{الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، وصلى الله وسلم على خير من صلَّى وصام، وتعبد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام، أمَّا بعد، فأهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد لمجالس شرح متن أخصر المختصرات، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلا وسهلا بك يا صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، حيَّاك الله.
{أحسن الله إليكم، وبارك فيكم، توقفنا عند صلاة الأعذار.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَالْأَيْمَنُ أَفْضَلُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُتم علينا وعليكم العلم والعمل، وأن يجعلنا من أهله، وممن يقيم بنيانه، ويحافظ عليه، ويحشر في زمرة العلماء العاملين، على سنة خير المرسلين، محمد ﷺ، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيُّها الإخوة -طلبة العلم- هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في صلاة أهل الأعذار، وذلك بعد أن أنهى -رَحِمَهُ اللهُ- ما يتعلق بالصَّلاة، وما يُعَدُّ من شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، ومن ثم قام ببيان المكروهات والمحرمات، ثم مكملات ذلك من سجود السهو، إلى صلاة الجماعة، إلى ما يعتبر في الإمامة، كل ذلك قد كمله وأتمه.
وبدأ بعد ذلك فيما يعرض للمرء، فربما لم يستطع إتيان الركن، وربما عجز عن القيام بالواجب، والصَّلاة عليه لازمة، وأداؤها عليه واجب، فإنَّ الصلاة من أهم الواجبات وألزمها وهي التي لا تسقط عن المسلم بحال، وسيأتي بيان ذلك أثناء هذا الفصل، الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فلمَّا كان الأمر بهذه المثابة؛ عَقَدَ فصلاً مُتعلقًا بمن حصل له عذر يُسقط عنه بعض أركانها، أو تصح صلاته بدون ما يعتبر فيها، وإذا تكلم أهل العلم عن صلاة أهل الأعذار فإنهم يتكلمون عن صلاة المريض، وصلاة المسافر، والصَّلاة في الخوف، فكل أولئك لهم من الأعذار التي يُباح لهم ترك بعض ما يعد فيها ركنًا أو واجبًا أو شرطًا على ما يأتي تفصيله وبيانه، وفي هذا إشارة إلى عظم هذه الشريعة وكمالها، كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:3]، فرضي الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا الإسلام دينًا ومنهاجًا، وبيَّنَ لنا الأحكام تفصيلا وتبيانًا، على ما جاء في سنة النبي ﷺ، كل بحسبه، وكل قدر استطاعته، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وكما جاء عند مسلم في صحيحه لَمَّا نزلت هذه الآية، قال الله -جل وعلا: «قد فعلت قد فعلت»[1]، كما جاء في تمام الحديث وكماله.
وقال -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه أيضًا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ إتيان الواجبات في العبادات تكون بقدر الاستطاعة، ولا يكلف الإنسان فوق طاقته، ولا يطلب منه ما لا يستطيعه، ولا يحاسب على ما يعجز عنه، ولذا كان من فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- ورحمته وتيسيره على هذه الأمة، أنه لم يجعل عليهم حرجًا فيما فرض عليهم من الفرائض والشرائع والأحكام.
وأكثر ما جاء هذا في صلاة المريض، وذلك من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- لَمَّا أصابته بواسير فقال له النبي ﷺ: «صَلِّ قائمًا، فإنْ لم تَستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تَستطِعْ فعلى جَنبِكَ»[2]، ولذا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (يُصلي المريض)، والمريض من حيث المعنى هو من اعترته علة، ودخل عليه سقام، أيًّا كان ذلك السقم، سواء كان الإنسان فيه أثر في رأسه، أو وجع في ضرسه، أو ألم في يده، أو مغص في بطنه، أو نحو ذلك، فهل يسقط عنه بعض فروض الصَّلاة وأركانها وواجباتها؟
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمً)، يعني: المرض ليس بمسوغ من كل وجه لسقوط ما يلزم من قيام ونحوه، بل ما دام أنَّه يستطيع القيام فإنه يصلي قائمًا، ويقوم بما وجب عليه حتى ولو وجدت العلة، ونزل به المرض، لكن إذا كان ذلك لا يستطيع معه القيام، وعدم الاستطاعة ليس هو عدم القدرة مُطلقًا، بل قد يكون قادرًا لكن بمشقة بالغة عليه ترهقه، والمشقة البالغة غير المحتملة، إذا كان يستطيع أن يحمل على نفسه فيستطيع، فيقولون: إنه لا يجوز له أن يُصليها قاعدًا، ولذلك قال بعض أهل العلم: حتى ولو كان في قيامه يكون على هيئة الراكع، إذا كان يستطيع ذلك؛ فإنه لا ينتقل إلى ما بعدها من الصَّلاة قاعدًا، وقال أهل العلم أيضًا: إنه لو احتاج إلى أن يستأجر أجيرًا، يعني: هو يمسك به لا يتعين عليه ذلك، حتى ما وجب عليه ويقوم بما افترض الله عليه في صلاته، فإذًا هذا من حيث الأصل أنه تلزم الصَّلاة قائمًا، والكلام هنا إنما هو في الفريضة، أمَّا النافلة فإنَّ القيام فيها ليس ركنًا، وإنما هو مستحب؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ صلاةَ القاعِدِ على النِّصفِ مِن صلاةِ القائِمِ»[3] فدل ذلك على أن صلاة القاعد صحيحة مع استطاعته للقيام، وهذا إنما يكون في النفل والمستحب من السنن الرواتب وصلاة الليل، وأمَّا الفريضة فلابد فيها من الصَّلاة قائمًا لمن استطاع ذلك.
فإذًا يقول المؤلف: (يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمً)، وكما قلنا: إذا كان عليه مشقة بالغة، فإنه لا يشق على نفسه ويشقيها، بل ينتقل إلى الصَّلاة جالسًا، وإذا كان قيامه يزيد من علته ومرضه، أو يؤخر شفاءه أو يخاف معه من حصول علة؛ فإنه في هذه الأحوال يعدُّ في حكم المريض المأذون له في ترك ما وجب عليه، وانتقال ما يسهل عليه ولا يحصل عليه به مشقة، ولا يُدخل عليه علة، فإذًا يُصلي قائمًا حتى ولو كان فيه انحناء، أو ولو كان فيه اتكاء، حتى ولو كان كهيئة الراكع، فما دام يستطيع أن يحمل على نفسه، ولا يلحقه ما يشقه، أو يُلحق به أذى، على ما ذكرنا تفصيله، فإذًا هذا ما يتعين على المريض.
قوله: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدً)، وفسرنا الاستطاعة هنا وقلنا: سواء عَدِمَ الاستطاعة الحقيقية، أو عَدِمَ الاستطاعة الحكمية، وذلك أن تكون عليه مشقة بالغة أو تأخر الشفاء أو خوف من زيادة المرض وحصول الأثر، كما لو أنه أجرى عملية مثلا في ركبته، وقال له الأطباء: لو قمت مثلا فإنَّ جرحك يمكن أن ينفتق، أو تنحل عمليتك، فهو يستطيع ولو قام لاستطاع، لكن ما دام أنه يخشى حصول علة، وقالها طبيب مسلم يوثق على سبيل اليقين أو الظن الغالب فإنه يعتبر، وبناء على ذلك قال: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدً).
وإذا قلنا: إنَّه يُصلي قاعدًا فكيف يكون قعوده؟
المشهور عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أنه يكون مُتربعًا، وذلك أثناء صلاته في حال القيام، حتى إذا جاء إلى الجلسة بين السجدتين؛ فإنه يجلس مُفترشًا، فيكون بينهما فرق وتغيير هيئة بما يعرف بها حاله إذا كان قائمًا مما إذا كان قاعدًا، وكيفما قعد -إذا كان ممن لا يستطيع القيام- أجزأ ذلك، ولكن على سبيل الاستحباب عند الحنابلة أنه يكون مُتربعا وبين السجدتين مُفترشًا.
قال بعض أهل العلم: إنه يكون مُفترشًا حتى في حال القيام، وجاء في هذا أثر، وكما قلنا: إنَّ الكلام فيه على سبيل الأفضلية، وفيه نظر لمن قال ذا أو ذاك، هذا بالنسبة للقيام.
قال: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ) إذا لم يستطع أن يصلي قاعدًا، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لمن ابتلوا بالأمراض والأسقام، ولمن حَلَّتْ بهم العاهات والآلام، فليحتسبوا ذلك عند الله -جَلَّ وَعَلَا- أجرًا ومثوبة، فإنَّ الله لا يضيع أجر من عمل واجتهد، وإنه قد جاء في حديث أبي موسى في الصحيح أنَّ النبي ﷺ قال: «إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كتبَ لَهُ من العملِ ما كانَ يعملُهُ وَهوَ صحيحٌ مقيمٌ»[4]، وفي هذا إشارة إلى ما قدَّره الله -جَلَّ وَعَلَا- فاكتمل بناء جسده، وتمت صحته، فيذهب ويجيء، ويركع ويسجد، أحوج ما يكون إلى أن يتقرب من ربه، يُمضي أوقاته، وأن يُتعب نفسه في التقرب إلى الله -جل وعلا؛ فإنه لا يدري متى يفتقد تلك الحواس! ومتى تفوت عليه تلك القوى، التي بها يسجد ويركع!
وكم من الناس الذين أنفقوها فيما لا يحل، وفيما لا يجوز، وفي الشهوات والمحرمات، حتى إذا كبرت سنهم، ورقَّ عظمهم، وأرادوا الأوبة والتوبة لم تسعفهم تلك الجوارح أن يصلوا وأن يركعوا وأن يسجدوا بها وأن يخضعوا لله -جل وعلا- وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ [القلم:43]، فلا تكن ممن عظمت بهم الحسرة، وشدت بهم الندامة، حتى إذا كانوا في الموقف عضَّ أصابع الندم، ولو كانوا قد اجتهدوا وعملوا وصلوا لله -جَلَّ وَعَلَا- وركعوا وسجدوا.
وتأمل قول الله -جَلَّ وَعَلَا- وهي آية عظيمة محركة للقلوب كي تجتهد في الصالحات، وأعظمها وأهمها الصَّلاة، فإنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قال في سورة الحج: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ [الحج:18]، حتى الدواب، ثم ماذا قال الله -جَلَّ وَعَلَا- بعدها؟، قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾، فمن أي هؤلاء القسمين أنت؟
وهل سبقك الدواب أو الشجر أو الجبال وهي جامدة لا روح فيها ولا حياة! ومع ذلك لم تزل لله خاضعة، وبين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا- ساجدة، وأنت الذي أقدرك الله وأنعم عليك، ومتعك وجعل فيك من الصحة والنظر والعقل، ثم بعد ذلك تكون ممن هان على الله -جَلَّ وَعَلَا- كما قال الله: ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾، هذه آية عظيمة فإياك أن تكون ممن هان على الله، ولا تكن ممن فقد كرامته، وممن عظمت مهانته، واشتدت عند الله -جَلَّ وَعَلَا- حقارته، الذين أعرضوا إلى شهواتهم، وأقبلوا على شياطينهم، وتخلفوا عن طاعة ربهم، وأطاعوا النفس والهوى فرتعوا في ميادينه وفي أوديته، فتنادى بهم الهلاك، ووقعوا في الحسرة والعقاب، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)، أمَّا غير المستطيع فإنه في أجر فيما يلحقه من عناء وتعب، وهو في أجر فيما يعمله من برٍ وطاعةٍ، وما يتقرب به إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- من قربة وعمل صالح، فيكون على جنبه، ويستوي في هذا أن يكون من حيث الصحة على الجنب الأيمن أو الأيسر، لكن يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْأَيْمَنُ أَفْضَلُ) واستحباب أن يكون على الجنب الأيمن هذا راجع إلى ما ذكرناه سابقًا من أنَّ اليمين في مكارم الأمور، وما يرتفع شأنه وتعلو مرتبته، ولَمَّا كان ذلك شأن عبادة وصلاة وإقبال على الله -جَلَّ وَعَلَا- فإنَّ هذا موطن إكرام واحترام وتبجيل، فاليمين أحق به وأولى، فلو صلى على يساره أو شماله كانت صلاته صحيحة، ولو تعذرت الصَّلاة على جنبه الأيمن فصلى على الأيسر فهو على ما صلى عليه من اليسر والسهولة، وهو على ما فاته من الأجر والنية لإرادة تكميل العمل وتتميمه في نفسه، وإن عجزت عن ذلك جوارحه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ مُسْتَلْقِيًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى جَنْبٍ وَإِلَّا تَعَيَّنَ)}.
يعني: إذا كان المصلي يُصلي على جنبٍ أو مُستلقيًا فهي حال واحدة، وهي حال الاستلقاء، وصلاة مع ترك القيام والقعود، لكنها تفترق من حيث الكمالات، وصلاته على جنب أتم وهي الأولى، وتحصيل للاستقبال على حال أتم، فإنَّ جسده ووجهه وإقبالته كلها تكون إلى القبلة، أمَّا إذا صلى مُستلقيًا فإنما تكون قدماه فقط، فما دام أنه لم يحتج إلى ذلك، فالأولى أن يكون على جنب، ويكره له أن يُصلي مستلقيًا مع كون الصَّلاة صحيحة؛ لأنها حال واحدة في فوات القعود والقيام، لكن إذا لم يستطع فترتفع الكراهة ولا يكلف الله -جَلَّ وَعَلَا- نفسًا إلا وسعها، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ مُسْتَلْقِيًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى جَنْبٍ) يعني: سواء على أي الجنبين، على الأيمن أو الأيسر، (وَإِلَّا تَعَيَّنَ)، يعني: إذا لم يستطع على جنبيه فإنه يتعين أن يصلي مُستلقيا، على الحال التي هو عليها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُومِئُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَيَجْعَلُهُ أَخْفَضَ)}.
الإيماء هو الإشارة، يعني: يشير (بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَيَجْعَلُهُ أَخْفَضَ)، وقال أهل العلم: إنَّ الإيماء بالركوع يعني: أن يشير إليه بقدر ما يكون وجهه قبالة ركبتيه، فهذا يكون في الركوع، ويجعل السجود أخفض، حتى يفرق بينهما، فيعرف حال الراكع من حال الساجد إذا صلَّى بالإيماء.
هنا تنبيه مهم: وهو في حال كثيرٍ من الناس الذين يُصلون على كرسي، فإذا احتاج الإنسان للصلاة على كرسي صلى عليه، ولكن يجب أن يعرف ما الذي يتعذر عليه فيُعفى عنه، وما الذي يستطيعه فإنه يجب عليه ويتعين، يعني: في بعض الأحوال ربما لا يستطيع القيام، لكنه قادرٌ على الركوع أو السجود لكون القيام طويلاً، أو لغير ذلك من الأسباب، فإذا كان كذلك فلا يعني أنه إذا صلى جالسًا أن يُومئ بركوعه وسجوده، فإنه إنما يكون ذلك لمن تعذر عليه، فيسقط عنه بالقدر الذي يَعْجِزُ عنه، أمَّا الذي لا يعجز عنه؛ فإنه يجب عليه أن يُؤديه، ومثل ذلك لو كان يستطيع القيام، لكنه لا يستطيع السجود، فنقول: يصلي قائمًا ويركع راكعًا كغيره، حتى إذا جاء إلى السجود الذي لا يستطيعه أو يُكْلِفُهُ على ما ذكرنا من القيد؛ لأنَّه مريض وداخل في عدم الاستطاعة، فبناء على ذلك يسقط عليه ذلك، ولسبيل المثال، وهذا خطأ شائع كثير جدًا، ويلحق الناس بسببه بلاء كثير، وتبعة عند الله -جَلَّ وَعَلَا-، إذا صلى المصلي في الطائرة فكثير من الناس يصلي على كرسيه، وهذا بلا شك أنه خلل وخطأ لا إشكال فيه، ولا تعتبر صلاته صحيحة، لماذا؟
لأنه بكل حال يستطيع القيام، فنحن نقول: عجزت الركوع أو السجود إذا افترضنا لك، وسنأتي الآن إلى تفصيل وتوضيح ما يتعلق بالصَّلاة على الطائرة؛ لأنها من أكثر الأمور المهمة أو التي يحتاج الناس إلى تبيينها وتوضيحها، فما دام أنك عاجزٌ عن الركوع على سبيل المثال، وحتى الركوع في كثير من الأحوال يكون قادرًا عليه، فإذًا القيام يقدر عليه، والركوع يستطيعه، إذا كان في الدرجات المتقدمة في الأولى أو الثانية أو في الأماكن التي يكون فيها أمامه متسع، فالركوع ظاهر في أنه لا يعجز عنه، فإذا افترضنا أنه عجز عن السجود لعدم وجود مكان، أو لم يستطع أن ينتقل إلى ممر أو فسحة في أرجاء الطائرة، ولا يمكنه أن يُصلي إذا وصل إلى مكان سفره، لكونه سيصل بعد خروج وقت التي يجمع إليها، فيسقط عنه السجود، لكن لا يعني سقوط قيام وركوع، والواحد من الناس إذا لم يستطع صلى جالسًا وانتهى، فإذًا هذه من الأشياء التي يتساهل فيها الناس ويتماهون.
سنأتي إلى تفصيل الصَّلاة في الطائرة بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا-، إذا انتهينا من بعض تفاصيل ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا.
وهنا خاصة مع كثرة الصَّلاة على الكراسي يحصل خطأ شائع جدًا، وهو أن المصلي على الكرسي الذي يحتاج إليه في حال الركوع أو السجود، إذا جعل الكرسي فانه يجعله بإزاء الناس ويقف هو متقدمًا، فهذا الكرسي مثلا يقف هو هنا، والصف خلفه على الأقل بذراع أو نصف ذراع أو قريبا من ذلك، هذا خطأ، فالعبرة في المصافة بحال القيام، فإذا كنت تصلي في الصَّلاة قائمًا، فالمساواة تكون بكتفك وقدمك، أمَّا إذا كنت تبتدئ الصَّلاة جالسًا -يعني أن تصلي جالسًا في حال قيام الناس- فالعبرة بالمساواة والمصافة يكون بإلية الإنسان.
بعض الناس يقول: أنا أتقدم؛ لئلا يكون الكرسي راجعًا فيؤثر على الصف الثاني، هذا ليس معول ولا معتبر، لماذا؟ لأنَّ أول شيء المصافة أهم من هذا، ووجود شيء في أثناء الصف، هو بمثابة السواري، فإمَّا أن يستطيع الإنسان أن يقف وراء هذا الكرسي، ويستطيع الصَّلاة ولو لحقه شيء من الضيق، فكأنه يصلي عند سارية في المسجد، وإذا كان لا يستطيع فهي بمثابة الصف الثاني فيتركون ذلك كهيئة الفراغ، لكنه لا يمكن للإنسان أن يتقدم عن الصف، لأجل أنَّ ذلك يمكن أن يكون مُؤثرًا على أحد سواه، وإذا توقى الإنسان ذلك ببعض الأمور كان يجلس على المسند أو في جهة بحيث لا يُؤثر على من خلفه، فذلك أحسن، لكن لا ينبغي أن يُعلم أن ذلك سبيلا إلى ترك المصافة والتسهيل فيها.
فإذًا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُومِئُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَيَجْعَلُهُ أَخْفَضَ) وعند هذا يكون قد أدى ما عليه.
وهنا أيضًا نذكر بمسألة مكملة لِمَا ذكرناه، كثير من الذين لحقت بهم بعض الأمراض أو العاهات أو الآلام في ركبهم ونحو ذلك، فلم يستطيعوا السجود وأن يلزقوا جباههم بالأرض، يذكرون ما يفوتهم من اللذة والانكسار بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا-، وحصول الشعور بالعبودية التي تليق بحال العبد بين يدي ربه، ذُلا لله -جَلَّ وَعَلَا-، واستكانة بين يديه، فما دُمت مُستطيعًا فأكثر من السجود والتذلل والتعرض لرحمة الله -جَلَّ وَعَلَا- والزق جبهتك بالأرض، وتكثر من هذه العبادة؛ فإنها من أعظم ما يحصل بها رفعة الدرجة، وتكفير السيئة، كما جاء ذلك عند مسلم في صحيحه، «أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ»[5]، وفيها من حال الذل، وانكسار النفس، والقرب من الله -جَلَّ وَعَلَا، وإجابة الدعاء، ما لا يحصى، ولذلك حصل عند أهل العلم خلاف، هل القيام أكثر أجرًا أو السجود؟ وكثير من أهل العلم فضَّل السجود على القيام، ومنهم من توسط فقال: الصَّلاة بحد سواء، فمن أطال قيامه أطال سجوده بقدر ذلك، كما جاء في حديث البراء بن عازب[6]، فيكون توسطًا بين القول.
فعلى كل حال، هذه حال اغتنمها ما دُمت قويًا، وتكثَّر من العبادات ما دُمت مُقتدرًا؛ فإنك لا تدري ما يعرض للعبد، فيحول بينه وبين ما يتمناه من العبادة، وتتوق نفسه من الذل والاستكانة لله -جَلَّ وَعَلَا- والخضوع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ وَنَوَى بِقَلْبِهِ كَأَسِيرٍ خَائِفٍ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ مُسْتَحْضِرَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ)}
قال: (فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ) يعني: إذا عجز عن الإيماء بالركوع والسجود؛ لأنه لابد إمَّا أن يكون قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا، لكنه عجز عن الإماءات، وهذه أحوال تُشكى إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- يُبتلى بها بعض العباد، ليزيد من أجورهم وتكفير سيئاتهم، فعسى الله أن يَصب عليهم الرحمات، وأن يزيدهم من الصبر والسلوان، وأن يبارك لهم فيما متعهم به من الجوارح، وأن يجعل ذلك أعظم ما يكون أجرًا عنده إذا لقوا الله -جَلَّ وَعَلَا- ووقفوا بين يديه.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ)، من أين أخذ الفقهاء الإماء بالطرف مع أنه لم يأت في حديث عمران بن حصين! فإنَّ أكثر ما جاء فيه: «فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»[7]، فعلى جنب، فأهل العلم أخذوا ذلك أولا من بعض الأثار التي جاءت عند الدار قطني وغيره عن علي، ورويت مرفوعة إلى النبي ﷺ أنه يومئ بطرفه، وهذه الأحاديث وإن كان في أسانيدها مقال لا ترقى إلى درجة الاعتضاد والاعتماد، إلا أنها مسنودة بالعمومات، فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، والإماء من حيث هو معتبر في الصَّلاة، فلمَّا عجز عن الإماء رأى ظهره ورأسه ونحوه، فإنَّ الإيماء بالعين جزء من ذلك، وهو عضو من أعضاء الوجه، وبذلك يتحقق بعض المطلوب، ويكون له به أجرًا.
هل يكون كحال التغميض أو إنزال الجفن شيئًا فشيئًا؟
على كل حال فيها شيء من الصعوبة، لكن ليجتهد الإنسان في ذلك قدر استطاعته، وهو مما يحصل به تمام الأجر، ويحصل للعبد به بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- من الفضل والمثوبة بقد ما شهد وبقدر ما عمل.
قال: (وَنَوَى بِقَلْبِهِ) الإيمان لَمَّا لم يكن مُتعينا أو متمايزًا، فربما يكون إماؤه بالركوع كإمائه بالسجود، خاصة إذا قلنا: إنه تغميض، ما الذي يفرق بين أن هذا راكع أو أن هذا ساجد إذا أغمض عينيه؟
نيته بقلبه، فإذا نوى ذلك ركوعًا، ثم نوى ذلك سجودًا فيحصل به كما ذكر.
قال: (كَأَسِيرٍ خَائِفٍ) لَمَّا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- العاجز عن ذلك حقيقة، أراد أن يبين حكم العاجز عن ذلك حكمًا، فلو كان أسيرًا بيد الكفار ومنعوه من الصَّلاة، وخشي إن صلى أن يقتل أو أن يذبح أو أن يُستباح دمه، فإنه يصلي بحسب حاله، فإذا لم يستطع إلا إيماء بطرفه ونية بقلبه فعل، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كَأَسِيرٍ خَائِفٍ) إذا ليس كل أسير، فبعض الأحوال يكون أسيرًا ويترك له القدرة يعمل ما يشاء، ويتقرب بما يحب، وفي بعض الأحوال هم لا يريدون ذلك ولكنه يستطيع أن يفعل من حيث لا يدركون فعله، أو لا يستطيعون تتبعه مثل أن يصلي وهو على جنبه أو مومئًا بركوعه وسجوده، فإنهم قد يظنون أن ذلك يتحرك بحسب ما يقويه أو يذهب الوهن والكسل عن نفسه، فيفعل ذلك، لكن لو كانوا بحيث أنهم منعوه وراقبوه وجعلوا عليه من لو فعل ذلك عذبوه وأضروا به فإنه يكون كأسير خائف، فيفعل من ذلك ما يقدر عليه، وهو الإيماء بطرفه، والنية بقلبه، ويكون في ذلك مأجورًا أجر القائم الراكع الساجد -بإذن ربه- لِمَا جاء في الأحاديث ودلالات النصوص.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ مُسْتَحْضِرَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ)}
قوله: (فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ) يعني: إن عجز عن هذا كله، وهذا قد يحصل لبعض الناس الذين ابتلوا بهذه الأمراض، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ) أي: يكون ناويًا بقلبه، وهذا يعني أنَّ الإنسان إذا كان على هذا النحو، لا يخلو إمَّا أن يكون قادرًا على القول عاجزًا عن الفعل أو عاجزًا عنهما جميعًا، فإذا كان عاجزًا عن الفعل دون القول -كما فسره كثير من الفقهاء- وإن كان ظاهر العبارة أنَّ القول يدخل في الاستحضار بدون أن يفعل إذا كان قادرا، فلا، إذا كان يقدر القول فلا بد منه، فلو افترضنا أنَّ هذا لا يستطيع أن يتحرك، فيقول مستحضرًا في قلبه: "الله أكبر"، ناويًا أن يكون قوله: تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يقول: "الله أكبر" ناويًا أن يكون قوله هذه المرة تكبيرة للركوع، ثم يذكر ربه في ركوعه، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" وهو في حال واحدة لم يومئ ولم يتحرك ولم يقم، فما الذي يفرق بين هذه التكبيرة وتلك؟ وبين هذه الحال والأخرى؟ هو ما نواه في قلبه، فإذا كان عاجزًا عن القول والفعل فيستحضر بقلبه.
مثلا لو افترضنا أنَّه نوى التكبيرة، ثم نوى قراءة الفاتحة في حال القيام، ثم نوى الركوع فكبر، أو نوى التكبير كما قلنا، ثم يستحضر أذكار الركوع، ثم يرفع مُستحضرًا أذكار الرفع منه، وهكذا في كل حاله، وهذا معنى قول فيه المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ) هو مشهور المذهب عند الحنابلة، كما هو قول جمهور أهل العلم، خلافا للحنفية.
واختيار ابن تيمية أنَّ من عجز عن الفعل مُطلقًا سقطت عنه الصَّلاة، والأصح والأشهر عند أهل العلم وعامة الفقهاء، أنَّ الصَّلاة لا تسقط بحال ما دام أنَّ العقل باقيًا، وهذه من خصائص الصَّلاة على سائر العبادات، فإنها تُلازم المرء في كل أحواله، ولابد من فعلها حسب حاله، بحسب ما يقدر فيها، وبناء على ذلك مشى المؤلف على ما هو مشهور في المذهب، وعلى قول جمهور أهل العلم، وعلى ما تتبع عليه الفقهاء من أن الصَّلاة لا تسقط بحال، ما دام أنَّ العقل باقيًا، وهذا هو الذي اشتهر عن علماء السلف والخلف، وتتابعوا عليه، ونصَّ على ذلك المروزي في تعظيم قدر الصَّلاة، وبما اختصت به الصَّلاة دون غيرها من سائر العبادات.
{أحسن الله إليك.
وقال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا مَا دَامَ الْعَقْلُ ثَابِتً)}
مثل ما ذكرنا قبل قليل من أنَّ هذا إشارة وتأكيد إلى قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ) فهي لا تسقط، ولذلك أكد كأنه إشارة إلى قول من خالف في ذلك ما دام أنَّ العقل ثابت فالصَّلاة واجبة ولازمة، وعلى المرء أن يُؤديها بحسب حاله ولا يتخلف عنها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ طَرَأَ عَجْزٌ أَوْ قُدْرَةٌ فِي أَثْنَائِهَا انْتَقَلَ وَبَنَى)}
هذه مسألة مهمة، وهي قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ طَرَأَ عَجْزٌ أَوْ قُدْرَةٌ فِي أَثْنَائِهَا انْتَقَلَ وَبَنَى)، إذا (طَرَأَ عَجْزٌ) يعني: مثل من أَحَسَّ بنشاط وقوة، فلمَّا قام ضربت مفصلُ قدمه أو مفصلُ ركبته، فاحتاج إلى القعود، فنقول: يقعد ويتم الصَّلاة كهيئة صلاة القاعد، ثم يركع إذا كان قادرًا على الركوع، وإذ لم يقدر أومأ به، فإذا كان قادرًا على السجود سجد، وإن لم يكن قادرًا على السجود أومأ، وإن كان قد ابتدأ صلاته قائمًا راكعًا ساجدًا، فلا يضر أنَّ الصَّلاة بعضها صليت على حال التمام والكمال، وبعضها صلي على حال الإيماء والعجز، وبحسب الاستطاعة، فما شرع من الصَّلاة في أولها اعتُبِرَ في أثنائها إذا قام سببه، والعكس بالعكس، فلو أنَّ شخصًا كان عاجزًا عن القيام أو غيرَ قادر على الركوع والسجود، فكان يُصلي قاعدًا أومأ بالركوع والسجود
ثُمَّ بعد ذلك أَحَسَّ بصحة ونشاط، أو قوة وعافية، انحل قيده وظهرت قوته، فينتقل ويكمل الصَّلاة في حال القيام والركوع، ولا نحتاج إلى أن نقول: ما دمت في أثناء الصَّلاة وقد قدرت فعليك أن تسلم وأن تبدأ صلاة ثانية، لا، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (انْتَقَلَ وَبَنَى).
فمن ابتدأ صلاته قائمًا وراكعًا وساجدًا، ثم عرض له العجز في بعض أركان الصَّلاة أو جميعها، انتقل إلى حال العاجز وأتم صلاته بنحو ما قدر عليه، والعكس بالعكس، فلو أنَّ شخصًا ابتدأ صلاته وهو عاجز ثم في أثناء الصَّلاة أَحَسَّ بقوة ونشاط، فينتقل بعد ذلك إلى حال القائم والراكع والساجد، ويبني على تمام صلاته، فإذا صلى ركعة وهو قاعد، وصلى ركعتين وهو قائم في صلاة المغرب، كان ذلك صحيحًا ومجزئًا وكافيًا، فهذا مراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ طَرَأَ عَجْزٌ أَوْ قُدْرَةٌ)، وكانه يقول: إنَّ العذر يتجزأ أو يتبعض، فقد يكون الإنسان مَعذورا من أول صلاته إلى نهايتها، وقد يكون معذورًا في أول صلاته دون آخرها، لكونه قد نشط بعد عجز، وقدر بعد عدم قدرة، وأيضًا العكس، فقد يبتدأ الصَّلاة قائمًا، ثم يعرض له العجز، فينتقل إلى صلاة أهل الأعذار، فذلك صحيح، فما كان جائزًا في الصَّلاة كلها للمعذور في كل أحواله، كان جائز لمن عرض له العذر أثناء صلاته سواء بسواء.
{أحسن الله إليكم، ماذا عن الصَّلاة في الطائرة؟}
الصَّلاة في الطائرة من أكثر المسائل التي يحتاج إلى بحثها، وهي لم تكن مذكورةً عند الفقهاء ولا منصوصًا عليها، لكنهم ذكروا ما يتعلق بالصَّلاة في السفينة، أو الصَّلاة على الأرجوحة، ونحو ذلك، فعلى كل حال نقول: الصلاة في الطائرة قد تشبه الصَّلاة في السفينة لكنها أقل، هي شبه يعني: ليست من كل حال، فعلى كل حال، لا يخلو المصلي في الطائرة من أن يستطيع الصَّلاة بأركانها وواجباتها كاملة مكملة، من إتيان شروطها من استقبال القبلة ونحوها، فتكون الصَّلاة في الطائرة كما لو صلى على الأرض، خاصة وأن الصَّلاة في الطائرة يكون فيها من الثبات أكثر مما يكون في السفينة، فإنَّ الفقهاء تكلموا على الصَّلاة في السفينة من حيث أن أكثرهم يكون في حال ارتجاج، فلا يستطيع القيام، ومع ضيق المراكب يخافون إذا قاموا وارتجت السفينة أن يقعوا في البحر، فالطائرة يُؤمن فيها هذا الجانب، فإذا أمكن ذلك لكون الطائرة فيها مكان مُهيأ للصلاة أو تمكن من الانتقال إلى بعض الأماكن المتسعة، وإتيان الصَّلاة فيها مكتملة بأركانها ووجباتها؛ صلى المسلم ما عرض له من الصَّلاة، وهي كصلاته على الأرض سواء بسواء.
وإذا كان لا يستطيع ذلك إمَّا لكون الطائرة ترتج لبعض ما يعرض لها في الهواء، أو لكون الطائرة لا يوجد فيها مكان، بحيث أن يصلي فيه قائمًا راكعًا ساجدًا، أو أنه لم يُؤذن له كما في بعض الجهات المنظمة للخطوط والطيران، وذلك حسب كل جهة وما تمضيه من قوانين، وما تُشَرِّعُ من أنظمة في الطائرة ونحو ذلك، فإذا كان على هذا الحال، فلا يخلو إما أنَّ الإنسان يصل قبل خروج الوقت، أو قبل خروج الصَّلاة التي تجمع إليها، فإنه يُؤخر الصَّلاة إلى الوقت الذي يستطيع فيه القيام أو الركوع والسجود، فإذا كان قد خرج مثلا من الرياض الثانية عشر وأذن الظهر وهو في الطائرة، ثم لم يجد مكانًا يصلي فيه الصَّلاة بتمامها فنقول له: متى تصل؟ فإذا قال: أصل بعد العصر، فنقول: الظهر تجمع إلى العصر، فتنوي الجمع وأنت مسافر، وتصلي إذا وصلت إلى المطار الذي وصلت فيه، صلاة تامة بقيام وركوع ودونما حاجة إلى صلاة أهل الأعذار، ولو صليت لم تكن صلاتك صحيحة؛ لأنك لا تحتاج إلى ذلك، واضح؟
لكن لو كان لا يصل إلا بعد خروج وقت العصر أو على افتراض أنه ليس بمسافر، هل يتصور أن هناك من يركب طائرة وهو غير مسافر؟
نعم، لو افترضنا أنَّ الطائرة لا تسافر، وإنما تدور على المدينة، كطائرات المتدربين أو في بعض أحوال الاطلاع أو غير ذلك من الأسباب؛ فهذا لم يخرج من المدينة، وهو ليس بمسافر، فإذا كانت الرحلة تستمر الوقت كله وهم ليسوا على سفر نقول: ولا يمكن أن تهبط فالطائرة؛ لأنَّ ذلك يضر بمثل المهمة التي يقومون بها، والشيء الذي يفعلونه، ففي هذه الحال يصلى في الطائرة، ويفعل ما أمكنه فعله، فإذا كان يستطيع والقيام والركوع والسجود؛ فإنه يفعل ذلك.
ومن تعذر عليه استقبال القبلة، كالمكان الذي وجد فيه متسع أو يسمح فيه بالصَّلاة ولكن لا يستطيع فيه الاتجاه إلى القبلة، فإنه يتجه إلى غيره.
وهنا إشكال، هل الأولى تحصيل الشرط أو تحصيل الركن؟
بعضهم يعتبر الأسبق، وبعضهم يعتبر الأهم، ويقولون مثلا: استقبال القبلة ليس له بدل، وأمَّا الصَّلاة في حال القيام فله بدل، فيستقبل القبلة ويُصلي جالسًا، فإذًا على كل حال، إذا كان لا يستطيع فنقول: يصلي على حسب حاله، لكن حسب حاله لا يُصلي وهو جالس كما يفعل بعض الناس.
ولو افترضنا أنه لم يمكنك إلا الصَّلاة في مكانك، فعلى سبيل المثال تستطيع القيام، تستطيع أن تنحرف ذات اليسار أو ذات اليمين أو تقلب وتقف مخالفًا لمكان جلوسك، فإذا استقبال القبلة ممكن في كثير من الأحوال، أو في أكثر أحوال الطائرة.
والقيام أيضًا في الغالب، في حال تسعة وتسعين في المئة أنه يستطيع القيام؛ لأنه يقل في الطائرات أن يكون فيها ارتجاج طول الرحلة بحيث يخاف من القيام أو يمنع منه، والركوع كما قلنا أيضًا للغالب، وأمَّا عن السجود فأكثر شيء يتعذر هو السجود، لكنه ليس يتعذر في كل الأحوال، كيف؟
لأنه يمكن أنه يستطيع السجود بأن يتحرك قليلا أو أن يسجد في الممر مثلا، فنقول: إذا كنت تقدر على ذلك فلتفعل، لكن إذا كان الممر مشغولا أو منع منه، فاستطاع مرة ومرة لم يستطع نقول: التي استطعت افعل، والذي لم تستطع لا تفعل، فإذا لم يكن مُستطيعًا وجاء وقت السجود فيومئ به.
إذا الصَّلاة في الطائرة -لا كما يفعل بعض الناس- من أنهم يصلون وهم جالسون، كيفما كان الحال، فإنَّ ذلك لا يجزئ عنهم شيئًا، والأسوأ من ذلك أنَّ بعضهم يُؤخر الصَّلاة حتى يخرج الوقت، فكثيرًا ما نسافر أحيانًا فتطلع الشمس وهم ما صلوا، يقولون: إذا وصلنا نصلي، وهذا جهلا منهم أو تقاعسًا وتساهلاً في أداء الصَّلاة، فكل ذلك ممنوع إذا كان لا يصل إلا بعد خروج وقت التي تجمع إليها، فهنا نقول: لا يجوز له أن يؤخرها حتى يفت وقتها لأجل أن يحصل الركن والركوع والسجود، بل يصلي حسب حاله.
وإذا كان يصل قبل خروج وقت التي تجمع إليها؛ فإنه لا يجوز له أن يُصلي مُفوتا لبعض الأركان مع إمكانه لتأخير الصَّلاة إلى أن يصل.
بعض الناس يقول: نصلي وعلى أية حال، لأجل إذا نزلنا نتمكن من الانتهاء من أشغالنا، نقول: لا، ما دام أنك لا تستطيع الركوع والسجود والقيام وإتيان الصَّلاة وأنت مستقبل القبلة فلا تصلي إلا أن تصل، وإذا كان لا يذهب الوقت، ولا يستطيع أن يصلي صلاة تامة في الطائرة، فيصلي على حسب حاله، وكما قلنا: استكمال ذلك يجب أن يكون دقيقًا بأن يطلب الصَّلاة على أتم أوجهها، وما عجز عنه يسقط، وما لم يعجز لا يسقط عنه، والتساهل في ذلك يُلحق التبعة بالشخص والإنسان، وينبغي أن يعلم الإنسان أن أعظم شيء صلاته، وأنها أعظم ما يتقرب به لربه، وأن الصَّلاة أعظم من أن تخاف من فلان أو أن تخشى من فلان، كل ذلك لا يجدي عليك شيئًا، بعضهم يمارس بعض هواياته من صوت أو نداء أو أغنية أو غير ذلك، فلماذا هؤلاء لا يستحون، بينما يستحي طالب العبادة، والمتقرب إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- بذلك.
هذا إذًا ما يتعلق بالإشارة إلى الصَّلاة في الطائرة، والاهتمام بها، ومتى يجوز للإنسان أن يُصلي، ومتى لا يجوز؟ ومتى يسقط عنه بعض أركانها؟ ومتى لا يسقط؟ إشارة ومكملة لِمَا ذكرناه هنا، وهو داخل في ضمن ما ذكره الفقهاء، لكن لَمَّا كانت صورة الطائرة لم تكن موجودة فيما مضى لم يحتاجوا إلى النص عليها، مع أنَّ في نصهم على فروع ومسائل بنحو ما ذكرناه، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وأظن أنَّ الوقت قد انتهى.
جعلنا الله وإياكم من الموفقين، ومن المهتدين، ومن المؤدين للعبادات على الوجه الذي أمرنا به الله -جَلَّ وَعَلَا-، متمسكين بسنة النبي ﷺ، غير مُقصرين ولا مُفرطين، وأن يغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم آمين.
{بارك الله فيكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، وسنكمل ما بقي في مجالس قادمة -إن شاء الله- إلى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------
[1] رواه مسم (126)، لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ به اللَّهُ﴾ [البقرة:284]، قالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْها شيءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِن شيءٍ، فقالَ النبيُّ ﷺ: قُولوا: «سَمِعْنا وأَطَعْنا وسَلَّمْنا قالَ: فألْقَى اللَّهُ الإيمانَ في قُلُوبِهِمْ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالَى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا، أوْ أخْطَأْنا﴾ قالَ: قدْ فَعَلْتُ ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عليْنا إصْرًا كما حَمَلْتَهُ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ قالَ: قدْ فَعَلْتُ ﴿واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا﴾ قالَ: قدْ فَعَلْتُ».
[2] رواه البخاري (1117).
[3] أخرجه أبو داود (950)، والنسائي (1659).
[4] رواه البخاري
[5] رواهُ مسلم.
[6] الحديث في الصحيحين عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «رَمَقْتُ الصَّلَاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ فَجِلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ فَجِلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ».
[7] رواه البخاري.