الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

23747 18
الدرس الرابع

أخصر المختصرات 2

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم التسليم.
أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان في مجلس من مجالس العلم في شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
حيَّاك الله، أهلًا وسهلًا وحيَّا الله مشاهدين والمشاهدات.
{بارك الله فيكم وأحسن إليكم، نستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (صَلَاةُ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ وَيُسَنُّ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ مُبَاحٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجنبنا وإياكم الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بالله من مُضلاتها، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يحفظنا وأن يعصمنا، ونعوذ بالله أن نرد على أعقابنا أو أن نفتن، إنَّ ربنا جواد كريم، كما نسأله -سبحانه- أن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين، وأن يحفظ العباد والبلاد، وأن يصرف عنَّا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها الطلاب؛ لا يزال الحديث موصولًا في صلاة أهل الأعذار، وبعد أن أنهى المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- ما يتعلق بأحكام صلاة المريض ومَن في حكمه كالخائف ومَن ركب الطائرة ونحوه، بعد ذلك شرع المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في أحكام القصر، وأحكام القصر للمسافر هي من مسائل أهل الأعذار، حيث يقصر الرباعية وما يتبع ذلك من الجمع، على ما سيأتي بيانه وتفصيله -بإذن الله سبحانه وتعالى.
فقال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُسَنُّ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ)، إذًا أحكام القصر هي من المسائل المتعلقة بالمسافر، وأصل القصر جاء في السنة وفي القرآن، فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُو﴾ [النساء: 101]، والسنة القولية والفعلية جاءت كثيرة في قصر الصَّلاة للمسافر.
وهنا سؤال يعترض هنا في الآية، فإن الآية جاءت في تقييد القصر في السفر لمن خاف، فسأل بعضُ التابعين عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: لقد سألنا رسول الله عن ذلك، فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم»[1]، فاستقر القصر في لكل المسافرين إن خائفا وإن آمنًا في كل الأحوال لا يختلف في أن المسافر يقصر الصَّلاة.
ومن الأدلة القولية التي جاءت أن النبي قال: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، في الحَضَرِ والسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ في صَلَاةِ الحَضَرِ»[2] كما جاء في الصحيح: «علَى المُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وعلَى المُقِيمِ أَرْبَعًا، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً»[3].
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُسَنُّ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ)، ما جاء فيه التَّخفيف بالنسبة للقصر مقصور على صلاة الظهر والعصر والعشاء -التي هي أربع ركعات- أما صلاة الفجر فهي من الأصل ركعتان، فلا قصر فيها، وأمَّا المغرب فإنها ثلاث ركعات وهي وتر النهار، فمنع من القصر فيها لئلا يفوت خصوصية حصول الوتر فيها الذي شرعه الله -جَلَّ وَعَلَا- للعباد.
وأذكر في هذا شيئًا وكنت صغيرًا، وأظن أنني كنت في الصف الثاني الابتدائي، سمعت بالقصر فقصرت الصَّلاة كلها، فصليت الفجر ركعة، والمغرب ركعة ونص، المشكلة كان لدي فقه كثير، صليت ركعة والركعة الثانية بسجدة واحدة! والحمد لله! قبل أن أعرف ما ذكره الفقهاء أنَّ القصر للرباعية، فأحذر أن يكون أحدً يتفقه كفقهي فيضل كضلالي لَمَّا كنت صغيرًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُسَنُّ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ مُبَاحٍ)}.
السفر: من الإسفار، وهو الخروج من البلد، فكل من خرج من بلده فهو مسافر، فمن خرج من الرياض يقصد في ذلك مثلًا الدرعية التي هي قريبة من الرياض، أو في هذه الأوقات التحمت به؛ فهو يعتبر مسافرًا بمجرد خروجه من حدود الرياض، فقد أسفر -من الإسفار والظهور- فهذا يعتبر مسافرًا، ومن ذهب أبعد منه وهي عشرين كيلو أو قريبًا منها إلى العمارية فيعتبر مسافرًا، ومن ذهب إلى العيينة وهي أبعد من ذلك قرابة خمسة عشرين كيلو أو أكثر بقليل فهو مسافر، فهل مَن خرج إلى هذه النواحي يتعلق به حكم القصر؟
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (سَفَرٍ طَوِيلٍ) ما هو السفر الطويل وما هو السفر القصير؟
السفر الطويل جاء تحديده في السنة، وجاء تحديده في أقوال الصحابة، وهذا يجب أن يكون واضحًا جليًّا، فإنَّ النبي لَمَّا قال: «لا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَومٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مع ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَ»[4]، مسيرة اليوم والليلة هي بمثابة مسيرة اليومين، كما لو أنَّ واحدًا سار اليوم والليلة مُتصلًا، وأكثر ما يسيره المسافرون في عرف الأولين والآخرين أربعين كيلو في اليوم، أو قريبًا منها، يعني: من خمسة وثلاثين كيلو؛ لأن الأربع ساعات المشي وخاصة الذي معه رحل ويمشي مسافات طويلة، فهو ليس بنشيط في أول مرة، فقد يمضي أكثر من هذا، لكن المعتاد أنَّ كل أربع ساعات عشرين كيلو، والإنسان بأي حال من الأحوال لا يستطيع أن يسير في اليوم أكثر من تسع ساعات؛ لأن له حاجة في صلاة، وله حاجة في استراحة، وله حاجة في طعام، وله حاجة في قضاء حاجة، إلى غير ذلك من الأشياء.
