الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

23135 18
الدرس الثاني عشر

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، وصلَّى الله وسلم على خير مَن صلَّى وصام، وتعبد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام.
ثم أما بعد؛ فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ دكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله وحيا الله الإخوة المشاهدين وحيا الله المشاهدات، وحيا الله الجميع.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ -بِلَا حَاجَةٍ- جُلُوسُ تَابِعِهَا قَبْلَ وَضْعِهَا، وَتَجْصِيصُ قَبْرٍ، وَبِنَاءٌ وَكِتَابَةٌ، وَمَشْيٌ، وَجُلُوسٌ عَلَيْهِ، وَإِدْخَالُهُ شَيْئًا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَتَبَسُّمٌ، وَحَدِيثٌ بِأَمْرِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى وأصحابه وسلم تسليم كثيًار إلى يوم الدين.
أما بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإياكم ممن طابت حياته، واستقامت أيامه، وأن يجعل لنا خاتمة طيبة، نلقى بها الله -جَلَّ وَعَلَا- في أحسن حال، متخلصين من الدنيا وحقوقها، مقبلين على الآخرة راغبين فيها، وألا يجعلنا من أهل البلاء والفتنة، إن ربنا جواد كريم.
لا يزال الحديث موصولًا -أيها المشاهدون والمشاهدات طلاب العلم وطالباته- في ما يتعلق بالقبور والدفن وحق المقبور ما يليق به، فذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعضَ ما يُكره مما جرى عادة كثير من الناس بفعله وهو بابٌ من أبواب الشر والمخالفة، وباب من أبواب مشابهة المشركين، ووسيلة وسائر الشرك بالله -جَلَّ وَعَلَا-، إلى أن قال المؤلف وأظن أننا أخذنا ما يتعلق بالجلوس من قوله: (وَتَجْصِيصُ قَبْرٍ، وَبِنَاءٌ)، قال: (وَكِتَابَةٌ)، هذا نوع من أنواع التعظيم أو الغلو أو التعلق بالموتى، أن يكتب اسمه أو أن تُكتب بعض العبارات التي تزيد من شأنه، فإنَّ هذا بابُ شرٍّ، فلأجل ذلك نُهي عنه ومنع، فليس بين المقبورين تفاوت ولا اختلاف، وليست إلا القبور وما ينصب من نصبٍ أو حجرٍ يعرف به أن هذا ميت فلا يعتدى عليه، ولا يكون فيه مشي أو انتهاك لحرمته.
قال: (وَمَشْيٌ)، المشي على القبور منهي عنه، لأن حرمة الميت ميتًا كحرمته حيًّا، ولا يُمشي عليه كما أنه لا يُجلس على القبور على ما ذكر المؤلف وفي المسألة بعدها.
هل يشمل أيضا شيئا آخر؟
بعضهم قال: المشي بالنعل بين القبور لِمَا جاء في الحديث بالنهي عن ذلك، فيمشي حافيًا، لكن قالوا: لو كان عليه خفٌّ أو زرمولٌ أو نحوه من الأشياء التي يصعب نزعها فلا ينزعها، لكن الأحسن حالَ الدفن أن يكون الإنسان في مشيه بين القبور إذا كان يمشي بينها أن يكون حافيًا، تأسيًا بما جاء به الحديث، وأيضًا كأنه تعظيم للقبور، وحفظ لحقوق أهلها.
قال: (وَجُلُوسٌ عَلَيْهِ)، كما جاء في الحديث «نَهَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عليه، وَأَنْ يُبْنَى عليه »، وكما قلنا أيضًا: هذا نوع انتهاك لحرمته واعتداء عليه، فكما أنه يُحفظ في حال حياته أن يُستطال عليه، أو يُنال منه أو يُؤخذ من حقه، فمن ذلك التَّضييق عليه في مجلس، فكيف إذا كان بالجلوس عليه، فكما أنَّ ذلك في حالِ الحياة لا يتصوَّر وهو إقلال من حق الإنسان وإنقاص منه، فلمَّا كان الإنسان ميتًا وهو لا يستطيع الدَّفع عن نفسه ولا حفظ حقه، فإنَّ أهل الإيمان يحفظون حقه، ويعرفون قدره، ويؤدون ما أمر الله به.
قال: (وَإِدْخَالُهُ شَيْئًا مَسَّتْهُ النَّارُ)، يقولون: الأحسن ألا يكون فيه شيء مسته النار تفاؤلًا بأن يسلمه الله -جَلَّ وَعَلَا- من العذاب وطلبًا للنجاة، ولذلك حتى اللَّبن هو الأحسن، فلا يجعل مثلا آجر -وهو الطين الذي عرض على النار حتى يحمر أو نحو ذلك- فقدر الاستطاعة أن يجنب ذلك تفاؤلًا بسلامته.
قال: (وَتَبَسُّمٌ، وَحَدِيثٌ بِأَمْرِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ)، المقام في حال الدفن مقام عظيم، مقام خوف وتذكر للآخرة وتعظيمٌ لها، فحال المتبسم وحال المتحدِّث بأمير الدنيا غير عابئ بهذا المنظر وبهذه الحال التي هي حال انتهاء لعمر هذا الشخص وانتقال لآخرته وإقبال على ربه، فلا يُدري ما يكون من الحال أنجاة ونجاح وفوز وفلاح أم بلاء وشر وعذاب؟ حال عظيمة! فلا يحسن أن يكون الإنسان على غير ذلك، ولذلك كان حال النبي وأصحابه أن إذا كانوا عند القبر كأن على رؤوسهم الطير، فالذي على طير -عصفور أو غيره- يتحرك؟ حتى حركة الرموش عينه يحسب لها حسابًا، فكما أن الإنسان إذا كان كذلك لو كان عليه طير فإنه إذا كان في الدَّفن من السَّكينة والخضوع والتَّعظيم لتلك الحال استنانًا بحال النبي وأصحابه وتعظيمًا لهذه الحال وشفقةً منها ما يمتنع من ذلك، ولذلك لما رأى ابن مسعود رجلًا يضحك حَصَبه -يعني رماه بالحصباء- ولم يكلمه وهجره لأجل هذا، يعني كأنه مستهتر! وأعظم من ذلك الحديث في الدنيا، فهذا مقام الإقبال على الآخرة، وكأن الإنسان لا منتهى لحياته، أو لن يرد هذا المورد، أو لن يأتي اليوم الذي يوضع في هذا الموضع؛ فهذا حالٌ من حالِ أهل الاستخفاف والتعلق بالدنيا والفرح بها، وعدم الاتعاظ بالمواعظ والتذكر بالموت وما من الخشية والفزع والحال، إذا كان النبي لما رأى ميتًا وهو يهودي قام وقال: «إنَّ لِلمَوتِ فَزَعً» ، فكيف إذا كان قريبًا ومن أهل الإسلام، وأنت تحضر مراسم دفنه وأحوال انتقاله، وما يكون فيه من الدعاء له؟! فلا يجوز للإنسان أن يكون منشغلًا بأمر الدنيا أو مُقبلًا عليها، بل يعظِّم هذا الموطن ويؤدي حقه، ويتأسَّى بنبيه .
{أحسن الله إليكم،.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ)}.
الأصل أن لكل شخص قبرًا، وهذا هو الذي جاءت به السنة، وهو الذي فيه حفظ لحق الميت، لكن إذا اضطر إلى ذلك جاز.
ما الضرورة؟
أن يكثر الموتى، كما لو كان -نسأل الله السلامة والعافية- في حال بلاءٍ أو حربٍ، أو كان ذلك في حال وباءٍ ومرضٍ؛ فليس مجرد كثرها مسوغ لأن يُدفن اثنين، إلا لو خيف عليها من العفنِ، أو أن تخرج روائحها، أما إذا أمكن فحتى لو كانت كثيرة، ما دام أنه يمكننا أو يسهل علينا الحفر كما في هذه الأوقات مما وُجد من الآلات وسهولة الحفر وتيسير ذلك فلا حاجة.
إذًا قوله (لِضَرُورَةٍ)، فالضرورة لا تُستَبحْ إلا لأمرٍ لا مناص منه، وهو أن يتعفن الميت ويخاف خروج رائحته، فإن من حق الميت أن يُحفَظ، وأن لا يُلحق به مثل هذه الحال.
والأصل في جواز ذلك للضرورة: ما كان في غزوة أحد لما كثر الموتى في المسلمين، وكان النبي يدفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وكان يأمر أن يُقدَّم أكثرهم قرآنًا، فهذا القبر تعظيم للميت، والأصل أن يشركه فيه غيره، فإذا شُرِكَ فيجعل المقدم، والمقدم يكون بحسب ما له من الفضل في الدنيا وعُرفوا من المنزلة في القرآن.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَيُّ قُرْبَةٍ فُعِلَتْ وَجُعِلَ ثَوَابُهَا لِمُسْلِمٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ نَفَعَهُ)}.
هذا انتقال من المؤلف إلى مسألة ليست داخلة في مسائل الميت ولا التكفين ولا الحمل ولا الصلاة، ولكنها متعلقة بذلك والحاجة داعية إلى معرفتها، وهي: إهداء الثواب إلى الميت، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَيُّ قُرْبَةٍ فُعِلَتْ وَجُعِلَ ثَوَابُهَا لِمُسْلِمٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ نَفَعَهُ)، مسألة إهداء الثواب مسألة فيها سَعة وفيها فُسحة، فإذا عمل الإنسان عملًا وأهدى ثوابه لمسلم جازَ ذلك وقُبِل، واستدل على ذلك أهل العلم بالصدقة عن الميت، وجاء في الحديث: «فهل لها أجرٌ إن تصَدَّقْتُ عنها؟ قال: نعم» ، «أفأحُجُّ عَنْهُ؟» ، ولكن هنا ينبغي أن يُعلَم أن إهداء الثواب مسألة، وأن النيابة عن الميت مسألة أخرى، فباب إهداء الثواب وجعل الأجر والمثوبة والحسنة لهذا الميت شيءٌ، وإمكان القيام عنه بعمل من الأعمال الواجبة شيءٌ آخر، والإهداء متاح.
لقائل أن يقول: ما الذي يترتب على ذلك؟
نقول: يترتب على ذلك مثلًا لو أن شخصًا قرأ القرآن وختمَه وقال: ثواب هذا لأبي أو لأمي؛ انتقل ثوابه، فيكون له هو ثواب البر والصلة، ويكون للميت ثواب تلاوة القرآن، ومثل ذلك لو أهدى عملًا لصديق أو قريب أو أخ أو زوجة أو نحو ذلك، فهذا هو معنى إهداء الثواب، ويدخل فيه سائر الأشياء، كأن يصلي ركعتين لله -جَلَّ وَعَلَا- صلاة نفل وأهدى ثوابها فحسنٌ، لكن ليُعلَم أن أعظم شيءٍ يُقدَّم للميت هو الدعاء له، وهو الذي أمر به في قوله: «أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له» ، فمن أراد فليكن كثير الدعاء للموتى، وطالبًا للأجر والمثوبة لهم، لكن لو أهدى ثوابًا فإن ذلك نافعٌ وجائزٌ.
أما النيابة عن الميت في الأعمال فهي مخصوصة بما جاءت بها الأدلة عن النبي ، وباب من الأعمال كثير لا تدخله النيابة فلا تكن، أما ما يكون من الأعمال المالية مثل: الحج، فيجوز فيه النيابة، وصيام النذر وليس الواجب، قال : «مَن مَاتَ وعليه صِيَامٌ صَامَ عنْه ولِيُّهُ» المقصود به صيام النذر، وهو ما عليه الجمهور وهو قول الصحابة وقول ابن تيمية وقول جماعة من أهل العلم؛ لأن هذا هو الذي داخل في مسمى النذر.
أمَّا لو مات أحدٌ لا يصلي فتأتي فتصلي عنه فلا، أو واحد مات ولم يصم فتصوم أنت عنه فلا؛ فلا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد.
أما الزكاة: فلو كان عليه زكاة واجبة فتُخرَج من ماله ما يُزكَّى به عنه، لأنها من العبادات المالية التي تدخل فيها النيابة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ لِرِجَالٍ زِيَارَةُ قَبْرٍ مُسْلِمٍ، وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ، وَمَا يُخَفِّفُ عَنْهُ، وَلَوْ بِجَعْلِ جَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فِي الْقَبْر)}.
قوله: (وَسُنَّ لِرِجَالٍ زِيَارَةُ قَبْرٍ مُسْلِمٍ)، هذا فيما يتعلق بزيارة القبور وأحكامها، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: إن زيارة القبور مستحبة، لقوله : «كنتُ نهيتُكم عن زيارةِ القبورِ فزوروها فإنها تُذكِّرُكم الآخرةَ» ، والنبي زار شهداء أحد، وجاء في هذا أحاديث كثيرة، لكنها عند جمع من أهل العلم مخصوصة بالرجال، لأن النبي في حديث أم عطية قالت: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَ» ، فقالوا: إنَّ زيارة النساء منهي عنها؛ ولأنَّ المرأة لما كان فيها من الرقة ويُخاف عليها من أن يكون منها من ذهاب التجلُّد والصبر، وحصول التَّسخُّط والندب والنياحة؛ فلأجل ذلك مُنعت من هذا.
وهل هو على سبيل التحريم؟
هذا قال به بعض أهل العلم، وأخذوا ذلك من أحاديث كثيرة وإن كان في سندها مقال، كقوله : «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ القُبُورِ والمُتَّخِذينَ عليها المساجدَ والسُّرُجَ» ، فاختُلف في هذا الحديث في صحته وعدمه، وعلى كل حال هذا مما نُهي عنه على سبيل الكراهة.
فإذا عُلم أنه يكون منهن محرم فإن ذلك يحرم، كنوعٍ تسخُّط أو شيء من ذلك.
هل يستثنى من هذا شيء؟ أو هل الكراهة مرفوعة؟
بعضهم رفع الكراهة وقالوا: إن عائشة زارت قبر أخيها، وأذن لها النبي في ذلك.
وبعضهم قال: إنما يستثنى من ذلك زيارة قبر النبي وصاحبيه، فتجوز للنساء كما للرجال.
وعلى كل حال؛ ينبغي أن يُعلَم أنه إذا احتفَّ بذلك ما يكون محرمًا فإن الأمر فيه واضح.
أيضًا إذا كان يُخاف من حصول الندب أو النياحة ونحوه فإن هذا مما يُنهى عنه، وإن الميت يعذب بما نيح عليه من بكاء ونحوه، أيضًا إذا كان ذلك سبيلًا من وسائل الوقوع في الضلال فإنَّ النساء رقيقات في الديانة، فربما تمسَّحت بقبر أو تعلَّقت به أو نحو ذلك، وهذا يلحظ في الأزمنة المتأخرة أن النساء إذا دخلنَ بعض المقابر حصلَ منهن من الجلوس عند ذلك القبر، وفعل ما لا يصح فعله، سواء كان ذلك في البكاء أو التَّمسك بالقبر أو غير ذلك، فإذًا هي ذريعة إلى شرور كثيرة لأحد لها، فمَن قال من أهل العلم؟ بأن الأولى عدم ذلك فهو أقرب وأتم في السلامة من الشر.
قال: (زِيَارَةُ قَبْرٍ مُسْلِمٍ)، فلا يُزار قبر غيره، وهذا بناء على قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71].
قال: (وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ)، يُقرأ عنده القرآن، هذا يعني باعتبار كما أن الميت لو كان له بجواره رجل صالح فيُرجى وصول الخير إليه، فإن حصول القراءة بنحو ذلك ذكروا أنها تكون لا بأس بها، على كل حال؛ الذي جاء هو الدعاء للميت إذا زِيرَ، فمن زار قبرًا فالأولى هو الدعاء له وطلب له الخير والأجر والمثوبة وغفران الذنوب وأن يفسح له في قبره وبنور له فيه.
{أحسن الله إليك، قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ، وَمَا يُخَفِّفُ عَنْهُ، وَلَوْ بِجَعْلِ جَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فِي الْقَبْرِ)}.
قوله: (مَا يُخَفِّفُ عَنْهُ، وَلَوْ بِجَعْلِ جَرِيدَةٍ)، هذا جاءت به السنة في قوله : «مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بحَائِطٍ مِن حِيطَانِ المَدِينَةِ، أوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ: بَلَى، كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ دَعَا بجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ علَى كُلِّ قَبْرٍ منهما كِسْرَةً، فقِيلَ له: يا رَسولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هذا؟ قالَ: لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عنْهما ما لَمْ تَيْبَسَا أوْ: إلى أنْ يَيْبَسَ» ، فبعض أهل العلم قال: إنه تجعل جريدة، وإن الجريدة الرطبة تسبح حتى تيبس، فسيحصل لهما من ذلك من هدوء حالهما، وانتفاعهما بجوار من جاورهما من المسبِّحين لله، ولو كانت من هذه النباتات.
وبعضهم قال: إن هذا غير مشروع، لأن فعل ذلك هو نوعُ ظن سوء بهذا الميت، وذلك أن النبي أطلعه الله إلى ما لا يطلع عليه أحد من البشر، فكون هذين القبرين يعذبان فهذا إنما هو إخبار من الله لنبيه، وذلك مخصوص به هو لا يشركه في غيره، فغيره من الناس ومن سواه من الخلق معمًّى عنه حال هذا الميت من بلاء أو شر أو خير أو رحمة، فكأنه لو جعل ما جعل النبي لكانَ ذلك ظنُّ سوء به أنه يعذب وأنه سيحصل له به التَّخفيف.
فلأجل ذلك قالوا: إن هذا لا يتأتَّى لأحد سواه، ولأنَّ ما سواهما من المقبورين الذين قبرهم النبي وربما كانوا أتم منهما حالا وأصلح منهما لم يفعل ذلك، كالمرأة السوداء وأصحابه المقربين وشهداء بدر وأحد وغيرها، فعُلم من ذلك أن مثل ذلك لا يتأتَّى إلا للنبي فلذلك رأى جمع من المحققين أن ذلك لا يُفعل، لكن على كل حال لو فُعل ففيه ما له منه أصل ومستمسك يُستمسَكُ به.
{أحسن الله إليكم قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَوْلُ زَائِرٍ وَمَارٍّ بِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ»)}.
هذا الدعاء هو دعاء المرور بالقبر وزيارة القبور، وهو ثابت عن النبي في الأحاديث الصحيحة، قال: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ»، والدعاء الآخر الذي سيذكره: «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ»، فمثل هذه الأدعية فحسن إذا زار الإنسان قبرًا أن يقول مثل ذلك.
{أحسن الله إليكم قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَعْزِيَةُ الْمُصَابِ بِالْمَيِّتِ سُنَّةٌ، وَيَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ، وَحَرُمَ نَدْبٌ)}.
قوله: (وَتَعْزِيَةُ الْمُصَابِ بِالْمَيِّتِ سُنَّةٌ)، التعزية: هي التسلية والتقوية، فإذا عزَّيت مصابًا فكأنك قويته فيما ضعف فيما أصابه، وسلَّيته عمَّا نزل به، لأجلِ ذلك كانت التعزية سُنة، فيؤتى إلى المصاب ويدعى للميت فيُقال: "غفر الله لميتكم وأعظم الله أجوركم"، ونحو ذلك من الأدعية، جاء أيضًا قول: «لِلَّهِ ما أخَذَ ولِلَّهِ ما أعْطَى، كُلٌّ بأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ ولْتَحْتَسِبْ» ، هذا فيه نعو تقوية، وإن كان النبي قال مثل هذه المقالة لمن كانت تفتلت روحها ولما تخرج، لكنه تقوية يحصل بها ثبات المؤمن، فلأجل ذلك بعضهم قال: إنها تقال حتى للميت في ذلك، فتعزية المصاب بذلك سنة مستحبة ومسنونة.
قال: (وَيَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ)، هذه مما جبلت عليه النفوس بالحزن لفوت حبيب وفقدِ قريب ونحوه، وبكى النبي على فواتِ حبيبه وابنه وقال: «إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» ، ولما قدَّمت إليه بنته ولدًا لها ونفسه تقعقع، فدمعت عينه، حتى نزلت دمعته، فقيل له: تبكي يا رسول الله؟ قال: «إِنَّهَا رَحْمَةٌ» فلا غضاضة من البكاء.
فإن قال قائل: جاء في الحديث أن النبي قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ؟
نقول: لأهل العلم في ذلك مسالك في الجواب عن هذا الحديث، كيف جاء الإذن بالبكاء والنبي بكى وهذا مستقر؟ وكيف يعذب؟
بعضهم قالوا: إن هذا الحديث محمول على الرواية الأخرى: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» ، يعني النوح والنياحة.
أو قالوا: ذلك لمن أوصى بأن يُناح عليه ونحو ذلك.
وقيل: إن المقصود بالعذاب هنا هو التألُّم، فأنت إذا رأيت قريبا لك يبكي تتألَّم، فالمقصود هنا لا التعذيب الذي هو بمعنى العقاب والحساب، وإنما هو بما يلحقه من الأسى ويدخل عليه من الحزن، فالميت يحزَن لبكاء عليه.
إذًا؛ الحديث إما أن يُحمل على الحال المنهية وهو حال مِن النياحة ونحو ذلك، وما يحصل أيضًا في سالف الأزمان أنهم كانوا يوصون أن يُباك عليهم وأن ترفع بذلك الأصوات ويؤتى بالنواحة التي تنوح ونحوه؛ فيحمل على ذلك، وإلَّا فاني الله لا يظلم أحدًا، وهذه هي القاعدة المستقرة.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ نَدْبٌ، وَنِيَاحَةٌ، وَشَقُّ ثَوْبٍ، وَلَطْمُ خَدٍّ وَنَحْوُهُ)}.
قوله: (حَرُم)، يعني يلحق الإنسان معها الإثم، والمحرم هنا هو ما كان عليه أهل الجاهلية، وما وجد ممن لم يستقم ولم يرضَ بما كتب الله من الأقدار، وأمرَ الله من التَّجلد
والصبر والاصطبار، وما كان من حال أهل الجاهلية أنهم إذا مات ميتهم رفعوا الأصوات: مات فلان وهو الذي كان يصل الرحم ويكرم الضيف وفيه! فالندب هذا منهي عنه، فإنما الحال حال ترحُّم له، وطلب للمغفرة والرحمة، أما ما يكون من نعي أهل الجاهلية وندب الميت والبكاء مع تَعداد المحاسن فإن ذلك ليس بجيد.
ومثل هذا النياحة، فيجمع نياحة وتعدادًا للمحاسن برفع الصوت بالبكاء ونحوه فهذا منه عنه.
قال: (وَشَقُّ ثَوْبٍ)، فكان بعض أهل الجاهلية يشق الثوب أو يلطم الخد أسًى على ما فات، وكل هذا نوع تسخُّط وعدم تسليم بالقضاء والقدر، وإيمان بما كتب الله على العباد بالنهاية من هذه الدار والانتقال من الحياة؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن 26 – 27].
لكن هنا مسألة يكثر الحقيقة الإشكال فيها وهي: الاجتماع عند حصول الموت، هل هذا الاجتماع منهي عنه؟
هو شائعٌ عند كثير من الناس، ولو امتنع شخصٌ من أن يحضر ذلك فإنه يؤخذ عليه ويجد الناس في نفوسهم عليه شيئًا، فالحقيقة جاء فيه أثر، وهو: "كنا نعد الاجتماع وصنع الطعام للميت من النياحة"، فهل في هذا إشارة إلى المنع؟
هذا الأثر من جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومن الصحابة نظرٌ إلى صورة محدودة مكتملة، اجتماع ويصنع أهل الميت الطعام؛ فهذا هو نوع من المخالفة، أمَّا إذا جاء الشَّخص من بعيد وجلسَ، أو تباعدت بيوت الناس وخيف أن يُكلَّف عليهم في أن يتنقَّل بين عزاء أبناء الميت هذا في بيته وهذا في بيته وهذا في بيته فكانوا في مكان واحد تخفيفًا على الناس ونحوه؛ فهذا لم يكن حال أهل الجاهلية الذين يصنعون الطعام ويجتمعون ويقصدون بذلك تعظيم هذه المراسم.
ومثل ذلك أيضًا -وهذا نص عليه ابن قدامة وغيره- أنه مثلًا ما كانوا يصنعون الطعام، لكن جاء واحد من بعيد، جاء واحد من جدة مثلًا؛ فلا يترك، فلأجل ذلك يجب ألا يفعل مثل هذه الحال المنهي عنها، وأن لا يشدد إذا اجتمع أهل الميت تخفيفًا عن الناس وكان الطعام يصنع لهم لأنهم لم يقصدوا الاجتماع ونحو ذلك إلا أنهم يخفِّفون على مَن أرادَ صلةً أو تغذيةً أو قيامًا بهذه السنة أن يكون ذلك أيسر عليه وأسهل.
انتهينا الآن من كتاب الجنائز، وهذه إشارات لطيفة ومختصرة في شرح هذا الكتاب، فكل ما سبق هو حلٌّ للَّفظِ تنبيهٌ على ما يُحتاج إليه في أقصر عبارة، وإلا فمثل هذه المسائل تحتاج إلى بسطٍ لو كان المجال مجال ذلك، لكن لا شك أن الطالب أخذه للمختصر الذي مبنيٌّ على أصله ومستقرٌّ عند أصحابه أولى من التشتتات بذكر الأقاويل، ونقل الخلافات، والانتقال إلى تفصيلات ربما تضيع الطالب في تفاصيل المسألة عن أصلها، وما ينتفع فيه منها بتفريعات قليلة أو أمور صعبة، أو مسائل لا تقع إلا شيئًا قليلًا، فلأجل ذلك كانت البداية بالمختصرات والعكوف عليها وضبطها، والإتيان على أصول المسائل وتذكُّرها هو النافع بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الزَّكَاةِ)}.
هذا ابتداء في أحكام زكاة بعد أن أنهى الكلام على الصلاة، وجعلها كذلك هو اقتداء وتأسٍ واهتداء، فإن الزكاة في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- قرينة الصلاة، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ، في غير ما آية من كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا.
وكذلك أيضًا في حديث ابن عمر: «بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ» ، فعدَّها بعد إقام الصلاة، فكان أنسب ما يكون ذكر الزكاة بعد الصلاة.
فإذًا الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يجتهدون في التأسِّي ويستنفذون وسعهم في الاتباع، وربما تتباين بعض آرائهم في مناط ذلك والمأخذ أيهما أقرب، لكن في كل هذا هم لا يفعلون الشيء من عند أنفسهم، ولأجل ذلك مثلًا "كتاب الجهاد" بعضهم يذكره بعد الحج اعتبارًا بأنه عبادة، وهذا ذكر للعبادات فذكر معها، وبعضهم يأخذه على أنه لا يتأتى إلا بعد استقرار الأمور وأن أحكامه متفرِّعة على ما يأتي من السَّبي وما نحو ذلك، فجعله في أواخر كتاب الفقه ونحو ذلك؛ فعلي كل حال هي مآخذ ونظرات والفقهاء في ذلك يجتهدون وينفذون في ذلك وسعهم، ويتَّبعون في ذلك قدر استطاعتهم ما وصل إليه نظرهم من اتباع الأدلة والنظر فيما جاء من النصوص.
قوله: (كِتَابُ الزَّكَاةِ).
الزكاة: من التزكية، وهي النماء والزيادة، فهذا معنى واضح في تسمية الزكاة زكاةً، فهي بذل للأموال، وهي الصدقة، وهي الإحسان إلى المحتاج، لكن لما كان كل ذلك يتأتَّى به زكاة النَّفس وصلاحها ويحصل للعبد تعظيمُ أجره وفضله عند ربه سُمِّيَت زكاة، ولذلك قال الله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [التوبة: 103].
ويذكر في نحو الزكاة وفي نحو الصيام وفي بعض المسائل حتى أحيان في الصلاة ويقال: أن هذه العبادات تقريبًا وفيها فوائد، هذه رياضة، وهذه تنمية للأموال حتى يجتهد الإنسان ويعمل.
تقول: صحيح هذه موجود أثرها، لكن ليس هي مبنى الأحكام، مبنى الأحكام هو التعبد لله -جَلَّ وَعَلَا-، مبنى هذه المسائل والعبادات هو الاقتداء بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، حتى ولو لم يظهر لنا أن فيها نماء للمال، فإنَّما حال أهل الإيمان: سمعنا وأطعنا، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ﴾ [النور: 51]، فهو استجابة واستسلام، فالإسلام هو: الاستسلام والانقياد لله، فيجب أن يُستحضر ذلك، ما يكون من فوائد وما يكون من منافع لا تجعل هي أصلًا في فرض هذه الفريضة أو ظهور هذه الشعيرة، وهذا نوع من الزيغ وهو مسلك لمسالك بعض أهل الأهواء في صرفِ العبادات، وهي شائعة في الأزمنة المتأخرة تحبيبا للناس في هذه العبادات، لكن حقيقتها أنها قد تكون صرفٌ لهم عن حقيقة العبادة، وهو أننا في هذه الدنيا متعبَّدون لله -جَلَّ وَعَلَا- وأنَّنا عباد مخلوقون ذليلون لله -جَلَّ وَعَلَا-، إنما وُجدنا للعبادة وإنما خُلقنا الاختبار، كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك 1 – 2]، إذًا إنما هو ابتلاء ونظرٌ في حسن العمل منه، حتى ولو لم يكن لها أثر في نماء الأموال أو تكافل أو كذا أو غيره؛ إنما هي ابتلاء، فليُجعل هذا في أذهانكم، ولتُبنى تنبيهاتكم للناس وتعليمكم للأحكام على أن العبادة هي تعبد لله وتنسُّك، وإن المقصود الأول والأخير وإن المقصود الأعظم وإن المقصود الذي يجب أن يستقرَّ في النفس إنما هو أداء حق الله، والاستمساك بسنة رسول الله لا غير، وما يكون من فوائد أخرى فإنما هذه من بركة العبادة وأثرها.
فهذا تنبيه ينبغي أن يكون حاضرًا في الأذهان، ولذلك بعضهم يجعله حتى من مسالك بعض الفلاسفة، وهذا واضح وله أثر، فهم يقولون: هذه كذا وهذه كذا، ويريدون أن يرغِّبوا الناس في العبادات لا لكونها عبادة ولا لكونها قربة إلى الله -جَلَّ وَعَلَا-، وإنما هي قِوام هذه الدنيا ومصلحة من مصالحها وسبيل لحصوله.
فإذًا؛ الزكاة تزكية للنفوس، وأداء لحق الله -جَلَّ وَعَلَا-، وجاءت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على فرضيتها، أدلة كثيرة من الكتاب والسنة وكذلك إجماع المسلمين، ولذلك يقولون: "أجمع المسلمون" وليس "العلماء"، يعني أن وجوبها ظاهر، ما يختلف فيه أحد، يعرفه القاصي والداني والمتعلم والجاهل، ومَن نشأ في البادية كمن نشأ في الحضر، وندر أن يكون أحد يجهلها، ولذلك قيل: "من المعلوم من الإسلام بالضرورة"، ولو أنكره شخص لم يُعذر بذلك إلا بسبب، إمَّا كونه لتوِّهِ مسلمًا ما يدري، أو كونه في بادية لم يصل إليه العلم، لكن الأصل أن يعلمها الإنسان وأن يعرف الحكم فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (تَجِبُ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَنَقْدٍ وَعَرْضِ تِجَارَةٍ، وَخَارِجٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَثِمَارٍ)}.
هذا بيان من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بيان للأموال الزكوية، يعني التي تجب فيها الزكاة.
قال: (تَجِبُ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)، البهيمة: اسم لكل الحيوانات سوى الإنسان، لأنها تبهم ما في نفسها وما تستطيع أن تفصح، غاية ما يكون من هذه الأشياء إذا مرضت إذا تعبت أن تئن.
بهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم خاصة، سميت بذلك لعِظَم النعمة بها، ولذلك هي التي تعلقت بها الزكاة دون ما سواها، فلا تعلق لأحكام الزكاة بالدجاج ولا بالنَّعام ولا بالخيل، طبعًا إذا لم تكن عروضًا للتجارة، إذا كانت عروضَ تجارة فإنها تجب فيها الزكاة من وجه آخر، لكن كعينٍ لا تجب إلا في هذه الأشياء الثلاثة.
وتجب بشرطها، وسيأتي في كلِّ مال ما يتعلق به بعد أن نأتي إلى شروط الزكاة بجملتها.
قوله: (وَنَقْدٍ)، المقصود بها الذهب والفضة، وأيضا سيأتي ما يتعلق بالكلام عليه فيما يأتي من كلام المؤلف- رَحِمَهُ اللهُ.
قال: (وَعَرْضِ تِجَارَةٍ)، ويُقال (وَعَرَضِ) يصح الوجهان، وهي الأشياء التي تعرض للبيع والشراء والأصل في عروض التجارة قول عامة أهل العلم لا يختلفون فيه إلا قولٌ شاذ لا يعتبر به، وما جاء في السنة: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ» .
وقالوا أيضًا: هذا مشمولٌ بقول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ﴾ [التوبة: 103]، فهي داخلة فيما يتموَّل وينمو، ولأن الزكاة فيما ينمو، فتعلقت بعروض التجارة دون سواه، لو كان للإنسان بيت يسكنه فإنه لا زكاة فيه لأنه لا يدخل في أبواب النَّماء ولا الزيادة ولا المكاثرة والمرابحة.
قال: (وَخَارِجٍ مِنَ الْأَرْضِ)، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 267].
قال: (وَثِمَارٍ)، وسيأتي بيان ذلك -بإذن الله جَلَّ وَعَلَا.
فهذه الأشياء الخمسة التي تجب فيها الزكاة، فعلي سبيل المثال: لا تجب الزكاة في المؤجَّرات، لو كان عند شخص ما يؤجره من سيارة أو من منزل أو نحوه؛ فلا تجب فيه الزكاة، لأنه ليس من الأموال الخمسة، وإنما تجب في هذه الأموال الخمسة بشروطها أيضًا، ستأتي الشروط العامة للزكاة والشروط في كل واحد بخصوصه، ونوضحها في محلها -بإذن الله جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (بِشَرْطِ إِسْلَامٍ، وَحُرِّيَّةٍ، وَمِلْكِ نِصَابٍ، وَاسْتِقْرَارِهِ وَسَلَامَةٍ مِنْ دَيْنٍ يُنْقِصُ النِّصَابَ، وَمُضِيِّ حَوْلٍ إِلَّا فِي مُعَشَّرٍ وَنِتَاجِ سَائِمَةٍ، وَرِبْحِ تِجَارَةٍ)}.
أول شرط تجب به الزكاة: هو الإسلام، لأن الزكاة عبادة، والعبادة لا بد لها من نية، ولا تصح النية من غير المسلم، ولأن العبادة هي قصد الله -جَلَّ وَعَلَا- فغير المسلم لا يقصد الله، ولو قصد الله -جَلَّ وَعَلَا- فإنه لا يخلص له، قال : «مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ» ، والله لا يقبل من العمل إلا خالصًا.
فإذًا لما كان في قلب هذا المشرك مع الله غره لم يقبل منه عمله ولم يصح منه ما تقرب به إلى الله -جَلَّ وَعَلَا-، وهذا راجعٌ إلى مسألة: وهي أنها لا تصح منهم في الدنيا قبولًا إثابةً، لكنهم يحاسبون عليها في الآخرة جزاءً وعقابًا، فهو لم تصح منه لا لأنه غير مسلم فيكون معفو عنه، ولكان الكفر بناء على ذلك أحسن من الإسلام! لكن المقصود بذلك أنها لا تصح منه لأنه غير أهل لها، ولأن ما عنده مما أفسدَ من دينه أعظم، فيحاسَب على ما أفسد من الإشراك بالله -جَلَّ وَعَلَا-، وما ضيَّع من هذه الأعمال في الآخرة، لكن لو أراد أن يعمل هذه الأعمال دون أن يؤمن ويسلم فإنها لا تجزي عليه، فلابد لشرط هذه الأعمال لأن تصح أن يكون مسلمًا مستسلما لله -جَلَّ وَعَلَا- منقادًا له بالطاعة والاستقامة.
قال: (وَحُرِّيَّةٍ)، لابد من أن يكون الذي وجبت عليه الزكاة أن يكون حرًّا، أما غير الحر من العبيد والإماء فلا زكاة عليهم، لأنهم لا يملكون، أحيانا يأتي السيد ويقول: هذا لك، وهذه الساعة لك، وهذه السيارة لك أيها العبد، وهذا البيت لك اسكن فيه أنت وزوجتك، فيقولون إنَّ المِلك هنا -بكسر الميم من التَّملُّك، أم المُلك بالضم فهي من السلطان، ومنه قوله: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ [الزخرف: 51]، فهو باسط سلطانه عليها، أما مِلك الأراضي فهذه قد تكون هذه المزرعة لفلان وهذا البيت لفلان- فالمِلك عند العبد ناقص فلأجل ذلك فإن العبد وما مَلك لسيده، فلأجل ذلك لما كان ملكه ناقصًا حتى ولو ملَّكه سيده فإنه لا تجب عليه فيه زكاة.
قال: (وَمِلْكِ نِصَابٍ)، النصاب: هو القدر الذي به تجب الزكاة، ولكل مال من هذه الأموال نصابها -وسيأتي بيان ذلك- على سبيل المثال: لا زكاة في أقل من ثلاثين من البقر، ولا الزكاة في أقل من أربعين من الغنم، باعتبار أن نصابها أربعون، وهكذا لكل شيء نصابه-وسيأتي بيان ذلك في حينه.
فإذًا؛ ليس كل من عنده بهيمة أنعام أو عنده بقر أو عنده أبل أو عنده ثمار تجب فيه الزكاة، لا، هذه أموال زكوية لكن لابد من النصاب، ومُلك النصاب سيأتي في كل مال بحسبه، بحسب ما جاءت به الأدلة وصحت به النصوص.
قال: (وَاسْتِقْرَارِهِ)، يعني لا بد أن يكون هذا الملك مستقرًّا، فالملك غير المستقر لا يعتبر، مثل دين الكتابة، فلو واحد كاتب عبدَه على أنه يعطيك خمسين ألفًا ليعتق هذا مقسطة على خمسة أشهر، يمكن هذا المكاتب أن يستطيع فيأتي بالخمسين ألف، ويمكن أن يعجز عنها فيعود إلى الملك، طيب هل نوجب على هذا السيد أن يدفع زكاة الخمسين ألفًا؟ لا، لأن هذا المال ما استقر.
ومثل ذلك: ربح المضارب قبل أن ينظَّف المال ويُقسَم، يعني لو شخص الآن أخذ من آخر ألف ويشتغل له بالتجارة، وقال: الربح بيني وبينك نصفين، الآن نمت التجارة وصارت مائة وسبعون ألفًا، إذا قلنا: إن له النصف فمعنى ذلك أن له خمسة وثلاثين ألفًا من الربح، فهل نوجب عليه زكاة الخمسة وثلاثين ألفًا؟ لا نوجب عليه الزكاة يُقسم المال، لأنه ما استقر، فما دام أنه لا زالت الشراكة قائمة يمكن أن يخسر، والربح هو مثل ما يقولون "أمان لرأس المال"، فإذا خسروا السبعين ألف ذهب على هذا، أما لو أوجبنا عليه الزكاة فيمكن أن يكون زكى مالًا لم يتم ملكه عليه، وهكذا...؛ فإذًا لا بد أن يكون المال مستقرًّا كما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لأن المِلك الحقيقي هو الملك المستقر.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (وَسَلَامَةٍ مِنْ دَيْنٍ يُنْقِصُ النِّصَابَ، وَمُضِيِّ حَوْلٍ إِلَّا فِي مُعَشَّرٍ وَنِتَاجِ سَائِمَةٍ، وَرِبْحِ تِجَارَةٍ)}.
قوله: (وَسَلَامَةٍ مِنْ دَيْنٍ يُنْقِصُ النِّصَابَ)، لو كان عند الإنسان زكاة وعليه دين، هل تجب عليه الزكاة أو لا؟
مثال: الآن نصاب الذهب عشرون مثقالًا، وهو عنده خمسة وعشرون مثقالًا موجودة الآن في يده، وعليه خمسة عشر مثقال من دين، فهنا قالوا: هل تجب عليه الزكاة أو لا تجب؟
هو في الحقيقة ما عنده إلا عشرة مثاقيل، فإذا أعطى هذا خمسة عشر؛ لم يبقَ إلا عشرة مثاقيل، فمن أجل هذا قال الحنابلة: جاء عن عثمان أنه قال "هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ حَتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ، فَتُؤَدُّوا مِنْهَا الزَّكَاةَ" ؛ فدلَّ على أن الدَّين ينُقص النصاب، ولأنَّ المقصود من وجوب الزكاة لمن ملك النصاب أن يكون الإنسان عنده فائضٌ عن حاجته، وهذا في الحقيقة أن الذي عليه دين ناقص مِلكه وليس قادرًا، ولأن الزكاة إنما هي على القادر لمواساة الفقير، فيقولون: هذا ليس بقادر، وهذا ربما يكون مثل الفقير وأعظم.
فلأجل ذلك قال بعض أهل العلم: إن الدين ينقص النصاب، فمن عليه ديون تجب عليه الزكاة.
لكن الحقيقة أنه يتفرَّغ على هذا مسألة خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، وهي أن الديون ليست كالأزمنة المتقدِّمة، الأزمنة المتقدِّمة الغالب أن الإنسان لا يأخذ الدين إلا من حاجة، الآن مع فكرة هذه البنوك وما يسمَّى بتوليد النقود وغيرها؛ تغيَّر نمط الاقتصادات والتجارات صارت الديون جزءًا من الاتجار والأعمال، فهل يمكن أن نقول بأنها تنقص أو لا تنقص؟
أظن أن هذه المسألة تحتاج إلى نوع بسطٍ، وما أظن باقي شيء من الوقت، فلعلها أن تكون في مستهل الدرس في القادم -بإذن الله جَلَّ وَعَلَا.
أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتمَّ علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا طاعته، وأن يرزقنا الفقه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا وإياكم من العلماء العاملين، وأن يجعلنا على هذه الجادَّة من الهداة المهتدين، وأن يجزي كل من سعى فيها خيرًا، وأن يبلغنا وإياكم وإياهم الرضا والتوفيق، إن ربنا جواد كريم وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزاكم الله خيرًا ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة -إن شاء الله- إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك