الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

15643 18
الدرس الأول

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم.
أمَّا بعد، فنبتدأ بعون من الله وتوفيقه المستوى الثاني من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة لتعليم العلوم الشرعية، مع متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلا وسهلا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، وبداية إن شاء الله موفقة للجميع.
{بارك الله فيكم وأحسن إليكم، نستكمل ما توقفنا عنده في فصل صلاة الجماعة، أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ.
تَجِبُ الْجَمَاعَةُ لِلْخَمْسِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْقَادِرِينَ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم، وأن يرفعنا فيه، وأن يرفع بنا منار العلم، وأن يجعلنا من أهله، وفي جادته وميدانه، وأن يحشرنا في زمرة العلماء الربانيين، يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيُّها المشاهدون، طلاب العلم وطالباته، ما أحسن أن نلتقي في العلم! وأن نتعاون عليه! وأن نقضي فيه أوقاتنا! وأن نمضي فيه أعمارنا! وأن نتقرب به إلى ربنا! ولن يكون ذلك إلا بنية خالصة طيبة، يرجو بها الإنسان رفع الجهل عن نفسه، واقتفاء سنة نبيه ، ونفع غيره، خاصة ما يكون ذلك في العبادات التي يعالجها المرء في كل يوم وليلة، ويطلب فيها التمام، وهي الصلاة التي إن صَحَّت صَحَّ سائر عمله، وقُبل سائر ما تقرب به إلى ربه، وإن فسدت كان لِمَا سواه أفسد وأضيع، والله يتولانا برحماته.
هذا الفصل في صلاة الجماعة، ومن المكملات لأحكام الصلاة، ومما يتحتم على الطالب معرفته، والجماعة مما جاء الشرع بالحثِّ عليها، وطلب الاجتماع والاهتداء بهديها في مواطن كثيرة، وكانت الشرائع كلها دالة على ذلك آمرة به، تجتمع فيه القلوب وتجتمع به الأبدان، فيجتمعون على إمام واحد فلا يختلفون عليه، وهو الإمام الأعظم الذي يعقدون به بيعتهم، ويُمضون بذلك أمرهم، و يبقون على ذلك جماعتهم، ويجتمعون في عبادات في أحوال مُتعدِّدة، تختلف صور هذه الاجتماعات، وتبقى الحقيقة الواحدة أنَّ هذا دين الاجتماع، ودين الائتلاف، ودين المحبة، ودين الصفاء، يلتقي فيه المسلمون، ويتقاربون، ويتعاونون، ويهتدون، يبعدون عنهم الشياطين، وينفون عنهم السوء، ويفارقون الشر والأذى والقذى، ويتعاونون على البرِّ والتقوى.
في مثل صلاة الجماعة يجتمعون، في كل يوم خمس مرات، ويجتمعون في الأسبوع مرة في صلاة الجمعة، ويجتمعون في كل عام في صلاة العيدين، ويجتمع أهل الأرض قاطبة في الحج، وكل ذلك صور من صور الاجتماع في هذه الشريعة والتداعي إلى ذلك، بل صيام أهل الإسلام واحد فيما يبتدئون به، وفيما يمسكون فيه، وفيما يفطرون عنده، وكل ذلك أحوال كثيرة، وجاء الشرع أيضًا بمنع كل ما يكون به الفرقة والاختلاف، فنهى عن الكذب، ونهى عن الغيبة، ونهى عن النميمة، ودعا إلى مكارم الأخلاق، إلى إكرام الضيف، إلى إحسان إلى الجار، إلى أشياء كثيرة؛ كل ذلك يصب في معنى واحد، وهو معنى أصيل في شريعة أهل الإسلام، في شريعة نبينا كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران:103] ، فما أعظم هذه الملة! وما أتمَّ هذه الشرعة! وما أحوجنا إلى أن نقتفي وأن نقتدي وأن نتعاون وأن نتأسَّى، وألا نتفلَّت من شرائع ديننا، فإنَّ ذلك عن فساد الدين، وفساد الدنيا، وفساد القلوب، واختلاف النفوس، وتغير الأحوال، ولو أردتم أن أضرب لكم مثلًا يسيرًا وهو آت فيما نحن بصدده، فإنَّ النبي خرج يومًا ليصلي بأصحابه، فالتفتَ فأمرهم بأن يستووا، فرأى رجلًا باديًا صدره، فأمر النبي بأن يتراصوا فقال: «اسْتَوُوا ولا تَختَلِفُوا ؛ فتَختلِفَ قلوبُكمْ» ، أي مظهر من مظاهر الاختلاف، هو عنوان لاختلاف البواطن والقلوب، فلأجل ذلك الاتفاق في الظاهر دليل على الاتفاق في الباطن، والاختلاف فيه دليل على حصول أنواع من ثغراتٍ قد تفضي إلى خلافاتٍ أكبر من ذلك بكثير، ولأجل ذلك نُهي عن التشبه وهو مظهر من المظاهر الظاهرة بالكفار، لِمَا يحمل فيه من التوافق لهؤلاء في موافقتهم في ألبستهم أو في بعض أفعالهم أو في بعض عاداتهم أو أعيادهم أو سواها.
لا نحب الإطالة، لكنها مُقدمة لابد منها في مثل هذا الباب العظيم، والفصل الذي عقده المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
يقول المؤلف: (تَجِبُ الْجَمَاعَةُ)، الوجوب هنا وجوبًا عينيًّا، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ- وقول في مذهب الإمام مالك وغيره.
وأصل ذلك: أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- أمرَ بإقامة الصلاة في حال الحرب جماعة مع ما يفوت من بعض أركانها، فما كان لذلك إلا أن يدل على الوجوب، لأنه في أحلك الظروف وأشدها أُمر بالاجتماع والجماعة، وتُركت بعض الأركان والواجبات تحصيلًا لمصلحتها، والنبي قال: «لقَدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بحَطَبٍ، فيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بالصَّلاَةِ، فيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ» ، ويقول ابن مسعود: "لقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إلَّا مُنَافِقٌ قدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ" .
وإن قال من قال من أهل العلم: إنها فرض كفاية، كما هو مذهب الشافعية -رَحِمَهُم اللهُ- فليُعلم أنَّ ذلك ليس سبيلًا إلى التخلُّف عنها أو التواني عن فعلها، وإنَّ العلماء اجتهدوا في ذلك لبيان ما يرتفع به الإثم، لا لأن يتوانى الناس ويتخاذلوا، فيُقال: ليست واجبة، لا تلزمنا بها! هذه منازل الشافعية والمالكية وغيرهم من الحنفية الذين لم يقولوا بوجوب صلاة الجماعة، وما زالت مساجدهم قائمة، وما زالت جماعاتهم تتوافد على المساجد في الفجر كما في العصر كما في سواها، فينبغي أن لا يكون ذلك سبيل للشيطان، وإنَّ أقواما ليسوا من أهل الشرع ولا قائمين عليه ولا لهم غيرة فيه يحيون مثل هذه المسائل إضعافا للناس عن دينهم وليس تقريرًا للأحكام وبيانًا للمسائل وما يكون على الإنسان إثم فيه أو ما يحصل به له أجر وتمامه، فمحل ذلك إذًا كلام أهل العلم إنما هو في تقرير المسألة بناء على ما وصل من الدليل، وما انتهى إليه الاجتهاد والاستنباط، وأمَّا أن يكون ذلك سبيلًا إلى التَّخلف والتَّواني عن مثل هذه الشرائع؛ فإن ذلك باب خطير، ولا يفعله إلا من في نفسه مرض.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (تَجِبُ الْجَمَاعَةُ)، يعني: في الصلوات الخمس، وهي: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأمَّا ما سوى ذلك فلا تجب لها الجماعة، مثل: صلاة التراويح أو صلاة الكسوف لو صلاها الإنسان وحده، إلى غير ذلك.
قال: (الْمُؤَدَّاةِ)، أمَّا المقضية؛ فإنه لا وقت لها، وإنما وقتها حال انتباه الإنسان للفوات، فيتعين عليه أن يؤديها في أسرع وقت، ولا يكون ذلك حال وجود أحد معه يقضي ويتعلَّق به ذلك الحكم.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (عَلَى الرِّجَالِ)، فيخرج من ذلك النساء، وذلك أنَّ النساء مأمورات بالقرار في البيوتات، فتسهيلًا عليهن خُفف عنهن الوجوب، وأُذن لهن في الحضور، «لَا تَمْنَعُوا إماءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ»، فليس عليهن بواجب، وهو لهن فضيلة، متى ما رأت المرأة أنَّ ذهابها إلى المسجد أفضل؛ فإنها تذهب، وإلا فلا يجب ذلك عليها، وكون البيت أفضل لها من حيث الأصل لا يعني أنَّ صلاتها ينبغي أن تكون في البيت في كل حال، بل إذا كانت المرأة تعلم أنه لا يحضر قلبها إلا في المسجد أو أنها إذ لم تصلي في المسجد توانت في أدائها في أول وقتها، أو أنها تؤديها على استعجال دون أن تحرص على سنة أو أداء لما يتبع ذلك من ذكر بعد الصلاة، أو أنَّ ذلك أصلح لقلبها مع ما في المشي إلى المسجد من الأجر، وما فيه من الجماعة وكثرتها، وما يتبع ذلك من مجلس ذكر ووعظ وسواه، فإذًا من حيث الأصل صحيح، لكن قد يحتف بالمرأة أن تكون صلاتها في المسجد خير وأزكى لها عند الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (عَلَى الرِّجَالِ) فيه إشارة إلى المكلفين، والحقيقة أنَّ هذا محل بحث، فمن حيث أنه أُمر الصبيان بالصلاة فالأصل أنَّ الأمر بالصلاة أمر بكل ما يلزمها، من وضوء ومن جماعة ومن سواها، إلا أنه يقال: إنَّ أمرهم على سبيل التعليم والتعود، فما يحصل به تعودهم وهو فعل الصلاة مُطلقًا يكون به ذلك حصول المطلوب، وبراءة الذمة لولي الأمر في أمرهم الصلاة، وهي محل بحث وتحتاج إلى تحرير، لكن ينبغي تعويد الصغار على الصلاة في المسجد والإتيان إليها، وتطيب بذلك نفوسهم، ويسهل عليهم بذلك إذا كبروا، وحفظًا لهم من شياطينهم، وقد كثرت الشياطين في هذه الأزمنة والآونة الأخيرة.
قال: (الْأَحْرَارِ) أمَّا العبد فتخفيفًا عليه لَمَّا كان محبوسًا على سيده؛ فإنَّ صلاة الجماعة لا تجب عليه، فإن أذن له سيده صلى وحاز الأجر، وإن فات عليه؛ فإنه لا يفوت عليه واجب لِمَا احتفَّ به من مِلك رقبته وقيامه على أسياده.
قال: (الْقَادِرِينَ)، يخرج غير القادرين، سواء كانوا من المرضى أو مَن في حكمهم، فلا تجب عليهم، والمريض مَن كانت به علَّة، لو ذهبَ إلى المسجد لزادت علَّته أو تأخَّر برؤه، أو خاف إن ذهب إلى المسجد أن تناله علة، كما لو كان هناك برد شديد، فإن خرج يخشى أن يصيبه هواء فيلحق به علة وسقم.
قالوا: أو مشقة بالغة، يعني: إذا كانت عليه مشقة بالغة فحركته صعبة ولا يستطيع القيام ثم الجلوس وهكذا، ولذلك قالوا: "ولمريض لا يضره أمكن حمله وجوب ذلك"، فإذا كان المريض ما عليه تعب وهو مما يُحمل ويمكن حمله، فليحمل إلى المسجد وليذهب ويتحرى الأجر والمثوبة من الله -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ أَنْ يُؤَمَّ قَبْلَ رَاتِبٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ عُذْرِهِ، أَوْ عَدَمِ كَرَاهَتِهِ)}.
الإمام الراتب هو الذي عُيِّن لإمامة الناس وتقدمهم في الصلاة، فهذا له حق فلا يُفتات عليه في حقه، فلا يأتي أحد فيصلي بالناس دونه ويؤمهم سواه، هذا من حيث الأصل؛ لأنها ولاية شرعية قُدم لها فلم يُفتت عليه فيها، وهذا أصل في الشرع؛ لأنه لا يفتات على أحد في حق ولا يُتقدم عليه في ولايته، فبناء على ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ أَنْ يُؤَمَّ قَبْلَ رَاتِبٍ)، ما يجوز لأحد أن يفتات عليه ولا أن يتقدم ولا أن يأتي ويصلي.
قال: (إِلَّا بِإِذْنِهِ)، فإذا أذن لأحد أن يصلي عنه إما لفضله كما لو وفد إليهم فاضل فأراد أن يتقدمهم طلبًا لفضل صلاته وبركة دعائه، أو هو غاب وأذن لأحد أن ينوب عنه.
قال: (أَوْ عُذْرِهِ)، كما لو عُلم مرضه، أو حيل بينه وبين الوصول إلى المسجد بسيل وادٍ أو نحوه أو غير ذلك.
قال: (أَوْ عَدَمِ كَرَاهَتِهِ)، يعني يعلم أن الإمام لا يكره أن يتقدم أحد عنه، أو خافوا خروج الوقت، جلسوا ينتظرون حتى كاد الوقت أن يخرج.
لقائل أن يقول: الآن في مساجدنا لو جلسنا وكان يكره ولم يأذن ولم يعرف له عذر، ولكن ما بعد انتهى الوقت نجلس الساعة أو نص ساعة؟
الحقيقة من حيث الأصل صحيح هذا، لكن من حيث الواقع فإن الولاية التي وُكلت إلى الأئمة ولاية محدودة، فأُمروا وأُذن لهم في التقدم إلى الناس وأن لا يتقدم أحد عليهم، وأُمروا ألا يتأخروا على الناس، فإذا فعند نظام من له ولاية في هذا وزارة الأوقاف أو وزارة الشؤون الإسلامية أنه لا يتأخر مثلا أكثر من ثلاث أو خمس دقائق، فإذا تأخر فإن حقه في الإمامة قد ذهب واستحق، وهذه محل بحث وتحتاج إلى أيضًا مزيد نظر، لكن هذا هو الظاهر من حيث الواقع وتولية الجهات وتنظيمها لهذه الصلاة لئلا يتأخر الناس ولئلا يُشق عليهم، ولكثرة العوارض كاتساع المدن وكثرة الطرقات وحصول الزحام وغيرها من الأمور المشِقَّة على الناس والتي تحتاج سرعة قيامهم بأمورهم، ولئلا يكون ذلك مانعًا للناس من إتيان المسجد إذا خافوا تأخرها الإمام أو تخلفه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ كَبَّرَ قَبْلَ تَسْلِيمَةِ الْإِمَامِ الْأُولَى أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ)}.
هذه من المسائل المهمة جدًا وهي: بم تدرك الجماعة؟
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- من كبر قبل تسليمة الإمام الأولى أدرك الجماعة، يعني: من أدرك أي جزء من أجزاء الصلاة فهو مدرك للجماعة من حيث الواقع، قال : «فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فأتِمُّو» ، فهذا هو الأصل، والجماعة تدرك بذلك، وهذا هو مذهب الحنابلة، وقول جمهور أهل العلم، أمَّا من قال إنَّ الجماعة لا تدرك إلا بركعة فهذا قول فيه إشكال، ولا يتأتَّى، وقياس ذلك على الوقت ليس بصحيح، صحيح في الوقت من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، فهذا فهو في الوقت، وأكثر ما يُشكل على ذلك هو ما جاء في بعض روايات مسلم «من أدركَ من صلاةِ الجمعةِ ركعةً فقد أدركَ الصلاةَ» ، هذا في الجماعة، لكن يمكن أن يقال:
أولًا: هذه اللفظة في رواية مسلم تُكلِّم فيها.
ثانيًا: صلاة الجمعة وإدراك الجماعة فيها بمثابة إدراك الوقت؛ لأنها لا تقضى على هيئتها، وإذا فاتت على المأموم لا تُعاد، وإنما تُقضَى ظهرًا، فكما لو فات الوقت فيكون ذلك أقرب.
فبناءً على ذلك؛ ينبغي للإنسان إذا أتى للصلاة أن لا يتأخر، ولا أن يُحدث جماعة أخرى، فالجماعة الثانية ليست كالجماعة الأولى، وهذه لها من الفضل ما لها، والأصل هو حصول الإدراك بإدراك أي جزءٍ من أجزائها؛ لأنه يصدق عليه أنه دخل في الجماعة وأدرك جزءًا منها.
يقول: (قَبْلَ تَسْلِيمَةِ الْإِمَامِ الْأُولَى)، أمَّا مَن أدرك التسليمة الثانية فلا، لاختلافهم في التسليمة الثانية هل هي واجبة أو ركن أو نحو ذلك، والكلام على ذلك مرَّ بنا، لكن من جاء في أثناء التسليمة الأولى حين انتهائها، فهذا هو محل البحث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا أَدْرَكَ رَكْعَةً، بِشَرْطِ إِدْرَاكِهِ رَاكِعًا، وَعَدَمِ شَكِّهِ فِيهِ، وتحريمتِهِ قَائِمًا، وَتُسَنُّ ثَانِيَةٌ لِلرُّكُوعِ)}.
قوله: (وَمَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعً)، أي: مَن أدرك الإمام راكعًا، يعني: هذا تفصيلٌ من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في أحكام الجماعة من حيث إدراك الركعة، ومن حيث لحاق الإمام ونحو ذلك.
يقول: (وَمَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعً)، يعني أن يستوي الإمام والمأموم في حال الركوع ولو في جزء يسير.
إذًا؛ الحال الأولى: أن يأتي والإمام راكع فيركع؛ فهذا لا إشكال فيه، ويتم معه الركوع ويطمئن.
الحال الثانية: أن يأتي والإمام قد قام؛ فهذا لا إشكال في أنه فاتته الركعة.
الحال الثالثة: أن يأتي والإمام في حال نهوضه من الركعة، والمأموم في حال نزوله إلى الركوع: فهذا هو محل الإشكال، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَمَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعً)، بمعنى: أنه لو شَرَعَ في القيام لكن وصل المأموم إلى الركوع وهو لا يزال اسم الركوع باقيًا على الإمام، يعني: لم يكن الإمام أقرب إلى القيام، فعند ذلك نقول: إنه أدرك.
قال: (بِشَرْطِ إِدْرَاكِهِ رَاكِعًا، وَعَدَمِ شَكِّهِ فِيهِ)، وهذه أهم مسألة، لا يتعلق الحكم بالتكبير، بل بالارتفاع بالفعل، هل حصل موافقة للإمام أو لا؟
وظاهر هذا أنَّه إذا شك فالأصل عدم الإدراك، تقول أدركته ولا لا؟ هل أنا لَمَّا نزلت كان قد قام أو لا؟ ما دام عندك شك؛ فالأصل عدم الإدراك، فبناء على ذلك تقضي ركعة، لكن إذا تيقنت أنك وصلت إلى حد الركوع والإمام لا يزال اسم الركوع باقٍ له ولو في أثناء حركة لكنه لم يخرج عن حد الركوع إلى القيام فتكون قد أدركتَ، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة خلافا للشافعية الذين يقولون: لابد أن تصل إلى الركوع وأن تكون مطمئنًا ثم يرفع الإمام بعد ذلك.
قال: (وتحريمتِهِ قَائِمً)، بعض الناس إذا جاء والإمام راكع فيركع وهو منحنٍ، فربما قال تكبيرة الإحرام حال انحنائه أو حال وصوله إلى حد الركوع؛ فهذا لا تصح صلاته؛ لأنَّ من شروط الصلاة أن تكون تكبيرة الإحرام حال القيام، فيكبر ثم بعد ذلك يركع.
وقال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُسَنُّ ثَانِيَةٌ لِلرُّكُوعِ)، يعني التكبيرة للركوع هنا مُستحبة، إن كبرت الثانية وأنت تصل إلى الركوع فقد فعلتَ الأمر بتمامه، وإن استغنيت بالأولى -التي هي تكبيرة الإحرام- حال القيام عن تكبيرة الركوع فذلك جائز، وهو مما تتداخل فيه العبادات في قول الحنابلة وجمع كثير من أهل العلم، فبناء على ذلك تكون صلاتك صحيحة، وإدراك للركعة حاصل ولا إشكال في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا أَدْرَكَ مَعَهُ آخِرُهَا، وَمَا يَقْضِيهِ أَوَّلُهَ)}.
هذه مسألة عند الفقهاء مشهورة، وهي مسألة المسبوق، هل يدرك مع الإمام أول الصلاة أو آخر الصلاة؟ يعني: إذا جئت أنا والإمام في الركعة الثالثة من الظهر، الركعة الثالثة للإمام بالنسبة لي هل هي الركعة الأولى؟ وإذا قمت أنا هل أقضي الثالثة؟ أو أنَّ هذه بالنسبة لي هي الركعة الثالثة، وإذا صلى الإمام الرابعة فهي الرابعة، وإذا قمت قضيت الأولى والثانية؟
هذه فيها خلاف بين الفقهاء، وللحنابلة في ذلك روايتان كما هما قولان مشهوران للفقهاء، فالحنابلة يقولون: إن المُدرَك هو الأخير، وأنَّ المقضي هو الأول، فأنت إذا قمت تقضي فأنت تقضي الأولى وما بعدها، وجاءوا إلى لفظ في بعض ألفاظ الحديث «وَمَا فَاتَكُم فَاقْضُو» ، قالوا: فدلَّ على أنَّ المقضي هو أولها.
ويقولون من جهة ثانية: إنَّ في هذا تمام؛ لأنك إذا كنت ستقضي الأولى فمعنى ذلك أنك ستقرأ الاستفتاح ولم يفت عليك، فلا، بخلاف مَن صلى خلف الإمام في الثالثة لا هو أدرك الاستفتاح ولا هو فعله في قضائه، وما يتبع ذلك أيضًا من قراءة سورة مع الفاتحة، فإنَّ ذلك إنما يحصل في الأولى والثانية، فإذا جئت أنت في الثالثة والرابعة مع الإمام لم يقرأ سورة معه، وإذا قمت أنت لم تقرأ، فتكون قد فاتت عليه.
لكن يُشكل على هذا القول أشياء تركها أهل هذا القول، على سبيل المثال -وهو أهمها- أنهم يقولون: لو أدرك ثالثة في المغرب فمعنى ذلك أنه بقي عليه ثنتين، فإذا قام يقضي الثانية فلا يجلس؛ لأنها بالنسبة له هي الأولى، ثم بعدها الثانية، فيقولون: سيتغيَّر نظم الصلاة، فيكون قد صلى ركعتين بدون أن يجلس في الثانية، فأهل ذلك القول قالوا: يجلس لئلا يختلف نظم الصلاة.
فهذا مما حصل به تعكير على هذا القول، وحصول إشكال فيه، ومن المعلوم أنَّ هذا سبب لحصول التردد في ذلك، والمسألة مما هي محل بحثٍ ونظر، وبعضهم اعتمدَ على هذه الرواية، وبعضهم على رواية «وَمَا فَاتَكُم فَأَتِمُّو»، فيدل على أنَّ المدرك هو أول صلاته، والمقضي هو آخرها، فلا يكون في ذلك أي إشكال، وهذا هو الذي ليس فيه شيءٌ من القيود أو الاستثناءات، وهي محتملة لذا وذاك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَتَحَمَّلُ عَنْ مَأْمُومٍ قِرَاءَةً، وَسُجُودَ سَهْوٍ وَتِلَاوَةٍ، وَسُتْرَةً وَدُعَاءَ قُنُوتٍ، وَتَشَهُّدًا أَوَّلَ إِذَا سُبِقَ بِرَكْعَةٍ)}.
الإمام متحملٌ عن المأموم أشياء كثيرة، وذلك لأنَّ صلاتهما واحدة، ولأنَّ التمام يحصل لهم على حال واحدة، ولأجل ذلك جاء في الحديث: «الإمَامُ ضَامِن» يعني: للنقص الذي يحصل في صلاة المأمومين.
والمؤلف هنا ذكر الأشياء التي يحصل بها تحمل الإمام عن المأموم، فقال: (قِرَاءَةً)، يعني: قراءة الفاتحة، فلا يلزم المأموم قراءة الفاتحة، لا في جهرية ولا في سرية، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو الصحيح الذي لا إشكال فيه.
وأصل ذلك: أنه قد جاء في الحديث أن النبي قال: «مَن كَانَ لَهُ إمَامٌ فقراءةُ الإمام ِله قِراءَةٌ» ، وهذا قول عشرة من أصحاب النبي .
ثم لو جاء المأموم والإمام راكع؛ فإنه يركع، سواء في ظهر أو عصر أو مغرب أو عشاء، ولو كانت الفاتحة فرضًا عليه أو ركنًا لكان له ألا يتحملها عنه الإمام، لكن دلَّ ذلك على أنها ليس في حقه بلازمة ولا ركن ولا واجبة.
ثم جاء في الآية: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُو﴾ [الأعراف: 204]، وجاء عن أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- أنه قال: "بإجماع أهل العلم أنها نزلت في الصلاة".
فبناء على ذلك نقول: إنها لا تجب، وهذا به يستريح الإنسان خاصة إذا ما لم يقف الإمام لقراءة المأموم، ولا يحصل بذلك اختلاف على الإمام، ولا يرفع المأمومين أصواتهم بالقراءة، فيحصل بذلك إشكال وتداخل أصوات وذهاب للخشوع، لذلك النبي قال: «مَن ذا الَّذي يُخالِجُني سُورَتي؟ فنَهى عنِ القراءةِ خَلفَ الإمامَ» ، فنهي عن ذلك.
يقول أهل العلم: لو أمكن المأموم القراءة هل يقرأ أو لا؟
يقولون: يُستحب له ذلك، كما يُستحب له في الظهر في العصر، وفي سكتات الإمام إذا كانت الجهرية، إذا كان يسكت بين الآيات أو يسكت سكتة طويلة بين الفاتحة وقراءة سورة، فإن ذلك مما يستحب له القراءة تحصيلًا للتمام وخروجًا من الخلاف.
قال: (وَسُجُودَ سَهْوٍ)، سها مأموم مع إمامه فإنه لا ينفرد إذا سلم الإمام، بل الإمام يتحمل عنه، وليس المقصود أن الإمام يتحمل عنه أن الإمام تلحقه تبعة، ولكن المقصود بذلك أن حصول التمام في الصلاة للإمام ينتقل إلى المأموم حتى ولو فات عليه بعض شيء، هذا إذًا تحمل الإمام لسجود السهو وهو مقيد بألا يكون مسبوقًا، أما لو كان المأموم ومسبوقًا فإنه إذا سها سواء كان في سهوه في الجزء الذي مع الإمام أو في الذي يليه فإنه يسجد للسهو، لأن المقصود بذلك ألا يختلف على الإمام، وأن تحصيل الاتفاق على الإمام أعظم من الفضل في تكميل النقص وجبرانه بسجود السهو، وهذا من عظيم فضل هذه الشريعة التي أمرت بالاتفاق ونهت عن الاختلاف.
قال: (وَتِلَاوَةٍ)، أي: سجود التلاوة، والمقصود أن المأموم لو قرأ آية تلاوة سجود تلاوة فإنه لا يسجد، لأنه مأمور متابعة الإمام ومحبوس على ذلك، ولو قرأ الإمام في صلاة سرية سورة أو سجدة تلاوة فإذا سجدَ فإن المأموم الأولى في حقه أن يتابع للأمر بمتابعة الإمام، وإن لم يتابع وظلَّ فلا غضاضة عليه لأنه لم يتعلَّق به حكمها في سماع آية التلاوة.
قال: (وَسُتْرَةً)، فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه كما جاء ذلك في الأثر وهو مرفوعٌ عن النبي ، ومعنى هذا الحديث متفق عليه عند أهل العلم في أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، ولذلك لو مرَّ مارٌّ بين يدي المصلين حتى ولو كان حمارًا أو كلبًا أسودًا فإنه لا تنقطع صلاتهم ما دام لم يمر بين يدي الإمام.
قال: (وَدُعَاءَ قُنُوتٍ)، قنوت الإمام يحصل به للمأمومين فيكتفي المأموم بالتأمين، فإذا لم يكن يسمع دعاء الإمام فإنه يدعو لنفسه.
قال: (وَتَشَهُّدًا أَوَّلَ إِذَا سُبِقَ بِرَكْعَةٍ)، لو سُبقَ الإنسان بركعة؛ فإنه سيأتي في الركعة الثانية بالنسبة للإمام، وبالنسبة له هي الركعة الأولى، فإذا قام الإمام من الثالثة للرابعة، ستكون بالنسبة للمأموم الثالثة، والمفروض يجلس للتشهد قبل أن يقوم إلى الثالثة، فلأجل المتابعة فإنَّ المأموم يجب عليه أن لا يجلس، هذا الواجب الذي يجب على المصلي يتحمله عنه الإمام في تلك الحال، ولا يكون عليه فيه إثم، ولا تكون صلاته ناقصة، ومصلحة المتابعة أولى وأكمل وأوجب.
فهذه بعض الأشياء التي ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- مما يتحمله الإمام عن المأموم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لَكِنْ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِهِ وَسِرِّيَّةٍ، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْهُ لِبُعْدٍ لَا طَرَشٍ.)}.
يسن أن يقرأ في سكتاته، فإذا كان للإمام سكتات فيقرأ المأموم، والأصل أنَّ في الصلاة سكتتان:
- سكتة قبل أن تُقرأ الفاتحة كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة يقرأ فيها دعاء الاستفتاح.
- وسكتة قبل الركوع إذا انتهى من القراءة.
وجاء في حديث سمرة -واختلف فيها- سكتة بين قراءة الفاتحة وقراءة سورة، وقيل أن هذه سكتة لطيفة ما يتراد إليه نفسه، لكن كأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- يقول: أن كان الإمام من عادته أن يسكت سكتة يقرأ فيها المأمومين فيحسن أن يقرأ، فإذا سكت بعد الفاتحة قرؤوا الفاتحة، وإذا سكت بعد قراءة سورة قرأوا ما تيسر لهم من سورة من سور القرآن ولو قصيرة، إذا كان ليس كذا ولا ذاك وإنما يقرأ آية ثم يسكت ثم يقرأ آية ثانية فيقرؤونها مجزئة مفرقة تحصيلًا لهذه السنة وخروجًا من هذا الخلاف أما لو لم يسكت فلا يحتاجون إلى القراءة لئلا يشوشوا على أنفسهم وعلى الإمام.
قال: (وَسِرِّيَّةٍ)، أيضًا في السريَّة يستحب للمأموم أن يقرأ تحصيلًا للفضيلة وقراءة القرآن وملئ الصلاة بالذكر، وخروجًا من الخلاف، ولأن ذلك سنة ويحصل به الفضل والأجر والمثوبة من الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْهُ لِبُعْدٍ)؛ لأن المقصود من السكوت هو سماع قراءة الإمام، فإذا لم يسمعه كما لو كاوا في مسجد كبير أو انقطع بعض ما يُوصل الصوت ويرفعه فيقرأ.
قال: (لَا طَرَشٍ)، أما إذا كان لطرشٍ وما يسمع فلا يقرأ، لأنه لو قرأ لشوَّشَ على مَن بجواره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ لَهُ التَّخْفِيفُ مَعَ الْإِتْمَامِ، وَتَطْوِيلُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، وَانْتِظَارُ دَاخِلٍ مَا لَمْ يَشُقَّ)}.
قوله: (وَسُنَّ لَهُ)، أي: سُنَّ للإمام.
قوله: (التَّخْفِيفُ مَعَ الْإِتْمَامِ)، كان النبي أتم ما يكون في صلاته وأخف، قال أنس: "ما صليت وراء إمام قط أتم ولا أخف من صلاة رسول الله "، وليس المقصود بذلك الإسراع ولا ترك الطمأنينة، وليس المقصود بذلك التخفف من الصلاة، ولكن المقصود بذلك عدم الإطالة إطالة مشقة على الناس، ويتأتى ذلك بالاقتداء بالنبي فما كان من صلاة المغرب فيقرأ فيها بقصار المفصَّل، ومن الملحوظ في هذا الزمان أن كثيرًا من الأئمة لا يتلفتون إلى أحكام الإمام وتكميل الصلاة وما يتعلق بها، ولو كان بعضهم طلبة علم ولو كان بعضهم أهل فضل ولو كان بعضهم ممن يجلس للتعليم، وكما قلنا كثيرًا: كان الصحابة يعرفون فضل بعضهم على بعض بالائتمام بصلاة النبي ، قال بعض الصحابة: "وكان أفقهنا في صلاة رسول الله "، فينبغي أن يُحرَص على هذا، خاصَّة لمن ولوا الإمامة وقاموا على الناس، الآن في صلاة المغرب قلَّ أن تسمع إمامًا يقرأ من قصار المفصل، وهو السنة والتمام، كثير من الناس يقرؤون مقاطع من أوساط السور ونهاياتها، والأصل في صلاة الفجر أن يُقرأ من طوال المفصل، في صلاة العشاء يُقرأ من أوساطه، وكل ذلك قليلًا حصوله، فينبغي للأئمة أن يحرصوا على ذلك، إذا قام من الركوع فإنه يطيل، وقليل من الأئمة من يفعل هذه السنَّة.
وكذلك رفع اليدين حال تكبيرة الإحرام، وفي الركوع، وفي الرفع منه إلى حذو المنكبين، أكثرهم إذا رفع رفع كأنما يهش بكفيه كما تهف الحمامة بجناحيها! وهذا خلل! وإني لأرى ذلك في مساجد كبار، وممن يؤمها الناس من الأقطار، فينبغي الحرص على ذلك والانتباه، فالتخفيف مع التمام، فيُتم ركوعها ويُتم سجودها وتُتم واجباتها ومستحباتها، فإذا كان الأمر على ذلك فإن هذا هو أتم ما يكون في فعل الصلاة وكمالها.
أمَّا الإطالة إطالة خارجة عن المعتاد فإن هذا فيه تنفير، وفيه أذى للناس وفيه قطع لهم عن مشاغلهم، وفيه تكريه لهم لهذه العبادة، وتنفير لهم منها، وهذا قد حصل حينما قال النبي لمعاذ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذ» ، فنهاه عن هذه الإطالة وأمره بالتوسط في ذلك والرفق بالجماعة كما هو في قوله: «فمَن صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فإنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ، والضَّعِيفَ، وذَا الحَاجَةِ» .
قال: (وَتَطْوِيلُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ)، وهذه سنة قائمة في كل صلاة، الركعة الأولى أطول من الثانية، إلا في صلاة الليل، هذه صلاة الإنسان لنفسه، فإنها كلما زاد الإنسان من قراءة زاد إقباله على القرآن فتكون الركعة الأولى الأخف، وتتعود النفس وتكون الركعة الثانية أطول، ثم تكون الركعة الأولى من التسليمة الثانية أطول، ثم التي بعدها أطول لأن الإنسان يقبل على كتاب ربه ويأنس به وتعودت نفسه في ذلك، لكن من حيث الأصل أن الأولى أطول من الثانية.
قال: (وَانْتِظَارُ دَاخِلٍ مَا لَمْ يَشُقَّ)، انتظار الداخل حال كون الإمام في الركوع ليدرك الداخل الركعة، هذا مما يراعي به الإمام والمأمومين، فكما أنَّ الإمام يراعي المأمومين في عدم الإطالة عليهم، وكما أنَّ الإمام يراعي المأمومين في تكميل صلاتهم؛ فإن الإمام يراعي الداخل في إدراكه للركعة، خلافًا لبعض الفقهاء الذين يقولون: إن هذا لا يصح؛ لأنه فعل شيء لغير الله، لا، هذا مما جاء به الشرع، ومما أمر به الله -جَلَّ وَعَلَا-، لكن إذا كان فيه مشقة فلا؛ لأنَّ حق الذي ابتدأ صلاته مع الإمام أولى من حق الداخل المتأخِّر، ولذلك يقول الفقهاء: لو كانت جماعة كثيرة فلا ينتظر الداخل؛ لأنَّ الغالب أنَّ فيهم مَن يشق عليه ذلك، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَانْتِظَارُ دَاخِلٍ مَا لَمْ يَشُقَّ)، وهذا أيضًا فيه إشارة إلى عظم هذه الشريعة وتكامل المسلمين مع بعضهم البعض، وحرصه على أن يناله الخير وأن يدرك تمامه، وأن يفسح له حتى يلحق من الخير ما يرتفع به أجره عند ربه -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: الْأَقْرَأُ الْعَالِمُ فِقْهَ صَلَاتِهِ أَوْلَى مِنَ الْأَفْقَهِ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بعد صلاة الجماعة في الأولى بالإمامة، ولَمَّا كانت الإمامة منصب رفيع ووظيفة شريفة، ولا يتولاها إلا الكمَّل من الخلق، وهي وظيفة النبي فهي لا يليها إلا من كملت له الصفات، ولذلك المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر هنا الأولى بها.
والإمامة أفضل من الأذان في قول لبعض الفقهاء؛ لأنَّ النبي وليها والخلفاء بعده، ولِمَا يعتبر فيها من اعتبارات أكثر مما يعتبر في الأذان، وقال بعضهم: إنَّ الأذان أفضل؛ لأنَّ النبي قال: «الْمُؤَذِّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعْنَاقًا يَومَ القِيَامَةِ» ولِمَا فيها من فضل دعاء الناس إلى الصلاة، ولأنه جعل الإمام ضامن والمأموم أو المؤذن مُؤتمن، فعلى كل حال هما وظيفتان شريفتان عليتان، مَن أفاض الله عليه بأن يكون في واحدة منهما فهو في خير كثير، وكلما كان قصد الإنسان أتم وأخلص، وتخلص من حظوظ الناس والنفس وما يكون من مصالحها ذلك بإذن الله ، أتم لأجره، وأعظم له عند مولاه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (الْأَقْرَأُ الْعَالِمُ فِقْهَ صَلَاتِهِ أَوْلَى)، والمقصود بالأقرأ هنا هل هو الأحفظ؟ أو هو الأحسن قراءة في مخارج وتجويد القراءة، والقراءة بقراءة النبي ؟
الثاني هو المقصود الأشهر في المذهب عند الحنابلة، فلا يكون في قراءته نقص، ولا يكون فيها لحن، ولا يغير فيه أو يفوت فيه حرفًا أو نحو ذلك مما هو من تمام القراءة وكمالها.
قولنا: "العالم فقه صلاته"، أي: لابد أن يكون الأفقه في صلاته في علم الأركان فيؤديها، والواجبات فيقوم بها، والمستحبات فيسرع إليها، والمكروهات فيمتنع منها، والمحرمات في حفظ نفسه أن تواقعها، يعرف متى تجبر الصلاة بسهو ومتى لا تجبر؟ وما موضع ذلك في الجبران؟ ثم يعرف أيضًا إذا حصل خلل كيف يصلحه سواء كان ذلك بالرجوع إلى ما فات، أو بجبره بالسجود، فهي مسائل ليست باليسيرة، كلما كان الإمام أفقه في صلاته فهو الأولى بها الأحق بتلك الصلاة، فلأجل ذلك قال النبي : «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فإنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاءً، فأعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ» ، بفضل العلم بالسنة والقيام بها، وما يتعلق بذلك من تمام الصلاة وكمالها.
وهنا في الصفات التي يتقدم بها ويكون بها أولى جاءت في هذا الحديث «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فإنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاءً، فأعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ، فإنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً، فأقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فإنْ كَانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاءً، فأقْدَمُهُمْ سِلْمً»، وجاء في بعضها «ولْيَؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ» ، بعض أهل العلم قدم وأخَّر، جاء الحنابلة مثلا بكونه أشرف نسبا كالقرشي أو نحوه باعتبار أنها من شروط الإمامة العظمى، إلى غير ذلك من الأشياء، فمنهم من جمع بينها ووازن بينها فقدم وأخر بحسب ما اجتمع في ذلك.
وعلى كل حال فلا شك أنَّ الكلام هنا هو في الأولى والأتم، فمن كان من الأئمة مؤديًا للصلاة بأن لا يلحن فيها ولا ينقصها؛ فصلاته صحيحة، لكن كلما كان أتم في إتيانه بكمالات الصلاة والبعد عمَّا ينقصها؛ كانت إمامته أولى، والكمال مطلوب لئلا يلحق بالناس النقص، ويلحق على الإمام الضمان؛ فبناء على ذلك يُعرف، فلن ندخل في تفاصيل هذه الأمور، لكن لا شك أنه يطلب في هذا الأورع، يطلب في هذا الأسن، يطلب في ذلك الأتقى، يطلب في ذلك الأقدم هجرة، الأقدم إسلامًا، الأتم ديانة، ونحو ذلك، كلها مما يكون أتم في الإمامة أولى فيها، وكما قلنا: إنها صفات للأولى والأتم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا تَصِحُّ خَلْفَ فَاسِقٍ إِلَّا فِي جُمُعَةٍ وَعِيدٍ تَعَذُّرًا خَلْفَ غَيْرِهِ)}.
بناء على ذلك ما دام أنهم يقيموا الصلاة بأُمي في الفاتحة أو يلحن فيها؛ فصلاته صحيحة، ولا يخل بأركان صلاته وواجباتها.
قال: (وَلَا تَصِحُّ خَلْفَ فَاسِقٍ)، الفاسق من الفسوق وهو الخروج، سواء كان فسقًا اعتقاديًا أو فسقًا عمليًّا، كما يسب آل النبي مع أصحابه، أو ينكر صفات الله -جَلَّ وَعَلَا-، فهذا فسق في الاعتقاد، أو كان ذلك في العمل كإتيان الموبقات من السرقة أو الزنا -نسأل الله السلامة والعافية- وما يكون من شرب الخمور والوقوع في الكبائر من الذنوب، فهذا فاسق، والمشهور عند الحنابلة أنَّ إمامة الفاسق لا تصح؛ لأنَّ هذه وظيفة شريفة يطلب فيها القربى إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- ولا يتقدم فيها بين يدي الناس إلا من كانت له الأهلية في ذلك بحصول صفات الكمال، وما يكون به للصلاة التمام وحسن الأداء والاستنان بسنة النبي .
وعدم صحة الصلاة خلف الفاسق، مما يطلب به تذكير أهل الفسق بأن يرعوا وأن يرجعوا وأن يتراجعوا، وأن يعرفوا ما لفسقهم من البلاء، وما عليهم من الأثر، وما يفوتهم فيه من الأجر والمثوبة عند الله -جَلَّ وَعَلَا-، ومع ذلك فإنَّ الرواية الثانية عند الحنابلة وهي قول جمهور أهل العلم: أنَّ إمامة الفاسق صحيحة، مع إجماعهم أنه كلما كان إمام أولى فهو أتم، وينبغي أن يبعد عما كان أقل، وكان أقرب إلى الفسق أو حصل منه ذاك، فقالوا: إنَّ صلاته صحيحة مع ما يدخلها من النقص؛ لأنَّ الصحابة صلوا خلف من عُرِفَ بفسق أو فجور أو شرب للخمور -نسأل الله السلامة والعافية- فدلَّ ذلك على صحة الصلاة.
طبعا كل ذلك إذا تعذر، وإذا لم يوجد غيره، أمَّا إذا لم يوجد كما لو كان في جمعة أو في عيد، والجمعة في الأزمنة الأولى لا تقام في البلد إلا في مكان واحد، والغالب أنه يليها الإمام الأعظم، وفي الأزمنة المتأخرة ولي من الإمامة مَن وقع منهم بعض الشيء، وحصل منهم بعض الهنَّات، والوقوع في الكبائر والموبقات، فمع ذلك لم يمنع هذا صحة الصلاة خلفهم؛ لأنه بالصلاة خلف الإمام الأعظم اجتماع الناس، ودرء الفتنة، ومنع الشرور، ولذلك قال النبي : «كيفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عن وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عن وَقْتِهَا؟ قالَ: قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي؟ قالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فإنْ أَدْرَكْتَهَا معهُمْ، فَصَلِّ، فإنَّهَا لكَ نَافِلَةٌ» ، فدلَّ ذلك على أنه لا يُختلف على الإمام الأعظم، ولو وقع منه الأمر الأشد، والأمر الكبير، والأمور الموبقة العظيمة.
فهذه مسألة عظيمة، وهي مدخل من مداخل الشرور على الناس في التأليب أو الدعاء إلى الفتنة والشرور، ولا يفعل ذلك إلا قليل علم أو صاحب هوى، ولعلنا بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- أن نستهل المجلس القادم بالحديث عن هذه المسألة، وإعادة أهم ما يلزم فيها تمهيدًا للانتقال إلى ما بعدها، والله أسأل أن يوفقنا وإيَّاكم لكل خير وهدى، وأن يُجنبا الشر والردى، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المصطفى.
{بارك الله فيكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك