الدرس الثامن عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

15650 18
الدرس الثامن عشر

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم التسليم.
أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزائنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن أخصر المختصرات، يشرحه فضيلة الشيخ دكتور عبد الحكيم محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بك صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا حياك الله.
{أحسن الله اليك وبارك فيكم، أستأذنكم استكمالًا لما توقفنا عنده.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: وَمَنْ أَدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ، أَوْ مُجَوَّفٍ فِي جَسَدِهِ كَدِمَاغٍ وَحَلْقٍ شَيْئًا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ غَيْرَ إِحْلِيلِهِ أَوْ ابْتَلَعَ نُخَامَةً بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى فَمِهِ أَوِ اسْتَقَاءَ فَقَاءَ، أَوِ اسْتَمْنَى، أَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَمْنَى، أَوْ نَوَى الْإِفْطَارَ، أَوْ حَجَمَ، أَوْ احْتَجَمَ عَامِدًا مُخْتَارًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإياكم ممن عبد الله حق عبادته وأحسن في عمله وأتقن في طاعته وألا يجعلنا ممن أخلَّ وأخفق في كل ما وجب عليه وأن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين.
كنا في آخر المجلس الماضي استهللنا ما يتعلق بمفسدات الصوم، وأخذنا الأول وهو الأكل والشرب أو ما يدخل إلى الجوف، وهنا المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- عبّر بما دخل إلى الجوف، وهو أدق في ذلك وأتم، فإن الشارع أيما كان من دخول إلى الجوف فقد منعه، حتى ولو كان ذلك على سبيل غير نافعٍ؛ ولذلك ربما في المستنشق إنما هي أجزاء يسيرة لا يمكن أن تغني شيئًا، ومع ذلك منع الشارع منها مع أنه مأمور به في العبادة في الوضوء، لماذا؟ تحقيقًا لمصلحة أعظم وهي أن يحفظ الصائم صيامه من أن يدخل شيء إلى جوفه ولو كان شيئًا يسيرًا، فهذا ينبغي أن يكون حاضرًا في البال.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- قال: (وَمَنْ أَدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ، أَوْ مُجَوَّفٍ فِي جَسَدِهِ كَدِمَاغٍ وَحَلْقٍ شَيْئً)، وهو إشارة إلى أن أي شيء يدخل إلى داخل الجوف، سواء كان يدخل إلى الأعلى أو إلى الأسفل، وهذا كأنه يشير إلى خلاف بعض الفقهاء الذين يقولون لابُد أن يكون إلى الجوف لا إلى الدماغ.
ثم بين الأشياء التي لا تدخل مما يدل على أن ما سواها مما يصل به البدن، فذكر قال: (غَيْرَ إِحْلِيلِهِ)، الإحليل الذي هو رأس الذكر، فإن الفتحة التي في رأس الذكر لو دخل من خلالها شيء، فإنه لا يصل إلى الجوف؛ لأن المثانة مفصولة عن سائر الجسد، وإنما يصل إليها البول بالرشح أو بالتبخر؛ فبناء على ذلك لا يدخل شيء إلى البدن من جهتها فاستثناه؛ فدل على أنَّ كل موضع فيه فتحة إلى الجوف فإنه مما ينبغي التوقي منها، وأنه إن دخل من خلالها لحصل بذلك الإفطار، ولحصل بذلك الإفساد للصيام.
وهذا أدق من كلام يكثر استعماله الآن، وهو قول ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تعالى، واشتراط أن يكون مغذيًا، وجعل ذلك هو مناط المسألة في الحكم، وهذا القول الحقيقة لا أصل له في أصول الشريعة؛ ولأجل ذلك بإجماع أهل العلم لو أن شخصًا أكل أكلًا زائدًا عن حاجته، حتى امتلأ بطنه، ثم زاد شيئًا يضر به لا ينفعه، فإنه عندهم أن هذا مفطرٌ، وأنه يفسد عليه صيامه؛ لأن مثل ذلك القول أنه بالتغذية لو دخل إليه غبار أو دخل إليه دخان؛ ولذلك يستدل به بعض الضعفاء والفساق في أن دخول الدخان ليس أكلًا ولا شربًا ولا يتغذى به الإنسان فيكون ذلك.
لكن كلام الفقهاء واضح، وهو أنَّ أي شيء يصل إلى الجوف سواء كان نافعًا أو غير نافع؛ فإن الصائم ممنوع من أن يدخل إلى جوفه شيئًا، وهذا متسق مع الأدلة ومانع من الإشكالات؛ فبناء على ذلك يذهب كثير من هذا الإشكال.
يبقى في هذا مسألة، وهي كثيرة الإشكال التي هي الإبر، والإبر إذا كانت مغذية فهذه لا إشكال فيها على قول الجميع، لكن إذا لم تكن مغذية فإنها لا تنفك عن وجود سائل، وهذا السائل ماء، وهذا الماء أُدخل إلى الجوف، فهو يصل بوجهٍ من الوجوه حتى يستفيد منه الإنسان إلى العروق، وأنه لابُد من أن يمتصها البدن ويدخل إلى الجوف، فهل يحصل بها الإفطار؟ أول ما جاءت منعها الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم جاء عنه قول بأن الأحوط منعها، ولكن علق ابن القاسم تلميذه وقال: بمنعها واستقرار ذلك، لماذا؟ لوجود الماء، وهذا ظاهر.
وهذه المسألة تنجر إليها مسائل كثيرة بالنسبة لمرضى السكري، الذين يأخذون الإبر ونحوها، وأنها لا تغذي أو لا تذهب إلى الوريد أو نحو ذلك، فأين تذهب إن لم تذهب إلى الوريد؟ إن لم تذهب للوريد فهي لا تنفع.
فلعل أهل البحث والنظر أن يعيدوا دراسة مثل هذه المسائل بما قد يتبين مع ذلك.
طيب لقائل أن يقول: مرضى السكري الذين يتعاطون الإبر، هل يفسد صيامهم؟ أقول لا يمنع أن يكونوا ممن جاز لهم الفطر، فقد يكون من المريض الذي لا يرجى برؤه فيحل له الفطر، والحمد لله وهو في سعة من الأمر، لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا لا زال صائمًا أو ممسكًا.
تأتي على ذلك مسألة، وهي وإن كانت أخف، إلا أنها أيضًا باقية في هذا الإشكال، وهي بخاخات الربو وما في معناها، فإنها وإن كان ذرات يسيرة إلا أنها إلقاء في الجوف، ويحس بها في الجوف، حتى ولو كان بوجهٍ يسير، وعلى كلام الفقهاء أنه لا يصح معها الصوم أو يفسد معها الصيام.
على كل حال، هذه فيها فتاوى كثيرة بالإذن فيها، والمجلس هذا ليس مجلسًا لتقرير المسائل والإفتاء، وإنما هو دراسة بمعنى أن تتبين أيها الطالب مأخذ هذه المسألة، مما ذكره الفقهاء ومدى انطباقه عليه، وحسبك أن يكون عندك الآن نظر فلا تزال هذه المسألة تتردد عندك، وكلما كبرت في العلم وجدت شيئًا إما يزيد من إنزال هذه المسألة في القول بإفساد الصيام بذلك أو تجد مسوغًا وما يصرفها عن مثل ذلك فتذهب أو يصاغ إلى القول الآخر سواء.
ولابد للطالب أن يدرس مثل هذه المسائل دراسة متأنية، حتى ولو شاع قول آخر في ذلك إفتاءً أو ظهورًا في وقت أو في مكان أو في زمان ما، فلا يمنع ذلك من إعادة العلم، وتجديد المسائل، وإعادة النظر فيها، وإنزالها على أصولها مما ذكره الفقهاء المتقدمون وقرروه بحسب ما استنبط من أدلة الكتاب والسنة، وقول سلف الأمة.
تبقى بعض المسائل، مثل: ما يبقى في فم الصائم بعد المضمضة، لابُد من أن يبقى في ريقه شيء، فهذا قطعًا مُستثنى ولا إشكال فيه، تكاثرت النصوص بذلك، وإذا لم يوجد في المسألة شيءٌ مع السبب المقتطع أن ذلك طريق إلى الإذن فيه، وعدم المؤاخذة فيه.
هذا بالنسبة لِمَا يتعلق بذلك كون الإنسان يسبح أو يغتسل فيترطب جسده، لكن هذه ليست منافذ معتادة، فلو أحس في ذلك ذهاب عطشه أو هدوء نفسه أو إعادة قوته فلا يكون ذلك مانعًا، ولذلك ذكر أولئك الفقهاء ووجد في عهد من تقدم ولم يكن ذلك محركًا لأهل العلم يمنعونه أو أن يفسدوا صوم من تعاطاه وعمله.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد ذلك: (أَوْ ابْتَلَعَ نُخَامَةً بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى فَمِهِ) "النخامة" في الأصل أنها تكون مما ينبذه البدن في حال من الأحوال، إمَّا لزيادة في هذه الإفراز أو لتعفن أو لغير ذلك، فهي تنزل إلى الحلق، وربما تذهب إلى الأنف.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إذا وصلت إلى فم الإنسان، فلا يجوز له أن يردها، أمَّا لو نزلت من الرأس فعلقت بحلقه، فهذه لم تصل إلى فمه، فإذًا هي داخل البدن، فلو زرطها أو أدخلها لا غضاضة عليه، لكن إذا أحس بها على لسانه ثم بعد ذلك أعادها، فهو كما لو خرج شيء فأدخله، فهذا هو مقصود الفقهاء؛ فلأجل ذلك بعض الناس يقول في حرج كثير؛ لأنه لم يفهم المسألة على وجهها.
ليس المقصود أن تجد النخامة في حلقه فتهلك نفسك حتى تخرج روحك؛ لأجل ألا تدخل فهذا ليس هو المقصود على الإنسان غضاضة إذا بقيت في بعض حلقه أن يجترها.
لا شك أنها قذر وأن الإنسان ينبغي له أن يتخلص منها، لكن لو حصل شيء من ذلك فدخلت إلى الجوف لم يعتبر هذا مفسدًا، المفسد أن يبتلع النخامة التي خرجت والتي وصلت إلى الفم والفم في حكم الخارج فإذا أدخلها فكأنه أدخل من الخارج إلى الداخل فنقض صومه وذهب إمساكه.
قال: (أَوِ اسْتَقَاءَ فَقَاءَ)، "استقاء" أي: طلب خروج القيء، فإذا استقاء الإنسان فقاء، فقد فسد صومه، وهذا قد جاء في حديث أبي هريرة، وإن كان معلولًا عند أهل العلم، إلا أن العمل والإجماع منعقد على ذلك: «منِ استقاءَ فعليهِ القضاءُ» ، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه.
والاستقاءة تحصل أن يجعل الإنسان إصبعه في حلقه أو في بلعومه أو يتعرض لرائحة كريهة تقذف ما في باطنه فيخرج أو ينظر إلى شيء كريه ويتعمد النظر وهو يعلم أن ذلك يحرك ما في بطنه، فالمهم متى ما كان ذلك بفعله فقاء فيحصل، فإذًا عندنا مسألتان لا يكون فيهما مفسدٌ للصيام: لو استقى لكن لم يخرج شيء، فعند ذلك صومه صحيح ومن ذرعه القيء بدون طلبه ما درى إلا غلبته نفسه فخرج ما في بطنه كله أو بعضه، فنقول: هذا ذرعه القيئ فلا قضاء عليه.
لكن هنا أيضًا مسألتان: من ذرعه القيء نقول هنا لم يفسد صومه لكن لو أحس بتعب أو إجهاد فأراد الفطر فهذه مسألة ثانية الفطر لأجل المرض، واضح؟ نفس الشيء أيضًا من استقاء فليقضي يعني أن يتوقى الإنسان الاستقاءة، لكن لو كان قد أكل فأصابته تخمة فأضر ذلك به؛ فلا نقول له لا تستقيء، لكن نقول أنت معذور في هذه الحال، فإذا استقأت فلك ذلك ولكن عليك القضاء. فمن الموأخذ؟ الذي استقاء بغير ما يوجب ذلك فقاء فإنه تعمد صومه ونقض صيامه فيكون مُأخذًا وإثمًا وعليه القضاء.
أما ما سوى ذلك فحال لا قضاء فيها كمن ذرعه القيء، ثم أتم على صيامه أو استقاء فلم يخرج شيء فلا شيء عليه، لكن من استقاء فقاء فعليه القضاء.
{قال- رَحِمَهُ اللهُ: (أَوِ اسْتَمْنَى، أَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَمْنَى)}.
قال: (أَوِ اسْتَمْنَى) يعني: طلب خروج المني، سواء كان ذلك بمداعبة زوجته ومؤاخذتها، أو ذلك بلعبٍ بيده أو غيرها أو بأمته، فإذا استمنى فخرج المني؛ فإنه قد فسد صومه، فساد الصوم بالجماع هذا ظاهر، طيب بالمني؟ من أين؟ لأن النبي قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي «يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي» ، ومن المجمع عليه أنَّ من أخرج منيه، وقذف ماءه فقد بردت شهوته وذهبت، فإذًا يتحقق فيه أنه هنا لم يترك شهوته، وأنه تعاطى ما يريحه في ذلك.
فبناءً على ذلك قال أهل العلم: إن من خرج منه المني على هذا الوجه، فإنه يفسد صومه.
قال: (أَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَمْنَى) مثل ذلك ما يحصل من مفاخذته لزوجه ونحوه.
قال: (أَوْ أَمْذَى)، المذي ليس مثل المني، فمن جهة حقيقته فهو نجس وذلك طاهرٌ، والمني يخرج غلبة عند اشتداد الشهوة، فيبرد الإنسان بعدها، وينقضي وتره، أمَّا المذي فهو سائل رقيق نجس، يخرج عقب فتور شهوته، حتى ولو لم تنقضِ؛ فبناء على ذلك هل يفسد الصوم؟ كأن الحنابلة ألحقوه بالمني، وكأن ذلك أيضًا على سبيل الاحتياط. لكن الحق أن هذا فيه إشكال كبير، أولًا من جهة الحقيقة، فالحقيقة أن المذي لا يمكن أن يدخل في حكم المني، من جهة ماذا؟ من جهة أنه لا يحصل به فراغ شهوته، وقضاء وتره، وكذلك لأن المذي مما يبتلى به الناس كثيرًا، فلو قلنا: إنه إذا سلم على زوجته أو نحو ذلك أو قد تتحرك شهوته أو نظر وإن كان النظر سيأتي أنه دون تكرار لا شيء فيه أو فكر لا شيء فيه سيأتي ذلك.
فعلي كل حال نهاية المسألة أن المذي إلحاقه بالمني فيه نظر من جهة الحقيقة، وأيضًا هو ليس في النص؛ فإذًا لا هو منصوص عليه ولا هو في معناه؛ فبناءً على ذلك الرواية الثانية وهي قول جمهور أهل العلم أن الإمذاء لا يكون به فساد الصوم، وهذا أقرب عليه فُتيا كثيرة من علم المعاصرين.
قال: (أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَمْنَى)، تكرار النظر هو الذي يكون بفعل الإنسان، أما لو أصابت عينه شيئًا لأول وهلةٍ؛ فإن هذا مما يغلب عليه الإنسان والله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]؛ ولأجل ذلك المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- علَّق حصول ذلك بتكرار النظر الذي هو فعل الإنسان وقصده فكأنه قصد إفساد صومه وخروج منيه والتعرض لما يفسده.
{قال- رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ نَوَى الْإِفْطَارَ، أَوْ حَجَمَ، أَوْ احْتَجَمَ عَامِدًا مُخْتَارًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ)}.
إذا نوى الإفطار فقد أفطر، لأن من شرط الصيام النية في أول النهار تستمر إلى نهاية النقض دون ما ينقضها، لو نسي أو لو سهى عن استحضار النية لكن حكمها باقٍ.
لكن أن ينوي ضدها فقد أفسد النية في أولها؛ فبناء على ذلك حتى لو نوى الفطر ثم نوى أن يمسك فنقول: بقيت برهة يسيرة من هذا النهار بدون ما نية؛ فبناء على ذلك يفسد صومه.
يقول أهل العلم: لا من نوى أكل مفطر، فمن نوى أكل مفطر فلم يأكل لا إشكال في ذلك؛ لأنه لم يحصل منه فعل المفطر؛ فبناء على ذلك فرقوا بينها فإذًا من نوى الإفطار أفطر وفسد صومه وجب عليه الإمساك حرمة اليوم ووجب عليه القضاء؛ لأنه بقي شيء من الوقت بدون ما نية الصيام.
هذا بخلاف من نوى أكل شيء أو فعل ما يفسد، كأن نوى أن يجامع زوجته، أو يجامع أمته، أو نوى الأكل، فهنا نقول: إنه لم ينو الفطر بعد، وإنما نوى شيئًا يحصل به الفطر، فما دام أنه لم يفعل ذلك الشيء فلم يحصل منه نقض، وبناء على ذلك صيامه باقٍ.
قال: (أَوْ حَجَمَ، أَوْ احْتَجَمَ)، الحجامة هي إخراج الدم الفاسد من البدن على وجه مخصوص، سواءٌ كان الحاجم يجذبه بِنَفَسِه حتى يخرج، ولهم في ذلك طرائق خاصة يتعلمونها وهي خيرة في الجملة في جهة تعلمها، لكن أيضًا يختلف أهل الحذق فيها.
وفطر الحاجم والمحجوم من المسائل التي أيضًا كثر فيها الخلاف، وذلك لما جاء في حديث شداد أن النبي قال: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» ، وحديث ثوبان؛ فاستدل بهذا الحنابلة على أن الحاجم والمحجوم يفطران.
أمَّا احتجم النبي وهو صائم، فهذا روي في الصحيح لكن اختلف هل كان هذا الحديث على هذا الوجه؟ أو أنه احتجم وهو محرم كما هي الروايات الأصح، وعلى ذلك حملت فلا يكون فيها تعارض بينها، فذهب الحنابلة هذا المذهب، وجمعوا بينها على هذا النحو، خلافًا لجمهور أهل العلم الذين قالوا: إن حديث «احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ» ناسخٌ لتلك الأحاديث.
فنقول: إنَّ هذه الرواية فيها وهم من الراوي، وأنه «احْتَجَمَ وهُوَ مُحرِمٌ» وأنَّ هذه باقية على وجهها، ومنع الحجامة للمحتجم والحاجم باقية على وجهها، وأنها من مفسدات الصوم.
والحنابلة انفردوا بذلك خلافًا للجمهور، لما قالوا بهذا القول قالوا: هل يقاس على ذلك خروج الدم بأي وجه كان
المشهور بالمذهب عند الحنابلة أنها تعبدية؛ فبناء على ذلك لو خرج الدم برعاف أو خرج الدم بتبرع للدم أو تحليل أو نحوها فعندهم أن ذلك لا يلحق بالحجامة؛ لأن العلة فيها تعبدية، خلافًا لابن تيمية الذي قال: إن العلة في ذلك معلومة وأنه بالنسبة للحاجم قد يطير إلى نفسه شيء من أجزاء الدم فأقيمت المظنة مقام الحقيقة، وأنَّ المحتجم يلحقه ضعفٌ، وبالتالي فبأي وجه خرج دمٌ؛ فإنه يلحقه ضعفًا، وقالوا: متى ما كثر الدم أُلحق به هذا الوصف.
لكن الحقيقة أنه ما دام أن الحنابلة هم الذين قالوا بالحجامة، فينبغي ألا نوسع وهم قد ضيقوها، ألا ننتقل إلى أشياء أخرى، لكن على الصائم أن يتقي إخراج دم قد يفسد به صيامه، لكن لو أخذ تحليل أو زاد قليلا أو نحوه فنقول: هذه خارجة عن اسم الحجامة ونحوها.
فإن قال: طيب الآن الحجامة دون جذب للنفس، والنبي يقول: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ». هل يفطر هذا الذي مثلا بالآلة نقول هذا يمكن أن يقال بأنه لا يصدق عليه أنه حاجم، فالحاجم اسمٌ للذي يجذب، فما دام أنه لا يجذب بنفسه فالآلة هي الحاجمة، فلا يكون في ذلك مسمم بهذا الاسم؛ فلا يدخل في ذلك الحكم.
فلو وجد شخص محتاج فجعل له هذه الآلة وأخرجت الدم؛ والرجل هنا حاجم؛ فبناء على ذلك لا يكون في صومه فساد.
قال: (عَامِدًا مُخْتَارً)، هذه المفطرات تُعتبَرُ إذا فعلها عامدًا مختارًا، فيخرج من ذلك من كان ناسيًا، فمن كان ناسيًا فلا شيء عليه؛ لأن النبي قال: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فأَكل أو شَرِب، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» ، والفقهاء جعلوا سائر ذلك مثل الأكل والشرب في أن نسيانهم رافعًا للحرج فيه، وأن يكون مختارًا لا أن يكون مكرهًا؛ لأن المكره لا ينسب إليه فعلٌ فلا يكون عليه في ذلك تبعة.
قوله: (ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ) يخرج في ذلك أن يكون ناسيًا، فلو كان ما يدري، قام الصباح فأكل، وما يذكر أنه صائمٌ، فنقول: لا يضره كذلك، فإذا اجتمعت فيه هذه الأشياء فيكون بها الفطر ما تقدم من التفصيل والتوضيح، وإذا كان ذلك على سبيل النسيان أو على سبيل الإكراه فلا شيء عليه، لو مسك شخص فأُدخل في جوفه ماء، فلا يكون ذلك سببًا لفساد صومه، باعتبار أنه خارج عن فعله، وأن ينسب إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ، لَا إِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، أَوْ دَخَلَ مَاءُ مَضْمَضَةٍ أَوْ اسْتِنْشَاقٍ حَلْقَهُ، وَلَوْ بَالَغَ أَوْ زَادَ عَلَى ثَلَاثٍ)}.
قال: (لَا إِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ)، لم يجعلوها مثل (كَرَّرَ النَّظَرَ) فأنزل، يقولون إن تكرار النظر فعل الإنسان، أما الفكر فإن الإنسان لا يستطيع حفظ فكره، فالأفكار تتوارد على الإنسان؛ ولذلك الإنسان أحيانًا تأتي إليه الفكرة السيئة فيحاول أن يقلبها إلى أخرى أو إلى غير ذلك فلا يستطيع أحيانًا.
فلما لم يكن ذلك في مقدور الإنسان لم يكن عليه في ذلك شيء؛ ولأن النبي قال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتي عَمَّا حَدَّثَتْ به أَنْفُسَهَ» ، فحديث النفس وما يدور فيه من فكرة ونحوه ليست في مقدور الإنسان فلذلك رفع فيها التكليف.
قال: (أَوْ دَخَلَ مَاءُ مَضْمَضَةٍ أَوْ اسْتِنْشَاقٍ حَلْقَهُ)؛ لأن هذا مما يبتلى به الناس، فما دام أنه لم يفرط في ذلك ولم يكن منه إهمال؛ فلا يكون عليه فيه تبعة.
قال: (وَلَوْ بَالَغَ أَوْ زَادَ عَلَى ثَلَاثٍ)؛ لأنه فعل ما هو مأذون له فيه، ولأن الماء في الفم في حكم الخارج. فدخولها ماذا؟ إنما ذلك شيء ليس بفعله؛ فلا ينسب إليه ولا يكون مفسدًا لصومه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ جَامَعَ بِرَمَضَانَ نَهَارًا بِلَا عُذْرِ شَبَقٍ وَنَحْوِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ مُطْلَقً)}.
الجماع من المفسدات، ولعل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- أخّر الكلام فيه لخصوصية هذه المسألة ولتفريعاتٍ كثيرةٍ فيها، فمن جهة أولًا: أنهم لم يعفو فيه بالنسيان، أو من جهة أن فيه تفسيرات كثيرة، وسيأتي.
قال: (وَمَنْ جَامَعَ بِرَمَضَانَ) الجماع بأن يدخل الرجل ذكره في فرج امرأة، فمن جامع أو جُومع فقد فسد صومه.
قال: (بِلَا عُذْرِ شَبَقٍ)، يقولون: إنه في مثل هذه الحال ليس عليه الكفارة، وإن كان يفسد صومه، لكن هنا أراد أن يبين المجامع المعتدي الذي تلزمه أحكامٌ.
قال: (بِلَا عُذْرِ شَبَقٍ وَنَحْوِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ مُطْلَقً)، أما القضاء فهذا ظاهر؛ لأنه أفسد يومًا من أيام رمضان فلزمته كفارة، وحصول الإفساد بالجماع ظاهرٌ أيضًا من جهة الحديث المتقدم معنا «يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي»، وأيضًا ذلك الرجل الذي جامع في نهار رمضان وألزمه النبي بالكفارة فمن لزمته الكفارة لزمه القضاء؛ ولأنه جاء في بعض روايات الحديث أنه أمره بصوم يومٍ مكانه؛ فنقول: اعتبارًا بالأصل في القضاء أن من فاتته العبادة وجب عليه قضاؤها والأمر بالأداء أمرٌ بالقضاء عند جمع من الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- والكفارة لما جاء في حديث أبي هريرة أن النبي أمره أن يعتق رقبة فإن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا على ما يأتي في خصالها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا مَعَ الْعُذْرِ: كَنَوْمٍ، وَإِكْرَاهٍ، وَنِسْيَانٍ وَجَهْلٍ، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ)}.
قال: (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا مَعَ الْعُذْرِ)، يعني: أن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- لمّا قال: (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ مُطْلَقً) سواء كان جاهلًا أو ناسيًا أو عامدًا أو ذاكرًا، فكل ذلك لا يعفى عنه.
ويقولون: إن النبي لما جاءه رجل فقال: «هَلَكْتُ! قَالَ: وما شَأْنُكَ؟ قَالَ: وقَعْتُ علَى امْرَأَتي في رَمَضَانَ. قَالَ: تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» فأوجب عليه الكفارة، قالوا: إن النبي لم يستفصل منه، لكن هذا الحقيقة أنه هذا الحديث لا يمكن أن يؤخذ وحده بل مضمومًا إلى الأحاديث الأخرى ودلالات النصوص الثانية؛ ولأجل ذلك حصل منهم اضطراب وحصول الاضطراب والتقييد في المسألة دليلٌ على وجود الإشكال فيها؛ ولذلك هم رفعوا عن المرأة الكفارة إذا كانت مع بعذر نسيان أو نحوه، ولم يرفعوه عن المجامع في نهار رمضان بالنسبة للرجل، فهذا مما يدل؛ ولذلك قال بعض أهل العلم أن العذر بالنسيان والعذر مثلًا الجهل لمن مثله يجهل ذلك أو الإكراه أعذارٌ صحيحةٌ؛ فيكون معفو عن الإنسان، وترفع عنه الكفارة والتبعة عند الله -جَلَّ وَعَلَا-؛ ولذلك قال ولا كفارة عليها مع العذر، يعني لو كانت معذورة كنومٍ، نائمة فجامعها زوجها وهي نائمة، أو إكراه لو أكرهها على ذلك، النسيان والجهل لعمومات الحديث الدالة على ذلك وعليه القضاء.
كما قلنا الجهل على الإطلاق ليس أنه عذر، وإنما الجهل لمن مثله لا يعلم ذلك، أما من يفرط في تعلم الأشياء ثم بعد ذلك يقول أنا جاهل؛ لا نعذره.
فلو كان دكتورًا في علوم الرياضيات أو في غيرها أو نحو ذلك ثم يقول أنا جاهلٌ بهذه الأشياء ما الذي يمنعك أن تتعلم وآلة العلم ممكنة وتعلمها سهل والوسائل من الإنسان قريبة، لكن لو قال: والله أنا كنت صحيح عالم لكن للتو قد أسلمت ولم يمضِ عليّ إلا عشرون يومًا أسلمت ودخل شهر رمضان فنقول: مثل هذا يعذر، أو نشأ بمكان لا علم فيه، أو نحو ذلك مما يحتف بذلك من أشياء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ)}.
هي خصالها ثلاث على سبيل الترتيب إجماعًا: (عِتْقُ رَقَبَةٍ)، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، كما جاء بذلك الحديث عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أطعم (سِتِّينَ مِسْكِينً). فإذا يستطع هل تبقى في ذمته أو لا؟ خلاف لأهل العلم، والأصل عند الحنابلة أن جميع الكفارات لا تسقط عن الإنسان إلا كفارة جماع نهار رمضان، لماذا؟ قالوا: لأن النبي قال: «فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبيُّ بعَرَقٍ فيه تَمْرٌ -والعَرَقُ: المِكْتَلُ الضَّخْمُ- قَالَ: خُذْ هذا فَتَصَدَّقْ به. قَالَ: أعَلَى أفْقَرَ مِنَّا؟ فَضَحِكَ النَّبيُّ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: أطْعِمْهُ عِيَالَكَ»، وقالوا: إنه لم يأمره بأن يتصدق بها؛ فدل على أنها سقطت بعدم قدرته على ذلك.
وأن الإعطاء الذي أعطاه النبي كان مساواة منه وإحسانًا إليه، فإذا قيل بهذا فنعم هي تسقط، وإذا قيل هي كسائر الكفارات فما أعطاه النبي شيئًا وما تعلق بذمته شيء آخر؛ فلا تسقط عنه في مثل هذه الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ أَنْ يَجْمَعَ رِيقَهُ فَيَبْتَلِعَه،ُ وَذَوْقُ طَعَامٍ، وَمَضْغُ عِلْكٍ لَا يَتَحَلَّلُ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُمَا فِي حَلْقِهِ أَفْطَرَ)}.
كُره أن يجمع الريق فيبلعه فهذا مما يُكره للصائم في حال صيامه ومثل ذلك ذوق الطعام، ذوق الطعام يحتاج إليه الإنسان، والأصل أن يحصل ذوقه بما يجده في لسانه فلا يدخل إلى جوفه، وجاء عن ابن عباس وغيره، لكن إذا خاف أو كره لأجل أنه الغالب أنه لا ينفك من أن يجده في حلقه، فما دام أنه قد يجده في حلقه فمعنى ذلك أنه يعرض صيامه الإفساد؛ فلأجل ذلك كُره.
قال: (وَمَضْغُ عِلْكٍ لَا يَتَحَلَّلُ)، المقصود للعلك الأول الذي ليس فيه طعم، أما هذه العلوك التي يتحلل منها شيء من السكر أو شيء من بعض الطعم كزعترٍ أو فكس أو غيرها، فإذًا هذا نوع علك؛ فإذا كان إنما يكون فيه تقوية فكه أو إذهابٌ لنومه أو نحو ذلك ولا يجد فيه أثرًا، ولا ينتقل إلى جوف هذا لا يمنع صحة الصوم حال صيامه لو فعله، لكن قال وإن وجد طعمهما في حلقه؛ أفطر.
وجد الطعم هذا العلك أو ذوق الطعام فإنه يفطر بذلك؛ لأنه هو الذي تسبب على نفسه إفساد الصوم في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْقُبْلَةُ وَنَحْوِهَا مِمَّنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ)}.
القبلة إن كانت تحرك شهوته فيمنع منها وإلا فلا، النبي قبّل زوجته وهو صائم؛ ولأجل ذلك البيوت بنيت على شيء من المشاعر والعواطف والأنس والقرب وغيرها، فكان ما هو سفير في ذلك ينبغي أن لا ينقطع عنه البيت حتى في حال الصيام، كما فعل النبي صلى وسلم، لكن بشرط أن يأمن من حصول ذلك؛ لأن عائشة قالت: «كَانَ النبيُّ يُقَبِّلُ ويُبَاشِرُ وهو صَائِمٌ، وكانَ أمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» قالوا فإذا خاف كُره له ذلك، إذا ظنّ؛ حرُم، إذا كان الإنسان يظن أنه ربما خرج منه شيء في حرم؛ لأنه يكون كما لو علم يقينًا أنه يكون سببًا لفساد صومه فيكون هو الذي تعمد أو تقحّم أو قصد فساد الصوم بذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَحْرُمُ إِنْ ظَنَّ إِنْزَالًا، وَمَضْغُ عِلْكٍ يَتَحَلَّلُ، وَكَذِبٌ وَغَيْبَةٌ، وَنَمِيمَةٌ وَشَتْمٌ وَنَحْوُهُ بِتَأَكُّدٍ)}.
قوله: (وَمَضْغُ عِلْكٍ لَا يَتَحَلَّلُ)؛ لأن هذا لا محالة سيدخل إلى جوفه، فكأنه تقصد أن يفسد صومه؛ فإنه لأجل ذلك كان حرامًا.
قال: (وَكَذِبٌ وَغَيْبَةٌ، وَنَمِيمَةٌ)، هذه أشياءٌ محرمة في كل وقت وكل حين، وصاحبها آثمٌ وفاعلها فاعلٌ للمحرم، معرّض للعقوبة، لكنها آكد في الصيام مع ما فيها من الإثم والعدوان وفي إنقاص الصيام.
النبي قال: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» ، من المتفق عليه أن من أراد الوقوع في هذا لا يقال له: إنه لا يصوم لكن هذا الحديث إشارة إلى أنه ما دام أنه يمتنع عمّا أحل الله عليه فمن باب أولى قطعًا أن يمتنع عما حرّم الله عليه من الكذب والغيبة والنميمة وغيرها، فليس في ذلك تيسير أو تسهيل لترك الصيام لمن كانت عادته غيبة والنميمة، لكنه تشديد في أن يسترسل؛ فيتعاطى ذلك و، كأن الصيام وقت وحال من أحوال العبد التي يحفظ بها نفسه ليعتاد على الخير ويُقصر عن الشر مما كان قد تألفه نفسه ويدعوه إليه؛ ولأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذِبٌ وَغَيْبَةٌ، وَنَمِيمَةٌ وَشَتْمٌ وَنَحْوُهُ بِتَأَكُّدٍ)، يعني في حال الصيام، وإن كان في كل الأحوال محرمًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ تَعْجِيلُ فِطْرٍ، وَتَأْخِيرُ سُحُورٍ وَقَوْلُ مَا وَرَدَ عِنْدَ فِطْرٍ وَتُتَابِعُ الْقَضَاءَ)}.
سُنة تعجيل الفطر، فالفطر يستحب للإنسان أن يعجله؛ لأن النبي قال: «إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِن هَا هُنَا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِن هَا هُنَا، وغَرَبَتِ الشَّمْسُ فقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ» ، وهذا ظاهرٌ من جهة النظر والاستدلال وتأخير السحور فإن الشارع لما أمر بهذه الشعيرة لم يرد بذلك تعذيب الناس ولا حملهم على ما يحصل لهم به العنت والمشقة، وإنما اراد في ذلك تحقيق العبودية لله -جَلَّ وَعَلَا- وإعانة العبد على ما يكون به تحصيل ذلك؛ ولأجل هذا فعل السحور سنة وتأخيره سنة أخرى؛ ليكون ذلك تيسيرًا له في عبادته وتسهيلًا له في طلب مرضاة ربه. وهذا أيضًا لا تزال امتي بخير ما عجلوا الفطر وأخّروا السحور.
{أحسن الله إليكم.
فقال-رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَوْلُ مَا وَرَدَ عِنْدَ فِطْرٍ وَتُتَابِعُ الْقَضَاءَ فَوْرً)}.
قول ما ورد عند الفطر جاء فيها بعض الآثار وإن كان فيها مقال من جهة قبل الفطر فبعد التسمية التي لا إشكال فيها قول «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ» فهذا جاء عند بعض الأثار لكنها أسامٍ فيها ضعفٌ شديد فسواء قالها خاصة أن دعوة الصائم لا ترد وهو أيضًا يتعرض في ذلك للدعاء بها وبما غيرها بسؤال الله -جَلَّ وَعَلَا- تجارة لن تبور، فيكون حسنًا من جهة العمومات، لكن إذا أفطر قد جاء عند أبي داود بإسناد حسن لا بئس به قول «ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» .
قال: (وَتُتَابِعُ الْقَضَاءَ فَوْرً)، هذا انتقال إلى أحكام القضاء، بعد ذكر المستحبات بإلماحة يسيرة جدًّا تليق بهذا المختصر، لكنها لا تكفي المتعبد بل ينبغي له أن يتزود المسنونات كلها.
والقضاء لازم وهو إجماع أن من أفطر شيئًا من نهار رمضان لزمه بعد ذلك لما من شهد منكم الشهر فليصم ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وهذا محل إجماع، فتتابع القضاء مستحب؛ لأن هذا جاء عن بعض الصحابة ولأن القضاء كالأداء، فلما كان صيام رمصان متتابعًا كان القضاء مثل ذلك على وجه الكمال، لكن لو كان ذلك جائزًا وهذا لا إشكال فيه.
قال: (وَتُتَابِعُ الْقَضَاءَ فَوْرً)، وأما كونه فورًا يعني من أول وهلة بعد الإفطار بعد عيد الفطر، أما يوم الفطر يوم العيد فلا يجوز صيامه؛ لأنه يوم عيد، لكن بعد ذلك المبادرة في أسرع وقت ممكن؛ لأنه أخلص من التبعة وأبرأ للذمة عند الله -جَلَّ وَعَلَا-؛ ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ بِلَا عُذْرٍ)}.
قوله: (إِلَى آخِرِ) يعني إلى رمضان الآخر بلا عذر، وبناء على ذلك عندنا أحد حالان:
الحال الأولى: إما شخص قد جرى عليه عذر في فاستمر به ذلك العرض طيلة أيامه حتى دخل رمضان الآخر فهذا لا إشكال عليه، فإذا أفطر من الصيام رمضان الثاني أو أفطر رمضان الثاني فيقضي الأول والثاني أول وقت أمكنه القضاء وزال عنه العذر.
الحال الثانية: هو مريض لكنه يصح أحيانًا ويمرض أحيانًا، أو صح لكنه ملَّ. ففي الحالين جميعًا حتى ولو كان يمرض ويصح وكذا يعني ما كان التفريط في كل الأيام، ولكن هو كان بإمكانه أن يصوم بعد الأيام لكنه فرّط؛ فنقول: هذا قد فوت القضاء عن وقته، فكأنه فعل ما يكون عليه به الإثم؛ ولذلك جاء عن ستة من أصحاب رسول الله أن من أخّر صيام قضاء رمضان إلى ما بعد رمضان الآخر فعليه مع الصيام إطعام، فما أوجب عليه الإطعام إلا لأنه فعل ما يأثم به ويلحقه به تبعة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ فَعَلَ وَجَبَ مَعَ الْقَضَاءِ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ)}.
وجب مع القضاء إطعام مسكينٍ كل يوم مثل ما ذكرنا فإن فعل وجب مع القضاء إطعام مسكينٍ لما جاء عن ستة من أصحاب رسول الله .
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ مَاتَ الْمُفَرِّطُ وَلَوْ قَبْلَ آخَرَ أُطْعِمَ عَنْهُ كَذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَلَا يُصَامُ)}.
إذا مات المفرط ولو قبل آخر أُطعم عنه لا يُصام عنه، وحديث عائشة: «مَن مَاتَ وعليه صِيَامٌ صَامَ عنْه ولِيُّهُ» ، قال أهل العلم: في الأكثر هو قول جمع من الصحابة قول كثير من أهل التحقيق وقول جمهور أهل العلم وهو اختيار ابن تيمية أن هذا إنّما هو في صيام النذر؛ لأنه جاء في بعض الروايات «من مات وعليه صيام نذرٍ صام عنه وليه» ، ولأن عبادة الصيام من العبادات البدنية التي لا تدخلها النيابة، فهي كالصلاة لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحدٌ عن أحدٌ؛ فبناء على ذلك ما جاء من رواية مطلقة حملوها على المقيدة، ولأن أصل الشريعة دالٌ على ذلك العبادات المالية كالنذر وغيرها يدخلها النيابة العبادات البدنية لا نيابة فيه؛ فبناء على ذلك فرقوا.
وإن كان بعض أهل العلم وهم من المتأخرين يقولون بالإطلاق في ذلك، لكن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- وكما هو مشهور المذهب أراد أن يبين ذلك، وأن قضاء الولي إنما هو في صيام النذر لا غير.
قال: (وَإِنْ مَاتَ الْمُفَرِّطُ وَلَوْ قَبْلَ آخَرَ أُطْعِمَ عَنْهُ)، يعني هذا أيضًا يؤخذ منه مسألة وهو أنه لو مات غير مفرط، شخص مرض في آخر خمسة أيام من رمضان ثم بعد في اليوم الخامس عشر من شوال مات لكنه استمرت به العلة، كان الناس يرجون زوال علته ونحوه فهنا نقول من أنه لا قضاء عليه لكن إذا امكنه القضاء فلم يقضي؛ فنحن نطعم عنه ولا يقضى، لماذا؟ لأن القضاء إنما يكون عن الشخص إنما يكون في صيام النذر وما شابهه.
قال: (أُطْعِمَ عَنْهُ) كذلك من رأس مآله ولا يصام عني يعتبر من دين الله الذي يتوجب أن يكون من رأس مآله لا من الثلث فيقدم على حق الورثة على الإطلاق.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ نَذْرٌ مِنْ حَجٍّ، أَوْ صَوْمٍ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ نَحْوِهَا سُنَّ لِوَلِيِّهِ قَضَاؤُهُ)}.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أراد أن يبين وأن يضم إليها ما يشابهها من مات وعليه الصيام صام عنه وليه التي هي في النذر، فكذلك أي شيء كان نذرًا عن الميت صيام أو صلاة أو حج فحكمها حكم الصيام في كونه مما يمكن للولي أن يقضي عنه وهو أولى الناس به، والولي هنا على سبيل الاستحباب وإلا فلو تبرأ عنه قريبه أو صديقه أو جاره فيكون ذلك فعلٌ حسن منه في ذلك كله.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَعَ تَرِكَةٍ يَجِبُ، لَا مُبَاشَرَةُ وَلِيٍّ)، ومع تركة يجب يعني أن يقضى عنه ذلك سواء من حج أو صوم أو صلاة يقال لها أحد حج عنه وخذ ما وجب عليه ومع تاركته يجب؛ لأنه من الديون المتعلقة بحق الله -جَلَّ وَعَلَا- ولا يشترط مباشرة ولي، بل إن فعل ذلك حسن فهو تبرع منه وسنة وهم أولى الناس به وإن فعل ذلك غيره كان حصل به المقصود ولم يكن واجبًا على الولي ذلك.
بهذا القدر كان بودنا الحقيقة أن ننتهي من كتاب الصيام لكن لعل ذلك أن يكون أكثر حرصًا للطلاب في تحصيله أو في استذكاره مرة أخرى إذا ابتدأنا من الصيام المستحب،
أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتم علينا وعليكم نعمه الظاهرات والباطنة، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يعفو عنّا التقصير والخلل نحن ذكرنا جملة من المسائل على شيء من التوضيح ربما أجملنا بعضها وربما أخللنا ببعضها وربما أخفقنا أيضًا في توضيح لكن مثلكم يعذر ويتجاوز عمّا حصل من الخلل والتقصير وكل ذلك عندنا يتولانا برحماته.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم الذين رفعوا مناره، وأقاموا لواءه، وقاموا به في الدنيا، واستفادوا وانتفعوا به عملًا وتعليمًا وهدايةً وإخلاصًا، وأن يعقبنا في الأخرة أجرًا ومثوبة على هذا العلم نحن نحيا وعليه نموت، نحيا به ونحيي به الناس، ولا ننقطع عنه أبد الده، إن ربنا جوادُ كريمٌ، وبالإجابة جديرٌ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وشكرٌ كبيرٌ لمن قام على هذه الجادة وأقام لواء العلم ودعا إليه وسهل اسبابه وأوصل صوته إليكم ولكم أيها المشاهدون المتابعون الحريصون؛ أسأل الله أن يزيدكم توفيقًا وإخلاصًا وهدايةً وعلمًا وعملًا وأن يجعل ذلك ملء حياتكم وأيامكم والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
{جزاكم الله خيرا ونفع بكم اسلام المسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس ومستويات قادمة إن شاء الله، لذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك