكون من حاجة غيره إليها، وربما كان سببًا لتفادي بعض التَّدهور في حالته، أو حصول ما لا تحمد عقباه من الموت وغيره، وربما كان في ذلك أيضًا فسحة للأطباء في مراعاة مَن حاله أكثر استجابةً وإمكانًا للحياة؛ فإن ذلك يتأكَّد ما ذكرناه من أنه في رفعِ هذه الأجهزة مندوحة، وفيما ذكره السابقين مستمسَكًا لا يضعفُ عن القوة، ولا يبعد عن الاستدلال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وسُنُّ اسْتِعْدَادٌ لِلْمَوْتِ، وَإِكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِهِ) }.
الاستعداد للموت من حيث الاستحباب فإنَّما هو بالتكثُّف بالطاعة، والاستعداد للموت بالتَّخلص مما يخافه الإنسان، مما يكون مُتعلقًا برقبته، أو يخشى بقاءه في ذمَّته، فإذا كان عنده ودائع ردَّها، وإذا كان عنده أمور متعلقة خلَّصها، وإلا فإنَّما يكون من إتيان الواجبات وفعل الفرائض والمأمورات والبعد عن المحرمات والمنهيات فإن ذلك واجب على العبد في كل حال، لكن كلما كان الإنسان أكثر استحضارًا للموت واستعدادًا له بالتكثُّر من الطاعة وبتجديد التوبة وبالبعد عن المعصية وبالخوف ممَّا يخاف ضرره أو عدم نفعه في أمور الدنيا؛ فإن ذلك هو نوع من الاستعداد الذي ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
قال: (وَإِكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِهِ) ، ما أحسن أن يكثر الإنسان ذكر الموت، وذكر الخلاص من هذه الدنيا، وافتلات الأرواح وانتهاء الأنفاس، والقدوم على الملك العلام، وأن يرتهن الإنسان في قبره، وأن يُوقف بعمله وألا ينفعه إلا ما قدمه، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، فإذا كان الإنسان كثير التَّذكُّر لذلك؛ كان أقرب لربه وأبعد عن هواه وأسرع إلى طاعته، وأبعد عن معصية نفسه وشيطانه، وأفزع من السوء، وأمنع من الشر، وأسرع إلى البر، وأسهل عليه في البذل، وكل ذلك مما يزيد العبد من طاعة الله -جَلَّ وَعَلَا-، ولذلك كانت وصية النبي : «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللذاتِ، الموتِ» ، فكل اللذائذ الدنيا وشهواتها وكل ما فيها من زخرفها وزينتها فإنه يذهب ويتلاشى عند أول محطة مما ينزل بالإنسان من عاهة، أو يقع به من مرض، أو يتقدم به من ضعف، فضلًا عما ينزل به من الموت، وما يعالج من السكرات، وما ينزل به من افتلات الأرواح وذهاب الحياة، فإكثار الإنسان من ذكر الموت هو عنوان فلاحه، وسبب نجاته ونجاحه، وإقبال الإنسان على دنياه والتَّكثر فيها والتَّزين بزينتها وطلب شهواتها، فإنَّما ذلك سببٌ لذهاب الموت عن قلبه، وإذا ذهبَ الموت عن قلبه وفكرته؛ أقبل على ما يكون به عصيان ربه، وما يكون به طاعة هواه، وما يكون فيه القرب من شيطانه، ولا تسأل عما يكون من حال المرء، ولا ينطبق على الإنسان إلا قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: 20]، أمَّا من تذكر الموت فإنه عن ذلك يُحجم، وعن السيئات يمتنع، وإلى الصالحات يقبل، ويطلب رضا الله -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِهِ، وَعِيَادَةُ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُبْتَدِعٍ وَتَذْكِيرُهُ التَّوْبَةَ وَالْوَصِيَّةَ) }.
إذا مرض المسلم، ونزلت به علَّة؛ فإنه من حق المسلم على أخيه أن يُعاد، وأن يُؤتى إليه، وأن يُطلب له الشِّفاء، وأن يؤانَس فيما نزل به من الشِّدة، وفيما يعالجه من التَّعب والألم، وهذا قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعِيَادَةُ مُسْلِمٍ) ، راجعة إلى الأمور المستحبة، وربما ذكر بعض أهل العلم أنَّ ذلك واجب على الكفاية؛ بل لربما ذكر بعضهم أنها متوجِّبة وجوبَ عينٍ، وهي رواية عند فقهاء الحنابلة وقال بها بعض الفقهاء، وذلك لأن هذا من عموم ما يكون بين المسلمين، فكما قال : «إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضً» ، وما في معنى هذه الأحاديث من إخوة أهل الإسلام، وولاية بعضهم لبعض.
والإنسان إذا ضعف ونزل به المرض، فربما نفرَ منه بعضُ مَن حوله، وربما طال عليهم العنت بملازمته أو البقاء عنده؛ فإذا كان أهله، وذووه، وجيرانه، وأصحابه، ومَن علم بحالته مِن المسلمين، يعوده مرة بعد مرة، ويقضي عنده ساعة أو برهة؛ فإنَّ ذلك مما يجلِّي عنه مرضه، ويذهب عنه ألمه، ويسليه فيما نزل به، وهذا حال أهل الإيمان.
والعيادة -كما يقول أهل اللغة- إنها خلاف الزيارة، فإنَّها تكون أقصر وقتًا، ويطلب فيها ما يكون من البُكرة أو العشية، ولا تكون في الليل إلا في رمضان، وفي هذا تفاصيل للفقهاء، وغالب ذلك أنه راجع إلى عادة الناس، لكنهم ذكروا ما اعتادوه وما ألفوه في الجملة، فيُنظر في ذلك، إذا كان لكل بلد عادة فهم على ما اعتادوه، إذا كان ثَم ترتيب لوقت معين كما يحصل في بعض المستشفيات أو لبعض المرضى فهو كذلك، لكن ينبغي أن يُعلم أن بعض مَن يكون عندهم من المرضى يخصِّصون وقتًا لعيادته، مع أنه قد يحتاج إلى وقت أطول من ذلك ليسلي عنه ما نزل به، فينبغي ألا يُتَّخذ ذلك بمنأًى من رأي المريض وطلب نظره، إذا كان هذا هو الذي يناسبه وإذا كان هذا هو الذي يريحه فعلوا، وإن كان غير ذلك فإنهم لا ينبغي أن يحجِّروا على المريض مَن يأتي إليه ويمنعوه ممن يعوده، طلبًا لفراغ أوقاتهم أو انطلاقهم في حياتهم، فإن ذلك من الإساءة مريضهم.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مُسْلِمٍ) يُخرج الذمي، فإنَّ الذمي عند الفقهاء لا يُعاد، لأنَّ في ذلك إعزاز له وهو مطلوب إهانتهم كما جاء في الآية وفي السنة، لكن قال بعضهم كما هو قول ابن تيمية وجمع من أهل العلم: إنه إذا رجي إيمانه وكان في ذلك المصلحة فإنه يُعاد، كما عاد النبي ذلك اليهودي في مرضه، ودعاه إلى الإسلام فنظر إلى والده فقال له: أطع أبا القاسم، فتشهد ثم مات، فقال النبي : «الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» .
قال: (غَيْرِ مُبْتَدِعٍ) ، أهل البدع والضَّلالات والذين يحدثون في دين الله -جَلَّ وَعَلَا- ما يكون من السُّوء والسيئات كسَبِّ آلِ النبي أو صحابته، أو تأويل الأسماء والصفات، أو غير ذلك من الأمور التي يكون فيها بلاء وشدَّة، ناهيك عمَّن يُسوِّقون لتعظيم الأموات، والتوسُّل بهم من دون الله -جَلَّ وَعَلَا-، فإنه حق أن يمتنع من زيارتهم، تأديبًا لهم، وحتى يرجعوا عن سيء فعلهم، وما ابتدعوه مما ليس في دين الله -جَلَّ وَعَلَا.
وهجر المبتدع والبعد عنه له أصل في الشرع، نظرًا إلى ما يحصل به المصلحة، فإذا كانت المصلحة حاصلة بذلك لقوة أهل الدين والشرع ويكون بها الردع والمنع فُعِلَت، وإن كان غير ذلك فربما كان في زيارتهم وتأليف قلوبهم ما يكون فيه الخير، فيمتنع عمَّا أقبلوا عليه من بدعة أو عظَّموه من محدثة، ويكون ذلك سببًا لاستصلاحهم وعودهم إلى طاعة ربهم.
ثم يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتَذْكِيرُهُ التَّوْبَةَ) ، التذكير بالتوبة لا شك أنه يطلب من كل أحد، والمريض حال مرضه أحوج ما يكون إلى ذلك، فإنه ما يدري ربما اشتدَّ مرضه فافتلتت روحه، وربما قربت ساعته، فذهبت أيام حياته، فكانت توبته جابَّة لذنوبه، مذهبة لسيئاته، ممحصة له في إقباله على ربه، فلا شكَّ أنَّ ذلك من أعظم ما يكون.
وربما يقول بعضهم: إن في هذا تخويف للمريض أنه سيموت!
نقول: الفقهاء كما أنهم ذكروا هذه المسألة؛ فإنهم قد قالوا: إنه يذكر له ما يكون له فسحة في أجله، فيقول له: هذه العلة أصابت فلانًا وسَلِم، وها هو يذهب ويجيء، وبالأمس تزوج وبالأمس ذهب واشترى وباع؛ إلى غير ذلك من الأمور التي فيها تأنيسٌ له وفسحة بأن هذه الأمراض تذهب، وأن هذه العاهات تزول، وأن الشفاء منها حاصل، ويكون في ذلك سلوة للقلب، لكن لا يمنع من الأمر بالتوبة، وأن التوبة تجب علينا وأن هذه العوارض مذكرات لنا، وأن الإنسان يعرف أن نفسه ضعيفة، وأن حياة القوة ذاهبة، وأنه أحوج ما يكون إلى أن يتقوَّى بطاعة ربه، ففيه كلام ينفع للصَّحيح كما يتذكر به السَّقيم، ويحصل بذلك الموعظة، ويتأتَّى بذلك ما يطلب لهذا المريض من التَّزوُّد للآخرة.
وبهذه المناسبة حصلت لي قصة نافعة، وربما كان في قولها بعض وقت لكن لا تخلو من فائدة عظيمة: لما انتهيت من صلاة الجمعة ذات يوم رأيت أحد جماعة المسجد وإذا هو متعب كثيرًا، فاطمأننت على حاله، وسألته عن أمره، قلت له: تذهب إلى عملك؟ قال: لا. قلت: رتَّبت أمورك -وأنا أقصد بذلك أن لآخرته- وكأن هذه الكلمة وقعت منه موقعًا، فقال: "اشهد أني أوقفت ثلث مالي وخمسة مساجد"، مع أن هذه لها مسألة في نفاذ ما زاد على الثلث، لكن لئلا أشغِّب عليه وأدخله في التفاصيل لم ندخل في مثل هذه الأمور، فقلت لواحد بجانبه: تسمع ما قال؟ قال: أسمع. قلت: اشهد؛ فشهد، فسأله عن اسمه واستوثقنا ذلك الأمر، ما هي إلا أيام قليلة حتى لقي الله -جَلَّ وَعَلَا-، وكان في تذكره بكلمة كانت عارضة ولم تكن صريحة ولا واضحة، غير أن أولي النهى ومن أراد الله به خيرًا تذكر وتنبَّه، وتزوَّد لا وتكثَّر من طاعة الله -جَلَّ وَعَلَا-، ولذلك قال: (وَتَذْكِيرُهُ التَّوْبَةَ وَالْوَصِيَّةَ) ، والوصية ينبغي أن يفعلها كل مسلم طلبًا للتزوِّد في الآخرة، والتَّخلص من الحقوق في الدنيا، فإن كان عليه حقٌّ واجب كانت واجبة عليه، وإن كانت لديه أمانات وجب عليه التَّنبيه عليها حتى ترد إلى أهلها، وإن كان غير ذلك فإنَّما هو يتكثر من الطاعة، قال : «إنَّ اللهَ تصَدَّقَ عليكم عِندَ وَفاتِكم بثُلُثِ أموالِكم» ، فيتصدق بثلث ماله أو أقل، فينقص إلى الخمس كما سيأتينا بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في موضعه، وهو الذي ارتضاه الصحابة كما ارتضاه الله -جَلَّ وَعَلَا- له في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: 41]، فذكروا أنَّ الخمس أتم؛ لأنَّ النبي قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ» ، فعلى كل حال؛ ينبغي أن يتزود الإنسان لنفسه، فإنه لا أحد ينفعه سوى عمله، ولا أحد يبقى له إلا ما قدَّم بين يديه، وأعظم ما يكون ذلك فعل الصالحات في أيام الحياة، والوصية بما أفاضَ الله عليه، وجعل له فيه فسحة بالثلث بعد الممات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذَا نُزِلَ بِهِ سُنَّ تَعَاهُدُ بَلِّ حَلْقِهِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ، وَتَنْدِيَةُ شَفَتَيْهِ، وَتَلْقِينُهُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" مَرَّةً، وَلَا يُزَادُ عَنْ ثَلَاثٍ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيُعَادَ بِرِفْقٍ) }.
قال: (فَإِذَا نُزِلَ بِهِ) يعني إذا نزلت به شدَّة الموت وسكراته، وهي في الغالب أحوال يعرفها من يعالج هؤلاء ويكون حولهم، وهي حال شديدة، وحال عظيمة، وحال عصيبة، ينزل فيها بالمرء ما لا يُستطاعُ دفعه ولا يقدر على رفعه، وفيها من تحرُّك النَّفَسِ وطَيْشِ الحال، وذهابِ النَّظرِ وشدَّةٍ الله أعلم بها، نسأل الله أن يخفف عنا وعنكم، وقال النبي «إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنكُم» وكان يقول: «إنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» ، فهذا هو النزول.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- قال: (فَإِذَا نُزِلَ بِهِ) يعني: نزل به الموت، الفعل مبني للمجهول يعني يراد به الموت، أو يقال (فإذا نَزَلَ به) إشارة إلى أن الموت متقدم قبل ذلك بمسألة.
قال: (سُنَّ تَعَاهُدُ بَلِّ حَلْقِهِ) ، لأنه ينشف، والمطلوب هو الإحسان إلى هذا المريض، والإحسان في تخفيف ما يشتد عليه، وربما كان في حالٍ لا يستطيع التعبير عما في نفسه، ولا يفصِح عما يشتد عليه من ألمه، فكان تعاهده بهذه الأمور التي تُذهب عنه حشرجةً في صدره، وشدةً في حلقه، وتسهِّل عليه جريان نَفَسِه وريقه، فلأجل ذلك قال: (تَعَاهُدُ بَلِّ حَلْقِهِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ) .
قال: (وَتَنْدِيَةُ شَفَتَيْهِ) ، فإنكم تعلمون أن العبد إذا اشتدَّ به أمر حتى في غضب ليس فيه مرض، فكيف إذا كان في سكرة الموت وشدَّته ومعالجة الموت ما يتبعه، فإنه يكون في شفتيه من النَّشاف والجفاء ما يُحتاج معه إلى تندية وتخفيف، ولذلك يقول الفقهاء: وينبغي أن يليه من أهله أشفق الناس عليه، لأنَّ هذه الحال حال شديدة، هو لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه، وربما لا يستطيع من يعالجه أن يرأف به وأن يصبر على طلبه؛ لأنه أحيانًا يمد يده، أحيانًا يتحرك بعض ريقه فيحتاج إلى تنظيف، وربما طلب طلبًا، وربما قال حولني إلى هذه الجهة، ثم طلب أن يحول إلى جهة أخرى، وربما أخرج صوتا لا يدرى أهو يطلب حاجة أم اشتد به ما نزل به من سكرة أو غير ذلك، وهذه أحوال معلومة، فلأجل ذلك كان رعاية الشَّفيق من أهله وصبره عليه وحسن نظره فيه من أهم ما يكون في ذلك.
ونُزل ببعض أهلنا هذه الحال واشتد بهم هذا الأمر، حتى رُؤِيَ من الأمور ما هو شيء عظيم، فربما تكلَّم بعض مَن حضر، فقلت لهم: إنه يعالج سكرته فارفقوا في صوتكم، وأمروه بصلاته، فإن الإنسان آخر ما يفقد سمعة، وربما يظن كثير من الحاضرين أن هذا المحتضر قد غابَ أو لا يُحسن شيئًا وهو يسمع ويفهم، لكنه يعجز أن يفصح عما في نفسه، فما هو إلا أن قيل له الصلاة الظهر، حتى سُمع منه أنه يقول: الله أكبر، فكبَّر ثم هي هنية حتى ذهبَ وأفضى إلى ربه الكريم في حالٍ أتمَّ ما يكون فيها، لكن هو إشارة إلى أن ما ينبغي من معالجة المريض في سكرته والمنزول به إذا نزل به موته مِن حُسن المعاهدة والشَّفقة به، والصَّبر على ما يعالجه، وحسن إدارة ذلك ما يكون فيه الخير لهذا الميت في أن يُختم له بخاتمة طيبة ويعان على ذلك، وما فيه أيضًا من الإحسان إلى هذا القريب بدفع ما يكون عليه من شدة وتخفيف ما يكون عليه من مكروه، بذهاب حشرجة صدره، أو إسماعه ما يسوءه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتَلْقِينُهُ) ، التلقين: هو التفهيم. يقال: لقَّن كما يقال: أكَّل، يعني أعطاه الأكل، والتقلين: أي أعطاه ما يقوله هو يتلوه، فإذا قلت له: "قل لا إله إلا الله" سواء -كما يقول بعض أهل العلم- بأن يقال له: "قل لا إله إلا الله" أو يقال عنده: "لا إله إلا الله".
والفرق بينهما: أن بعضهم يقول: لا تقل له: "قل" لأنه ربما كان في شدَّة فقال للشدة التي هو فيها "لا" لا امتناعا من فضل هذه الكلمة وقولها، وإنَّما تأفف أو اشتدَّ أو قال: أنا في حال أشد أو غير ذلك، فظُنَّ أنه يرفضها، فلأجل ذلك قال بعض الفقهاء: إنه يقال عنده "لا إله إلا الله" فإذا كان في حال يستوعب ذلك فإن الغالب أنه تذكير له في أن يعيدها وأن ينطق بها، وعسى الله أن يختم لنا ولكم ولوالدينا وأحبابنا بـ "لا إله إلا الله" غير ثاقلين بها، ولا مُستعصية علينا، ولا يكون بيننا وبين ذلك شيئًا يمنع الختام بها.
قال: (وتلقينه لا إله إلا الله) ، بعضهم يقول: أيضًا تتبع بـ "وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله"، لكن ما جاء في الحديث «لقِّنوا مَوْتاكم لا إلهَ إلَّا اللهُ» ، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله هي تتمَّة لها، فمَن أقرَّ بالأولى حصل له الإقرار بالثانية.
قال: (وَلَا يُزَادُ عَنْ ثَلَاثٍ) ، يعني: سواء قلنا: إنه يقول له: "قل: لا إله إلا الله" أو قال: "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله" لئلَّا لا يضجره، ولما ذكرنا أنه يكون في حال شدة، فربما كان ذلك سبب لضجره فيتفوَّه بما يكون به حصول سوءه، أو ردِّ هذه الكلمة ومنعها، أو سوى ذلك مما لا يُطلب أن يختم للعبد به من تأوِّهٍ أو كلمةٍ سيئةٍ أو حتى ما يوجِّهه إلى من لقَّنه وذكره.
قال: (إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ) ، لكن لو تكلم فيعاد عليه "لا إله إلا الله" حتى يقولها فيختم له بها، أو يطول الوقت، يعني هو قال: "لا إله إلا الله" ثم رجع فعاد ما نزل به من الموت واشتدَّ به من الأمر، فيذكَّر بعد ذلك لتكون أقطع بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في أن تكون آخر كلامه، غير أنه لا يُشق عليه بها لئلا يحصل ما يكون من المكروه، والنبي يقول: «مَن كان آخِرُ كلامِهِ لا إلهَ إلَّا اللهُ دخَل الجَنَّةَ» .
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَيَاسِينٍ عِنْدَهُ، وَتَوْجِيهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ) }.
قراءة الفاتحة راجعة إلى أصلٍ من جهة أنَّ الفاتحة مِن أعظم ما يحصل بها الرقية، والرقية يحصل بها تسهيل العلة، وذهاب المرض والفاقة، وربما كان بها إذهاب الألم، فيكون بها تسهيل خروج روحه وحصول خاتمته، وهي سماع لكتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-، وهي أعظم ما في كتاب الله، فكان في إسماعه لذلك خير كثير، كما جاء في الحديث: «والَّذِي نَفسِي بيَدِه، ما أُنزلَت سورةٌ في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ ولا في الزَّبورِ ، ولا في الفُرقانِ مِثلُه» ، وهي الرقية التي رقى بها أبو سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذلكم الرجل فشُفِي مِن بلائه وقام من لدغته.
وقراءة سورة يس، جاء ذلك في بعض الأحاديث مرفوعة للنبي من حديث معقل: «اقرَؤُوا (يس) على مَوْتَاكُم» ، والمقصود بقوله: «مَوْتَاكُم» ليس من مات، ولكن من حضره الموت، باعتبار ما يؤول إليه أمره، فإنَّها -كما قالوا- تُسَهِّل خروج الروح وشدَّة السكرات.
وهذا الحديث وإن كان فيه كلام لأهل العلم، واضطراب في بعض أسانيده، إلا أنه قد حُسِّن، كما أورده الحافظ ابن حجر في أحاديث "بلوغ المرام"، وكأنه على سبيل الاستشهاد به والاعتبار، فإذا قُرأت كان فيها خير ونفع، لكن بما لا يرفع معه الصَّوت الذي يحصل معه الضَّجر، كما قلنا في قول "لا إله إلا الله".
ثم يقول: (وَتَوْجِيهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ) ، توجيهه إلى القبلة لا شك أنه سنة كما ذكر المؤلف، وفي ذلك تحصيل لما يطلب من حسن الختام، فإن النبي «قِبلتِكمْ أحياءً وأمْواتً» ، وجاء عن حذيفة أنه قال: "وجِّهوني" وجاء عن فاطمة -رضي الله تعالى عنها- أنها لبست أحسن ثيابها وطلبت أن توجه إلى القبلة، وقالت: "وإني الآن مقبوضة"، وجاء ذلك عن غير واحد من أصحاب النبي ومَن بعدهم؛ ذلك مستحبًّا ويتتابع على ذلك أهل العلم والفقهاء والصلحاء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا مَاتَ تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ وَشَدُّ لَحْيَيْهِ، وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ وَخَلْعُ ثِيَابِهِ) }.
لَمَّا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما يُعالج به المنزول إذا نَزَل به الموت، أراد أن يُبين الحالة الأخرى وهي إذا افتلتت روحه، وإذا انقضت أنفاسه، وإذا خرج من دنياه، وإذا أقبل على آخرته، وإذا بقي جثة هامدة، وجسدًا لا حراك به، وذهبت أيام حياته، ولقي الله -جَلَّ وَعَلَا- ربه، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا مَاتَ تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ) ، يعني: ذلك يسن لمن حضره، فإن كان الميت قريبًا لك أو حبيبًا فتغمضه، وإذا كان الميت أنا أو أنت، فإن ذلك يتولاه -بإذن الله- الصَّالح من إخواننا وأحبابنا، يقومون علينا أتمَّ ما يكون من رعاية الحال، وطلب ما يكون به سُنة خير الأنام، رحمة بهذا الميت الذي انقضت قوته، وذهبت حياته، وأصبح عرضة لمن حرَّكه، وقام عليه وأحسن إليه.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: من أعظم ما يكون في ذلك (تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ) ؛ لأنَّ هذا جاء عند مسلم في صحيحه لَمَّا مات أبو سلمة؛ فأمر النبي أن تغمَّض عينيه، قال: «فإنَّ البصرَ يتبعُ الروحَ» كما الحديث.
قال: (وَشَدُّ لَحْيَيْهِ) ، اللحيان: هما ما تنبت عليه اللحية، يسمى بذلك الآدمي وغيره من بهيمة وسواها، فشدُّ اللحيين في ذلك حتى يُحفظ لحيه أن ينزل فينفتح فمه فتدخل الهوام والدواب إلى داخله، والميت مصون كما هو في حياته، وحرمته ميتًا كحرمته حيًّا كما جاء في ذلك في ذلك الأحاديث، والميت إذا مات هجمت الدواب والهوام، وهذا من عجائب ما يصير من سُنن هذه الأكوان، فإنكم ترون الدَّواب ما أن تقتل سواء كان ذلك من بعض الحشرات كالثعابين أو الخنافس أو سواها، ما أن تضرب فتموت حتى تقبل النمل وسواها عليها وتأخذ حاجتها منه، وكذلك الآدمي، فإنه إذا مات ربما كان عرضة لتلكم والهوام، فشُدَّ لحيه لئلا تتسلَّط عليه الهوام وتدخل إلى داخله وجوفه.
قال: (وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ) ، إذا مات الميت تصلبت أعضاؤه، ولَمَّا كان ربما تصلَّب على حالٍ لا يكون بها مستقيمًا، فيكون في ذلك كما لو كان به عاهة، والحالُ أنَّ الميت يطلب به التَّمام والكمال، سواء كان ذلك في تهيئته وتغسيله، أو كان ذلك في تكفينه والصلاة عليه، أو كان ذلك في جعله في قبره، ورؤية الناس له في تلك الحال على حال يكون فيها مستقيمًا ومستكملًا، كما سيأتي من لباسٍ وغسلٍ وسواه، وما يتبع ذلك من الصلاة عليه والدعاء له، فتليين مفاصله؛ لئلا تيبسَ وتتصلَّب على حال تكون فيه هذه الجهة أو في جهة أخرى، أو تكون على حال لا ينبغي أن يكون فيها أو لا يسرُّ الإنسان أن يرى عليها حيا، فكذلك لا ينبغي ألا يطلب أن يكون عليها ميتًا، فتليين المفاصل بأن تحرك يديه هكذا، وتحرك أيضًا قدميه، وتحرك ساقيه وكل مفاصله، ثم يجعل مستقيمًا، فإن ذلك يعني مانعًا من التَّصلب الذي يعسر معه بعد ذلك التغسيل والتجهيز والتكفين.
{قال أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَخَلْعُ ثِيَابِهِ، وَسَتْرُهُ بِثَوْبٍ وَوَضْعُ حَدِيدَةٍ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى بَطْنِهِ، وَجَعْلُهُ عَلَى سَرِيرِ غَسْلِهِ مُتَوَجِّهًا مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْهِ) }.
أول ما يموت تخلع ثيابه؛ لأنها في الغالب أنه إذا تركت عليه وتيبس لصقت بجلده، وإذا لصقت بجلده ربما تعذَّر خلعها، وفي ذلك إفساد لها، وليس الناس كما هو الحال عندنا، وربما كانوا في بعض البلدان على نحو ما كان عليه آباؤنا من الفقر والفاقة، فالناس يحتاجون إلى هذا اللباس، وأهله أحوج ما يكونوا إليه، فهو من جملة ميراثه، فلما كان تركها وقتا يحصل بها أذية عليه ويحصل بلصوقها بجسده ويحصل بها أيضًا إفساد لها بعدم إمكان خلعها المفضي إلى شقِّها المفسد لها، وحفظ المال واجب، وعدم إساءة إلى الميت لازم؛ فكان خلع الثياب من أولى ما يكون أول موت الميت.
قال: (وَسَتْرُهُ بِثَوْبٍ) ، يعني: لا يترك، فإن حقه باقٍ وحرمته معظَّمة، فلا يُطَّلع له على عورة، ولا يُكشف له على عيبة، فيستر بثوب وذلك واجب ولازم ولا يجوز النظر، بل قال بعض أهل العلم: حتى سائر جسده لا ينظر ولا يؤبَّد إليه البصر إلا بقدر ما يحتاج إليه الغاسل، وإلا أن يمر الإنسان عينيه على الميت ويتفقَّد أجزاءه، فكما أنك وأنا وسائر الناس لا يحب أحد أن يطلع على داخل بدنه، ولا يرى ما ستره الله -جَلَّ وَعَلَا- من حاله في حال الحياة، فكذلك ينبغي أن يحفظ للميت حال الممات ذلك، فلا يطَّلع عليه ولا يكشف له ما يستحيا من إبدائه ولو لم يكن عورة يجب سترها، بل قال أهل العلم: وينبغي أن يكون في نحو خيمة أو فيما يحصل ستر جميع جنازته، فلا تكون في العراء، كما يحصل الآن أن يجعل في هذه المغاسل المهيئة والأماكن المغلقة، فإن ذلك سنة مذكورة عند الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
قال: (وَوَضْعُ حَدِيدَةٍ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى بَطْنِهِ) ، يعني وضع شيء يثقل على البطن، لأنَّ الميت إذا مات انتفخ بطنه، وعظُمت جثته، وهذا فيه شيء من مما يتقزَّز منه أحيانًا -بل غالبا- فحفاظًا للميت على الحال التي مات عليها فإنه إذا جُعل على بطنه شيء ثقيل كنحو حديدة أو ما قاربها وما ماثلها بما يمنع هذا الانتفاخ فإن ذلك مما يُعمَل للميت إذا مات، ولذلك قال المؤلف: (حَدِيدَةٍ أَوْ نَحْوِهَ) ، يعني ليس في خصوص الحديدة، وإنما فيما يمنع هذا الانتفاخ.
قال: (وَجَعْلُهُ عَلَى سَرِيرِ غَسْلِهِ) ، لئلا يجعل على الأرض فتقرب منه الهوام، فإذا جُعل على السرير فإن ذلك أحفظ له بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (مُتَوَجِّهًا مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْهِ) ، يعني بأن يكون على هذه الحال، وذلك ليسهل ويخرج ما تجهَّز وتحضَّر للخروج، وأيضًا حتى يكون ذلك أسرع تهيؤًا لغسله وتجهيزه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِسْرَاعُ تَجْهِيزِهِ، وَيَجِبُ فِي نَحْوِ تَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ) }.
إسراع التَّجهيز هذا من أعظم ما يحسَن إلى الميت، فإنَّ النبي كما في الحديث الذي في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: «أَسْرِعُوا بالجِنَازَةِ، فإنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وإنْ يَكُ سِوَى ذلكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عن رِقَابِكُمْ» ، فالإسراع بالجنازة سنة، ولئلا تترك فتتعفن، ولئلا تترك فيخرج من نتنها ويظهر من رائحتها، وفي ذلك عدم إحسانٍ إلى الميت وقيامٍ بحقه، لكن يقول أهل العلم: إلا أن يكون موته فجأة، فيقولون: إذا كان الموت فجأة فإنه يترك قليلًا، فلربما كانت إغماءة فأفاق منها، خاصة في الأزمنة الأولى التي لا يتأتى ما وُجد وجدَّ من الأجهزة التي يعرف بها انقطاع الحياة، وافتلات الروح ووقوف دقات القلب وغير ذلك، ولأجل ذلك حتى في هذا الوقت ترون أنه ما يسمى بالإنعاش، فيصعق ويحرَّك لعله أن ينعش قلبه فتعود إليه حركته، فإذا لم يكن كذلك؛ فإنَّ حياته قد ذهبت.
فالمهم أنه يعمل ما يُتيقَّن به حصول الموت، فإذا تيقَّن بنحو انتظارٍ إذا احتيج إليه، أو بما جدَّ من الآلات ما استحدث من الصناعات الطبية ونحوها، فحصل المقصود، فلا يبقى إلا الإسراع، فإذًا الإسراع متى ما تُؤكِّد من الميت هو السنة الماضية والذي ينبغي، ولا بأس أن ينتظر قريب أو ولي بما لا يكون فيه تأخير للجنازة أو تعفين لها، أو حصول جمع أكثر، بما لا يضر بتأخِّر الجنازة والإساءة إليها.
قال: (وَيَجِبُ فِي نَحْوِ تَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ) ، إذا كان فيه قضاء للدين فإن ذلك لا يكون مانعًا من الإسراع، بل قضاء الدين مطلوب أول موت الميت، وذلك لأنَّ قال: «نفسُ المؤمنِ معلقةٌ بدَيْنِه حتى يُقضى عنه» ، والنبي تأخر عن الجنازة لما علم أن عليها دين، فعُلم أنَّ ما أمكن من قضاء له قبل التَّجهيز أو قبلَ تقديمه للتغسيل والتهيئة والصلاة وما يتبعها مطلوب، وكذلك ما كان من تفريقِ وصيته وبذلِ ما أرادَ أن يُبذل مما أوصى به إن كان من صدقة أو سواها.
{أحسن الله إليكم لعلنا نكتفي بهذا القدر}.
الحمد لله، فيما أخذناه كفاية، الله لنا ولكم التوفيق والسداد، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا ولكم حسن الختام، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا التَّقصير والخلل، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- بمنِّه وكرمه أن يجعلنا ممن حضرت وفاتهم وهم أكثر ما يكون استعدادًا لها، وإقبالًا على اخرتهم وتخلصًا من الدنيا وحقوقها، وتخليًا من الذنوب وتبعاتها وأن يكون ذلك على توبة نصوح وكلمة "لا إله إلا الله" عليها نحيا وبها نلقى الله -جَلَّ وَعَلَا- ونموت ونسأل الله ألا يسيء خاتمتنا وأن يحفظنا ووالدينا وأزواجنا ذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
{اللهم آمين، جزاكم الله خيرًا ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك