{الحمدُ لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم التسليم.
أما بعد؛ فأهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلا وسهلا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، حياك الله وبياك، بارك الله فيك ونفع بكم.
{أحسن الله إليكم، قال- رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، يَقْرَأُ بَعْدَ الْأُولَى وَالتَّعَوُّذِ الْفَاتِحَةَ بِلَا اسْتِفْتَاحٍ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ الثَّانِيَةِ كَفِي تَشهُّدٍ)}
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليم كثير إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يشرح صدورنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يبلغنا وإياكم الخير، وأن يجعلنا من أهله، وأن يتم علينا نعمه والباطنة، وأن يجعلنا من أهل الخير والهدى والصلاح، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات؛ لا يزال الحديث موصولًا في شرح هذا المختصر المبارك، وهو في فصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما يتعلق بالصلاة على الميت، قد ذكرنا ثلاث مسائل أو أربع مستهلًا بها هذا الباب أو هذا الفصل، ثم شرع المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في صفة هذه الصلاة، فقال: (ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعً)، فتكبيرات الجنائز المستقرِّة التي تتابعت عليها الأدلة هي أربع تكبيرات، وهي التي تقوم بها صلاة الجنازة وربما روي في بعض الأحاديث الصحيحة كما في مسلم وغيره: «كانَ زَيْدٌ يُكَبِّرُ علَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وإنَّه كَبَّرَ علَى جِنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ فَقالَ: كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ يُكَبِّرُهَ»[1]، ولأهل العلم في ذلك كلامٌ في زيادة «أربعً» هل هي خاصة لأهل بدر ولشهداء أحد، وما كان فيها من الحال المخصوصة بهم؟ أو أن ذلك لمن كان مثل حالهم؟ هذا الكلام ليس هذا محل بحثه، ويهمك -أيها الطالب- أن تعلم أن الصلاة مستقرة على أربع تكبيرات.
قال: (يَقْرَأُ بَعْدَ الْأُولَ)، وهي تكبيرة الإحرام، وهي التي يدخل بها في هذه الصلاة، وصلاة الجنازة صلاة مثل سائر الصلوات، يعتبر لها ما يعتبر للصلوات من ستر عورةٍ، ومن استقبال قبلةٍ، ومن طهارة، وأحكام الإمامة والائتمام، إلى غير ذلك من الأحكام.
فإذا كبر التكبيرة الأولى فإنه يرفع يديه كما يرفع في تكبيرة الإحرام، لكن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال: (يَقْرَأُ بَعْدَ الْأُولَى وَالتَّعَوُّذِ)، يعني: أن صلاة الجنازة يبدأ فيها بالتعوذ مباشرة، وذلك لأنها مبنية على الاختصار، ولأنَّ المقصود فيها الدعاء، فلذلك فلا استهلال فيها ولا استفتاح بدعاء، وعلى ذلك تتابع أهل العلم، فأول دخوله في الصلاة يتعوذ "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يقرأ الفاتحة، وقراءة الفاتحة هي أيضًا مما تقوم به صلاة الجنازة، وباعتبار أنها صلاة «لا صلاةَ لِمَن لم يقرَأْ بفاتحةِ الكتابِ»[2].
هل يقرأ بعد ذلك بسورة أو لا؟
ظاهر كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه يقتصر على الفاتحة، وعلى هذا جاءت أكثر الآثار، والحقيقة أنَّ مبنى ما وردَ من أذكارٍ في صلاة الجنازة إنما هي في الآثار عن الصحابة، وربما لا يوجد فيها شيء يصح مرفوعًا إلى النبي ﷺ، ولذلك جاء في بعض الآثار أنهم ربما قالوا: ويزيد قراءة سورة قصيرة، كـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، ونحوها، كما أظن أن ذلك جاء عن ابن عباس بنحوه.
قال: (بِلَا اسْتِفْتَاحٍ) على ما ذكرنا.
قال: (ثم يكبر التكبيرة الثانية)، التكبيرات التي تتبع التكبيرة الأولى، لا إشكال فيها أنها تكبيرات مستقرات ومنصوصٌ عليها، وجاءت بها السنة -كما قلنا- لكن هل يُستحب مع التكبيرات بعد التكبيرة رفع اليدين أم أنه يكبِّر بدون رفع؟
هذه الحقيقة من المسائل التي كثر فيها الكلام، وليس في ذلك شيء يعتمد أو يعتبر فيما صحَّت به السنة عن النبي ﷺ، وليس فيها إلا ما جاء عن السلف، وابن المنذر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا حكى القول فيها عدَّ علماء كثير من التابعين والفقهاء بأنهم قالوا برفع اليدين فيها، قال: "وبقول الجماعة أقول".
وعلى كل حال؛ فإنَّ الأمر مدارة على الاجتهاد، وذلك أنها:
- إمَّا أن يشملها ما يشمل تكبيرة الاستفتاح والإحرام في أنها في حال القيام، وأشبه ما تكون بها، فما يشمل الأولى يشمل التكبيرات الأخرى باعتبار أنها في حال القيام.
- وإمَّا أن يقال إنها أقرب ما تكون إلى تكبيرات الانتقال فلا ترفع فيها الأيدي، فلأجل ذلك قال بعض أهل العلم: لا ترفع فيها الأيدي.
وعلى كل حال، الأمر في هذا واسع جدًا، فمن رفع يديه فله في ذلك سلفٌ كثيرٌ من أهل العلم، ومن لم يرفع فباعتبار عدم الورود، والأصل هو عدم الرفع حتى يأتي الدليل به، فالأمر في ذلك يسير، لكن نحن على ما مَشى عليه عامَّة الفقهاء، كما قال ابن المنذر- رَحِمَهُ اللهُ: "وبقول الجماعة أقول"، ونحن نقول كذلك: "وبقول الجماعة نقول"، وعلى ذلك مشايخنا وشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال: (وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ الثَّانِيَةِ)، يعني أن هذه الصلاة هي كالصلاة التي في التشهد، يعني أنها الصلاة الإبراهيمية.
لكن لِمَ لا يقول الواحد منكم: لو قال: "ويصلي على النبي ﷺ الصلاة الإبراهيمية" لكانت أوضح وأيسر، وأبعد عن الأشكال والحاجة إلى التفسير؟
هذا من الأهمية للطالب أن يعرفه في مسلك العلماء والفقهاء، وذلك أنَّ المراد في هذا: أن يقرِّب للطالب فيحفظ المتشابهات من المسائل، والمتماثلات في الأحكام؛ لأنَّ جمع الأشباه والنظائر وضمِّها بعضها إلى بعض أقوم للمتعلم والمتفقِّه، وأبعدَ عن حصول الإشكال والاضطراب والتناقض، وحتى تطرد المسائل فينظر ما ثبت هناك فيها من أحكام، وما ثبت هنا فيها من حكم، وما يلزم هناك، وما يلزم هنا، وهل يختلفان أو لا يختلفان، ومتى يمكن أن يقال بتسوية لأحكام كلها أو عدمها؟ فكل ذلك معتبر في هذا، ثم أيضًا أن مسلك أهل العلم هو التذكير للطالب، والحث على إعمال الذِّهن، فالأمور حينما تكون واضحة يتلقَّاها بسهولة، وإذا تلقَّاها بسهولة خرجت كذلك بسهولة، أمَّا إذا تلقى الطالب بشيء من النَّظر والتأمُّل كقوله (كَفِي تَشَهُّدٍ) وجلس حتى يفهمها فإن ذلك أعون على ضبطها، وألا تتغير عنده ولا تختلف، فكلما ذُكرت هذه المسألة يذكر لفظهم (كَفِي تَشَهُّدٍ) فيكون ذلك أنفع له بكثير، فهذا مسلك من مسالك الفقهاء.
فإذًا؛ فيه الاختصار، وفيه جمع المتماثلات، وفيه تحريك الطالب حتى يكون أكثر استحضارًا ومراجعة لما مر ولما يأتي من المسائل.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَدْعُو بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَالْأَفْضَلُ بِشَيْءٍ مِمَّا وَرَدَ، وَمِنْهُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ونَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ)}.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَدْعُو بَعْدَ الثَّالِثَةِ)، يعني بعد الانتهاء من الصلاة الإبراهيمية يكبر التكبيرة الثالثة، والقول فيها ما قيل في الثانية في رفع اليدين فيها من عدمه.
ثم أيضًا يقبض يديه كحاله في حال القيام في الصلاة، ويضعهما تحت سرته، وإن وضعهما في أي موضع فحسن؛ لأنَّ موضع اليدين -كما تقدم معنا في الصلاة- أنه فيه سعة، وأن الحديث جاء بقبض اليدين، والحنابلة فضَّلوا أو مالوا إلى أنه تحت السرة لما جاء عن علي، فهو أصح ما ورد في ذلك، ولم يصح في ذلك شيء مرفوع إلى النبي ﷺ وإن اختلف في حديث وائل بن حجر «وَضعَ يمينَهُ على شمالِهِ، ثمَّ وضعَهُما على صدرِهِ»[3]، لكن عند أكثر أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث لا يصح، أو لا يقوم به الاحتجاج، وإن كان بعض مشايخنا قد حسَّنه وصار إليه.
قال: (وَيَدْعُو)، إذًا هذا هو محل الدعاء، ولأن المقصود من صلاة الجنازة هو الدعاء للميت، ولذلك جاء في الحديث: «فأخلِصوا لَه الدُّعاءَ»[4]، وإن كان يحفظ ما جاء عن النبي ﷺ وورد عنه فهذا أتم وأكمل، وإن لم يحفظ شيئًا من ذلك فإنما هو الدعاء له بالجنة، والنجاة من النار، والسلامة من عذاب القبر ونحو ذلك.
وذكر المؤلفون- رَحِمَهُ اللهُ- الحديث الوارد في الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، وهو من الأحاديث العظيمة ولما سمعه الراوي قال: "تمنيت أن لو كنت مكانه".
وفي هذا الدعاء: الإشارة إلى أهل الإسلام وما بينهم من الائتلاف والمحبة، قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَ»، فحينما ندعو للحي فندعو للحي الذي معنا في بيتنا من أهلنا، من أزواجنا، من جيراننا، وندعو للبعيد كما ندعو للقريب، فحتى ولو كان في البرازيل أو كان في إندونيسيا أو كان في نيوزيلندا أو كان في سائر الأمصار؛ هذه أُخوَّة أهل الإسلام، ومحبة بعضهم لبعض، ودعاء بعضهم لبعض، فتأمل أن لو كان في أدغال أفريقيا ويصلِّي على جنازة ويدعو لي ولك، وأن لو كان واحد بين يدي الكعبة وأمام بيت الله -جَلَّ وَعَلَا- ويدعو لعباد الله الذين هم في أقاصي الديار، أكانوا على ظهر جبل أو في بطن وادٍ، أو في ما خفي من الأماكن وبعد منها؛ وهذه سنة ماشية في أهل الإسلام أن يدعو بعضهم لبعض، ولذلك جاء بهذا كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10].
قال: «وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَ»، ففيه تعميم بعد التَّخصيص، فمَن شهدنا من أهلٍ أو قريبٍ أو صاحبٍ أو حاضرٍ في المسجد أو غائبٍ بعيدٍ كان أو قريبٍ.
قال: «وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَ»، كل محتاج إلى الدعوة، وكل يطلب ما يكون به رضا الله -جَلَّ وَعَلَا- من صلاح القلب، وغفران الذنب، وتكفير السيئة، وقبول الحسنة، والله يتولانا برحماته.
وتأمل -يا رعاك الله- أن لو كانت لك دعوة للمسلمين فقُبلت؛ فكمْ يكتب لك بها من الخيرات؟ وكمْ يكن لك من المنة على أهل الإسلام، وعباد الله المتبعون لسنة خير الأنام عليه الصلاة والسلام؟ هنيئا لمن وصلَ خيره مَن كان في أقاصي الأرض وبعيدها، كمن كان في قريبها ومن أهلها، حري بالمسلم أن يستشعر كله، وأن يدعو بإيقان، وأن يدعو باستحضار، وأن ينوي ذلك على أتم ما يكون، حتى يكون أجره أتم وأكمل.
قال: «وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَ»، فيدعو للذكر والأنثى، فلا تفريق في عند أهل الإسلام بين الرجل وبين امرأة وبين كبير وبين صغير وبين وجيه وبين صغير أو فقير أو حقير؛ كلهم على حدٍّ سواء ولذلك جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «المُسلِمون تَتكافَأُ دِماؤُهم، يسعى بذِمَّتِهم أدناهم»[5]، وقال: «والمؤمن وللمؤمن بنيان يشد بعضه بعض»، باعتبار وصف الإيمان مجردًا، فلا اعتبار بأوصاف الدنيا وحظوظها ومراتبها وأمورها، وما اختلف به الإنسان من ذكورة أو أنوثة أو كبر أو صغر أو غير ذلك.
قال: «إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَ»، ومن كان عالم بذلك فهو أقدر على الرحمة وسبحانه وتعالى هو الذي يتولانا في كل أمورنا، فيما يتقلب به الإنسان في دنياه، وما ينقلب إليه في مثواه، وما ينتقل فيه إلى أخراه، وما يلقى به الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: «وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، فالقدرة من عندك، والفضل فضلك، أنت المرتجى وإليك الملتجى، أنت الرب وأنت المعبود، أنت الإله وأنت الرب العظيم الذي تجيب الدعوة، وتسمع الشكوى، ولذلك قال النبي ﷺ لما رفع الصحابة أصواتهم بالدعاء: «ارْبَعُوا علَى أنْفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولَا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبً»[6]، سبحانه وتعالى، وسمعه سمع إجابة، سمع عطاء، سمع بذل، سمع رحمة لعباده، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60]، وقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 168]، وقال ﷺ: «يجاب لأحدكم ما لم يعجل»، فالله ذو فضل عظيم سبحانه وتعالى.
ثم قال: (اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ)، هذه هي الغبطة، أن يبقى الإنسان مستقيمًا على دينه، مستمسكًا بعقيدته سالمًا من البلاء، معصومًا من الزلل والضلال، من البدعة من المحدثات، من الشهوات، من الكبائر، من الموبقات، فكمْ من إنسان كانت حياته عليه شقاء، أصبح مسلمًا وأمسى في بلاء وشر! إما كافرًا أو ضالًا، أما متلطخًا بالمعاصي والآثام والكبائر والآثام، لا يألو على معصية حتى يواقعها، ولا يأنف من موبقة أن يقع فيها، فعلى ذلك ليله ونهاره! نسأل الله السلامة والعافية، فلا خير في تلك الحياة، فلذلك كان أهل الإيمان إذا دعوا بطول حياتهم فإنما يدعون الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يكون ذلك على هدى على بصيرة، على استمساك، على سنة، على عقيدة، فإذا خاف الإنسان طلب الله -جَلَّ وَعَلَا- السلامة، وسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- العصمة، ولذلك جاء في الحديث «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ به»[7]، يعني من الأمراض أو الأسقام أو الديون أو الغربة أو غيرها، فكلنا معرَّض لذلك، وهذا حال هذه الدنيا، فإن كان ولابد واشتد عليه الأمر؛ فليدعو بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي»، ودعاء أهل الصلاح والإيمان من السابقين الأخيار: ربنا تفينا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
ثم يقول: (عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ)، ولعلك تلحظ في هذا أن الحديث إنما فيه «اللَّهُمَّ من أحيَيتَهُ منَّا فأحيهِ علَى الإسلامِ، ومن تَوَفَّيتَهُ منَّا فَتَوَفَّهُ علَى الإيمانِ»[8]، وجاء عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه زاد على (الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ)، وأنه لما كان في أصل الأمر أن الإسلام على أن الناس على طريقة واحدة وعلى منهاج النبوة، فمَن سلك سبيل الإسلام فإنما هو الإسلام الذي جاء به الكتاب وجاءت به سنة خير الأنام، وأما لما تباعد الزمان وكثُرت المسالك، ووُجدَت الضَّلالات، ونزل بالإمام أحمد ما نزل من الابتلاء والفتنة، ومجاهدته على الاستقامة فيهما، وطلب أن يرجع عن ذلك، وأن يقول بقول أهل الابتداع والضلال، فما كان منه إلا أن زاد في هذا، وهي زيادة مناسبة، زيادة تليق بالحال، زيادة يُرجى بركتها، ويؤكد في ذلك بالتخصيص بعد التعميم المشتمل عليها، فيَطلب الإنسان الهداية على وجه صحيح، الهداية على أمر مستقيم، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، وقال ﷺ: «افترقتِ اليهودُ والنصارى على إحدى وسبعين فرقةً، وستفترقُ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدةً. قيل: من هم يا رسولَ اللهِ ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي»[9]، فمَن أراد السلامة فليطلب طريق أهل السنة والجماعة، مَن طلبوا الاستقامة على السنة دون ما زيادة ولا نقصان، ولا اعتبار بآراء الرجال ولا أهواء، ولا محدثات ولا مبتدعات؛ وإنما هو الإسلام الأول، وإنما هو الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ من مَعينٍ صافٍ، فيدعو الإنسان فإذا زاد فهي زيادة أحوج ما نكون إليها، وقد تلا في هذه الأزمان من الضَّلالات ما الله به عليم، وعمَّت من الظُّلمات الشيء الكبير، لا يسلمون في ذلك إلا مَن سلمه الله، وإن مما أفاض الله علينا في بلادنا أن بقيت السنة ظاهرة، والحق أبلج، والطريق مسلوكة، ويُعان عليها ويفتح سبيلها، فلله الحمد على ما أنعم وتفضَّل، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتم علينا وعلى المسلمين طريق الحق والهدى.
قال: (وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَ)، هنيئا لمن عاش على الإسلام والسنة والهداية، حيي بها وتنقَّل بها في كل أيام حياته، ومات على ذلك غير مبدل ولا مضيع، لذلك جاء في الحديث: «من كانَ آخرُ كلامِهِ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخلَ الجنَّةَ»[10]، على قول "لا إله إلا الله" واستقامة واستمساك بها، فهذا أمر عظيم أحوج ما نكون إليه.
ولا ينفك المسلم من أن يدعو بذلك وأن يستحضره في كل حال من أحواله، وفي كل يوم من أيامه، طلبًا لسلامة ورجاء النجاة من البلاء والفتنة، وكمْ من الناس الذين أمضوا حياة طويلة على خير وعبادة، حتى إذا أراد الله فتنتهم ضلوا! ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 41]، نعوذ بالله أن نكون من المنتكسين، ونعوذ بالله أن نكون من المرتكسين، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشد، ونسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يثبتنا على الإسلام والهدى، وأن يحيينا على ذلك، وأن يحيي بنا الإسلام والسنة وأن يميتنا عليهما غير مبدلين ولا مغيرين.
ثم يقبل بعد أن دعا دعاء يشمل فيه نفسه والمسلمين والحي والميت فيُخلص للميت الدعاء ويتوجَّه إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- له بالرجاء، يقول: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ) طلبا لستر ذنوبه وحصول الرحمة عليها كلها بغفران الذنوب، فيكون من عطف العام على الخاص، وأيضًا مضاعفة الحسنات ورفعة الدرجات، وتوليه في نفسه، وتوليه فيما خلَّف خلفَ ظهره من أهله وولده وتصاريف أموره وغيرها.
قوله: (وَعَافِهِ)، والمعافاة في الآخرة من كربها وبلائها وشدائدها.
قوله: (وَاعْفُ عَنْهُ)، أي من الذنوب والمعاصي.
قوله: (وَتَوَلَّهُ)، في الستر والغفر، سبحانه من رب كريم.
قوله: (وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ)، في كرامة النُّزل، وحسن الضيافة والوفادة، وإكرامه فيما وفد إليه، هذا من أعظم ما يكون من فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- على عبده، والله -جَلَّ وَعَلَا- قادر على ذلك كله والله يتولى عباده في الخير أجمع، فكان حال المؤمن أن يرجو الله -جَلَّ وَعَلَا- من فضله وعظيم إحسانه، وتوليه لإخوانه ومَن سبقه من أهله، أو أهل الإسلام.
قوله: (وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ)، بأن يكون مدخلًا كريمًا سهلًا ميسرًا، لا يدخل عليه فيه كربة ولا يحصل فيه بلاء، وتعرفون ما في الآخرة من الكرب، وما فيها من الشدائد، وما يعتري العبد من المزالق، لولا فضل الله، لولا رحمة الله، لولا ما يتولى الله به عباده.
فكل ذلك دعاء من أهل الإيمان، ولما كان أكثر ما يلحق بالعباد ما كان لهم من سالف الأعمال، وما كان لهم من إخلال وعثرة، ومن سوء ومن غفلة؛ فلا يزالون يدعون له: (وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ)، تأكيد على النقاء التام والسلامة من جميع المعاصي والآثام، وطلب أن يكون في أتم حاله، وأسلم ما يكون من أمره.
قوله: (ونَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ)، الثوب الأبيض نقاء وصفاء يبين فيه الشيء الصغير، فيطلب ألا يبقى شيئًا ولو كان أحقر من الحقير، ولو كان كالذَّرة، وهذا من إخلاص الدعاء للميت وطلب المغفرة له.
قال: (وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ)، فدار الآخرة أبقى ودار الآخرة أتم، ونعم الله -جَلَّ وَعَلَا- فيها أعظم، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 16 -17]، فضلًا من الله ونعمة، فضلًا من الله -جَلَّ وَعَلَا- والرحمة، فمهما كان داره فيها من ضيق أو تعب أو عنت أو مشقة، فيبدله الله -جَلَّ وَعَلَا- دارًا فسيحةً واسعةً مريحةً، ومهما كان فيه في الدنيا من قصر وافر واسع ومن راحة ونعمة؛ فلا يساوي ذلك شيئًا عند نعيم الآخرة وفضل الله -جَلَّ وَعَلَا- فيها، ولذلك كما قال ابن عباس: "ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء"، فقُربت للعباد بأسماء يعرفونها، أم حقائقها وما يكون فيها فلذلك من النعيم ما لا يتصوره قلب الإنسان، ولا يعيه عقله لضعفه وقصره، ولعظيم فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- وكبير منته.
ثم يقول: (وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ)، فيطلب له ما يكون من الخيرية في الآخرة بزوج يهنأ بها، فلا كدر بينهما ولا تنغيص ولا حزن ولا زعل، ولا تغير ولا اختلاف، فكل ذلك لا يكون إلا في الآخرة، وما من بُد أن تكون الدنيا مهما صفت فإنه يكون بين الأزواج وبين الأحبة وبين أهل المودة ما يكون، أما في الآخرة فإن الله يبدلهم أزواجًا خيرًا من أزواجهم، هل هذا على العموم أو ذلك شيء يختص به مَن كان مزوَّجًا أو الرجل دون الأنثى؟
بعض أهل العلم قال في ذلك شيئًا، والأصل حتى ولو لم يكن له زوج فإنه يرجى أن يُعقبه الله -جَلَّ وَعَلَا- زوجًا خيرًا، سواء على سبيل الابتداء أو على سبيل المقابلة، ويكون فيه معنى المشاكلة أيضًا.
قال: (وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ)، وهذه هي النعمة وهي الجائزة وهي الفضل وهي الرحمة، دخول الجنة والنجاة من النار، الفرح بفضل الله ورضوانه، والنجاة من عقابه وعذابه؛ فهذا أعظم ما يطلب العبد، وأتم ما يسأل -جَلَّ وَعَلَا- والمقصود من حيث الأصل، وإلا فإن أعظم ما ينعم به أهل الجنة هو رؤية وجه الله -جَلَّ وَعَلَا- بعد دخولها، والتنعم بتلك النعمة كما قال الله- سبحانه وتعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾ [يونس: 26]يعني الجنة، قال: ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ وهي نظروا إلى وجه الله الكريم، وقال تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35]، هذا أعظم ما يكون، ولذلك جاء في الحديث الذي في الصحيح لَمَّا قال النبي ﷺ: «إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ». وفي رواية: وزادَ «ثُمَّ تَلا هذِه الآيَةَ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ﴾ »[11]، نسأل الله أن يبلغنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا، وأن يجعلنا وإياكم من المنعَّمين الأخيار، فضلًا منه ونعمة، وألا يكلنا إلى أنفسنا وما اقترفته أيدينا، وأن يعفو عنَّا الخلل والتقصير.
فهذا فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- وهذا دعاء أهل الإيمان لمن مات وسبقهم رجاء أن يشمله العفو والغفران، وأن يدخل في فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- والرحمة والرضوان، وأن يسلم من البلاء والجحيم والنيران.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ)}،
وهو أيضا طلبٌ لَمَّا يكون في دار البرزخ من الفسحة فيها والنور، فإنه جاء من أهوال القبر وأحوال المقبورين ما هو محفوظٌ في السنة معلوم، وأهل السنة على أنَّ عذاب القبر ونعيمه قطعٌ حاصلٌ بما صحَّت بذلك الأخبار عن النبي ﷺ وإن لم يشعر بذلك العباد، وإن لم يروا في ذلك تغيرًا لو حفروا قبره، فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- أقدر على عباده، وأقرب إليهم من كل شيء، وإن أحوال القبور ليست كأحوال أهل الدنيا ولا تقاس عليها، وإن كان في الدنيا ما يدل على إمكان ذلك وحصوله، فإن الرجلين ينامان جنبًا إلى جنب فإن هذا يرى في منامه من النعيم والراحة ما يجد في نومته من السَّعة والانشراح، وبجنبه وهو لا يشعر به ما يرى في منامه مِن بلاء من شدَّة ما لا يشعر به كل مَن حوله، فإذا كان ذلك في أحوال أهل الدنيا متصورٌ ممكن، فإن ذلك في أحوال الآخرة أظهر وأتم، فكيف وقد صحَّت بذلك الأخبار؟ وهي قاطعة للنظر والآراء والعقول والتحكمات فإنما أهل الإسلام بالاتباع والاهتداء.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ وَفَرَطًا وَأَجْرًا وَشَفِيعًا مُجَابًا، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ، وقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيمِ)}.
يقول أهل العلم: إذا كان صغيرًا أو مجنونًا ما لا تكليف عليه فإنه لا ذنوب عليه، فقد لا يحتاج إلى دعاء بالمغفرة والرحمة، فإنَّ الله يغفر له ويتجاوز عنه، لأنه لم يبلغ قلم التَّكليف، ولم تُسجَّل الآثام، فلم يجرِ عليه القلم بما اقترفت يداه، والقلم مرفوع عنهما في حال حياتهما: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ، ولذلك قالوا إنه يدعى له: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ)، هل يكون هذا الدعاء بدل الدعاء كله أو لا؟
بعض أهل العلم يقول: إن ما يكون من أول الدعاء (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَ) فإنه يدعى به؛ لأنَّ هذا دعاء لكل ميت، ثم بدل أن يقول (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ) استحسن بعض أهل العلم أن يكون الدعاء لوالديه؛ لأنَّ هذا جاء عن بعض السلف وليس شيئًا مرفوعًا لكنه مناسبٌ للحال، والحال أن الصلاة على الميت دعاء له، فأنسب ما يكون من دعاء لهذا الميت الصغير والمجنون مثل هذا الدعاء، وكان جامعًا فيما احتوى عليه من طلب السلامة من النار ودخول الجنة والدعاء لوالديه وما لحقهما من مصابٍ بفقده، وبلاء بذهابه وافتلات روحه، فكان من أعظم الأدعية التي تتابع أهل العلم على ذكرها.
قوله: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ)، ذخيرة وأجرًا وفضلًا كما جاء في الحديث: «يقولُ اللَّهُ تَعالَى: ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ»[12].
قوله: (وَفَرَطً) يعني يسبقهم ويعظم به أجرهم.
قال: (وَأَجْرًا وَشَفِيعًا مُجَابً)، كما جاء في الحديث: «لا يَموتُ لإحداكُنَّ ثَلاثةٌ من الوَلَدِ فتَحتَسِبُه إلَّا دَخَلَتِ الجَنَّةَ، فقالتِ امرَأةٌ منهنَّ: أوِ اثنينَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: أوِ اثنينِ»[13].
قال: (اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَ)، فأعظم ما يكون الولد أجرًا لوالديه إذا بلغ وعمل وكان صالحًا، كلُّ ما في ميزان حسناته وما كان من سالف عمله فإنه لوالديه، فكأن هذا الصغير الذي ذهب يستحضر أنه يطلب من الله أن يعوضهم ما لو كان قد بلغ فعمل صالحًا فكتب لهم، فاجعل ذلك الأجر مكتوبًا، واجعل ذلك الأمر محسوبًا، وأتم عليهم النعمة وإن فقداه.
قال: (وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ)، لأنه كما تعلمون هل الاختبار شامل لكل صغار الموتى أو لمن مات من غير أهل الإسلام أو لغير ذلك؟
فالمهم أنهم طلبوا أن يكون من أهل الجنان والله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: 21]، فيُرجَى أن يكونوا كذلك وأن يبلغوا هذه المنزلة.
قال: (وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ، وقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، فهذا دعاء مناسب كما ذكرنا وهو آتٍ به الأثر واستحسنه أهل العلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَقِفُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَلِيلًا، وَيُسَلِّمُ)}.
جاءت بعض الآثار وبعض الأدعية ربما حسَّنها بعضُ أهل العلم، مثل: «اللَّهُمَّ، عَبْدُك وابنُ أَمَتِك احْتاجَ إلى رَحْمتِك، وأنت أَغْنى عن عذابِه»[14]، فسواء جاء بهذه الأدعية أو زاد بما يُدعى به للميت فإن ذلك مناسب، ولذلك المؤلف ذكر في أوله أنه يُدعى للميت سواء بما جاءت به الآثار وهذا أتم، ثم إن زاد أو أعادَ فلا بأس، فلو كان يصلي مع شخص فأطال وانتهى هو من دعائه فيزيد ما يدعو له من دعاءٍ طيبٍ مبارك مما يناسب حاله وهو مقبل على الله -جَلَّ وَعَلَا- متخلِّصٌ من الدنيا، أو يعيد الدعاء ويكرِّره فيكون في ذلك أجرًا وفضلًا.
قال: (ثُمَّ يُكّبِّر الرَّابِعَة) وهي تكبيرة كالثالثة والثانية، فمنهم من يقول برفع اليدين فيها، ومنهم من يقول بعدم ذلك، ولم يذكر فيها شيء، وربما قال بعض أهل العلم: إن قال ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]، فحسن.
قال: (وَيُسَلِّمُ)، والتسليمة في الجنازة تسليمة واحدة عن اليمين كما جاء ذلك عن النبي ﷺ، وإن أتمَّ عن يساره فلا غضاضة في ذلك، لكن الأكمل هو ما جاء عن النبي ﷺ وهي تسليمة واحدة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ)}.
هو المختار -كما قلنا- والأمر في سعة من ذلك وسهولة، ولعلك أن تلحظ هنا أنه لم يذكر ما المتعين من غيره؟
قالوا: إن المتعين هو: التكبيرات الأربع، القيام، قراءة الفاتحة، الصلاة على النبي ﷺ، الدعاء للميت، والتسليم، وأيضا ترتيب ذلك والموالاة فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ تَرْبِيعٌ فِي حَمْلِهَا، وَإِسْرَاعٌ وَكَوْنُ مَاشٍ أَمَامَهَا، وَرَاكِبٍ لِحَاجَةٍ خَلْفَهَ)}.
هذا انتقال من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- إلى الحمل، بعد أن أنهى الصلاة التي سبقها التَّغسيل والتَّجهيز، بعد ذلك حملها، ثم ما يتبع ذلك من دفنها.
فقال: (وَسُنَّ تَرْبِيعٌ فِي حَمْلِهَ)، التربيع هو: أن يحمل النعش من جوانبه الأربع، فيبدأ أولًا باليمين، ثم ينتقل إلى الأخير، ثم يرجع إلى المقدمة اليسرى، ثم يرجع إلى الرابعة، هذا إذا تيسَّر مع عدم زحامٍ، فإن أمكنه ذلك فعل، وهذا أيضًا استحسنه أهل العلم وهو آتٍ عن صحابة رسول الله ﷺ فيسمُّونه "التربيع" يعني أن يحملها من قوائمها الأربع على هذا الترتيب، يبدأ بالمقدمة بالجهة اليمنى منها، ثم المؤخرة اليمنى، ثم المقدمة اليسرى، ثم المؤخرة اليسرى.
قال: (وَإِسْرَاعٌ)، أي: الإسراع بالجنازة والإقبال، وجاء هذا في الحديث أنهم كانوا يسرعون بها، وأيضا جاء في الحديث المشهور: «أَسْرِعُوا بالجِنَازَةِ، فإنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وإنْ يَكُ سِوَى ذلكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عن رِقَابِكُمْ»[15].
قال: (وَكَوْنُ مَاشٍ أَمَامَهَ)، هذا هو السنة، وهو الذي جاء عن النبي ﷺ وأبو بكر وعمر أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة، وأما الراكب فيكون خلفها.
قال: (وَرَاكِبٍ لِحَاجَةٍ خَلْفَهَ)، يعني الأولى أن يكونوا مشاة، وألا يكون راكبًا، لكن إن احتيج فيكون خلف الجنازة، والسبب أن الراكب خلفها لئلَّا يؤذي الماشين، فلو كان أمامهم فربما كان بدابةٍ فرفست أو غبَّرت أو نحو ذلك، فلأجل ذلك قالوا إن الراكب يكون خلفها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقُرْبٌ مِنْهَ)}.
القرب من الجنازة هو الأصل؛ لأنه تشييع، وتشيع الشيء أن يكون معه وبحذائه، أمَّا إذا تقدم كثيرًا أو تأخر كثيرًا فلا يكون، لكن الحقيقة أنه في هذه الأوقات مع نقل الموتى بالسيارات ففي الغالب المقبرة تكون بعيدة عن مكان الصلاة؛ فهذا يصعب مع ازدحام الناس، فعلى كل حال لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، واتقوا الله ما استطعتم، فيجتهد الإنسان حتى يكون أتى على التشييع في تمامه وكماله أن يكون كذلك، فإذا كان خلف الجنازة فهذا أتم وإذا كان بإزائها لا يتقدم ولا يتأخَّر فهذا هو المطلوب، ولكن لا يفعل شيئًا يُضر بنفسه أو بالمسلمين كقطع إشارةٍ أو إسراعٍ حتى يكون مع الجنازة؛ فإنما قد يحصل من الشر أو يحصل من السوء أعظم ما مما يحصل من الخير ويطلب من الفضل.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَوْنُ قَبْرٍ لَحْدً)}.
المؤلف شرع الآن في أحكام قبره وإدخاله، والسنة طبعًا أن يسلَّ الميت سلًّا، يعني أن يؤتى إلى القبر من جهة القدمين، ثم يؤتى به فيُسلَّ سلًّا، فهذا هو السنة، فيدخل ويكون القبر اللحد، واللحد أن يحفر، والحفر هذا ليس فيه قدر معين لكن ما يُحفظ به من الهوام والدواب أن تحفر ذلك فتصل إليه فتنتهك حرمته، ويمنع خروج رائحة وغيرها، فيكون مترًا يزيد قليلًا ينقص قليلًا، هذا يختلف فيه أو يتقارب فيه الناس، ويختلف أيضا بحسب بعض الأرض وصعوبتها ووعورتها والحاجة إلى الزيادة من عدمها.
فإذا حفر يكون اللحد، بمعنى أن يأخذ ذات اليمين، فهذا هو السنة، وهذا هو الأكمل، قال ﷺ: «اللَّحدُ لَنا والشَّقُّ لغيرِن»[16]، أما الشق فقد يحتاج إليه في بعض الأحوال، إذا انتهوا فيُجعل له مكان نهاية الحفرة بين المكانين أو يحفر زيادة، فيُجعل الميت ثم تُجعل اللبنات عليه، هذا هو الشق، وهو مكروه إلا لحاجة كما لو كان في مكان فيه هددٌ، فاللحد لابد من أن يكون في مكان تثبت فيه الأرض وتتماسك، فإذا كان في نحو أرض فيها هدد كما لو كانت رملية أو نحوها فيتعذر في مثل نحو ذلك اللحد، فإذًا يقول المؤلف- رَحِمَهُ اللهُ- الأولى هو اللحد متى ما أمكن، فإن لم يمكن فالشَّق، لكن لا يصار إلى الشق بدون حاجة إلى ذلك، فإن النبي ﷺ كره وقال: «والشَّقُّ لغيرِن».
فإذا وُضع جُعلت اللبنات، وأغلق على الميت وثُبِّت، وهذه هي السنة، ثم أُهيل عليه التراب، وهذه حالٌ ليست باليسيرة، فانظر كيف يفعل المرء بأبيه وأمه وأهله وأقرب الناس إليه، ومَن عاش معه سبعين عامًا أو ستين، ومَن اختلطت ضحكاتهم بأفراحهم وبأحزانهم وبمعاناتهم، ما الحياةُ إلا هذه! أن يُهال التراب، وأن يُودع في القبر الأحباب، هذه سنة الله -جَلَّ وَعَلَا- في الفراق والانتهاء من الدنيا، ولذلك قالت فاطمة -رضي الله تعالى عنها- مقولة: "كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب!"، لكن هدي النبي ﷺ أتم، ولكن كلامها على سبيل العظة والعبرة والتأوَّه لفقده، وتعظيم ما أصيبت به، وإلا فليس قولٌ إلا تسليم واستسلام، وانقياد وطاعة لما جاءت به السنة عن النبي ﷺ.
قال بعد ذلك: (وَقَوْلُ مُدْخِلٍ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ»)، جاءت بهذا السنة.
ثم قال: (وَلَحْدُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ)، أن يكون على الشق الأيمن هذه هي السنة، فإذا كان التيامن مشروعٌ في كل الأمور فهو أهم وأتم وأعظم ما يكون في مثل هذا الموضع، الذي هو موضع إقبال على الله وانتقال من الدنيا وإقبال على الآخرة، وتحول من دار إلى دار.
قال: (وَيَجِبُ اسْتِقْبَالُهُ الْقِبْلَةَ)، قال بعضهم: إنه واجب؛ لأن النبي ﷺ قال: «قِبلتِكمْ أحياءً وأمْواتً»[17]؛ ولأن الميت وإن لم يستطع فعل ذلك فإنه واجب علينا أن نقوم مقامه، وأن نفعل ما يليق به، وأن لا نقصر في ذلك، طبعًا إلا أن يحول بين ذلك حائل.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ -بِلَا حَاجَةٍ- جُلُوسُ تَابِعِهَا قَبْلَ وَضْعِهَا، وَتَجْصِيصُ قَبْرٍ، وَبِنَاءٌ وَكِتَابَةٌ، وَمَشْيٌ)}.
قوله: (وَكُرِهَ -بِلَا حَاجَةٍ- جُلُوسُ تَابِعِهَا قَبْلَ وَضْعِهَ)؛ لأنَّ النبي ﷺ نهى عن الجلوس عند الجنازة حتى توضع، ولأن النبي ﷺ لَمَّا مرَّت جنازة قام، فقيل له، قال: «إن للموت فزع»، وفي بعض الأحاديث قيل له: إنه جنازة يهودي. فقال: «إنَّ لِلمَوتِ فَزَعً»[18].
ولذلك قال بعض أهل العلم: إن القيام للجنازة سنَّة، هو في الأصل أنه تعين بهذا الحديث لكن لَمَّا جاء في بعض الأحاديث «قام رسولُ الله ﷺ، ثم قعَدَ»[19]؛ فجمع بينهما أهل العلم أنَّ بقاء استحباب القيام، وأن ترك ذلك تفويت للسنة، وليس نسخًا للقيام على الإطلاق، ولذلك إذا جيء بالجنازة في المسجد وقُرِّبت فالسنة أن يقام عند مجيئها، وكذلك إذا حُملت للخروج بها، وفي المسجد جالسا فيقوم حتى تخرج أو حتى تذهب ثم يبقى.
والسنة بالمناسبة أنَّ الصلاة على الجنائز تكون في مصلًى مخصوص، والأولى ألا تكون في المسجد، فإن كانت في المسجد فحسن؛ لأنَّ النبي ﷺ جاء في صحيح مسلم «صَلَّى رَسولُ اللهِ ﷺ علَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ في المَسْجِدِ»[20]، أو كما جاء عن النبي ﷺ، المهم أنه ثبت في ذلك فيه حديث.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ -بِلَا حَاجَةٍ- جُلُوسُ تَابِعِهَا قَبْلَ وَضْعِهَ)، أما إذا احتاج كمريض أو كبير أو غير ذلك لاتقاء شيء، فلا بأس بذلك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَجْصِيصُ قَبْرٍ، وَبِنَاءٌ)، حال أهل الإسلام الاتباع في كل ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، حتى في وضع القبر والمقبور، وحتى في الاقتداء في ذلك والتسليم، فلا تعظيم للقبور ولا تجصيص، وهذا باب من أبواب الشرك عظيم، والكراهة هنا في أصح قولي أهل العلم أنها كراهة تحريم ومنع وتشديد، فالنبي ﷺ نهى أن يُجصص القبر وأن يُبنى عليه سواء كان في ما قرب منه أو ما بعد، والنبي ﷺ حذَّر من ذلك في تعظيمها وتكبير شأن القبور والتَّعلُّق بها واعتقاد شيء فيها، قال ﷺ: «لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ. يُحَذِّرُ مثلَ ما صَنَعو»[21]، كما في حديث جندب، ونهى عن تجصيص القبور والبناء عليها؛ كل ذلك في الأحاديث الصحيحة عند مسلم وغيره، فكل ذلك ممنوع ومطلوب تركه، وهو من أعظم الشرك، ولذلك لَمَّا شاعت في الأزمنة المتأخرة عند بعض أهل الإسلام تقليد النَّصارى وغيرهم في البناء على القبور والكتابة عليها وإنارتها، حتى ربما وصل الحال في بعض أن يُجعل سدنة وأوقاف على تلك القبور ما كان ذلك إلا سبيلا للبلاء والشر، فعُظِّمت هذه القبور وتُوجِّه إليها من دون الله ورُجِيَ بركتها، وطِيفَ بها كما يُطاف ببيت الله، وأجمع أهل العلم على أنه لا يُطاف تعبُّدًا إلا ببيت الله -جَلَّ وَعَلَا- لله تقربًا وإذعانًا، أمَّا مساواة هذه القبور ببيت الله أو تعظيمها بما يكون سببًا للبلاء والشر؛ فإن ذلك كله مخالف للسنة، يحصل به البلاء والشر والفتنة، والله يتولانا برحمته بهذا القدر.
انتهى الوقت، لعل فيما ذكره كفاية وبركة، أسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء، وأن ينفعنا بما سمعنا وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعنا به، وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم آمين.
{جزاكم الله خيرا ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستأذنكم في أن نستكمل ما تبقى في مجالس قادمة -إن شاء الله- إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------
[1] صحيح مسلم (957).
[2] رواه البخاري (756)، ومسلم (394).
[3] ابن خزيمة (479)، والبيهقي (2/ 30)، أحكام الجنائز للألباني (150)، وقال: روي من طريقين يتقوى أحدهما بالطريق الآخر.
[4] أخرجه أبو داود (3199)، وابن ماجه (1497)، صححه الألباني.
[5] أخرجه أبو داود (2751) واللفظ له، وابن ماجه (2685)، وأحمد (6797).
[6] أخرجه البخاري (7386)، ومسلم (2704).
[7] صحيح البخاري (6351).
[8] أخرجه أبو داود (3201)، والترمذي بعد حديث (1024)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10919)، وابن ماجه (1498) واللفظ له، وأحمد (8809).
[9] أخرجه الترمذي (2641) واللفظ له، والطبراني (14/53) (14646)، والحاكم (444).
[10] أخرجه أبو داود (3116) واللفظ له، وأحمد (22034).
[11] صحيح مسلم (181).
[12] صحيح البخاري (6424).
[13] أخرجه مسلم (2632).
[14] السلسلة الضعيفة للألباني (1756)، وحسنه ابن الملقن في تحفة المحتاج (1/596).
[15] أخرجه البخاري (1315)، ومسلم (944).
[16] أخرجه أبو داود (3208)، والترمذي (1045)، والنسائي (2009)، وابن ماجه (1554).
[17] أخرجه أبو داود (2875)، والنسائي (4012).
[18] الجامع الصحيح (2183).
[19] أخرجه مسلم (962).
[20] صحيح مسلم (973).
[21] أخرجه البخاري (4443، 4444)، ومسلم (531).