{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم.
أمَّا بعد، فأهلاً وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلاً وسهلًا بكم صاحب فضيلة}.
أهلاً وسهلًا، حياك الله.
{أحسن الله إليكم وبارك فيكم، نستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ والْعِشَائَيْنِ بِوَقْتِ إِحْدَاهُمَا. وَلِمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ مَشَقَّةٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا ممن اتبع واهتدى، واستن بسنة النبي المصطفى، وأن يجعلنا على ذلك أبدًا دائمين، مستقيمين على ذلك غير مبدلين ولا مغيرين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لعل الإخوة الذين حضروا المجلس الماضي والذي كان متعلقًا بأحكام في الصلاة وربما شرعنا في أحكام الجمع، لكن حتى يكون ذلك أتم في البيان وأوضح في الشرح فإننا نعيده من أوله، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ والْعِشَائَيْنِ بِوَقْتِ إِحْدَاهُمَ)، يباح لمن؟ للمسافر، المسافر الذي سافر سفرًا تقصر فيه الصلاة ويجوز له فيه الفطر بشرطه بأن لا يكون سفر معصية، وأن يكون جاز المسافة المحدودة كما هو مشهور مذهب الحنابلة وقول عامة أهل العلم باعتبار المسافة في السفر الذي تقصر فيه الصلاة؛ فإنه إذا احتاج إلى الجمع جمع، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَرَّق بين القصر وبين الجمع، فقال: (وَيُسَنُّ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ)، للإشارة إلى أنَّ ذلك هو الأولى وهو الأتم، وهي سنة النبي المصطفى، لِمَا جاء في بعض الأحاديث: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، في الحَضَرِ والسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ في صَلَاةِ الحَضَرِ» ، كما عند مسلم في صحيحه، أمَّا الجمع فهو من الرخص، ولأجل ذلك يقول أهل العلم: إنَّه بحسب ما يحتاج إليه.
وأصل الجمع للمسافر: حديث معاذ -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- روي عند البخاري وروي عند أبي داود، ولفظ أبي داود أكمل أو أتم «كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ، إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أَخَّرَ الظُّهْرَ إلى وَقْتِ العَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمع بيْنَهُمَا، فإنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ» ، ولأهل العلم في هذا كلام كثير من الجهة الحديثية، لكنها من الجهة الفقهية فإنهم لا يختلفون أن المسافر الذي شرع في سفره يجوز له أن يترخص بالجمع متى ما احتاج إليه.
ويمكن أن يستدل في ذلك أيضًا: بقول النبي ﷺ في حديث ابن عباس -وسيأتي معنا كثيرا: «جمع رسولُ اللهِ ﷺ بين الظهرِ والعصرِ والمغربِ والعشاءِ في غيرِ مطرٍ ولا سفرٍ» ،، فمما يدل بمفهوم الحديث على أنَّ الجمع في السفر مما استقر وحُفظ، وهذا معلوم في أسفار النبي ﷺ، لكن هنا قال: (وَيُبَاحُ) يعني أنَّه خلاف الأولى، فلا ينبغي للإنسان أن يجمع إلا إذا احتاج إلى ذلك، فإذا كان مُستقرا ولا يشق عليه أن يصلي الصلاة في وقتها فإنَّ الأولى له أن لا يذهب إلى الجمع، لكن متى ما كان إلى ذلك لكونه قد شقَّ في طريقه ومشى، أو لكونه قد استراح استراحة قصيرة يخشى إذا مشى بعدها أن يعوزه الوقوف أو أن يحرجه وقت الصلاة أو غير ذلك من الأمور؛ فإن الجمع في هذه الأحوال من الرخص التي يُرخَّص بها المسافر في ذلك، فإذًا الجمع بين الظهرين -الظهر والعصر- وبين العشاءين -بين المغرب والعشاء.
وفي هذا إشارة إلى أنَّ صلاة الفجر لا جمع فيها، فمتى ما عرضت للإنسان في سفره؛ وجب عليه أن يُؤديها في سفره كيفما كان، وكما تعلم فإنَّ كثيرًا ممن يسافرون وتعرض لهم صلاة الفجر في سفرهم يؤخرونها حتى ينزلون ولو طلعت الشمس! وهذا لا شك أنَّه تفويت للواجب، ومواقعة للإثم، وأعظم ما يكون من المخالفة، وليس في التَّرخص ولا في الأعذار طريق إلى أن يكون لمن هذه حاله عذر في هذا التأخير، فيجب عليه أن يصلي كيفما كان حاله، سواء كان رجلًا أو امرأة، ما تقول المرأة: والله قدام الناس كيف أصلي؟! أو أنا في الطائرة ولا كذا، كيف ما كان تصلي حسب طاقتها، وكذلك الرجل، وكما قلنا: إذا كان في مكان ضيق أو في سفينة في كذا يصلي حسب حاله ما دام أنَّه يطلع الوقت وهو لا يصل إلى محل يؤدِّي الصلاة فيها بتمامها، ويجتهد في أداء الأركان كيف ما استطاع من قيام وركوع ومن سجود، وما تعذر بعضه لا يعني تعذر جميعه.
فقال: (والْعِشَائَيْنِ بِوَقْتِ إِحْدَاهُمَ)، حقيقة الجمع: أنَّه يصير الوقتين وقتًا واحدًا، فالظهر والعصر تكون كالوقت الواحد سواء صلاها في وقت الظهر أو صلاها في وقت العصر، والمغرب والعشاء كذلك، إمَّا أن يصليهما في وقت المغرب أو يصليهما في وقت العشاء.
ولأهل العلم ثلاثة شروط في جمع التقديم وشرطان في جمع التأخير:
شروط جمع التقديم:
أولًا: الموالاة، فلابد أن يوالي بين الصلاتين، لذلك بعض الناس يكون في سفر فيصلي الظهر ثم يجلسون، يقول: بالمرة نجمع لها العصر، ثم يتناقشون ويقوم ويجمع! لا، انتهى، فلا بد من الموالاة بينهما، وسيأتي شيء من الإشارة إلى ذلك، في أنَّه يعني إذا فصل فاصل يسير كوضوء خفيف أو نحو ذلك فلا حرج، أمَّا إذا فصل بينهما فاصل فلا.
ثانيًا: لا بد أن يكون قد نوى الجمع عند ابتداء الصلاة.
ثالثًا: أن يستمر العذر إلى افتتاح الثانية، فلو أنَّه مثلًا لما صلى المغرب، ثم رست السفينة ووصلت للبلد، فهذا معناه أنَّه لا يجوز له أن يجمع إليها العشاء، ولو أنَّه -على سبيل المثال- كان به علة في عينه فزالت أو ارتجاج في رأسه فسُرِّي عنه؛ لم يجز له الجمع في مثل تلك الحال.
فإذًا الجمع لا بد له من هذه الشروط الثلاثة.
أمَّا جمع التأخير فشروطه:
أولًا: استمرار العذر إلى وقت الثانية.
ثانيًا: نية الجمع.
أمَّا الموالاة فلا، فلو فرَّق بينهما في جمع التأخير فلا بأس.
هذه من الأهمية بمكان، وكثير ممن يسافرون يعرض لهم وقت الأولى ولا تعرض لهم في أذهانهم، حتى إذا ذهب الوقت قالوا: نجمع جمع تأخير!
يقول أهل العلم: إنَّه إذا لم يكن قد نوى جمع التأخير قبل دخول وقت ثانية لم يجز له الجمع في مثل تلك الحال، فينبغي أن يلحظ ذلك وأن يعرف للصلاة قدرها، وأنَّ هذه رخص، لكن لا بد أن تستكمل ما يعتبر فيها من شروط واعتبار عند الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ مَشَقَّةٌ)}.
المريض الذي يلحقه مشقة بترك الجمع كما لو كان يتعذب ويتأذى بالوضوء لكل صلاة، وليس عنده من يعينه ويساعده؛ فبناء على ذلك لو جمع فلا بأس، فإذا كان المرض يشق عليه معه أداء صلاته جاز له، أو كان يضعفه أو يتسبب عليه بعلة أو غيرها كما لو كانت مباشرة الماء له تضره أو كثرتها؛ فبناء على ذلك يجوز له متى ما كان ذلك محتاجًا إليه.
ومما ينبغي أن يعلم: أنَّ كثيرًا من الناس يتساهلون في أحكام الجمع، ويجمعون لأي علة عرضت، حتى ولو لم تكن قائمة أو مسوغة للجمع، ويقول: الله غفور رحيم! يرفع شرائع وينسخها ولا يأمر بها، لكن ما شُرِّع من الشرائع وثبت، وما نزل من الأحكام واستقر؛ فإن للمسلم أن يفعله كما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- ولا يتجاوز، وأنَّ فعل ذلك وعدمه والزيادة فيه والنقص ليس إليك، وإنما إلى ما استقرت به النصوص ودلت عليه الأدلة، وذلك مقرر عند أهل العلم على اجتهادٍ ونظرٍ وجمعٍ بين الأدلة وذكرٍ لضوابط ذلك، فينبغي للإنسان ألا يتجاوز في هذا ولا يتساهل، وليعلم أنَّها صلاته، وليعلم أنَّها سبب نجاته، وليعلم أنَّها عمود الإسلام؛ فليحرص عليها تمام الحرص، ومهما حصل منه من تفريط في مسائل أو في أحكام فينبغي له ألا يجوز إلى الصلاة فيكون منه التفريط في ذلك أو الإخلال.
قال: (وَلِمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ)، يعني نحو المريض مثل المستحاضة التي تستحاض فلا يقف دمها فقد تحتاج إلى الجمع كما جاء ذلك في الحديث، سواء كان ذلك جمعًا صوريًّا في أن تؤخر الصلاة إلى آخر وقتها والصلاة الأخرى إلى أول وقتها، أو إذا احتاجت إلى الجمع حقيقة جمعت، ومثل ذلك من به سلس بول، وأمثال ذلك ممن يحتاج، وذكر أهل العلم لذلك أيضًا مثل المرضعة التي فيما مضى ما توجد هذه الحفائض ولا الموانع التي تمنع انتشار النجاسات وغيرها، فمن تعمل في إرضاع الصغار وترتزق بذلك فإنها لا تنفك من نجاسات كثيرة وليس عندهم فيما مضى أيضًا أثواب متعددة تنتقل من ثوب إلى آخر.
وقد حدثني بعضهم -ومثل هذه الأحاديث نافعة للناس: أن رجلا دخل على امرأته -وهذا في وقتنا الحاضر، يعني: قبل سُنيات أدركها آباؤنا وإن لم ندركها- أنَّه دخل على زوجته فلم يجدها، فرفع صوته فإذا هي ترد عليه، بحث عنها حتى وجدها فإذا هي ملتفة بحصير عندها في دارها. قال: ما بالك؟ قالت: إن جارتنا عندهم زواج وإنها طلبت ثيابي، وليس لي شيء استتر به إلا هذا، فأعقب الله -جَلَّ وَعَلَا- الناس نعمًا كثيرة، فلا يعني ذلك أن لا يعلموا الأحكام على وجهها، فربما دارت الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله، وربما احتاج غيرنا إلى مثل ذلك، فينبغي أن تُعلم هذه المسائل والأحكام، فالمرضع إذا كانت على هذه الحال؛ فإنه يجوز لها الجمع لِمَا يتعذر عليها من التخلي من النجاسات في كل وقت، ومثل ذلك الخباز الذي يخشى احتراق خبزه... وهكذا.
وذكر أهل العلم في ذلك مسائل مشابهة، هذه إشارة إلى أشهرها وأكثر ما تكون الحاجة إليه.
قوله: (يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ مَشَقَّةٌ)، والمشقة تعرف بالعرف ويعرفها العبد في نفسه ولا ينبغي له أن يتساهل فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبَيْنَ الْعِشَائَيْنِ فَقَطْ لِمَطَرٍ وَنَحْوِهِ يَبُلُّ الثَّوْبَ، وَتُوجَدُ مَعَهُ مَشَقَّةٌ)}.
العشائين: اسم للمغرب والعشاء، يُقال لهما: عشاءان على سبيل التغليب، كما يقال للأب والأم: أبوان، ويقال للشمس والقمر: قمران، فهذا على سبيل التغليب، فالمقصود بها: المغرب والعشاء.
فيقول المؤلف: (وَبَيْنَ الْعِشَائَيْنِ)، يعني: أنَّه يجوز الجمع لمن احتاج إلى ذلك.
قال: (وَبَيْنَ الْعِشَائَيْنِ فَقَطْ)، فأخرج من ذلك الظهر والعصر. لماذا أُخرجت الظهر والعصر؟
أهل العلم يقولون: لأنَّ الوقت بينهما طويل، فيمكن أن يذهب المطر ويسهل والمشي، ولا يحصل بذلك امتناع، ولأنه في النهار أيضًا سهولة اتقاء المطر والمشي في الطريق، وطلب ما يكون به السلامة من البلل والطين والوحل ونحوه، بخلاف العشاءين.
وليعلم أن الحنابلة هم الذين شهر عنهم الجمع في المطر، ولم يقولوا إلا بالجمع بين العشاءين، فهم أوسع المذاهب في باب الجمع، ومع ذلك كلامهم إنما هو بين العشاءين، فلا ينبغي التَّوسع في ذلك كثيرا، وينبغي التَّوقي من ذلك طلبًا لتحصيل أداء الصلاة على وجهها، وعدم بغير الترخص بغير رخصة، أو الانتقال إلى ما يكون فيه شبهة، حتى ولو قال قائل: هو صحيح أنَّه دل على ذلك حديث ابن عباس «في غَيرِ مَطَرٍ وَلَا سَفَرٍ» ، قالوا: لما ذكر المطر دل على أنهم يجمعون للمطر، لكن ما ذكره الفقهاء في التقييد في ذلك له وجه.
فعلى كل حال؛ هذا هو كلام الفقهاء، والتوسع للقول بها في الظهر والعصر وإن قال به بعض المعاصرين وجرت بذلك بعض الفتاوى، لكن ينبغي أن يكون ذلك أن يعلم أن المشقة شديدة، وأنها باقية إلى وقت الثانية، وتمنع انتقال الناس إلى المساجد وإتيانهم للصلاة، فإذا كانت محل شك فنقول: أدوا صلاة الظهر في وقتها، وإذا استمر مع الناس عذر فليؤولوا إلى «صلوا في بيوتكم» كما جاء ذلك عند البخاري في صحيحه، لكن أن يؤال إلى رخصة ويتبين عدم الحاجة إليها؛ فإن ذلك قد يعرض الإنسان إلى ما يكون عليه فيه تبعة.
قال: (لِمَطَرٍ وَنَحْوِهِ يَبُلُّ الثَّوْبَ)، نحوه مثل: الثلج والبرد فإنه مثل المطر وأشد.
قال: (يَبُلُّ الثَّوْبَ). ما معنى (يبل الثوب)؟
كثير من الناس يفهمون البلل باللغة الدارجة عند الناس أنَّها ما يبين أثره في الثياب، فإذا قالوا: ثوبه مبلول يعني إذا كان قد نقط عليه بعض نقط الماء، لا؛ ليس هذا مراد الفقهاء، قوله (يَبُلُّ الثَّوْبَ)، يعني أنَّه يستقر فيها الماء بحيث لو عصره اعتصر، يعني يكون ماءً شديدًا ومطرًا شديدًا، وهذا هو الذي يُتصور معه حصول المشقة، ولذلك قال: (يَبُلُّ الثَّوْبَ، وَتُوجَدُ مَعَهُ مَشَقَّةٌ)، الثوب اسم لعموم ما يُلبس، الثوب وإن كان عندنا هو دائما ما يطلق على القميص، لكنه في اللغة يطلق على العمامة، أو الشماغ، أو الإزار، أو الرداء، أو العباءة، أو الملابس التي تُلبَس داخلًا كالدُّرَّاعة عند النساء أو الخمار، فهذا كله ثياب.
إذًا؛ إذا كان هذا يبل الثياب وتوجد معه مشقة، وهنا يلحظ -على سبيل المثال- أن بعض البلدان مما يكثر مطرها، ويعتاد الناس حصول ذلك ولا مشقة عليهم، فنقول: المناط هو حصول المشقة، فإذا كان على الناس مشقة في ذلك ظاهرة فالرخصة باقية، وإذا زالت المشقة زالت الرخصة، وهذا يعرف بتعاطي الناس أمور دنياهم، فإذا كانوا لا يخرجون إلا لما يحتاجون إليه غالبًا في مثل تلك الأوقات حاجة ملحة؛ فهذا يعلم أن معه مشقة، أمَّا إذا كانوا يذهبون ويجيئون ويتنزهون ويأكلون في الأماكن العامة أو غيرها؛ دل على أنَّه لا مشقة عليه، فكما يخرجون لحوائجهم التي ليست لازمة فكذلك ينبغي أن يخرجوا إلى صلاتهم التي هي عليهم واجبة.
وهذا من أكثر ما يحصل فيه عندنا على وجه الخصوص تساهل، والناس بمجرد أن يروا السماء تنقط نقطًا يسيرة تجد أنهم يفزعون إلى الجمع ويطلبونه، وربما أحرجوا الإمام وربما أيضًا عارضوه لو توقف في ذلك أو تحفظ فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِوَحْلٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ بَارِدَةٍ لَا بَارِدَةٍ فَقَطْ، إِلَّا بِلَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ)}.
الوحل: الذي هو الطين الشديد، الطين الكثير، فمن المعلوم أن الناس من أولٍ كانوا يمشون، والوحل أشد من المطر، لأنه يفسد الأموال، لو مشى الإنسان بحذائه فهذا الحذاء ربما يفسد أو تصيبه قساوة شديدة لا يستطاع الانتفاع منه انتفاعًا جيدًا بعد ذلك، وأيضًا الوحل مع الحركة يرتفع إلى الثياب فيلطخها؛ فبناء على ذلك إذا كان يوجد هذا الوحل فتوجد مشقة.
أمَّا الآن فأكثر الشوارع والطرقات مزفَّتة فما كان على الناس لا مشقة فيه فينبغي ألا يكون الوحل ووجود بعض مياه مجتمعة في عرض الطريق لا تكون حاملة على جواز الجمع، أمَّا إذا كان الناس يتعلق بها مشقة كما لو كانت تفسد عليهم ثيابهم بأن لا يستطيعوا الوصول إلى المسجد إلا بأن يخوضوا في هذه المياه وتفسد ثيابهم ونحو ذلك، أمَّا إذا وجدت ممرات وأمكنهم توقي ذلك، أو كان هذا الماء ماء قليلًا لا يحصل به مفسدة؛ فلا يمكن أن يقاس على الوحل.
قال: (وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ)، البرودة شيء والريح الشديدة الباردة شيء، فوجود البرودة يمكن اتقاؤها، وأمَّا إذا كانت ريح شديدة باردة فلا يمكنه الاتقاء، حتى ولو لبس الإنسان أشد ما يلبس، فإن الريح الشديدة تصل إليه وتخترق ثيابه.
قال: (لَا بَارِدَةٍ فَقَطْ)، أمَّا إذا كانت باردة لكن ما في ريح شديدة فلا تكون مسوغة للجمع.
قال: (إِلَّا بِلَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ)، إذا كان فيه ظلمة وليلة باردة يمكن أن ذلك سببًا للرخصة؛ لأنَّه قد يعثر الإنسان وتنكشف ثيابه فيتعرض للبرد ونحو ذلك، فيجتمع فيها ما تكون فيه مشقة، وأمَّا مجرد البرودة فليست حاملة على جواز الجمع كما ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْأَفْضَلُ فِعْلُ الْأَرْفَقِ مِنْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ)}.
يعني لو سأل سائل: أيهما أفضل: أن أجمع جمع تقديم أو أجمع جمع تأخير؟
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: افعل الأرفق بك، وكل هذا لمن استكمل السبب المجيز للجمع، أمَّا من لم يستكمل فلا.
فعلى سبيل المثال: لو أنَّ شخصًا لم يتحرك من بلده بعد، وهو يخرج للمطار الآن، وأذن الظهر؛ فعند الحنابلة أنَّه لا يجوز له الجمع؛ لأنه تعلق به حكم الصلاة وهو في الحضر، وإن كان جماهير أهل العلم على أنَّ العبرة بوقت الفعل، فإذا كان وقت فعلها هو حال كونه قد خرج من البلد وفارق عامرها؛ فيجوز له الجمع في ذلك ولا إشكال، وهذا هو الذي عليه الفتيا، لكن كما يفعل بعضهم وهو جالس في بيته، فيصلي ويجلس، ثم إذا ذهب إلى المطار راح وجمع الصلوات مرة ثانية، لا، فإذًا نحن نتكلم على جمع التقديم والتأخير لمن استكمل أسباب ما يجوِّز له الجمع، فيفعل الأرفق به من تقديم أو تأخير، إذا كان مثلًا في جادة الطريق ويقف متأخرًا فكان الأرفق به أن يؤخِّر الصلاة حتى وقت وقوفه الذي يأكل فيه ويستريح فكذلك، أو كان الأولى فعلها مُقدمة كما لو كان نازلًا وسيمسي بالطريق ونحو ذلك.
لكن لو أن شخصًا أراد جمع التأخير ثم استقرَّ قبل انتهاء وقت الأولى، كما لو قال: أجمع المغرب مع العشاء، ثم استعجل السيارة ووصل إلى أهله واستقر قبل انتهاء وقت المغرب، نقول: انتهى حكم الجمع في حقه، فيجب عليه أول وصوله أن يؤدي صلاة المغرب، ونيتك للجمع كانت صحيحة ويسوغ لك الجمع، لكن لَمَّا انقطع السبب؛ وجب عليك فعل الصلاة في وقتها.
ومثل ذلك: القصر، يعني لو أن شخصًا قال: أنا سأجمع الصلاة جمع تأخير، ولم يصل إلا وقت العشاء لكنه وصل إلى بلده؛ فيصلي المغرب والعشاء، لأنه استمر
السبب إلى وقت الفعل، لكن يصلي العشاء كاملة أربع ركعات؛ لأنه قد ذهب السبب المقتضي للقصر وزال. فإذًا كلاهما في حقه جائز ولا غضاضة عليه فيما اختار منهما، ويفعل الأرفق به والأحسن.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ فِعْلُهُ فِي بَيْتِهِ وَنَحْوِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ)}.
قوله: (وَكُرِهَ فِعْلُهُ)، يعني الجمع في بيته ونحوه بلا ضرورة، هذا كله فيمن استحق الجمع.
ما معنى استحق الجمع؟
يعني هذا رجل يصلي في بيته؛ لأنه محموم أو مريض، فهو من حيث الأصل تجب عليه الجماعة، لكن عذر عنها؛ فنقول: إذا عذر فجمع الناس في المسجد فيجوز له الرخصة، ولذلك الرخصة إذا نزلت صارت عامة، لذا يقولون مثلًا: من كان طريقه تحت سباط -يعني مظلة- فهو مظلل إلى أن يصل المسجد، فلا نقول: هذا تجب عليه الصلاة في وقته وهذا يجوز له الجمع؛ لا، بل كلهم، لكن من كان له عذر ويصلي في بيته فيكره له أن يجمع كما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ولهم في هذه العبارة بعض استدراك ليس هذا محل ذكر تفصيله.
أمَّا من لا يتعلق به بحكم الجماعة فلا يجوز له الجمع، فلو أن المرأة التي تصلي في بيتها مثلا وهي لا تجب عليها الجماعة؛ فبناء على ذلك لا تجمع إذا صلت في البيت، لو صلت مع الناس فحكمها حكم الناس، فإذا جمعوا جمعت، لكن إذا صلت في بيتها فإنها تصلي كل صلاة في وقتها، لأن الجماعة ليست عليها بواجبة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَبْطُلُ جَمْعُ تَقْدِيمٍ بِرَاتِبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَتَفْرِيقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وُضُوءٍ خَفِيفٍ وَإِقَامَةٍ)}.
هذا إشارة إلى اشتراط الموالاة بينهما وعدم التفريق بينهما إلا لشيء يسير ويحتاج إليه.
على سبيل المثال: هو يترك الراتبة، وحتى الذكر الذي بينهما فإن ذكر يسيرا واستعجل في ذلك أيسر، لكن الأصل أن يوالي بينهما، فإذا والى بينهما فيقول بعض أهل العلم: إنَّ الذكر الذي يكون بعد الثانية مما يحصل به تداخل، فيكون للأولى والتي بعدها.
قال: (وَتَفْرِيقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وُضُوءٍ خَفِيفٍ)، فإذا فرق بتفريق زائد أو غير معتاد لا من احتاج إلى إعادة وضوئه ونحوه، فشيء خفيف فلا بأس، أمَّا إذا زاد فقد ذهب حكم الجمع الذي يتحقق بالموالاة، وهو أن تقرن الأولى بالثانية وتصلَّى في وقت واحد متوالية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْخَوْفِ بِأَيِّ صِفَةٍ صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَصَحَّتْ عَنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ وَسُنَّ فِيهَا حَمْلُ سِلَاحٍ غَيْرِ مُثْقِلٍ)}.
هذا من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- شروع في القسم الثالث من صلاة أهل الأعذار وهي صلاة الخوف.
وصلاة الخوف ثابتة بالقرآن والسنة والإجماع، قال تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ [النساء: 102]، إلى آخر الآية.
وفي السنة: جاءت عن النبي ﷺ في غير ما حديث، كما في حديث جابر في الصحيح وحديث صالح بن خوات وحديث ابن عباس وحديث أبي هريرة، أحاديث كثيرة عن النبي ﷺ مردها في ستة أوجه أو سبعة، وذكر أهل العلم في تفاصيلها روايات كثيرة تجوز الثلاثين رواية، فهذا بالنسبة لصلاة الخوف والإجماع منعقد على فعلها في حال الخوف.
والفرق بين صلاة الخوف وصلاة السفر أنهم يقولون: إنَّ صلاة السفر تقصر فيها العدد، وصلاة الخوف تقصر فيها الهيئة، لكن لا ينقص من عددها، وفي نقص العدد ونحوه اختلاف، وكلام لأهل العلم يطول بعضه، خاصة أنَّه جاء في الذي في مسلم: «علَى المُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وعلَى المُقِيمِ أَرْبَعًا، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً» ، وفي بعض الصفات التي جاءت أيضًا أنَّها إنما تصلي ركعة وإن كان الإمام أحمد له كلام فيها.
فعلى كل حال؛ إنما مساقها مساق قصر الهيئات لا قصر العدد، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وفيه كلام وللمحدثين فيه اختلاف، ويسع فيه ما يسع من الاختلاف، لكن هم يشترطون أنَّه لا بد أن يكون هذا الخوف في قتال مباح، وأن يُخشى من العدو مباغتة، أمَّا إذا أُمِن في الموضع الذي هم فيه أن يباغتهم العدو، أو أنَّ يؤدوا الصلاة بكمالها لم يكن لهم أن يصلوا تلك الصلاة على وقتها.
وصلاة الخوف متعلقة بالحضر أو بالسفر؟
الأشهر عند أهل العلم أنَّها بهما جميعًا، ولذلك لم يقيدها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
لكن يُشكل على ذلك حديث صلاة خندق «أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، يَومَ الخَنْدَقِ جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقالَ: يا رَسولَ اللهِ،، وَاللَّهِ ما كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ العَصْرَ حتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: فَوَاللَّهِ إنْ صَلَّيْتُهَا، فَنَزَلْنَا إلى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ رَسولُ اللهِ ﷺ وَتَوَضَّأْنَا، فَصَلَّى رَسولُ اللهِ ﷺ العَصْرَ بَعْدَ ما غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ» ، فقال أهل العلم: إنَّ هذا قبل مشروعية صلاة الخوف، فلما شرعت صلاة الخوف جازت.
وفي صلاة الخوف صفات متعددة، بعضهم قال: إنَّ هذا توسيع في الشرع، يفعل كل إنسان ما يليق به، فإذا كان العدو في جهة القبلة فإنهم يصلون جماعة واحدة وينقسمون صفين، يقومون ثم يركعون جميعًا ثم يرفعون، ثم يسجد الإمام والصف الذي يليه، حتى إذا قاموا إلى الركعة الثانية سجد الصف المؤخر، ثم إذا قاموا استبدلوا حتى لا تفوت على واحد منهما فضيلة، فيركعون جميعًا ثم يقومون جميعًا ثم يسجد الإمام والصف الذي يليه، ويبقى الآخر تجاه القبلة يحرس الناس، فإذا جلسوا قضى ما فاته ثم جلس معهم ثم تشهدوا وسلم الإمام وسلموا جميعًا.
إذا كانوا في غير جهة القبلة فيصلي بهؤلاء ركعة ويقضون ركعة والإمام قائم، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلون معه الركعة الباقية، فيستقر ثابتا قبل السلام فيقضون، ثم يسلم فيسلمون جميعًا، فيكون لهؤلاء فضيلة أول الصلاة ولأولئك فضيلة آخرها مع الإمام، وهذا ما جاء في حديث صالح بن خوات واختاره الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ولها صفات أخرى: أن يصلي بهؤلاء ركعتين ويتمون لأنفسهم، ثم يصلي بالآخرين الركعتين الباقية وهم يقضون لأنفسهم، أو يصلي ركعة بهؤلاء ولا يقضون، وبركعة لهؤلاء ولا يقضون، فيكون للإمام ركعتين ولكل طائفة ركعة، وهذه هي التي جرى فيها شيء من الخلاف.
إلى أن تأتي صلاة المسايفة وهي أشد ما تكون، يعني إذا خاف خروج الوقت وهو في مقاتلة ومدافعة للعدو، فيصلي حسب حاله وهو كارٌّ وفارٌّ، وجاء ذلك عن أصحاب النبي ﷺ، فهذه من أشد ما يكون، وجاء في قصة محمد بن مسلمة لما أرسل في طلب خالد بن سفيان، فكان يخاف أن يذهب عليه الوقت فكان يصلي وهو ماشٍ في طريقه، فالمهم هذه صلاة الخوف، ولها تفاصيل أخرى لمن احتاج إليها، وأن يبحث في ذلك فهي تحتاج إلى شيء من التفصيل، لكن كما قلنا: إنَّ الحاجة إليها قد تكون أقل أو محدودة فلا نطيل فيها أكثر من ذلك.
قال: (وَسُنَّ فِيهَا حَمْلُ سِلَاحٍ غَيْرِ مُثْقِلٍ)، كما جاء في الآية، فإذا كان لا يثقل ذلك عليهم أو يأمنوا أن لا يفجأهم عدو أو قادرين على التحكم في ذلك فخفف عنهم فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (تَلْزَمُ الْجُمُعَةُ كُلَّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ ذَكَرٍ حُرٍّ مُسْتَوْطِنٍ بِبِنَاءٍ)}.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر الفصل هذا بعد صلاة أهل الأعذار، وهو شروع في مكملات الصلوات الخمس وما يتبع ذلك، فما بعد الصلوات الخمس وما تفرَّع منها من أحكام من صلاة جماعة وإمامة وصلاة أهل الأعذار إلا صلاة الجمعة، فالمؤلف ذكر هذا الفصل في ذلك.
والجمعة أُخذت من اجتماع الناس، وهذا هو الأشهر، وقيل: جمع فيها آدم، وقيل...، وقيل...؛ أشياء كثيرة وكلها ممكنة، لكن الأصل أنَّ الجمعة أخذت من اجتماع.
والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر صلاة الجمعة وهي من أعظم الصلوات، وجاء الشرع بتعظيمها، كما نزلت بذلك سورة في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- تتلى، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]، وفيها أحاديث كثيرة، ومن أعظمها أنَّ النبي ﷺ قال: «ما مِن ثلاثةٍ في قَريةٍ ولا بَدْوٍ لا تُقامُ فيهم الصَّلاةُ إلَّا قد استحوذ عليهم الشَّيطانُ» ، «مَنْ تَرَكَ ثَلاثَ جُمَعٍ تَهاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ علَى قلْبِه» ، وهذا فيه تأكيد على أهمية صلاة الجمعة وعظمها.
وفيها فوائد كثيرة من جهة اجتماع المسلمين، ومن جهة ما يكون فيها نفعهم في دينهم، ووعظهم في قلوبهم، وحثهم على الاستقامة على أمر ربهم، فهي صلاة لها ما لها من الخصوصية، وفيها ما فيها من الأجر العظيم.
والأصح عند أهل العلم: أنَّها صلاة مستقلة وليست بدلًا عن الظهر، فبناء على ذلك قال أهل العلم: إنَّ الأحكام المتعلقة بصلاة الظهر لا تتعلق بها، فإذا جاز للمسلم أن يجمع بين الظهر والعصر فإن مَن صلى الجمعة لم يجز له أن يجمعها إلى العصر مطلقًا، لكن للمسافر الذي عرضت له صلاة الجمعة أن يصلي الظهر والعصر وهو مسافر، لكن مَن صلى الجمعة لم يجز له أن يجمع إليها العصر إطلاقًا، وهذا قول عامة أهل العلم، وما يوجد من فتاوى في ذلك فإنما هي فتاوى مخالفة، ولو قال بها من قال من المعاصرين، فهذا من أهم الأحكام المتفرعة على قول الفقهاء إنَّها ليست بدل عن الظهر، ومن أجل ذلك أنَّ وقتها أيضًا يدخل قبل وقت الظهر عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- فهذه مما يتفرع على ما ذكرناه.
لما ذكرنا مأخذ الجمعة وأصل مشروعيتها وأهميتها، وأنَّ النبي ﷺ أول جمعة جمِّعت جمع فيها أسعد بن زرارة، وهذا معروف وفيه الحديث المشهور، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (تَلْزَمُ الْجُمُعَةُ كُلَّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ)، من كان مسلمًا مكلفًا، المكلف: يعني بالغًا عاقلًا، التكليف يكون بالبلوغ والعقل، فلا تكليف على غير العقل كالمجنون والمعتوه ومن شابه، ولا تكليف على غير البالغ وهو الصغير، حتى ولو قارب الاحتلام، حتى ولو كان مراهقًا، والمراهق عند الفقهاء هو الذي لم يبلغ بعد، والبلوغ يكون بأحد ثلاث علامات، لأن بعض الناس يظن أنَّه لا يكون إلا بالخمسة عشر عامًا:
الأول: مَن أنبت في قبلٍ الشعر الخشن من رجل أو امرأة فقد بلغ.
الثاني: مَن احتلم فقد بلغ من رجل أو امرأة، فإن المرأة ترى في ذلك ما يرى الرجل، ويحصل منها إنزال كما يحصل للرجل.
الثالث: هو بلوغ خمسة عشر عامًا، وتزيد المرأة بنزول دم حيضها.
فمَن كان كذلك فقد بلغ، ومَن بلغ فقد تعلقت به الأحكام إذا كان عاقلًا.
قال: (ذَكَر)، أمَّا غير الذكر وهي المرأة فلا تجب عليها صلاة الجمعة، ولا يتعلق بها وجوبها، لكن إن صلَّت أو حضرت الجمعة أجزأتها عن الظهر، فيكون ذلك فيها فضل لها في الحضور، وأجر لها في إصابة صلاة الجمعة، لكن لا يتعلق بها وجوبها كما جاء ذلك في حديث طارق بن شهاب، وهو مستقر عند أهل العلم.
قال: (حُرٌّ)، الحر يقابله العبد المملوك، فإن الشرع من التخفيف عليه لما كان محبوسًا على منافع سيده ولئلا يحصل عليه في ذلك حرج لو منعه السيد، فإنه مُعفى من ذلك ومستثنى من الوجوب، فلو صلى ظهرًا في بيته ولم يأذن له سيده فلا بأس في ذلك، وإن أذن له فإن ذهب فكان تمامًا وأجرًا، وإن ترك فهي غير واجبة عليه كالأنثى.
قال: (مُسْتَوْطِنٍ)، الاستيطان: هو الثبات والاستقرار في مكان، فلا يرتحل عنه أبدًا أو فلا ينوي الارتحال منه أبدًا، فالذين يبنون بيوتاتهم ويستقرون فيها ولا يريدون الارتحال أو الانتقال ولا يقع في أنفسهم التحول؛ فهؤلاء مستوطنون، يقابل ذلك: المسافرون الذين يضربون في الأرض، فهؤلاء لا تعلق لهم بالجمعة ولا وجوب، ولم يذكر في عهد النبي ﷺ وقد سافر أسفارًا كثيرة أنَّه جمَّع في حال سفره ولو كان معه من أصحابه ما يبلغون العدد، وأيضًا يطلبون في ذلك الفضل، فكان المسافر ليس لا يتعلق به إقامة الجمعة، لأن إقامة الجمعة مختلفة عن صلاة الجمعة، يعني هو لا يقيم الجمعة له ولمن معه، لكن لو صلى الجمعة في البلد أو فيما أتى إليه فهذا شيء آخر، لكن هو من حيث هو لا يخاطب بإقامة الجمعة، فإذا يقابل المستوطن: المسافر.
وبين ذلك: المقيم، عند الفقهاء أنَّ المقيم هو الذي استقرَّ استقرارًا لا يبلغ الاستيطان، ولا يحكم معه بالسفر، فإن المسافر لو بقي أقل من أربعة أيام فهو لا ينقطع حكم سفره فحكمه مسافر.
لو شخص جلس أكثر من أربعة أيام كأن يجلس عشرين يومًا؛ فهذا ما نقول إنه مسافر لا تلزمه أحكام الجمعة، ولا نقول إنه مستوطن يتعلق به حكم إقامتها، لكنه تجب بغيره، فإذا أقيمت في البلد الذي هو فيه فما دام أنَّه ليس بمسافر ولم يتعلق به أحكام المسافرين فيلزمه الصلاة معهم، لكن من حيث المقيمين مثلا الذين جاءوا للعمل ثم يرجعون أو نحوه لا تتوجه إليهم إقامة الجمعة، لكن إذا أقامها أهل البلد وهم مستقرون فيها فيقيمونها معهم، ولهذا أمثلة كثيرة، وفي بعض ما يحصل في ذلك من الإقامة إشكال.
على سبيل المثال وهو من أكثر الأمثلة ورودا في العالم كله: الذين يأتون للدراسة في الجامعات فيوجد لهم إسكانات، ويوجد فيها جامع، فهؤلاء من جهة الأصل لا يتعلق بهم حكم إقامة الجمعة، هم ليسوا مسافرين صحيح لكن ليسوا بمستوطنين، هم مقيمين، والجمعة عندما تتعلق بالمستوطنين، فإذا أقامها أهل البلد هم يصلون معهم، أمَّا أن يقيمها المقيمون بأنفسهم فلا، ولا يتعلق بهم حكمها، إلا مستوطن ببناء جرت به العادة سواء من لبن أو آجر أو أسمنت أو نحو ذلك، فيخرج من هذا البدو الرحل الذين ينزلون في هذا في الصيف ويخرجون منه في الشتاء؛ فهؤلاء لا يعتبرون مستوطنين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ قَبْلَ الْإِمَامِ لَمْ تَصِحَّ، وَإِلَّا صَحَّتْ)}.
من صلى الظهر ممن عليه الجمعة، واحد عليه الجمعة صلى ظهرًا، نقول: لا تصح، لما ذكرناه قبل قليل من أنَّ حكمه متعلق بصلاة الجمعة، وصلاة الجمعة صلاة مستقلة، فبناء على ذلك هذا كمن صلى قبل الوقت، مثل واحد راح صلى العصر قبل وقتها، أو صلى الفجر قبل دخول وقتها، هذا لا تقبل صلاته، فكذلك من صلى الظهر؛ نقول: ما صليت صلاة تجب عليك، فالواجب عليك صلاة الجمعة.
فإذا فاتته الجمعة فما الذي يتعلق به؟
حكم بدلها، وبدل الجمعة هو الظهر.
لاحظوا أمرًا: وهو أنَّ الجمعة ليست بدل عن الظهر، فهي صلاة مستقلة، لكن من فاتته الجمعة فبدلها الظهر، فالظهر بدل عن الجمعة لمن فاتته أو تعذر عليه فعلها كالمريض والمرأة والعبد ومن في حكمهم، والمسافر ومن شابههم.
فإذًا لو صلاها قبل الإمام لم تصح، لكن لو صلاها بعد الإمام، هو ما ذهب إلى الجمعة ولم يكن له عذر في ذلك فصلاها بعد انتهاء الإمام؛ نقول: تصح صلاته ظهرًا، وإن كان آثمًا بالتخلف عن الجمعة حيث لا عذر له يرفع عنه الإثم والحرج عند الله -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم: (وَالْأَفْضَلُ بَعْدَهُ)}.
قال: (وَإِلَّا صَحَّتْ وَالْأَفْضَلُ بَعْدَهُ)، يعني من له عذر يبيح له ترك الجمعة كمريض أو مسافر أو نحو ذلك؛ فهؤلاء لهم عذر يبيح لهم ترك الجمعة، فلو صلوها قبل الناس فتصح صلاتهم، لكن الأفضل أن تكون بعده.
وهذا مخصوص بما إذا كان بعد دخول وقت الظهر، أمَّا إذا كان قبل دخول وقت الظهر فلا، لأن صلاة الجمعة سيأتي أن وقتها عند الحنابلة يدخل قبل وقت الظهر المعتاد قبل الزوال -وسيأتي بيان ذلك- فكل هذا إذا كان فعل الظهر في وقتها الواجب الذي هو بعد زوالها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ سَفَرُ مَنْ تَلْزَمُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَكُرِهَ قَبْلَهُ مَا لَمْ يَأْتِ بِهَا فِي طَرِيقِهِ أَوْ يَخَفْ فَوْتَ رُفْقَةٍ)}.
من تعلق به حكم الجمعة بأن زالت الشمس ودخل وقت وجوبها، فلما كانت الجمعة ليس لها بدل إلا لمن تعذر عليه، ولما دخل الوقت وتعلق به حكم الوجوب؛ فلم يجز له أن يسافر فيفوت عليه ما تعلق به وجوبه، ونقول: إن ذلك محرم وغير جائز.
قال: (مَا لَمْ يَأْتِ بِهَا فِي طَرِيقِهِ)، يستثنى من ذلك حالان:
الحالة الأولى: أن يثق أنَّه في الطريق يصل إلى قوم يصلون، كما لو انتقل من هذه القرية إلى قرية أخرى ويعلم أنَّه يصل قبل صلاتهم لكونهم يتأخرون، أو لوجود دابة معه سريعة كما وجدت في هذا الوقت السيارات التي تقطع المسافات الطويلة في الوقت القصير فحسن.
الحالة الثانية: أن يخف فوت رفقته، يعني رفقته ممن لا تلزمهم الجمعة كنساء أو بعض من جاءوا ولم ينزلوا في البلد لم يستقروا ولا زالوا مسافرين، فلا يلزمهم حكم الجمعة، فهم يذهبون الآن، وهو يريد الذهاب معهم إلى الكويت أو يريد الذهاب معهم إلى جدة أو غير ذلك، فلو جلس يصلي الجمعة، قالوا: والله إنَّا ما ننتظر، نحن مرتبطون، أو عندنا شيء، فيذهبون فيخاف فوت الرفقة فيجوز له حتى ولو كان ذلك بعد زوالها.
هل نقول: الآن بعض الطائرات وبعض الرحلات مجدولة بعد زوال الشمس -يعني وقت الجمعة- فهل يكون ذلك داخل في فعل المحرم أو مأذون له باعتبار أنَّه يخاف فوت الرفقة؟
حقيقة إذا كان مضطرًا إلى هذا الوقت كأن إذا تأخر مثلا لا يجد غيرها، أو مرتبط بعمل هناك، يتعين أن لا يتأتى له بمثل هذا؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن لو كان في ساعة من الحال إمَّا أن يذهب على الرحلة الساعة الواحدة أو يذهب على رحلة الساعة الثالثة التي يمكنه صلاة الجمعة ثم الذهاب، فالحقيقة أنَّه محل بحث أو محل نظر بالنسبة إلي، ولا يبعد أن يكون لا يجوز له أن يؤقِّت سفره في ذلك، لأن هذا يفضي إلى أن يسافر بعد الزوال فيدخل في عموم النهي وتفويت صلاة الجمعة التي تعلق به حكم وجوبها.
طبعًا هذا إذا كان يشرع في السفر بعد الزوال، بعض الناس ما يفرق متى الشروع في السفر، فالشروع في السفر من خروج الإنسان من بلده، فإذا افترضنا أنَّ المطار خارج البلد فإذا إلى المطار فهو قد خرج، فالمعتبر متى خرج؟ إذا كان خرج قبل الزوال الساعة الحادية عشر ونصف؛ فنقول: هذا ليس محل الحكم، لكن الكلام فيمن كان زوال الشمس عنده الساعة الثانية عشر إلا عشر فتحرك من بيته الثانية عشر إلا عشر؛ فهذا صادف وقت الوجوب في البلد ووقت وجوب صلاة الجمعة وأنشأ السفر في ذلك، وتعرض لفوات الجمعة؛ فهل يدخل في النهي أو لا يدخل في النهي؟
نأتي إلى التفصيل الذي ذكرناه:
- إذا كان مضطرًا إلى هذا فلا إشكال، ويعتبر من خوف فوات الرفقة.
- إذا لم يكن فلا يبعد أن يكون قد تسبب على نفسه بشيء من ذلك.
{أحسن الله إليكم، لعل انتهى الوقت. نكتفي بهذا القدر}.
فيما ذكرناه إن شاء الله خير وبركة، أسأل الله لنا ولكم دوام التوفيق والسداد والإعانة على الخير والرشاد، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين، شكر الله لكم الحضور والمتابعة، وشكر الله للقائمين على هذا البرنامج برنامج (هداة) في جادة العلم والهداية إليه أن يجعلهم هداة مهتدين، وأن يجزيهم عنا خير الجزاء، وأن يقيم صرح العلم، وأن يبقيه وأن ينفع به، وأن يجعله لوجهه خالصًا، وأن يجعل أثره باقيًا، وأن يغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين.
{اللهم آمين، بارك الله فيكم ونفع بكم وبعلمكم، نستكمل ما باقي في مجالس قادمة إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.