فإذًا جاء هذا في السنة، وبيَّن ذلك الصحابة كما جاء عن ابن عباس، قال: "لا تقصُروا الصلاةَ في أدنى مِنْ أربعةِ بُرُدٍ مِنْ مكةَ إلى عُسْفَانَ"[5]، وذكرنا أنَّ معنى: "من مكة إلى جدة" هو مكة الأولى وجدة الأولى، لَمَّا كانت هذه صغيرة وهذه صغيرة فهما مُتباعدتان بقدر أربعة برُدُ، وجاء هذا عن غير واحد من أصحاب النبي أنها أربعة برُد، وهذا التحديد هو قول عامة وأكثر أهل العلم، أربعة برد التي هي ستة عشر فرسخًا، وكل فرسخ ثلاثة أميال، فإذا جيء إلى تحديدها بالأقيسة العصرية؛ فإنها قرابة الثمانين كيلو، بالأكيال التي يتعاطى بها الناس اليوم، والتي هي ألف متر، وهذه بالأقيسة الحالية تقريبًا محددة، فإذا كانت المسافة بهذا الحد؛ فإنه تُقصر فيها الصَّلاة، فمَن نوى وقصد مسافة بنحو ذلك فتقصر الصَّلاة.
كيف تحسب المسافة؟
تحسب المسافة إذا خرج من البلد، إذا فارق عامر البلد، يعني: البيوت المسكونة، أمَّا إذا كان في استراحات في أطراف البلد فيكون قد خرج، إذا كان في مزارع تعتبر خارج، إذا كان فيه أبنية مهدَّمة كما يوجد في كثير من القرى؛ فتعتبر خارج البلد.
والدليل في ذلك: حديث أبي بصرة الغفاري، لَمَّا ركبوا السفينة ومشوا قليلًا على الشاطئ أفطر؛ لأنه لا يمكن أن يتصور أن يوجد في البحر سُكنى، فيكون قد فارق البلد، فبمجرد المفارقة ولو كان لمتر واحد؛ فإنه قد شرع في السفر، فإذًا اعتبار المسافة من الخروج من البلد هذا هو المشهور في المذهب عند الحنابلة، وقول كثير من أهل العلم، وإن كان بعضهم يقول بالمنابر، معنى ذلك: لو كان مثلًا لو كان الإنسان يقطع ثمانين كيلو، لكن عشرين كيلو من هذه المسافة داخل المدينة (مع اتساع المدن وكبره)، فهذا لا يعد مُسافرًا، لأنَّ العبرة في المسافة من خروجه من عامر البلد إلى وصوله إلى البلد الأخرى.
الآن مثلا الرياض، اتسعت أرجاؤها، فلو ذهب الرجل من أقصى الشمال إلى جهة الجنوب فيمكن أن يمشي أربعين كيلو وهو لا يزال في الرياض، فنقول: هذه لا تعتبر، وإنما تعتبر المسافة من خروج الإنسان من البلد، فإذا بدأ في نحو مصانع وخرج عن أماكن السكنى، فيبتدئ في حساب المسافة، فإذا كان إلى مسافة تُقطع فيها أربعة بُرُد من ذلك الحد؛ فإنه يجوز له أن يقصر، ويعتبر ذلك السفر سفر تقصر فيه الصَّلاة.
هذا من الأهمية بمكان؛ وهو معرفة السفر الطويل الذي يتعلق به حكم القصر.
 كثير من الناس توجد عندهم إشكالات، هل يقصر في الرياض إلى الخارج؟ هل يقصر في كذا إلى كذا؟
أنا لن أتكلم من إلى الخارج، لكن أنا أقول: إن الفقهاء يقولون: إذا كان الإنسان يخرج إلى مكان لا يدري تبلغ مسافة القصر أو لا تبلغ فالأصل عدم القصر، فيعتبر سفرًا قصيرًا أو غير طويلٍ، فبناء على ذلك لا يتعلق بحكم القصر.
أمَّا إذا قطع الإنسان هذه المسافة منذ أن خرج من البلد؛ فيجوز له القصر في تلك الحال.
المسألة الثالثة ويمكن أن نطيل هنا؛ لأنَّ هذه المسألة يكثر عنها الكلام، ويكثر فيها الخلاف، ويحصل بين الناس فيها من الجدال في كل سفر وفي كل حال، ويبقون في كل سفرهم وهم يتحدَّثون عن المسألة، وإذا رجعوا أيضًا كل واحد يفتي بفتوى ويتحدث بحديث، فيُحتاج فيها إلى شيء من التفصيل:
إذا قلنا: إنَّ هذا الشخص يسير هذه المسافة فمتى يبدأ في القصر؟
الذي يحله القصر هو مَن يسافر هذه المسافة، لكن ليس من شرط المسافر أن يقطع هذه المسافة حتى يبدأ في القصر، لا، إذا كانت مسافة سفرك ثمانين كيلو تقريبًا -التي هي أربعة برد- فإنك يجوز لك القصر.
متى تبدأ في القصر؟
إذا بدأت في السفر.
متى تبدأ في السفر؟
إذا خرجت من البلد.
فإذا افترضنا أنك خارج من الرياض ووقفت في محطة تتزود من الوقود أو غيره، وأردتم الصَّلاة فتصلون قصرًا، لأنكم خرجتم من البلد، ولذلك جاء في الصحيح: "خَرَجْنَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَصَرْنَا الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَرَى الْبُيُوتَ، ثُمَّ رَجَعْنَا فَقَصَرْنَا الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَرَى الْبُيُوتَ"، فإذًا أحكام القصر منذ خروج الإنسان من البلد، وتبقى له الأحكام حتى قبل دخول البلد الذي سيستقر فيه ويقيم، هذا من المسائل المهمة.
ويتفرع على ذلك مسألة أكثر ما يكون فيها الخلاف، هل يقصر الإنسان في المطار أو لا يقصر؟
نقول: المطار لا يتعلق به حكم، وإنما الكلام في هل المطار خارج البلد أو ليس بخارج البلد؟
بناء على ذلك يختلف هذا من بلد إلى بلد:
- فالبلد التي يوجد المطار فيها داخل البلد -كجدة مثلًا- فمن خرج من أهل جدة إلى المطار لم يقصر؛ لأنَّ المطار داخل البلد، وهم لم يشرعوا في السفر فيخرجوا منه.
- وإذا كان المطار خارج البلد -كما هو الآن بالنسبة للرياض- فإذًا من خرج إلى المطار فقد خرج من البلد، فتتعلق به أحكام القصر وأحكام الرخصة فيجوز له القصر.
فنقول: إذًا آلة السفر ليس لها عبرة، كونك ماشي في السيارة ثم تمشي في الطيارة هذا لا متعلق له، ما علينا من أنك تمشي برجيلك ولا مرة راكب ولا كذا.
يقول واحد: لو خرج وطارت الطائرة فهل يقصر؟
نقول: ما دام أنه حين خرج قاصدًا مسافة القصر عازمًا عليها مستجمعًا لأسبابها فاستحق الرخصة، ثم إذا فاتت عليه الطائرة أو نحو ذلك كمثل الشخص الذي سافر مثلًا بالسيارة ولَمَّا خرج من البلد خربت عليه سيارته، وكان صلى الظهر والعصر، نقول: صلى الظهر أو العصر قصرًا وجمعًا حيث يجوز له؛ لأنه استجمع أحكام السفر الطويل، هو نوى السفر وسفر مباح -كما سيأتي- وهو طويل وخرج من البلد، فكونه عرض له ما يرجعه فهذا شيء آخر خارج عن العادة، لكن مَن خرج إلى المطار وهو لا يدري هل سيسافر أو لا أو سيجد رحلة أو لا؛ فهذا لم يجمع السفر إلى الآن، فبناء على ذلك قد يقال: إنه لا يتعلق به حكم القصر، كمَن ذهب يخرج ينتظر أحدًا يقلِّه أو يحمله، فقد يجد وقد لا يجد، فهذا لم يتعين السفر في حقه، فبناء على ذلك لم تتعلق به أحكام الرخصة.
هذه أهم المسائل التي يكثر فيها الكلام، والجدال بين الناس، وينبغي هنا ألا يفتح باب الجدال في المسائل، فمن أشكل عليه شيء فلا يخلو إما أن يكون من أهل العلم الذين يجتهدون فهذا شيء، وإلا يكون كذلك فإنه لا يعرض نفسه لكلام مَن مثله أو أقل منه علمًا، ولا يعرض عبادته للتخرُّص، بعض الناس يقول: إذا صلوا قصر أصلي معهم، صلوا تمام أصلي معهم! لا تهمه صلاته! هذه صلاتك التي تلقى بها ربك، إن أحسنتها أحسنت، وإن أسأت إليها أسأت إلى نفسك أيما اساءة، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها وموبقها، فانظر ما يخارجك! والحمد لله تيسرت من السبل ما تيسرت، فيمكنك أن تتصل على من تثق فيه من أهل العلم والديانة، فتسأله وهو أهل للسؤال والفتيا، فيفتيك فيطمئن قلبك وتبرأ ذمتك، وإلا فلا، ولا ينفع الإنسان أن يتعرض لهذا.
بعضهم بمجرد أنه يرى شخصًا في المطار عليه سمة خير أو ظاهر استقامة أو نحو ذلك فيسأله، ليس بالضرورة أن يكون حريصًا في ظاهر الأمر أن يكون أهلًا لذلك، وربما كان من هو دون ذلك أكثر منه قدرة أو علمًا ومعرفة بهذه الأمور، فينبغي للإنسان أن يحتاط في ذلك أيما احتياط.
أعرف أني أطلت في هذه المسائل لكن لكثرة الكلام فيها.
هذا هو كلام الفقهاء، والتحديد بأربعة بُرُد هو عامة قول أهل العلم، والانتقال إلى قولٍ سواه وإن كان مشتهرًا عند بعض الناس وهو قول ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في أنَّ السفر ما عده الناس سفرًا، فهذا مع أنه خلاف قول أكثر أهل العلم إلا أن هذا القول أيضًا فيه إشكالات من حيث فهمه ومن حيث تطبيقه. وسأبين ذلك:
الفقهاء لَمَّا حددوا أربعة بُرُد؛ قالوا: "ولو قطعها في ساعة" ساعة الفقهاء الأولى يعني البرهة، كأنهم مستشعرين أنه ممكن توجد طائرة، فالحد الذي ذكروه والتوضيح منتهٍ، المسافة وانتهينا، ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ يقول: إن الذي قال إن المسافة ما عدها الناس عرفًا هو نفسه الذي قال: المسافة الطويلة في الزمن القصير ليست سفرًا، فمن قال بقول ابن تيمية أو من ذهب إلى مذهب ابن تيمية يجب أن يُعمل قول ابن تيمية كاملًا لا أن ينتقي منه، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو محل للاجتهاد ومن أكثر أهل العلم فتقًا للعلم ودراسة له واجتهادا فيه، لكن لا يعني للإنسان أن ينتقي ما يشتهيه، ابن تيمية نفسه الذي قال هذا القول؛ قال: "والسفر الذي لا يؤخَذ له الزاد والمزادة لا يعتبر سفرًا"، فكثير بناء على قول ابن تيمية في السفر الذي حدَّه بالعرف من الأسفار التي اعتاد الناس الذهاب إليها ثمانين كيلو أو أكثر أو ما قاربها ليست عند ابن تيمية سفرًا، المسافات الطويلة التي تقطع في زمن قصير لا تعد عندهم سفرًا، يعني يمكن تكون عندهم ثلاث ساعات ليست بسفر بالطائرة وسبع ساعات، لأنها تقطع في الزمن القليل.
فإذًا هذا القول مع أنَّ الضبط فيه صعب، إلا أن قائله قد قيده بقيود كثير ممن يذهبون ذلك المذهب، لا يلتفتون إلى قيوده، وهذا علامة أو إشارة إلى أن الميل إلى ذلك القول فيه شيء من حظوظ النفس وهواها، كما أنه يفوت فيه الضبط ويفوت فيه قول أكثر أهل العلم الذي هو أحوط للإنسان وأتم فيما يصير إليه وما يعتبره لصلاته وعبادته التي هي أهم العبادات وأتمها التي هي الصَّلاة ثاني شرائع الإسلام وأعظمها بعد الشهادتين.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مُبَاحٍ)، يعني إما أن يكون سفر طاعة كما لو سافر الإنسان لحج أو لعمرة، أو سافر صلة رحمه وطاعة والديه، أو سافر لإنقاذ مريض أو لعيادته، أو لنحو ذلك من الأسفار المشروعة.
أو كان السفر مباحًا كما لو سافر لنزهة يطلب في ذلك استجمامًا وتخلصًا مما لحقه من عنت ومشقة في عمل أو في سواه أو في انشغال بأهل أو ولد، أو ما يعرض للإنسان في دنياه، هذا سفر مباح، يؤخذ من هذا عند أهل العلم أو عند الفقهاء كما هو عند الحنابلة وعند الجمهور: أنه لو كان السفر سفرًا محرمًا فإنه لا يجوز فيه القصر، لأن الجمهور يرون أن القصر في السفر رخصة، والرخصة محلها غير العاصي بالسفر، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: 173]، أي: غير باغٍ سفره ولا معتدٍ؛ فهؤلاء الذين أُحل لهم الترخُّص بأكل الميتة إذا احتاجوا إليها، فأخذ من هذا أهل العلم أن الرُّخص التي جاء التخفيف فيها في الشرع إنما تليق بمن يصلح لها، وهو من لا يعصي بسفره.
والمقصود بالعصيان بالسفر: هو أن ينشئ السفر للمعصية، لا أن يحصل منه المعصية في السفر.
ما الفرق بينهما؟
يعني شخص سافر ليقتل بغير حق، أو شخص سافر ليتمتع بالمحرمات من زنا وغيره، فهذا عاصٍ بسفره، أو سافر لعقد معاملة محرمة كربا، أو شراء ما لا يحل، أو نحو ذلك؛ فهذا عاصٍ بالسفر فلا يحل له.
أمَّا كون الإنسان سافر لنزهة، ثم سمع إلى بعض الملهيات كأغاني أو غيرها مع حرمتها وعدم جوازها؛ فهذا أصلُ سفره حلال ومباح، فيجوز له القصر، وإن حصل منه بعض ما لا يحل كاستماع ما يحرم أو غيبة أو نميمة أو غير ذلك مما نبتلى به، وعسى الله أن يعفو عنا ويتجاوز. فإذًا هذا المحرم.
الثاني وهو المُشكِل وهو المكروه، إذا كان السفر مكروهًا فعند الحنابلة أنه لا يكون فيه قصر، كمن سافر لتعاطي أمر مكروه، كما أن بعض الفقهاء يرى أن السفر إلى بلاد غير المسلمين مكروه، وبعضهم يجعله محرمًا، مَن جعله محرمًا هذا واضح، ومن جعله مكروهًا فيدخل هذا عندهم في أنه لا يتعاطى أحكام القصر، إلا أن يقال إن القصر عزيمة، وهذا قول لبعض الفقهاء، لأن الصَّلاة في أصلها كانت ركعتان فأقرت في السفر وزيدت في الحضر، فمَن قال بهذا القول -كما هو قول السلف ولابن تيمية ولجماعة من أهل العلم- فإنهم يقولون: كل مَن سافر تعلَّق بهذا الحكم دون ما تمييز، لكن هذا هو مشهور المذهب، وهو قول جمهور أهل العلم في التفريق بين السفر المحرم وغيره في جواز القصر وتعاطي الرخصة فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَقْضِي صَلَاةَ سَفَرٍ فِي حَضَرٍ وَعَكْسُهُ تَامَّةً)}.
كأنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أشار إلى مسألة، هي في الكتب الأخرى قد فُصِّل فيها تفصيلًا كثيرًا، وهو الأحوال التي يُتم فيها المسافر، فذكر منها: من قضى صلاة سفر في حضر، يعني إذا هو كان مسافرًا ونسى أو انشغل مثلا بأي شيء ونسي صلى صلاة الظهر، لَمَّا وصل إلى بيته قال: أنا ما صليت صلاة الظهر. ما نقول: إنها وجبت عليك قصرًا فتصليها هنا قصر، لا، ما دام وصلت إلى بلدك فتصليها صلاة تامة.
قال: (وَعَكْسُهُ)، كذلك واحد عليه صلاة في بيته ونسيها ونام عنها، ثم قام متأخرًا، ونسي أنه ما صلى الظهر، أخذ أغراضه ثم سافر، لَمَّا وصل إلى البلد التي سافر إليها تذكر أنه ما صلى صلاة الظهر. فنقول: صلاة الظهر وجبت عليك تامة، فتصليها تامة في سفرك.
والفقهاء ينحون هنا منحا الأحوط، فالأصل هو إتمام الصَّلاة وعدم الترخص فيجرون ذلك كثيرًا.
ونحن لن نذكر كل ما ذكره الفقهاء، فذكروا قرابة عشرين مسألة، فمن المسائل مهمة في هذا: من ائتم بمقيم، فإنه جاء في حديث ابن عباس، عن مُوسَى بنِ سَلمةَ قال: «كنَّا مع ابن عبَّاسٍ بمَكَّةَ، فقلتُ: إنَّا إذا كنَّا معكم صلَّيْنا أربعًا، وإذا رجَعْنا إلى رِحالنا صَلَّيْنا ركعتينِ، قال: تِلك سُنَّةُ أبي القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»[6]، ولا يختلف الحال بين أن يأتي المسافر مع المقيم إلى الصلاة من أولها أو يأتي في أثنائها أو يأتي في آخرها، حتى ولو ما أدراك إلا التشهد الأخير، ما دام أنك صليت مع مقيم فإنك تصلي أربع ركعات، ولأجل ذلك نرى بعض الناس إذا جاء إلى مقيمين انتظر حتى ينهوا ركعتين، ثم يصلي ركعتين! لا، حتى ولو ما أدركت معهم إلا ركعة أو بعض ركعة فإنك تصلي، ما دام ائتممت بمقيم أن تصلي أربعًا كما جاء عن ابن عباس للحديث مرفوعا إلى النبي ويقول به الفقهاء.
هنا تأتي مسألة مشكلة: أن الإنسان خاصة في بعض الأماكن التي يتداخل فيها المسافرون بغيرهم كالمطارات مثلًا أو القطارات، تجد ناسًا يصلون، لا تدري هذا المصلي مسافر مثلك، أو عامل في المطار من الذين يعملون في إجراءات المسافرين وفي أمنهم وفيما سوى ذلك، فهنا كيف تفعل؟
إذا صلى أربع ركعات انتهى الأمر، لكن أنت أتيت وما تدري وأدركت مثلا ركعة، وقلنا: إنك إذا ائتممت بمقيم فلابد أن تتم، يقول أهل العلم الفقهاء: إنه ينظر إلى حال ذلك الإمام، يعني يعمل بغلبة الظن، فإن كان من ظاهر حاله أنه مسافر كما لو كان حقيبة فالغالب أنه مسافر، أو كان -كما يذكرون في الزمن الأول- في ثيابه غبرة أو اتساخ، فكثير من أحوال المسافرين على هذا النحو، فينظر إلى ذلك بحسب حال ذلك المصلي، لو رأى معه البطاقة التي يدخل بها إلى الطائرة، لكن إذا رأى عليه ثياب الأمن؛ فمعلوم أن الغالب أنه مقيم، مع أنه يمكن أن يكون مسافرًا لمهمة عمل أو غيرها، أو كان ممن يعملون في إجراءات المسافرين ولهم ألبسة محددة ونحوها، مع أنه يمكن أن يكون منتقل، أليس كذلك؟ حتى الذي يحمل بطاقة السفر قد يكون يحملها ليعطيها شخصًا أو غير ذلك أو ليراجعها، لكن الغالب أن من يحمل البطاقة هو مسافر، تسعة وتسعين بالمئة وأكثر من ذلك، فإذًا يقولون: ينظر إلى الأحكام العلامات الظاهرة فيعمل بها بحسب ما يعرض له.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ نَوَى إِقَامَةً مُطْلَقَةً بِمَوْضِعٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، أَوِ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ أَتَمَّ)}.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أحكام السفر، لكن الإنسان إذا وصل إلى مكان هل ينقطع سفره بمجرد وصوله؟ أو أنه يبقى له أحكام السفر؟
فهذه من المسائل الخلاف وفيها كبير، والكلام فيها كثير، وللأهواء فيها مدخل، بعض الناس يذهب مذاهب التوسيع لأنها أهوى لقلبه وأسهل عليه، فنقول -وبالله التوفيق: إن المناط عند كثير من الفقهاء أربعة أيام، إذا كان هذا الشخص يستقر في هذا البلد أربعة أيام فأكثر -أو أكثر من عشرين فرضًا كما يعبر الحنابلة- فيقولون إنه يتم، وإذا كان أربعة فأقل فلم ينقطع حكم سفره، فبناء على ذلك يبقى على قصره، ويجوز له الجمع إن احتاج إليه، وستأتي أحكام الجمع. من أين أخذ ذلك الفقهاء؟ هذا طبعا ليس قول الحنابلة ولا الشافعية، ولكنه قول أكثر الفقهاء، فيختلفون في جزئيات بسيطة، لكن من جهة التحديد واضح، أخذوه من أن النبي بقي في مكة لَمَّا جاء في حجة الوداع أربعة أيام يقصر الصَّلاة، ثم خرج إلى منى وعرفات ثم رجع إلى المدينة، يقولون: الأربعة أيام هي التي أتم فيها وهو يعلم أنه يقيم لأنه ينتظر الحج، فنحن نعلم أنه لا يخرج، فقالوا: هذا أكثر ما ورد، أزود من ذلك لا ندري، فالأصل أننا لا نزيد على ذلك.
فيه دليل آخر وهو أظهر ما يكون من أدلة وأقطعها، لكن ليس في الأربعة أيام، وإنما يمكن حمله على التحديد بالأربعة أيام، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد البر في (التمهيد) وذكره ابن قدامة، واستمسكوا به وتشبثوا به في هذه المسألة لعظم الكلام فيها، وبوَّب عليه الإمام النسائي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو حديث: «يُقِيمُ المُهَاجِرُ بمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثً»[7]، المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة ثم جاءوا للحج نهاهم النبي أن يبقوا أكثر من ثلاثة أيام، لكونها تلحق بأحكام الإقامة، فيكونون كالمقيمين، والمهاجرين الذين هاجروا لله يجب أن لا يقطعوا هجرتهم لئلا يذهب عليهم أجرهم؛ فدل ذلك على أن البقاء للمسافر ثلاثة أيام ونحوها لا ينقطع به سفره.
كيف تجمع بينه وبين الأربعة أيام؟
قالوا: هذه الثلاثة أيام هي الثلاثة التي يجلس فيها ويستقر، ومع ذا يكون معه يوم الدخول ويوم الخروج وهذا بعض يوم وهذا بعض يوم؛ فيكون أربعة أيام، فتتفق مع حديث ما جاء في قصر النبي في حجة الوداع. هذا من جهة.
من جهة ثانية: أن القائلين بعدم التحديد لا يجدون في ذلك ما يحصرهم أو يحدُّهم، فتجد أنَّ بعضهم يحدد بالعشرة وبعضهم بالعشرين كما هو قول للحنفية، وبعضهم يفتح ذلك وكل هذا مُشكِل، ولو قلنا بمثل ما يقولون -وإن كان قد أفتى به بعض المعاصرين ومشايخنا رحمهم الله تعالى، وهي مشهورة عن الشيخ بن عثيمين- كأناس يذهبون دراسة أو لدورات خارجية أو نحوها ويبقون سنة أو سنتين يترخَّصون برخص السفر! هذا لا يُتصور، وهم يعلمون أنهم يستقرون، وأنهم لا يأتون حتى ينتهون، ويحصلون ما قصدوه، ويحصلوا على ما راموه من شهادة أو نحوها، لو قلنا هذا حتى الذين في الرياض فنصفهم له حاجة يظن أنه بعد سنة أو سنتين أو عشر سنوات أنه سيرجع إلى بلده وينتهي من شغله هذا، أو يجد له فرصة في مكان آخر فيصير إليه، ولأفضى ذلك إلى أن يكون أكثر الناس ممن يتعلق بهم أحكام القصر والرخصة في السفر، وهذا فاتح لباب بلاء كثير، وتخبط بما لا تستقر معه الأحكام، ولا تظهر معه أحكام الصَّلاة، وخلاف ما كان عليه النبي وأصحابه والتابعين، فالمسافر أحواله واضحة، بمن تعلق بالمسير أو المشي، أو بمن نزل منزلًا لفترة وجيزة يعلم أنه بعدها ينتقل ويحتاج فيها إلى الرخصة لكونه متشعثًا بسفره محتاجًا إلى نُقلته، لم يتأهل كما يتأهل المقيمون، أما على الفتاوى الحاصلة فإنهم يتأهَّلون كتأهُّل المقيمين وأكثر، وينعمون كما ينعمون ثم بعد ذلك يترخصون برخص السفر مِن قصر وجمع وسواها، فإن ذلك لا يستقيم في دلالات السنة واعتبار ما جاءت به، أو ما جاء عن العلماء والفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فإذًا، مناط الكلام هو على أربعة أيام، يُستثنى من ذلك مسألة ويحتاج إليها كثير من الناس فيما إذا كان الشخص يجلس أكثر من أربعة أيام لكنها تنقطع، بمعنى أنه في أثناء الأربعة أيام يخرج إلى مسافات أخرى يرجع، فمن كان كذلك فإن هذه إقامة متقطعة، فبناءً على ذلك ما دام أنه لا يستقر أكثر من أربعة أيام استقرارًا كاملًا فإن ذهابه ورجوعه يقطع إقامته، حتى ولو كان خروجه ورجوعه لا يبلغ مسافة السفر، لكنه يخرج من البلد فينتهي لأن النبي لم يتكلم الفقهاء على أنه لَمَّا خرج إلى مِنى باقي في مكة، مع أن خروجه من مكة إلى منى مسافة قصيرة، فحكموا بأنه خرج.
فإذًا، بالنسبة للمقيم أيام أو أكثر من أربعة أيام: إذا كان في أثناء ذلك يخرج ويعود فإن كل مدة بحسبها، وتنقطع بخروجه ذلك فيبتدأ حسابًا آخر، فالوقت الذي سيقيم فيه أربعة أيام -أو أكثر من عشرين وقتًا- قطعًا فإن هذه الحال التي يتوقف فيها عن أحكام السفر والرُّخصة فيه من قصر وجمع وسواه.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ نَوَى إِقَامَةً مُطْلَقَةً بِمَوْضِعٍ)، هو ليس عنده نية للرجوع ولم يحددها بحدٍّ معين، فنقول: ما دام أن إقامته مقطوع بها بأنها تستمر طويلًا كمن نوى أكثر من أربعة أيام فهما سيان، فبناء على ذلك تنقطع أحكام السفر في حقه، ويتعلق به أحكام المقيم من أداء الصَّلاة في وقتها ومن عدم قصرها وعدم جمعها، وما يتبع ذلك من عدم الفطر وسواه.
لكن من جاء لحاجة لا يدري متى تنقضي اليوم أو غدًا أو بعده أو حُبس، أو مُنع بنحو ثلج أو عدو أو سيل أو سواه، فهؤلاء يقصرون ما داموا ينتظرون ويتهيؤون متى ما سنحت لهم الفرصة كما جاء عن الصحابة الذين أقاموا بجهة شرق آسيا لَمَّا قاموا في كازخستان ما جاورها فحبسهم الثلج، فقصروا لمدة أطول من ذلك فعند أهل العلم أن هذا محمول على من تأهب للرَّحيل واستعد له لكن مُنع، كنحو أسير أو محبوس، أو حيل بينه وبين ذلك بسيل أو نحوه، فهذه خارجة عن ذلك فيتعلق بها هذا الحكم.
وعلى هذا يُحمل ما جاء عن النبي أنه قصر في تبوك أكثر من أربعة أيام، يقولون: إنه ما كان يدري متى يرجع، فمتى ما انتهت المهمة التي جاء لها وهي محاربته مَن خالف من المشركين وغيره فرجع، فتُحمل هذه الحال وما شابهها على مَن له القصر أكثر من أربعة أيام بأنه محبوس على حاجته متى انتهت رجع من سفره وعاد إلى أهله.
قال: (أَوِ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ أَتَمَّ)، هذه بيناها فتكون واضحة يجب عليه الإتمام على الإطلاق، سواء دخل معه في أول الصَّلاة، أو في أثناءها، أو حيث لم يبقَ منها إلا ركعتان، أو لم يبق منها، أو لم يدرك إلا التشهد الأخير؛ في كل هذه الأحوال ما دام أنه ائتمَّ بمقيم فيلزمه الإتمام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ حُبِسَ ظُلْمًا، أَوْ لَمْ يَنْوِ إِقَامَةً قَصَرَ أَبَدً)}.
هذه هي التي ذكرنها، (حُبِسَ ظُلْمًا، أَوْ لَمْ يَنْوِ إِقَامَةً)، كما لو حيل بينه وبين ذلك بسيل أو بثلج أو بجليد أو غيره، فمتى ما أُطلِق من حبس الظلم والعدوان، أو انزاحت الثلوج واستطاع المسير حتى ولو طالت المدة؛ فإنه لم يُزمع إقامة، وسفره قائم، ورخصته تامَّة؛ فيترخَّص وإن طالت المدة على ما ذكرنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ والْعِشَائَيْنِ بِوَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَلِمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ مَشَقَّةٌ)}.
بعد أن أنهى المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أحكام القصر، انتقل إلى أحكام الجمع، وليس الجمع والقصر متلازمان، فقد يجوز القصر مع الجمع فيكون مشروعًا، وقد يكون الجمع بدون ما قصر كما لو للمريض وكما كان لمن احتاج إليه في مسائل سيأتي بيانها.
أمَّا مَن جاز له القصر فيجوز له الجمع، وأصل ذلك: حديث معاذ رُوي في البخاري لكنه في السنن بلفظ أوضح وأتم: «كانَ رَسولُ اللهِ ، إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أَخَّرَ الظُّهْرَ إلى وَقْتِ العَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمع بيْنَهُمَا، فإنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ»[8]، فقال أهل العلم: هذا فيه دلالة على جواز الجمع لمن احتاج إليه، وهذا دليل لجمع المسافر إذا احتاج إلى ذلك.
لكن هنا لاحظ أنه قال: (وَيُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ) وقال في الأول (وَيُسَنُّ قَصْرُ)، فالجمع رخصة عند عامة أهل العلم، الأحسن أن الإنسان لا يجمع متى ما كان قادرًا على فعل كل صلاة في وقتها، لكن لو احتاج المسافر كما لو اشتدَّ به المسير أو تعذَّر عليه الوقوف وهو في متَّسع من الوقت الذي تجمع إليه الصَّلاة فليفعل، سواء جمع تقديم أو جمع تأخير فمباح له ذلك، أما إن استقرَّ كما لو نزلَ ليستريح يوم أو يومين أو يقضي حاجة ببلدٍ ونحوها؛ فنقول: ما دام أنه وإن كان مسافرًا لكنه لم يحتج إلى الجمع فالأولى له أن يفعل الصَّلاة في وقتها، فيقصر بدون ما جمع، فإن جمع جاز ذلك، وهذا جاء من جهة العموم «صلَّى رسولُ اللَّهِ الظُّهرَ والعصرَ جميعًا والمغربَ والعشاء جميعًا من غيرِ خَوفٍ ولا سفرٍ»[9]، يعني: السفر مبيح للجمع على الإطلاق، سواء ماشي أو جالس، وجاء في بعض أحاديث في غزوة تبوك أن النبي جمع مع كونه نازلًا ولم يكن سائرًا، فأخذ من هذا أهل العلم أنه يباح فيفعل الإنسان ما هو الأيسر عليه، وله في هذا مندوحة إن جمع وإن لم يكن سائرًا.
ومتعلَّق الجمع بالنسبة للمسافر: في الظهرين والعشاءين.
الظهرين: التي هي الظهر والعصر.
والعشاءين: التي هي المغرب والعشاء، وسميت عِشاءان على سبيل التَّغليب، أُدخلت المغرب في اسم العشاء فقيل: عشائين، كما أدخلت العصر في اسم الظهر فقيل: ظهرين، كما يقال: "أبوان" مع أنها أب وأم، فأدخلت الأم في الأب، ويقال: "القمران" مع أنها شمس وقمر، لكن يحصل ذلك في اللغة العربية كثيرًا.
فإذا المقصود: الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
لماذا قال المؤلف هنا بالجمع بين الظهرين والعشاءين؟
لأنه سيأتي في بعض أحوال الجمع أنه لا يجوز الجمع إلا بين العشائين كما لو كان في نحو مطر وجليد -على ما سيأتي بيانه عند الحنابلة رحمهم الله تعالى.
فإذا الجمع بالنسبة للمسافر جائز وهو أظهر لمن كان سائرًا، وجائز لمن كان نازلًا، لكن الأتم في حقه ألا يحتاج إلى ذلك، وأولى ما يكون الجمع فيه مستحبًا هو: ما يكون بالنسبة للحجاج في عرفة وفي مزدلفة، فيكون جمع تقديم عرفة، ومتى ما وصلوا في عشية مزدلفة.
وأهل مكة في الأشهر عند الحنابلة وقول الجمهور أنه لا يجوز لهم القصر. وهل يجمعون بعرفة وفي مزدلفة؟
قال أهل العلم: إنهم يحتاجون إلى الجمع فيجمعون بدون ما قصر، لأن العلة في جمع صلاتين هي التفرغ للعبادة، وما داموا حجاجًا، فإنهم يحتاجون من التفرغ كما يحتاج غيرهم من المسافرين، وأيضًا في الانتقال إلى مزدلفة والصَّلاة عند الوصول إليها.
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ مَشَقَّةٌ)}.
المريض الذي يلحقه مشقة -على ما ذكرنا في الأمثلة السابقة- كما لو كان تشق عليه الطهارة لكل صلاة، أو لا يستطيع أن يطهر نفسه فيحتاج إلى مَن يأتي إليه ولا يتأتى له أن يأتي مَن يعينه في الطهارة إلا في النهار مرة وفي الليل مرة، فهذا يحتاج إلى أن يجمع.
وأصل ذلك: جمعُ حَمِنة كما في حديث المستحاضة، فإنه جمع في حال من الأحوال التي هي خلاف العادة، وهي حال مرض.
وكذلك في حديث ابن عباس الذي في مسلم: «جمعَ رسولُ اللهِ بينَ الظهرِ والعصرِ والمغربِ والعشاءِ بالمدينةِ من غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ»[10]، في بعضها: «من غيرِ خوفٍ ولا سَفَرٍ»[11]، قيل ما أراد يا ابن عباس؟ قال: "أَرَادَ أَن لَا يُحْرِجَ أُمَّتَه". قال جمع من أهل شرح الحديث: "ولم يبق إلا المرض"، يعني إذا لم يكن لأجل السفر ولا لأجل المطر ولا لأجل الخوف فلم يبقَ إلا عذر المرض الذي يبيح الجمع، فبناء على ذلك قالوا: إنه يجوز له الجمع في مثل هذه الأحوال، وهذا ملحوظ فيمن ابتُلي ببعض العلل والأمراض التي يشق عليهم أداء الصَّلاة في وقتها.
ومثل ذلك قال الفقهاء: الأعمى الذي لا يعرف الأوقات وليس عنده مَن يعرِّفه بالأوقات، فيسهل عليه أن يصلي الظهر والعصر في وسط النهار، لعلمه أنه يقينًا قد دخل وقتها، لكن لا يدري متى يدخل وقته، ولو انتظر ربما يفوته ويدخل عليه المغرب وهو ينتظر العصر، خاصَّة إذا تخلل ذلك نوم ولا يوجد عنده هذه الآلات والساعات التي تنبهه في الأزمنة القديمة.
وقالوا أيضًا: مثل المرضعة التي طبعا فيما مضى ما توجد هذه الحفائظ التي تقي أو تجمع النجاسات ولا تنتشر، كانت تنتشر النجاسة والناس ليس عندهم ثياب كثيرة، فإذا تنجس ثوبها إما أن تغسله، وإذا غسلته تحتاج إلى وقت طويل ربما لا يكون عندها عوض عنه، فقالوا: المرضع التي يكثر بها النجاسات تجمع لأجل ذلك.
أو الذي يخاف ماله، ومثل الخباز الذي جعل الخبز في الفرن، فيرقب هذا الخبز ويخشى إن ذهب للصلاة أن تحترق، ولا يمكنه التوقف لأن ذلك مما قد يضيع عليه لقمة عيشه التي يحتاج إليها، فذكروا نحو من ذلك من الأشياء التي يجوز الجمع فيها، فهذه كلها يجوز الجمع فيه بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء.
{أحسن الله إليكم، لعلنا نكتفي بهذا القدر نظرًا لضيق الوقت}.
شكر الله لكم أيها المشاهدون أيها الطلاب أيتها الطالبات، أسأل الله أن يزيدنا وإياكم من العلم، وأسأل الله أن يلهمنا الصواب والهدى، وأن يوفقنا للبر والتقوى، وأن يعفو عنا التقصير والخلل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{أحسن الله إليكم، وبارك فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[1] صحيح مسلم (686).
[2] صحيح البخاري (350).
[3] صحيح مسلم (687).
[4] أخرجه البخاري (1088)، مسلم (1339)، واللفظ له.
[5] سنن البيهقي (3/137).
[6] أخرجه أحمد (1/216) (1862)، صححه الألباني في إرواء الغليل (571).
[7] أخرجه البخاري (3933)، ومسلم (1352)، واللفظ له.
[8] أخرجه البخاري (1112)، مسلم (704)، واللفظ له.
[9] صحيح النسائي (600).
[10] صحيح مسلم (705)،
[11] صحيح النسائي (600).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك