الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

23135 18
الدرس الخامس عشر

أخصر المختصرات 2

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام، وتعبد وقام، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام، أمَّا بعد؛ فأهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلا وسهلا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم، وبارك فيكم، ونفع بكم.
أستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده}.
تفضل، الله يحفظك.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَإِنْ اشْتَرَى عَرْضًا بِنِصَابٍ غَيْرَ سَائِمَةٍ بَنَى عَلَى حَوْلِهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وَسَلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يعصمنا وإياكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظنا على الإسلام والسنة ما بقينا، وأن يحفظ بنا الإسلام والسنة، وأن يجعلنا عليها قائمين ولها ناشرين داعين، وبها عاملين مستمسكين، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، وأزواجنا، وذرياتنا، وأحبابنا، والمسلمين.
أمَّا بعد، فمرحبا بكم طلاب وطالبات العلم، ولا يزال الحديث موصولاً فيما ذكرناه من مسائل، وكنا قد وقفنا عند آخر مسألة من مسائل (عروض التجارة) في قول المؤلف- رحمه الله- تعالى: (وَإِنْ اشْتَرَى عَرْضًا بِنِصَابٍ غَيْرَ سَائِمَةٍ بَنَى عَلَى حَوْلِهِ) وإن كُنَّا قد تحدثنا عنها، لكن ربما كان حديثنا أمعن في إشكالها، والحديث وشرح المسائل وتلقي الطالب لها، إنما هي فتوحات من الله -جل وعلا- فقد يُفتح على المرء في وقت، ويَذهب عليه ذلك في وقت آخر، فالتوفيق والسداد وتيسير الأمور، إنما هي إلى الملك العلام، إلى الله -جل وعلا، وعسى الله أن يجعلنا ممن فُتح له في شرحه، وفُتح له في فهمه، وفُتح له في حفظه، وأُعين على ذلك في عمله، وجَعَلَ الله -جل وعلا- عمله خالصًا، وإنَّ المرء ليصاب من جهة نيته، وإنَّ الإنسان ليصاب أيضًا من جهة إعجابه بنفسه، وإنَّ المرء لا يكون ذلك بشؤم من كان مُتعلقًا به، يعني: ربما يكون مجلس العلم، فيكون فيه رجل مبارك، فيوفق الشيخ والطلاب ببركة ذلك الطالب، والعكس بالعكس، فربما كان الشرح أتمَّ ما يكون، والدرس أكمل ما ينفع، لكن يحضره من ليس أهلاً له، فيذهب بركة ذلك، وهذا له أصل في الشريعة، فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يخبر بليلة القدر، قال: «فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَرُفِعَت» ، فمن أجل خصومة اثنين وتلاحمهما ونزاعهما؛ رُفِعَ الإخبار بليلة القدر، فكان ذلك إشارة إلى ما يجب أن يكون الإنسان خيرًا على نفسه، وسببًا للخير على غيره، وعلى العبد أن يتابع نفسه بالإخلاص، وبالمراجعة، وبكبح جماحها، ومنع هواها، ونسأل الله أن يبلغنا وإياكم الخير والصواب.
والمؤلف -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة، لَمَّا كانت عروض التجارة ليست في شيء مخصوص، وإنما عروض التجارة تكون في كل شيء، يعني: تلقينا في باب بهيمة الأنعام أنَّ الزكاة في بهيمة الأنعام في ثلاثة، وفي الزروع والثمار ما كان موصوفًا بالكيل والادخار، وفي النقدين: الذهب والفضة، وألحق بهما الفلوس أو الأوراق النقدية، وتقدم الكلام على ذلك.
وأمَّا عروض التجارة فتكون في كل شيء، فقد يكون هذا البيت من عروض التجارة فتجب فيه الزكاة، ويكون هذا البيت مثله تماما ولا زكاة فيه؛ لأنه مسكون ومعد للقنية والانتفاع، ومثل تلك السيارات، ومثل تلك الألبسة، ومثل ذلك أثاث البيوتات، ومثل ذلك إلى ما لا حدَّ له ولا حصر.
والمؤلف- رحمه الله- يقول: (وَإِنْ اشْتَرَى عَرْضًا بِنِصَابٍ غَيْرَ سَائِمَةٍ) يعني: لو افترضنا أنه كان عنده نصاب ذهب، ثلاثون مثقالاً، فاشترى به سيارات للتجارة، فكونه قطع في نصاب الذهب، مثلا شهرين، فإذا اشترى هذه السيارات في التجارة، فإنَّه بعد عشرة أشهر يتم الحول، فيبنى الحولُ بعضه على بعض، وهكذا في مسائل كثيرة، إلا سائمة بهيمة الأنعام، فيبين المؤلف -رحمه الله تعالى- أنَّ حول السائمة مختلف عمَّا سواه، وبناء على ذلك، إذا انتقلت إلى عروض التجارة فكأنك انتقلت من مال زكوي إلى مال آخر، فانفصلت أحكامهما، فاستدعى أن يستأنف حولاً.
مثال ذلك: لو كان عندي خمسون من الغنم، فهي نصاب، وتم لها ستة أشهر، فبدا لي -بعد ذلك- أن أبيعها، وكانت عندي للضرع والنسل، ومكتملة لشروط وجوب الزكاة، ومضى عليها ستة أشهر في ذلك، فبعتها أو استبدلت بها بناءً أو ساعاتٍ للتربح والترصد للزيادة والبيع وإدارة المال، فنقول: هذا الانتقال، يعني: انتقالا من مال زكوي إلى آخر، فيستوجب أن تبدأ به زكاة أخرى، وهذا هو مقصود المؤلف -رحمه الله تعالى- في قوله: (غَيْرَ سَائِمَةٍ)، فالسائمة مُستثناةٌ من ذلك، فلها حول، والانتقال إلى عروض التجارة له حول آخر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (فصلٌ، زَكَاةُ الْفِطْرِ
وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِذَا كَانَتْ فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَةٍ وَاجِبَةٍ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتَهُ وَحَوَائِجَ أَصْلِيَّةٍ)
}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (فَصلٌ) هذا الفصل إذًا بيانٌ لنوع من أنواع الزكاة، ولكن بابها ليس باب الأموال الزكوية، وإنما هي زكاة مُتعلقة بالأعيان، متعلقة بالأشخاص، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)، فانتهى المؤلف -رحمه الله تعالى- من الأموال الزكوية، وهي الأربعة بما دخل فيها وما اشتملت عليه، فعروض التجارة داخلٌ فيه كل ما اتُّخِذَ لعروض التجارة، وبهيمة الأنعام، والنقدين، والزروع والثمار، فهذا باب أو وجه ومسار آخر، وهي: وجوب الزكاة على الأشخاص.
متى تجب هذه الزكاة على الأشخاص؟ وما هو متعلقها؟ وتفاصيل ذلك كله قد ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذا.
فلما قال: (وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ) دلَّ على نسبة هذه الزكاة إلى الإفطار بعد الصيام، وانتهاء هذه الشعيرة والشريعة، التي شرعها الله -جل وعلا- وأمر بها، وهي: الصيام، فنسبت إلى الفطر؛ لأنه وقت وجوبها، فتسمى (زكاة الفطر).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) هذا جاء في السنة النبوية، ومتفق عليه، «أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَرَضَ زكاةَ الفِطرِ صاعًا مِن تَمرٍ، أو صاعًا مِن شَعيرٍ، على كلِّ حرٍّ أو عبْدٍ، ذكَرٍ أو أنثى من المُسلمينَ» ، فهي واجبة، ولذلك قال المؤلف: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) فلم يشترط التكليف، والصغير والكبير في ذلك على حد سواء، والمجنون وغير المجنون، والمعتوه، كل أحد داخل فيها لا يخرج عن ذلك البتة.
قال: (إِذَا كَانَتْ فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَةٍ وَاجِبَةٍ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتَهُ)، إذًا وقت وجوبها ونصابها، نصابها ما هو؟
ليس فيها أنصبة مثلما تقدم، وإنما نصابها أن يوجد عندك نفقة زائدة عمَّا تحتاجه يوم العيد وليلته، فإذا افترضنا أنك تحتاج في يوم العيد لك ولأهل بيتك مئتا ريال، فمن كان عنده ثلاثمائة ريال؛ فتجب عليه الزكاة، فمن كان عنده (نَفَقَة وَاجِبَة يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتَهُ)، أي: النفقة الواجبة، يعني ليس بلازم أن لا تجد ما تحتاجه لتسلية أهلك، وإدخال السرور عليهم، بل ما يتعلق بلباس إن احتجت إلى لباس، أو كان طُعْمة أو أكلاً وشرابًا.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَاجِبَة يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتَهُ) فهذا إذًا هو مُتعلِّقها وحوائجه الأصلية التي لا ينفك الإنسان من الحاجة إليها.
فإذا كان عند مثلاً عشرون ريالا أو خمسون ريالا قد أعدها لشراء وقودٍ لسيارته، لذهابٍ ومجيءٍ لازم، فهذه من الحوائج الأصلية اللازمة، التي لا ينفك الإنسان منها، ولو كان عند إنسان مائتي ريال لأكله وشربه وأهل بيته ذلك اليوم، وعنده ألف ريال، لكن هذه الألف ريال يحتاجها لشراء دواء لازم، محتاج إليه، فنقول: هذا لم يجد، وبالتالي لم تجب عليه زكاة الفطر؛ لأنَّه ليس عنده نفقة زائدة عن يوم العيد وليلته.
أمَّا إذا كان واجدًا لِمَا هو أكثر من ذلك فتجب عليه الزكاة.
ولذلك كثيرًا ما يقول أهل العلم، مع أنها تدخل في الأبواب المتقدمة، وسيأتينا هذا، أن يكون الإنسان مُزكيًا ومستحقًا للزكاة؛ فتجب عليه الزكاة؛ لكونه واجدًا لِمَا يحتاج إليه يوم العيد وليلته، وتدفع له الزكاة؛ لأنَّه فقير أو مسكين أو نحو ذلك، ممن تدفع إليهم الزكاة.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (فَيُخْرِجُ عَنْ نَفْسِهِ وَمُسْلِمٍ يَمُونُهُ، وَتُسَنُّ عَنْ جَنِينٍ)}.
قوله: (فَيُخْرِجُ عَنْ نَفْسِهِ) هذا أول ما يجب، وهي كالنفقات في تقدمها، فمن وجد ما يخرجه عن نفسه وعن أهل بيته، فقد انتهى الأمر، ولكن إذا وجد بعض ما يجزئه؛ فيبدأ بالأولى فالأولى، فأول ما يَبدأ به الإنسان نفسه، ثم من يَعوله، المقدم فالمقدم، وهذا بحسب ما سيأتي في باب النفقات، فلأجل ذلك الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يجعلون (باب النفقة) مثل: (باب زكاة الفطر)، وبالتالي مَنْ قُدِّمَ ها هنا، قُدِّمَ هنا، فعلي سبيل المثال: العبد مقدم على الولد في النفقة، فيقدم هنا في الزكاة، ومثل ذلك الزوجة، ثم ولده، ثُم من (يَمُونُهُ) الأقرب فالأقرب، وهنا: (يَمُونُهُ) يعني: ينفق عليه وجوبًا، لا من تبرع بالنفقة عنه، فلو أن شخصا مثلا وفد عليك، فأنفقت عليه طيلة شهر رمضان، فلا يعني ذلك لزوم الزكاة عنه، بل إذا تبرعت بها عنه فحسن، وإلا فلا تلزمك الزكاة عنه، ولم تجب عليك.
وهنا إشارة إلى مسألة مهمة: من (يَمُونُهُ)، أي: من ينفق عليه، معنى ذلك أنَّ الإنسان إذا قدر على نفقته، ولزمته واعتاد الناس -في بعض الناس، المعتاد أن الوالد يخرج عن ولده- وولده استقل، وينفق على نفسه، ونحو ذلك، فلابد من أن يخرج المزكي عن نفسه، ولا تحصل الإنابة، إلا أن يتبرع ذلك وينوي المزكي، يعني: أنوي أنا أن يخرج عني والدي. وأمَّا إن أخرجها دون نية مني، فالأصل تعلقها بذمتي، وإخراجه عنها ليست من باب لزوم النفقة، لأن نفقته لا تلزمه علي، ولا من باب الوكالة؛ لأنني لم أوكله في ذلك، فليلحظ فإنَّ كثيرًا من الأبناء الذين استقلوا بنكاح وبوظيفة وبنحوها، اعتادوا أنَّ أهلهم يزكون عنهم، وبالتالي لا يلتفتون للزكاة، ولكنهم لم ينوا في ذلك التوكيل والتفويض، ولم يخرجوا عن أنفسهم، فلا تكون خارجة محلها، فينبغي أن يتنبه في ذلك وأن يتأكد فيه.
قال: (وَتُسَنُّ عَنْ جَنِينٍ) الأصل أنَّ الجنين لم يتعلق به حكم، لكن المذهب عند الحنابلة هو ما جاء عن الصحابة، ولَمَّا كان الجنين قد نُفخت فيه الروح، فهو بين بين، فليس هو من أهل الدنيا الذين تعلقت بهم الأحكام، وليس أيضًا قطعة لحم أو مضغة لا روح فيها، ولَمَّا جاء عن عثمان -رضي الله عنه- أنه أخرج عن الجنين، رأى ذلك الحنابلة واستحبوه، تأسيًا بسنة عثمان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله- (وَتَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، وَتَجُوزُ قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ، وَيَوْمَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَتُكْرَهُ فِي بَاقِيهِ، وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ، وَتُقْضَى وُجُوبً)}.
إذًا هذا وقت إخراج زكاة الفطر، وجوبًا، واستحبابًا، وكراهيةً، وتحريمًا، فمتى تجب؟ تجب بغروب الشمس ليلة الفطر، وبناء على ذلك لو أنَّ الشمس غربت من آخر يوم من أيام رمضان، من يوم الثلاثين، ثم لَمَّا صُلِّيَ المغرب، أعلن شخص إسلامه، فنقول: إنَّ هذا لم يتعلق به وجوب زكاة الفطر، فإن أخرجها فإنما ذلك تبرع منه وفضل؛ لأنه لم تغرب عليه الشمس، وهو أَهْلٌ لها، وبناء على ذلك لم تجب عليه.
ومن ولد بعد صلاة المغرب، فنقول: إن أُخرج عنه، فهذا يكون على سبيل الاستحباب، ويتأكد كتأكدها في حق الجنين؛ لأنه ولد ولكنه لم يصادف وقت الوجوب، فلم تجب عليه.
فاذا كان يوم الثلاثين وغربت الشمس حصل، أو رؤي الهلال، ومتى ما رؤي الهلال عُلِمَ أنَّ تلك الليلة بغروب الشمس هو وقت الوجوب، وهذا في آخر يوم من أيام رمضان، برؤية الهلال، أو بإكمال العدة ثلاثين. فإذًا، هذا وقت وجوبها.
قال: (وَتَجُوزُ قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ) لَمَّا كان الوقت ضيقًا إلى صلاة العيد، والحكمة التي لأجلها أوجبت أن تجعل غُنية للفقراء، وطهرة للصائم، ولَمَّا كان الوقت ضيقًا، فقد جاء عن الصحابة، كما جاء عن ابن عمر، جواز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين تيسيرًا، ولأنَّ المقصود لا يفوت، لأنَّ المقصود هو إغناء الناس يوم العيد، الذي هو يوم فرحة وسرور، فإذا أخذ الناس هذه الطعمة أو هذه الفطرة، ففي الغالب أنها تبقى عندهم اليومين والثلاثة، وبناء على ذلك لا حرج في تقديمها في هذه المدة اليسيرة، لكنه على سبيل الجواز.
فإذًا الواجب أنه بعد غروب الشمس من آخر يوم.
(وَيَوْمَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ)؛ لأنَّ هذا هو الوقت الذي أخرج فيه النبي ؛ ولأنه يتأتى به المقصود على أكمل وجه، من تحقق أنها إغناء إغناء للفقراء؛ لأنَّ الذي يأخذها قبل يوم أو يومين، صحيح أنَّ الغالب أنه لا يُنفقها، لكن يمكن أن يُنفقها، أو أن يتصرف فيها ببيع أو غيره، فيفوته المقصود من ذلك؛ فلأجل ذلك كان قبل صلاة العيد أتم وقت وأكمله، لحصول المقصود بذلك، ولكونه من فعل النبي .
قال: (وَتُكْرَهُ فِي بَاقِيهِ) يعني: بعد الصلاة مكروهة عند الحنابلة؛ لأنَّ النبي قال: «مَن أدَّاها قبل الصَّلاة فهي زكاةٌ مَقبولةٌ، ومَن أدَّاها بعد الصَّلاةِ، فهي صدقةٌ مِنَ الصَّدقات» .
لماذا قال الحنابلة بالكراهة دون التحريم، مع أنه بتأخيرها أخرجها عن كونها زكاة؟
لأنهم يقولون: إن المقصود من ذلك حاصل، وهو الإغناء ذلك اليوم، فلأجل ذلك لم تخرج من كونها زكاة، يتأتى بها المقصود في إفراح الفقير في ذلك اليوم وإغنائه فيه.
وإن كان بعض أهل العلم قال بمنعها، وربما جرت بذلك الفتيا عند بعض مشايخنا، فينبغي للإنسان أن يتحوط تأخيرها إلى ما بعد الصلاة.
ثم يقول: (وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ) أمَّا تأخيرها عن يوم العيد؛ فهذا محرم، لماذا؟
لأنه تأخير للواجب عن وقته، وتفويت لمعناه وقَصْده، فالقصد من ذلك إغناء الفقراء، وقد فات في يوم العيد -يوم الفرح والسرور- ومن جهة النصِّ والأصل، فإنَّ النبي أمر بها قبل خروج الناس لصلاة العيد، فكان تأخيرها عن ذلك مُفوتًا لقصدها، فيحصل على من آخرها الإثم، والوقوع في الحرام.
قال: (وَتُقْضَى وُجُوبً) قضاؤها؛ لأنها متعلقة بذمة المكلف، فلم يكن له أن يُهملها أو أن لا يُؤديها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَهِيَ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ سَوِيقِهِمَا أَوْ دَقِيقِهِمَا أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ أَقِطٍ)}.
قوله: (هِيَ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ سَوِيقِهِمَا أَوْ دَقِيقِهِمَ) أي: هي تكون من البر، أي: القمح، أو الشعير، وما تفرع عنهما من سويقٍ أو دقيق.
ما الفرق بين السويق والدقيق من البر والشعير؟
الدقيق هو ما طُحِنَ، والسويق هو ما طُحِنَ وعرض على النار، فإذا عُرِضَ على النار صار الناس يسمونه (حُمِّص)، وكل ذلك يسمى سويقًا، وربما يضيفون إليه شيئا من الزيت أو الدهن أو نحو ذلك، حتى يحمص جيدًا.
قال: (أَوْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أَوْ أَقِطٍ) هذه الخمسة التي جاء بها الحديث، واعتمدها فقهاء الحنابلة، وسيذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- متى ينتقل إلى غيرها؟
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَالْأَفْضَلُ تَمْرٌ فَزَبِيبٌ فَبُرٌّ فَأَنْفَعُ)}.
الفقهاء- رحمهم الله تعالى- يقولون: هذه الخمسة كلها مُؤدية للمقصود.
(وَالْأَفْضَلُ تَمْرٌ فَزَبِيبٌ فَبُرٌّ فَأَنْفَعُ) أي أنَّ الأفضل التمر لعظيم النفع به، ثم الزبيب؛ لأنه يبقى وينفع، وفيه فوائد كثيرة، ثم البر؛ لأنَّ البر أنفع من الشعير، وأنفع من الأقط، ثم: (فَأَنْفَعُ).
وقد يختلف ذلك باختلاف بعض البلدان، فبعضهم ينتفع بالأقط أكثر من الشعير، وبعضهم بالشعير أكثر من الأقط، وهذا نظر من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في الأولى منها والأتم، وإن كان كلها مُؤدية للمقصود، ويحصل به الغرض والمراد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (فَإِنْ عَدِمَتْ أَجْزَأَ كُلُّ حَبٍّ يُقْتَاتُ)}.
قوله: (فَإِنْ عَدِمَتْ) يًفهم من هذا أنَّ فقهاء الحنابلة، كما هو قول المؤلف هنا: إنه لا يجوز الانتقال منها إلى سواها إلا عند عدمها، فإذا لم يعدم بعضها تعين، فكل بلد يوجد فيه واحد أو اثنان أو أكثر من هذه الخمسة لم يجز لهم أن ينتقلوا إلى سواها، هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى-.
وفي قول آخر عن أحمد، وبه قال جمع من أهل التحقيق، وعليه الفتيا أنَّ النبي قال: «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» فقالوا: إنه يصح في ذلك واحد من هذه الخمسة، أو ما كان من طعام البلد وقوته، وما يحصل به النفع والمراد، فيدخل في ذلك الأرز، ويدخل في ذلك العدس، ويدخل في ذلك الدخن، ويدخل في ذلك أشياء كثيرة جدًا، ويختلف هذا باختلاف البلدان والأماكن.
وقال أهل العلم: إنَّ النبي قال: «صدقة من طعام» ولأنَّ المقصود بذلك الإغناء، فبعض البلدان إذا لم يكن طعامهم الأقط، فلو أعطيته الأقط لم تنفعه، ولم تعطه شيئًا بما يتعلق به إشباعه أو نفعه أو الإحسان إليه، وبناء على ذلك قالوا: إنَّ متعلق الحكم ليس هو هذه الخمسة، بل إنَّ النبي ذكر ما بُسِطَ به الحال، يعني: ما وُجِدَ في تلك البلد، وأشار في قوله: «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» إلى متعلقها وهو الطعام الذي يحصل به الانتفاع، فيدخل في ذلك كل أقوات البلدان، وربما كان بعضها أنفع للفقراء، فيكون مُقدمًا على ما سواه، وعلى هذا الفتيا في بلادنا، وعند مشايخنا، وعمل الناس اليوم.
هذا يجرنا إلى سؤال مهم، وهو: هل يجوز إخراج زكاة الفطر من الريالات والدراهم النقدية أم لا؟
أولاً: يجب أن يُعلم أنَّ النبي نصَّ على أنَّ زكاة الفطر طعام، وأنَّ إخراجها من الطعام إلى سواه هو تغيير لحقيقة الصدقة، أي: زكاة الفطر؛ لأنَّ عندنا أمران:
الأول: متعلق من جهة الزكاة وهو نفع الناس، والثاني: متعلق من جهة التعبد والتنسك، وإظهار هذه الشعيرة، فإخراج الدراهم والدنانير من أنفع ما يكون للناس لكنه سائر العام، وفيه أيضًا زكاة الأموال، وفيه أبواب كثيرة من البر والإحسان، لكن هذه زكاة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشيء مخصوص، فكان هذا هو الأولى والأتم، وهذا هو الذي عليه الحنابلة وجمهور أهل العلم، والذي يحصل به براءة الذمة بيقين.
وأمَّا الانتقال إلى القيمة فهو قول لبعض الفقهاء، كما قال به بعض فقهاء الحنفية، وقال به أيضا: بعض من أَلَّف من أئمة المذاهب، وربما مال إليه بعض المعاصرين، لكن مهما يكن فنقول: مهما عُلِمَ من نفع ذلك للمساكين، إلا أنَّ بقاء هذه الشعيرة، والتعبد لله -جل وعلا- بهذا الأمر هو باب آخر، فلا ينبغي الاسترسال في القيمة، حتى لا تكاد توجد هذه الشعيرة.
ولو أخرج الناس في كل بلدان العالم هذه الريالات، لفات التخصيص، وهو أنَّ صدقة من نوع معين، في وقت معين.
فعلى كل حال، هو قول للفقهاء، ولا يُثَرَّب على من نحا منحاه، لكن لا ينبغي أن يفضل على ما يحصل به براءة الذمة بيقين، وبقاء هذه الشعيرة، والحفاظ على هذه الركيزة التي جاءت عن النبي :
«فَرَضَ رَسولُ اللَّهِ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، أو صاعًا من طعام، علَى العَبْدِ والحُرِّ، والذَّكَرِ والأُنْثَى، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأَمَرَ بهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ» ، فليس فيه شيء أخص من ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَيَجُوزُ إِعْطَاءُ جَمَاعَةٍ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ وَعَكْسُهُ)}.
قد يخرج الإنسان زكاته وزكاة زوجه وولده خمسة أصواع، فيعطيها شخصًا واحدًا، وقد يكون عنده صاع واحد فيفرقه على اثنين للحاجة إلى ذلك، فيجوز هذا وهذا وبه حصول المقصود، وبراءة الذمة من هذه الشعيرة.
وقبل أن ننتقل إلى الفصل التالي، فات علينا قول المؤلف: (وَهِيَ صَاعٌ) والصاع كما قلنا سابقًا هو نوع من الكيل، والكيل هو اعتبار الشيء بحجمه، وذكرنا -سابقًا- أنَّ اعتبار الأشياء بأحجامها تلاشى في الأسواق كثيرًا، إلا المشروبات والمعلبات المغلفة لم تزل إلى الآن على هذا، لأنَّ الأشياء في الغالب قد نحت منحى الأوزان، وبناء على ذلك وتخفيفًا على الناس، جرى كثير من الفقهاء السابقين والمعاصرين إلى نقل هذا الصاع إلى وحدة وزن، أي: اعتبار الشيء بثقله، وذلك تخفيفًا عن الناس وتيسيرًا، ثم بعد ذلك نظروا كمْ يساوي هذا وهذا.
بعض أهل العلم حدها، وقال: إنها على سبيل الاحتياط تكمل على ثلاثة كيلوات، وهذا جيد؛ لأنَّ فيه احتياطًا لِمَا خَفَّ وَما ثَقُلْ؛ لأننا في الغالب لو وضعنا ثلاثة كيلو حتى ولو من شيء ثقيل، فالغالب أنه يملأ الصاع.
وبعضهم قال: إنه اثنان كيلو وأربع مائة جرام، وبعضهم قال: اثنان كيلو وأربعون جرامًا، باعتبار أنها تسعين أو خمسة وتسعين مثقالا، والمثقال كذا، يعني صاروا إلى شيء من هذا.
لكن هنا أؤكد مسألة واحدة، يجب أن تكون مستقرة في أذهانكم، وهي أنَّ كل هذا النقل، إنما هو على سبيل التقريب، ولا يمكن أن يأتي شخص ويقطع أنَّ الصاع يساوي كذا، لماذا؟ لأنَّهما عبارة عن وحدتين مختلفتين، هذه وحدة لاعتبار الشيء بحجمه، وهذا وحدة لاعتبار الشيء بثقله، فقد يوضع في هذا الصاع ما يملؤه مما لا يزن في الأثقال مائة جرام، فلو وضعت قطنًا مثلا، بغض النظر عما يجب في زكاة الفطر، فصار الصاع مملوءًا، ثم أخذته ووضعته في الميزان، كمْ سيساوي؟
مائة جرام وربما أقل، وبناء على ذلك نحن ننظر إلى هذا على سبيل التقنين؛ لأنَّ الأرز على سبيل المثال يختلف نوعه عن آخر، والقمح الممتلئ من المتخفف، والناشف من الرطب قليلا، وهكذا.
فإذًا لا يخلو الأمر من شيء من التقريب، فلمَّا كان الأمر كذلك؛ فإنَّ هذا يحوجنا إلى شيء من الاحتياط، فمن كان عنده صاع فيعتبر الصاع النبوي؛ لأنَّ مقادير الأصواع قد اختلفت أيضا فيما سبق، وفيما لحق من الأزمان، فإن لم يوجد عندك الصاع؛ فالأحسن أن الإنسان يحتاط قليلا مع الزيادة، وقد أدركنا كثيرًا من كبار السن عندنا، وكنت أذكر وأنا صغير والدنا وهو يعمد إلى الصاع؛ فيجلبه لأجل تحقق حصول المقصود على وجه التمام والتدقيق، فمن تأتى له ذلك، فهذا هو الأفضل والأتم، ومن لا يتأتى له ذلك فينبغي له أن يحتاط قليلا، وكلما كان الإنسان في سعة كان الاحتياط أولى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (فصل، بَيَانُ إِخْرَاجٍ الزَّكَاةَ وَأَهْلِهَا.
وَيَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةٍ عَلَى الْفَوْرِ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَيُخْرِجُ وَلِيُّ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ عَنْهُمَ)
}.
هذا الفصل في أحكام إخراج الزكاة، فيقول المؤلف: -رحمه الله تعالى: (وَيَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةٍ عَلَى الْفَوْرِ) أي: إذا وجب وقتها، ولم يكن مانع من إخراجها، كوقت الصلاة أو وقت الحج، ونحو ذلك من العبادات المؤقتة، فإذا تمت الشروط، واكتمل النصاب، وحل الأجل؛ فيجب على الإنسان أن يُؤدي ما لحق به من الذمة، وما تعلق به من الحكم؛ فيخرج الزكاة على الفور لا على التراخي والتواني، ومعنى ذلك إذا قلنا: يجب على الفور، فمن آخرها فهو آثم، ولحقته التبعة، (مَعَ إِمْكَانِهِ) أي: يُستثنى من ذلك أشياء، إمَّا مع عدم الإمكان، كما لو كان عند إنسان مال، وهو بالغ للنصاب، ومرَّ عليه الحول ونحو ذلك، ولكنه غائب؛ فإنه لا يكلف في إخراج مال ليس بحوزته، ومعنى ذلك أنه يدونه، ثم متى ما حصل أخرج زكاته؛ فإن تبرع وكان عنده مال آخر، وأراد أن يخرج منه الزكاة، وألا ينتظر إلى وجود هذا المال، فهذا تبرع منه.
قال: (وَيَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةٍ عَلَى الْفَوْرِ) ويستثنى من ذلك أيضًا بعض الأحوال، قال أهل العلم: لو أخَّرَ الزكاة لنحو فقير ينتظر مجيئه، يعني: قريب له مسافر ينتظر مجيئه، أو نحو ذلك، أو شخص أشد حاجة من سواه، فإذا أخَّرها لأجل ذلك؛ كان ذلك صحيحًا، ولم يكن في ذلك غضاضة ولا حرام.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَيُخْرِجُ وَلِيُّ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ عَنْهُمَا، وَشُرِطَ لَهُ نِيَّةٌ)}.
قوله: (وَيُخْرِجُ وَلِيُّ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ عَنْهُمَ) الزكاة لها تعلقان، تعلق على المكلفين؛ فيؤجرون ويثابون على فعلها، ويأثمون ويعاقبون على تركها، فمن فعلها فله الأجر والثواب، وأُعطي عند الله -جل وعلا- المنزلة والرتبة، ومن تخلف عنها أو أخرها لحق به العذاب، وتوعد بأنواع العذاب، ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، ومر بنا قول ابن عمر: "مَا أُدِّي زكاتُه فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ"، ويمثل للشخص يوم القيامة ماله بشجاع أقرع، يعني: ثعبانًا، «مَن آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ له مَالُهُ يَومَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أقْرَعَ له زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَومَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يقولُ: أنَا مَالُكَ أنَا كَنْزُكَ» ، وتُصَفَّحُ له به صفائح من نار، فيكوى بها جبينه، وجنبه، وظهره، عقابًا من الله -جل وعلا- على تركه للزكاة، فهذا من جهة التكليف.
طيب الصغير والمجنون لا تكليف عليهم، قال أهل العلم: فإنَّ هذا له تعلق آخر، وهو تعلق من باب الحكم الوضعي، وهو أنَّ هذه أموال زكوية، وللفقراء حق فيها، فوجب إخراج الزكاة منها، لِحَقِّ هؤلاء الفقراء والمساكين، ولَمَّا كان الصغير والمجنون لا عقاب عليهم ولا عذاب، أُنِيطَ ذلك بالولي الذي يدير هذه الأموال، ويقوم بتعاهدها وتنميتها وغير ذلك، فيلزمه إخراج الزكاة فيها، وبناء على ذلك ما الذي يستفيده الصغير والمجنون؟
يستفيد أنه إذا أُخِذَ الزكاة؛ لحق المال من البركة والخير والنفع الشيء الكثير، وحصل لهم الثواب، ويثيبهم الله -جل وعلا- ويعطيهم، قالت المرأة: ألهذا حج؟ قال: «نَعَم وَلَكِ أَجْرٌ» . فقد يثاب من ليس مُكلفًا على ما عمله من حسن، وما قام به من عمل، ولكنه لا يعاقب على تركه، ولو تعلق بذلك تفريط، فالولي هو الذي يعاقب؛ لأنه أخلَّ بحق هذا المال الذي تعلق بحق الفقراء، الذين تعلق حقهم بهذا المال.
طبعا هذا هو قول جمهور أهل العلم، وما جاء عن عثمان -رضي الله تعالى عنه- أنه أمر بإخراج زكاة الصغار والمجانين، وقال: "اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" ، مما يدل على أنَّ الصدقة واجبة فيه، ومتعلقة به.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَشُرِطَ لَهُ نِيَّةٌ)}.
يعني: لابد عند الإخراج أن يكون ناويًا الزكاة، وهنا أمران مهمان، أنَّ بعض الناس أحيانًا تتوق نفسه إلى صدقة، فيخرج مثلا: خمسة آلاف، أو يعرض له شيء من الناس، ويقال: إنَّ هؤلاء مساكين أو فقراء، فيعطيهم خمسة آلاف، ثُمَّ لَمَّا جاء يحسب زكاته، يقول: لقد أخرجت قبل خمسة آلاف، فنقول: ما دمت لم تنوها من زكاتك؛ فإنها لا تنفع، بل هي صدقة من الصدقات إن نويت بها برًّا وإحسانَا، وصلة وأجرًا، ولكنها لا تكون زكاة إلا بنية؛ لأنها واجبة، كما أنَّ الإنسان لو صلى أربع ركعات، ولم ينو الظهر أو العصر، فهل تجزئه؟ ولو صلى ركعتين بعد طلوع الفجر، ولَمَّا انتهى قال لقد صليت ركعتين، فلنعتبرهما الفجر، هكذا بدون نية، فنقول: لا تكفي، وكذلك الزكاة.
والمسألة الأخرى: أنَّ كثيرًا من الناس خاصة في الشَرَكَات أو ما يكون بين الإخوة والأخوات، إذا تولى أحدهم أو إحداهن تنمية المال عن إخوانه، فأحيانًا يسترسل فيتولى ما يتعلق بهذا المال من زكاة، على حين أنهم لم يشعروا بإخراج الزكاة ولم يقصدوا، فنقول: إنها لا تنفع، ويجب عليهم إخراج زكاة أموالهم بنية، ويجب على ذلك الشخص الذي أخرج دون نية أن يرد هذه الأموال؛ لأنه افتأت عليهم، فلا هو أمرهم فنووا أو فوضوه وقصدوا، وبناء على ذلك فيكون قد تصرف تصرفًا من عند نفسه، وافتأت فيه على صاحب المال ومالكه، وبناء على ذلك يلزمه سداده وإعادته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَحَرُمَ نَقْلُهَا إِلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ، إِنْ وُجِدَ أَهْلُهَ)}.
قال: (وَحَرُمَ نَقْلُهَا إِلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ) هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وقول جمع من الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، وذلك أنَّ النبي في حديث قصة معاذ، والذي رواه ابن عباس عند مسلم في الصحيح، أنَّ النبي قال: «فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيائِهِمْ فَتُرَدُّ في فُقَرائِهِمْ» ، والضمير هنا إما أنه راجع إلى أهل البلدة والمكان، وهذا هو سياق الحديث، وإمَّا أن يكون القصد في ذلك فقراء المسلمين، فيكون على العموم، فإلحاقه بالأخص الذي هو ورود الحديث ومقصوده هو الأقرب والأظهر، وهذا الذي ذهب إليه فقهاء الحنابلة، وجمع من الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، ولأجل ذلك لا يجوز إخراجها أبعد من مسافة القصر، إلا أن لا يوجد فقير في ذلك المكان، وهذا له معانيه بما يسمى بلغة العصر الاقتصادية "الاكتفاء الذاتي" و "إدارة المال" و "دورة المال في المكان"، وما يعقبها، وهذه مقصودة للشارع؛ فإنَّ الشرع فيه من التمام والكمال، لكن نحن لا ننيط به، ونجعله هو علته.
وقال بعض الفقهاء، وهو رواية عن أحمد، وانتصر لها ابن تيمية -رحمه الله تعالى: إنه يجوز للحاجة، فكما لو كان في إحدى ديار المسلمين نكبة وبلية، فعندهم من الفقر والفاقة أكثر مما عند غيرهم، كما في بعض بلاد المسلمين التي تجاورنا، فهل نعطى فلانًا الذي يقرب منا، فيه سد لحاجة، لكن مثلا بعض البلدان قد يكون فيها من الجوع ما قد تفقد معه الحياة، أو يذهب معه كمال الانتفاع بالأعضاء والمنافع، يفقد بعض جوارحه، أو بعض قوته، فإذا كان الأمر كذلك، كان النقل هنا في مثل هذه الحالة أنفع.
فلأجل ذلك قال بعض أهل العلم: إنه إذا كان لمصلحة؛ فلا مانع من نقله، وعلى هذا الفتيا، وعلى هذا جرى علماؤنا، ولم يزل كثير من أثرياء بلادنا وتجارهم ينقلون كثيرًا من زكواتهم إلى بلدان أخرى.
على كل حال، الأصل أنها تدفع في البلد، ودفعها فيما سواه هو خلاف الأصل، لكن قد يجوز ذلك للحاجة على قول.
لكن هنا أيضًا ينبغي أن يتوقى، يعني: إذا قيل بصحة ذلك، فلابد من التأكد من أنها تصل إلى موضعها، ثم أيضًا ألَّا تُوفد عليك سبب بلاء، لذلك اتباع القنوات الرسمية والمعتادة مهم.
والإنسان إذا فرط في مثل هذه الأمور، فإنه قد يجلب البلاء على نفسه في دينه ودنياه، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز في ذلك بما يلحقه التبعة، أو يدخله في المسؤولية، ولأجل ذلك كان إعطاؤها في أهل البلد أتم وأكمل، وأوثق وأسلم، وأبعد عن كثير من هذه الإشكالات.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَمَالُهُ فِي آخَرَ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَالِ فِي بَلَدِ الْمَالِ، وَفِطْرَتَهُ وَفِطْرَةً لَزِمَتْهُ فِي بَلَدِ نَفْسِهِ)}.
يعني هنا مسألة فيها تجاذب، وهو أين متعلق الزكاة؟ نحن قلنا: إنها تؤخذ من أغنياء فترد في الفقراء، طيب هو ساكن في الرياض، وماله في جدة، أو ماله في أبهه، خاصة الآن أكثر الأعمال منتشرة، فإن أخرجها في بلده، يخرجها أين؟ هل في البلد الذي هو فيه؟ أو الذي ماله فيه؟
الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يقولون: إنَّ الزكاة -كما سبق وقلنا: إنها على نوعين أو على جهتين:
منها: زكاة الأموال، فمتعلق الزكاة هو المال، وبناء على ذلك، أي مكان فيه المال كان إخراج الزكاة فيه، وأي زكاة تعلقت بالبدن التي هي زكاة الفطر، فحيثما وُجِدَ الرجل أخرج زكاته في المكان الذي هو فيه، فإذا كنت مثلا في زكاة الفطر، وأنا من أهل اليمن مثلاً، ولكني في المملكة، فأخرج زكاة الفطر هنا، ومالي الذي في اليمن أخرج زكاته في اليمن، والعكس بالعكس وهكذا، وهذا ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- وهذا نظر دقيق في إلحاق كل شيء بما يليق به.
فلما كانت زكاة المال بالمال، فحيثما وجد المال توجد الزكاة، وزكاة البدن التي هي زكاة الفطر متعلقة بالبدن، فحيثما وجد الشخص وجبت زكاته، لكن العبرة بوجوده وقت الوجوب، يعني: لو أنه مثلا أفطر أو غربت الشمس يوم الثلاثين من رمضان وهو في مكة، ثم رجع إلى الرياض فنقول: وقت وجوبها مكة؛ فالأولى إخراجها في مكة، وهكذا الأوجب إذا قلنا بلزوم ذلك وتحتمه.
الآن ومع سهولة دورة الأموال، ليس باللازم في كثير من الزكوات تعلقها بالبلد، يعني مثلا: هو عند تجارة في بلدان متفرقة، لكن قد يكون مستودع الأمتعة في الرياض وانتقالها في وقت قصير، وأيضًا إيداع الأموال يودع وتصل إلى الرياض مباشرة في حسابه الذي في الرياض، لكن أيضا لا ينفك الأمن من وجود بعض الأشياء مثل: معرض سيارات في أبها، فإذا ما تعلق الحكم واضح، عنده أراض في أبها للبيع كذلك، وهكذا قد تختلف بعض الصور، فتحتاج إلى أن يلحظ ما يتعلق بها.
وبناء على ذلك، أي مكان فيه المال كان إخراج الزكاة فيه، وأي زكاة تعلقت بالبدن التي هي زكاة الفطر.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا لِحَوْلَيْنِ فَقَطْ)}
تأجيل الزكاة للحاجة جائز، والأصل والأتم ألا تخرج الزكاة إلا وقت وجوبها. لماذا؟ لأنَّ المال لا يدري ما يعرض له من نقصان أو تغير أو غيره، والشارع أيضًا جعل لكل عبادة وقتًا، فكان وقت وجوب الزكاة تمام الحول، وكمال النصاب، اكتمال الشروط.
لكن تعجيلها يجوز، وهذا جاء في الحديث الذي في الصحيح أن النبي تعجل زكاة عمه، فدل ذلك على جوازها للحاجة، فلو أنَّ المسلمين في يوم فاقة أو في شدة، فتعجلوا زكاة بعض التجار لدفع حاجة الفقراء والمحتاجين، والمجاعة التي حصلت، ومثل ذلك في أوقات الوباء الذي نزل بالناس، فلو أنهم تعجلوا بعض الزكوات أو غيرها لرأب الصدع، ودفع حاجة الناس، مع توقف أعمالهم، وحصول البلاء عليهم؛ فإن ذلك يكون صحيحًا، ولكن على سبيل الجواز، والأولى أن تُؤخذ الزكاة عند تمام الحول واكتمال النصاب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَلَا تُدْفَعُ إِلَّا إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَهُمْ: الْفُقَرَاءُ َالْمَسَاكِينُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقَابِ، وَالْغَارِمُونَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَلَا تُدْفَعُ إِلَّا إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ) إذًا لابد أن يعلم أن الله -جل وعلا- شرع الزكاة، وشرع لبذلها أبوابًا لا يتجاوز إلى غيرها، أبواب البر كثيرة وطرق صرف وجوه الخير متعددة، لكن ليس كل باب بر هو باب يجوز فيه إخراج الزكاة، بل إنما تخرج الزكاة في الأبواب الثمانية التي جاءت بها الآية، ودل عليها النص؛ لأنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَ﴾، فيقول أهل العلم: "إنما" دالة على الحصر والقصر، وهي أقوى ما تكون في دلالتها، فدلَّ ذلك على أنَّ الزكاة باب من أبواب المواساة والإحسان، تُدفع لأبواب مخصوصة، جاء النص بها، وذكرها الله -جل وعلا- في كتابه، على سبيل العد والحصر، فلا تُدفع إلى سواها، ولذلك ما آل إليه عمل بعض الناس، من فتح البذل في كل أبواب البر، وإخلال بباب الزكاة، وإخلال بأبواب البر، كيف كان إخلالا بأبواب البر؟ يعني: كان من الناس يريد وقفًا وتجب عليه زكاة، فيخرج الزكاة للفقراء ويوقف وقفًا بيده، فلو قلنا: إنه يجوز مثلا دفع الزكاة للوقف؛ فكأنك منعته أن يدخل في الإحسان، أخرج مال الزكاة، وجعله في الوقف، واكتفى بشيء واحد، وذلك لَمَّا حصلت الفتوى عند بعضهم، بأن الجهات الخيرية التي تشتري وقفًا، ويكون على ذمتها الاعتبارية مال، فإنه يدفع فيها الزكاة، كان هذا فيه إخلال بباب الزكاة، وإخلال من حيث لا يشعرون بأبواب البر؛ لأنهم صرفوا أموال الزكاة المخصوصة إلى أبواب البر، فحرموا الناس من الاستزادة من الخير والبر، وحرموا المساكين مما لهم من الحق المخصوص في الزكوات، فلأجل ذلك قال المؤلف- رحمه الله تعالى: (وَلَا تُدْفَعُ إِلَّا إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ) محصورة بالعد والتعداد على ما سيأتي ذكره -بإذن الله جل وعلا-.
ولعلنا نكتفي بهذا القدر، ونجعل بداية الدرس القادم -بإذن الله- أهل الزكاة وتعدادهم، وبيان كل واحد منهم.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والإعانة والرشاد، وأن يُلقي الصواب على ألسنتنا، وأن يوفقنا للهدى، وأن يجنبنا الشر والرداء، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{جزاكم الله خيرًا، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة -إن شاء الله- إلى ذلكم الحين، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك