الدرس السابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

23747 18
الدرس السابع عشر

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم، أما بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلسٍ جديدٍ من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلاً وسهلًا، حياكم الله.
{بارك الله فيك، ونفع بكم، أستأذنكم في استكمال ما توقفنا عنده}.
توكل على الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (كِتَابُ الصِّيَامِ.
يَلْزَمُ كُلَّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، وأوليائه المتقين، وأن يجعلنا من المخلصين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا أيُّها الطلاب والطالبات في المجلس الماضي ابتدأنا أو استهللنا الحديث في مقدمة عن (كِتَاب الصِّيَامِ) في ذكر تعريفه، والأصل في مشروعيته من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وأشرنا أيضًا إلى ما ينبغي لطالب العلم في مثل هذه المسائل، أو في مثل هذه العبادات، أنه يجب عليه أن يحفظ من الأحاديث الدالة على فضلها، وأيضًا أن يكون لديه من الأحاديث التي فيها بيان عقوبة من أَخَلَّ أو تخلف أو قصَّر في أداء تلك الفرائض، ما يحمله على نفع الناس ووعظهم وتذكيرهم، وإعانتهم على الخير والهدى، والبر والتقوى، كما أشرنا إلى مشروعية الصيام، وكيف كان في أول الأمر إلى ما انتهى إليه، واستقرت به الشريعة، وبقيت به هذه الفريضة.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك: (يَلْزَمُ كُلَّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ)، فالصيام لازم لكل مسلم، وأمَّا غير المسلم فغير لازم له في الدنيا، بمعنى أنه لا يصح منه؛ لأنَّ العبادات لا تصح إلا بنية، والكافر لا نية له، ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله: (يَلْزَمُ كُلَّ مُسْلِمٍ) أي: لزوم أداءٍ وتعبد، وأمَّا لزوم الحساب والعقاب، فهذا لكل الناس، فالناس جميعًا سيحاسبون عن قليل الأمور و كثيرها ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾.
قول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (مُكَلَّفٍ)، يعني: جرى عليه التكليف، والتكليف يجري على المرء من البلوغ والعقل، فمن لم يكن عاقلًا، كما لو كان مجنونًا، أو به سفه في عقله، ولا يستوي به نظره، ولا يقوم به فكره؛ فإنه لا تكليف عليه؛ لقول النبي في حديث علي وعائشة: «رُفِع القَلمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَعَنْ الصَّبي حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجنُونِ حَتَّى يَعقِلَ» ، إذًا لابد أن يكون بالغًا وعاقلًا، أن يكون بالغًا؛ لأنَّ الصغير لا وجوب عليه، وإن كان يؤمر بذلك، فهو أمر تأديب وتهذيب، كما جاء في الصلوات، وكما جاء ذلك عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أنهم كانوا يُصَومون صبيانهم، ولكن ذلك ليس على سبيل الوجوب؛ لأنه لم يجد عليه التكليف، ومثل ذلك إذا لم يكن عاقلًا، ولو بلغ الثلاثين أو الأربعين من عمره، فالمجنون وإن كبر جسده، وإن مضت أيامه، إلا أنه لا عقل له، وبالتالي: لا تكليف عليه.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (قَادِرٍ) فغير القادر لا يجب عليه الصيام، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كما جاء عن ابن عباس في تفسيرها أنه المريض الذي لا يُرجى برؤه، والكبير الذي يلحقه بالصيام عنتٌ، وأمَّا الواجب عليه؛ فيأتي -بإذن الله جل وعلا- فيما يلزم عليه بدل ذلك، فهذا إذًا قول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يَلْزَمُ كُلَّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ غَيرَ حَائِضٍ وَلَا نُفَسَاء) فالحائض والنفساء لا يجب عليهما أداءً، وإن كان يتعلق بهما قضاء، قالت عائشة لَمَّا سألتها مُعاذة: «ما بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، ولَا تَقْضِي الصَّلَاةَ. فَقالَتْ: أحَرُورِيَّةٌ أنْتِ؟ قُلتُ: لَسْتُ بحَرُورِيَّةٍ، ولَكِنِّي أسْأَلُ. قالَتْ: كانَ يُصِيبُنَا ذلكَ، فَنُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّوْمِ، ولَا نُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّلَاةِ» ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الحائض لا تصوم إذا لحق بها هذا الوصف، فإذا طهرت من حيضها، وإذا انتهت من نفاسها، تعلق بها قضاء ذلك ولزومه.
(وَأَنْ يَكُونَ حَاضرًا غَيرَ مُسَافِرٍ)، وسيأتي أن المسافر يُخفف عنه حتى يقيم، فيلزمه القضاء والفعل للعبادة.
أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَوْ مِنْ عَدْلٍ، أَوْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ مِنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُ، كَغَيْمٍ وَجَبَلٍ وَغَيْرِهِمَ)}.
بمَ يجب صوم رمضان؟
يجب بأحد أمرين لا ثالث لهما من حيث الأصل، إمَّا رؤية الهلال «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ» ، فإن لم يُرى الهلال؛ فتكمل العدة ثلاثين، كما جاء في ذلك الحديث، وكما صح بذلك النص عن النبي ، وهذا هو ما يحصل به الصيام بناء على ذلك.
ما حكم ترائي الهلال؟
ترائي الهلال في قول عامة أهل العلم أنه يكون سنة، ولا يكون فرضًا، لا فرض كفاية، ولا فرض عين، لماذا؟
لأنه لا يتعين طريقًا للصيام، لو كان الصيام لا يتعين إلا بالرؤية، للزم الناس؛ لأنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لكن لَمَّا كان يتم بأحد أمرين، فلو فات واحد لأمكن الصيام بالثاني، وهو إكمال العدة؛ فلذلك قال أهل العلم: إنَّ ذلك سنة وليس بواجب.
إذًا رؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان.
طيب الحساب؟
الحساب لا يعتبر في دخول شهر رمضان؛ لأنَّ النبي قال: «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَ» ، فإذًا هذا نصٌ صريحٌ في إبطال الحساب في اعتباره في دخول شهر رمضان، وإجماع السلف مُنعقد على ذلك، ولم يعرف في هذا كلامٌ إلا في المئة الثالثة.
لكن هنا مسألة مهمة، وهي التي أردت بيانها، والتنبيه عليها، والتأكيد لعموم المسلمين والمسلمات، وهو أنَّ الإنسان قد يكون في بلد من البلدان، الذين يعتبرون الحساب في مثل هذه الحال، إذا صاموا هل يصوم معهم أو لا يصوم؟
نقول: النبي قال: «الصومُ يومَ تصومون، والفطرُ يومَ تفطرون، والأضحى يومُ تُضَحُّونَ» ؛ ولذلك قال بعض أهل العلم -وعلى ذلك فتوى شيخنا الشيخ ابن باز، رحمه الله تعالى-: إن المرء إذا كان في بلدٍ يعتبرون الحساب، فإنه يكون مثلهم، ويعتبر بما يعتبرون؛ لحديث «الصوم يوم يصوم الناس»؛ ولأن للحساب شبهة، لدى من قال من أهل العلم في المئة الثالثة، وأيضًا هم ربما أخذوا ذلك من الحديث؛ لقول النبي : «فاقدروا له قدره» فقالوا: هذا من التقدير الذي هو الحساب وما في معناه.
وبناء على ذلك، فإنَّ الاعتبار الحساب إنما هو مُقيد بحال الناس، أما ابتداء اعتبار الحساب فلا يكون جائزًا ولا يكون معتذرًا.
قال: (أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ مِنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُ) هذه المسألة من المسائل التي فيها خلاف كثير؛ ولذلك في أول الحديث قلت: إنه يجب بأحد أمرين لا ثالث لهما من حيث الاستقراء، هذه مسألة فيها خلاف كثير، وهي إذا تراءى الناس الهلال ولم يروه، لا شك أنهم يكملون العدة، لكن إذا لم يروه لكون السماء مُلبدة بغيوم أو ثار الغبار والعجاج؛ فبناء على ذلك يقولون: يمكن أن يكون الهلال قد خرج، والحنابلة قالوا: إن الأصل في العبادات أن يحتاط لها، والأحوط الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفًا فأستبن؛ ولأنَّه قد جاء عن ابن عمر، وجاء عن بعض السلف أنهم كانوا يصومون، وجاء عن بعض التابعين أنهم اعتبروا الحساب في ذلك، وذهبوا إليه.
فبناء على هذا قال المؤلف- رحمه الله تعالى: إنه يصام على سبيل الاحتياط، وفي مثل هذه المسألة وإن كانت هي خلاف قول جمهور أهل العلم؛ ولذلك كانت من المفردات، وفيها خلاف داخل مذهب الحنابلة طويل، حتى إنهم لم يختلفوا على خمسة أقوال، بل على سبعة، فالمهم أن المستقر والذي عليه الفتيا أنَّ الصيام يكون بأحد الأمرين: إمَّا بإكمال العدة أو برؤية الهلال.
وبالمناسبة فهذه المسألة لا تأتي على الناس في هذا الزمان؛ لأن الحنابلة -وهذا سيأتي- يرون أن رؤية أهل بلد رؤية للناس كلهم، والتواصل بين الناس حاصل الآن، فمن في أمريكا يتواصل مع من في المغرب، أو من كان في أوروبا أو غير ذلك، وبناء على هذا كان احتمال وجود غمة تملأ الدنيا في كل البلدان غير متصورة؛ وبناء على ذلك يكون هذا القول في هذا الزمان مع إمكان التواصل غير واقع إلى حد بعيد، وهو محل نظر وبحث، لكن هذا هو الذي يظهر من أصل الحنابلة في تقرير هذه المسألة.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَإِنْ رُئِيَ نَهَارًا فَهُوَ لِلْمُقْبِلَةِ)}.
قوله: (وَإِنْ رُئِيَ نَهَارًا فَهُوَ لِلْمُقْبِلَةِ)، يعني: إذا رُؤيَ الهلال في النهار، وهذا طبعًا من الأمور القليلة النادرة، لكنه لا يعتبر الليلة الماضية خلافًا لمن يقول مثلًا: إنه إذا رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وبعد الزوال لليلة المقبلة، على أنَّ الحنابلة -رحمهم الله تعالى- لا يعتبرون الرؤيا إلا في الليل؛ لأنَّ الهلال محله الليل، لكنهم في الغالب يقولون: إذا رؤي في النهار أن هذا إرهاص بإمكان رؤيته في الليل، أليس كذلك؟ فبناء على هذا يقولون: لا يكون لليلة الماضية، وأما كونه لليلة الآتية فمن الممكن لكن بشرط أن يُرى في ليلها.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَإِنْ صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِهِ فِي أَثْنَائِهِ، أَوْ قَدِمَ مُسَافِرٌ مُفْطِرًا، أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ أَمْسَكُوا وَقَضَوْ)}
هذا في حال من تجاذبه الأمران: حال عدم لزوم الصيام له، وحال أخرى وهي وجوب الصيام له في آنٍ واحد، أو في يوم واحد.
فيقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِهِ فِي أَثْنَائِهِ) كما لو كان صغيرًا فبلغ أثناء النهار، قام محتلمًا بعد صلاة الظهر، أو أنه بلغ الخمسة عشرة عامًا في نصف النهار، ولكن أكثر ما يكون إنما هو بمثل الاحتلام، وحيض المرأة إذا كانت قد بلغت.
فيقول المؤلف- رحمه الله تعالى- بالنسبة لهؤلاء: (أَمْسَكُوا وَقَضَوْ) أي: يجب عليهم الإمساك والقضاء، أمَّا الإمساك فلماذا؟ لأنه صار من أهل الوجوب، صار من أهل التكليف؛ فيلزمه الإمساك.
وأمَّا كونه يلزمه القضاء؛ فلأنَّ هذا يوم واحد، واليوم الواحد لم يصمه كاملًا لَمَّا تعلق به أنه وجد في حقه الوجوب في بعض اليوم، فكما لو وجد في سائر اليوم؛ فيجب عليه.
طبعًا الحائض لا يمكن أن يتصور أن تمسك؛ لأنها مأمورة بالإفطار حتى تقضي، ولكن نقول هذا في الذي يتصور فيهم البلوغ أثناء اليوم.
فيقول: (أَوْ قَدِمَ مُسَافِرٌ مُفْطِرً) هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، أنَّ المسافر إذا قَدِمَ من سفره مُفطرًا، فهنا انقطع السفر المجيز للفطر، وتعلق به حكم حرمة الصيام في النهار، وهو من أهل الحضر، فتحوطوا وقالوا: إنه يمسك، ولم يحتج إلى ما يحتاج إليه المسافر، الذي يلحقه العنت والمشي في الطريق، والتعرض للشمس وما يلزمه من حمل متاع أو سوى ذلك أو غيره.
فإذًا انتفى ما في حقه من العلة، ولأجل ذلك قالوا: إنه يمسك بقية اليوم، هذا هو مشهور المذهب، وفي رواية أخرى عند الحنابلة، وقول الجمهور الذي عليه الفتيا: أنه لا يلزمه الإمساك؛ لأنه أفطر بوجه صحيح، وتعلق برقبته القضاء، وبناء على ذلك يفطر، وقالوا: إنَّ هذا أيضًا قد جاء عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "من أفطر أول النهار فليفطر آخره"؛ فأخذوا أنَّ ذلك محمول على من كان بعذر صحيح؛ وبناءً على ذلك قالوا: لا يلزمه الإمساك.
قال: (أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ) إذا طهرت الحائض فيقولون: إنَّ المجيز للفطر في أول النهار قد فات وانتهى، وللنهار هذا حرمة؛ لأنَّه من أيام رمضان، وليس بها وصف يجيز لها الفطر؛ فلأجل ذلك تمسك، والقضاء متعلق بذمتها من جهة ما تقدم.
فعلى كل حال، من صار أهلًا للوجوب عند الفقهاء في توضيح المسألة على الإطلاق، منهم من يلزمه الإمساك لا محالة، وفي قضائه خلافٌ، وهو مثل: الصغير إذا بلغ، ومن علم برمضان في أثناء النهار، فهؤلاء قطعًا يلزمهم الإمساك.
لكن هل يتعلق بهم حكم القضاء؟ أم لا؟ فيه خلافٌ، فمنهم من قال: يقضوا، ومنهم من قال: لَمَّا تعلق به الوجوب أدَّى ما عليه فانتهى، وأيضًا كذلك من لم يعلم برمضان إلا في أثناء النهار، فالأحكام تبع للعلم، وبالتالي فهو لم يعلم به إلا من الظهر، فلا يلزمه أكثر من الإمساك إلى غروب الشمس.
وقسم آخر يتعلق بهم القضاء لا محالة، وهو المسافر إذا وصل إلى البلد أثناء النهار، والحائض إذا طهرت؛ فهؤلاء يلزمهم القضاء لا محالة، ولكن هل يلزمهم الإمساك؟
هذا هو الذي محل التردد، والحنابلة جمعوا ذلك فألزموهم بالاثنين في الحالين على سبيل الاحتياط، ألزموهم بالإمساك وفيه خلاف، ألزموهم على سبيل الاحتياط، ومن ألزمهم بالقضاء ألزمهم بالقضاء على سبيل الاحتياط.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينً)}.
لأن هذا هو الذي جاء في الآية كما قلنا: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، قال ابن عباس: "هذا في الشيخ والشيخة اللذين لا يستطيعان الصيام، يُفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا".
وقوله (لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ) يعني: في عرف الأطباء، أنَّ مثل هذه العلة لا يعقبها سلامة وشفاء، وهذا يختلف باختلاف كل مرض وعلة، وباختلاف كل شخص.
على سبيل المثال: بعض الأشخاص يكون معهم مرض السكري، فلا يمنعهم ذلك من الصيام، والمعلوم أن مرض السكري يستمر ولا ينقطع إلا أن يشاء الله تعالى، وإن كان قد جد بعض الأحوال التي تذهب منهم هذه العلة، أو يزول منهم هذا المرض، وبعضهم مرض السكري بالنسبة له يرهقه إرهاقًا كبيرًا؛ فيلحق به العنت والمشقة البالغة.
فإذًا المرض الذي (لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ) إذا وجد، لابُد أن يكون معه عدم القدرة على الصيام، وهذا يختلف من مرض إلى مرض، ومن شخص إلى شخص، فبعض الأمراض في بعض الأشخاص لا تكون مانعة لهم من الصيام والبعض لا، وهذا يعرفه الطبيب، ويعرفه أيضًا الناس، أو كل بحسب ما يعتاده من مرضه وعلته وشدته عليه.
فقال: (أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ) لكن الكبر على الإطلاق، فلا، ونقول: ليس المقصود بذلك أنَّ كل من كبرت سنه جاز له الفطر، وإنما يقول أهل العلم: هو من كبرَ كبرًا يجد معه في الصيام مشقة بالغة، زائدة عن المعتاد، كمن وهن عظمه، وهذا أيضًا يختلف باختلاف الناس؛ فمن الناس من بلغ التسعين وهو أصح ما يكون، وأسهل ما عليه أن يصوم، والبعض قد يبلغ الخمسة والسبعين، لكنه لو صام للحق به من التعب الشيء الكثير.
فإذًا، كل واحد بحسبه، لكن في الغالب أنَّ الكبر يكون معه عند بعض الناس ما يوهنه عن الصيام، ويلحق به المشقة عن القدرة على الإمساك.
فنقول: من وجد من ذلك جاز له الفطر، وأمكنه أن يصير إلى البدل، كما جاء ذلك في تفسير ابن عباس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فهذه الآية كانت في أول الأمر على التخيير، ثم لَمَّا نُسِخَت قالوا: إنه بقي حكمها فيمن لم يستطع، فإنه ينتقل إلى الإطعام بدلًا عن الصيام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَسُنَّ الْفِطْرُ لِمَرِيضٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمُسَافِرٍ يَقْصُرُ)}.
أول شيء من هو المريض؟ المريض هو من لحقت به علةٌ، هل كل من لحقت به علة، كوجع برأسه، أو ألم في سنه، أو تعب في يده، هذا في العرف به علة، فذهبت عنه تمام الصحة، فهل يلحق به اسم المريض، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لِمَرِيضٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ)، فإذًا ليس كل من لحق به وصف المرض جاز له الفطر، بل من كان به مرض يؤثر على الصيام، ولذلك قال: (لِمَرِيضٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ).
وأهل العلم قد وضحوا ذلك، بأنه يكون بأربعة أشياء: إمَّا أنَّ يكون معه مع الصيام مشقة بالغة، كبعض مرضى السكري، يعني لو صام بعضهم يتعب أكثر من غيره، لكنه لا يمنعه ذلك من حياته، ويستطيع التحمل، ولا يخاف عليها هلكة ولا تلفًا ولا أثرًا في عضو ولا غيره.
الثاني: أن يخاف تأخر البرء، يعني: هو يقدر أن يصوم، لكنه بدل من أن يبرأ في شهر، يتأخر شفاءه إلى ثلاثة أشهر، وخاصة هذا في بعض العقاقير والأدوية، التي يحتاج أن يأخذها بانتظام، ولو لم يأخذها فإنها قد تؤثر عليه في منع شفائه أو تأخره، فنقول: إنه يفطر ويأخذ علاجه، وهو في ذلك معذورٌ.
والثالث: أن يخاف زيادة العلة؛ فمن كان عليه مشقةٌ أو خاف تأخر الشفاء، أو زيادة في العلة؛ فإنه يجوز له الفطر، ومثل ذلك أيضًا: إذا كان يخاف حصول علةٍ محققة؛ فبناء على ذلك يجوز له أن يفطر في مثل هذه الحال.
قال: (وَسُنَّ الْفِطْرُ) لماذا؟؛ لقول الله -جل وعلا: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة:184]، فهذا أباح للمسافر والمريض أن يفطر، طيب هذا إباحة وجواز، فمن أين أخذتم الاستحباب؟
قال أهل العلم: «إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه» ، وبناء على ذلك قالوا: إنَّ هذا أيضًا من باب التخفيف، والشرع يتطلع إلى التيسير على الناس وعدم التكليف، فلأجل ذلك قيل بالفطر؛ ولأن النبي قال: «ليسَ من البرِ الصيامُ في السفرِ» ، وحال المريض أولى وأحوج إلى الفطر.
قال: (وَمُسَافِرٍ يَقْصُرُ) المسافر هو الذي أسفر عن البلد بالخروج عنها، فكل من خرج من بلده فهو مسافر، لكن ليس كل مسافرٍ يجوز له الفطر، بل لابد من السفر الذي تقصر فيه الصلاة، والسفر الذي تقصر فيه الصلاة قد جاء في السنة، وجاء في قول الصحابة، وهم إنما أخذوه مما جاء عن النبي ، فلما قال النبي : «لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ أنْ تُسافِرَ مَسِيرَةَ يَومٍ ولَيْلَةٍ إلَّا مع ذِي مَحْرَمٍ» ، الذي هو السفر الطويل، أو السفر الذي تقصر فيه الصلاة، أو السفر الذي يجوز فيه الترخص، هذه كلها عبارات للفقهاء بناءً على ذلك.
ولَمَّا ينظر إلى مسيرة اليوم والليلة، الإنسان كم يسير في اليوم؟ وكم يسير في الليلة؟ طبعا لا يتصور أنَّ رجلا يسير في الليل والنهار معًا، لكن الحديث قال: «مَسِيرَةَ يَومٍ ولَيْلَةٍ»، إذًا هما مرحلتان: مرحلة اليوم، ومرحلة الليلة، فمن مشى في اليوم فالغالب أنه لا يزيد عن بُردين، وفي الليل كذلك، وهي تقريبًا ما يساوي قرابة خمسة وثلاثين كيلو إلى أربعين أو نحوها، وقال الصحابة: من مكة إلى عسفان، من مكة إلى جدة، من مكة إلى جدة كم يبلغ؟ أربعة برد، والبرد ثلاثة فراسخ، فحُسب ذلك بالأميال فخرج كثيرٌ من أهل العلم الآن إلى أنها ما بعد السبعين، بعضهم يقول: اثنان وسبعون، وبعضهم يقول: ثمانون، وعلى كل حال يحتاط الإنسان، فما كان في نحو هذه المسافة، فإنه ينبغي أن يتوقف؛ ولذلك يقول أهل العلم: إذا شك المسافر هل هذا سفر تُقصر فيه الصلاة أو لا تقصر؟ فالأصل أنه لا يقصر؛ لأنَّ الأصل هو وجوبها تامة، حتى يتيقن أنه قطع المسافة التي تقصر فيها.
وهنا أريد أن أنبّه إلى مسألة، لأنَّها وردت في الكلام، وكثير من الناس يفهمها على غير وجهها. وهي: لَمَّا قال الصحابة: "من مكة إلى جُدة" ليس الآن، الكلام في مكة الأولى، وجدة الأولى، التي كانت جدة صغيرة ومكة صغيرة، وبينهما مسافة أربعة برد، الآن ليس بينهما مسافة أربعة برد، فيختلف الحال باختلاف ما آل إليه؛ لأنَّ اعتبار المسافات إنما هو بالخروج من عامر القرية، والخروج من عامر البلد الآن امتد بالنسبة إلى مكة كثيرًا، ومثل ذلك جدة امتدت، فصارت المسافة التي بينهما أقل قطعًا من أربعة برد، فلم يجز قصرٌ ولا الجمع في مثل ذلك.
لكن نقول: إذًا ما جاء عن الصحابة من مكة إلى عسفان في ذلك الوقت هي مسافة أربعة برد، وهي التي فُسرت بنحو ما ذكرنا لكم.
فإذا كان السفر تقصر فيه الصلاة، بأن بلغ أربعة برد، وهذا قول جمهور أهل العلم، وعامة الفقهاء، ولكن هناك قول لشيخ الإسلام بأنه بالعرف، لكن قول شيخ الإسلام فيه تقييدات، لا يذهب إليها من ذهب إلى قوله؛ لأنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: المسافة لا حد لها، وإنما ما عده الناس سفرًا، فإنه نصَّ قطعًا على أنَّ المسافة الطويلة في الزمن القصير ليست سفرًا، وابن تيمية نفسه قد نصَّ على أنه لا يكون السفر سفرًا، إلا ما حُمل له الزاد والمزادة، كثير من أسفار الناس الآن التي تمر عبر الطائرات، لا يؤخذ لها زادٌ ومزادة، يذهب في أول النهار ويرجع في آخر النهار، ولو كانت مسافتها أحيانًا ألفين ميل، أو ألف وخمسمائة ميل، يصل إلى مصر في أول النهار، ويرجع في آخر النهار؛ فينبغي أن يتناول، ولذلك كان قول الجمهور أضبط، وهو قول الصحابة، وأبعد عن الإشكال؛ ولذلك نص الحنابلة وقالوا: ولو قطع في برهة من الزمن.
فالقول هذا قول محرر، ينتفي معه كثير من الإشكالات، ويرتفع معه كثير من الترددات، وهو أيضًا واضح في حدوده، سهل في تطبيقه، فالمصير إليه أيضًا متوافق مع حاجة الناس في الأسفار المتأخرة في هذه الأزمان، فينبغي أن يكون هذا هو المصير، وإليه السبيل، ومثل ذلك اعتبار المدة، وقد تكلمنا عليها فيما مضى في قصر الصلاة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ أَوْ مُرْضِعٌ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا قَضَتَا فَقَطْ، أَوْ عَلَى وَلَدَيْهِمَا مَعَ الْإِطْعَامِ مِمَّنْ يَمُونُ الْوَلَدَ)}
لابد أن يعلم أنهم يقصدون في ذلك الذي يُباح له أخذ الرخص في السفر، وهو أن يكون سفر طاعة، فلو كان سفر معصية كأن يذهب إلى عقد معاملة ربوية، أو أن يذهب إلى فعل موبقة من الموبقات، يعني: أنشأ السفر لذلك، هنا يقولون: لا يجوز له.
وأيضًا هذه فيها شيء من الخلاف، ابن تيمية على أنها عزيمة، وكل سفر يجوز فيه القصر مُطلقًا؛ لأن الصلاة شرعت ركعتين فأوقفت في السفر وزيدت في الحضر.
لكن الحنابلة على ما جاء عن الصحابة وهو قول الجمهور ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾؛ فجعل مناطق الرخص إنما هو عدم البغي ولا الاعتداء.
ثم يقول: (وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ أَوْ مُرْضِعٌ) هذا إذًا في حال أن احتاجت الحامل والمرضع إلى الفطر، فليس كل حاملٍ أو مرضعٍ تحتاج إلى الفطر، لكن هذا يختلف باختلاف النساء وأحوالهن، أو ما احتفّ بهن من حال، فإما أن تكون ضعيفة في خلقتها، وإما أن تكون أيضًا في حال فاقة وفقر، وإمَّا أن يكون حملها حمل باثنين، فيكون ذلك مُضنيًا لها أكثر من عادتها، ومثل أولئك المرضع، وهنا يقال: "مرضعٌ ولا يقال: مرضعة"؛ لأنَّ تاء التأنيث لا تُستخدم إلا عندما يكون هناك استعمال للرجل، والرضاع ليست للرجل؛ لأجل ذلك لا يقال: حامل، وإنما يقال: حاملٌ، ولا يقال: مرضعة؛ لأنَّ الرجل لا يكون حاملًا ولا يكون مُرضعًا.
كذلك المرضع إذا خافت على نفسها، وخافت على ولدها، فإنها يجوز لها الفطر، وهذه مسألة فيها شيء من الإشكال.
قال: (خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا قَضَتَا فَقَطْ، أَوْ عَلَى وَلَدَيْهِمَا مَعَ الْإِطْعَامِ مِمَّنْ يَمُونُ الْوَلَدَ) عندنا مسألتان: أول شيء أنَّ الحامل والمرضع لها أن تفطر إذا احتاجت إلى ذلك، وهذا قدر لا إشكال فيه، ثم ما الواجب عليهما؟
الحنابلة يفرقون، فيقولون: إذا كان الخوف على أنفسهما فعليهما القضاء فقط، فتكون حالها كحال المريض، أمَّا إذا كان الخوف على الغير، فيقولون: درجة ذلك أخف، فيلزمها مع القضاء إطعامٌ، من أين أتيتم بهذا أيها الحنابلة؟
قالوا: هذا جاء عن ابن عباس، وجاء عن غير واحد من الصحابة، أنه إذا أفطرت الحامل والمرضع أطعمتا، لكن هذا لا ينفك به الإشكال.
طيب ما فيه أنها أفطرت، قالوا: إنه يُحمل على إذا خافت على غيرها؛ لأنها إذا خافت على نفسها تكون في حكم المريض، لكن ما جاء في الأثر فيه شيء من الإشكال؛ لأنَّ في بعضها أطعمتا ولم يقضيا، فالحقيقة أنَّ ما جاء عن الصحابة في لم يقضيا محل إشكال، ويحتاج إلى بحث، وليس الأمر مما يتضح بيسر وسهولة، ومما تأملته كثيرًا في مثل هذه المسألة فيمكن أن الصحابة حملوا ذلك على أنها تكون في حكم المريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأن المرأة لا تنفك عن حمل ورضاع، حمل ورضاع، حمل ورضاع، فإذا كانت على هذا النحو ممن تخاف في حال الحمل والرضاع، فسيستمر بها الأمر -غالبًا- فلأجل ذلك كأنهم حكموا بأن هذا نوع تأمل لِمَا جاء وتوفيق في قول الصحابة، لكن الأصل أن الشرع ألزم بالحكم؛ ولأجل ذلك نحن لا يمكننا أن نتجرأ فنقول: إنه يسقط عنها، مع أن الشارع يأتي على المريض وهو حال أشد من حالها، ومع ذلك يؤمر بالقضاء، فلا أقل أن يكون مثلها مثل ذلك.
فإذًا الأصل هو لزوم العباداتِ أداءً كان أو قضاءً بحسب الحال، وأنه وجد من هو أشد منها ومع ذلك يؤمر بالقضاء، فثبوت القضاء ظاهر لعمومات الشريعة ولِمَا ماثلها في أحكام الصيام؛ فلأجل ذلك احتجنا إلى شيء من النظر فيما جاء عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم-.
قال: (أَوْ عَلَى وَلَدَيْهِمَا مَعَ الْإِطْعَامِ مِمَّنْ يَمُونُ الْوَلَدَ) قوله: (مِمَّنْ يَمُونُ الْوَلَدَ) يدل على أنَّ الإطعام ليس على المرأة، وإنما على والده، الذي يجب عليه الإنفاق عليه، فمن وجب عليه الإنفاق هو الذي يُطعم؛ ولأنَّ المرأة لا مدخل لها أو لا سبب عليها في وجوب الإطعام، لم يكن منها شيء أخطأت به، أو أخلَّت أو فرطت أو غيره، لكنها أفطرت لإعطاء الحق للولد، والولد مرهون بالوالد إنفاقًا وقيامًا، فكان عليه نفقة الإطعام التي كانت لأجله، وحرصًا عليه، وحفظًا لحرمته من الهلاك والموت.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ جُنَّ جَمِيعَ النَّهَارِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَيَقْضِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ)}.
من أُغمي عليه جميع النهار لم يصح الصوم، لماذا؟
لأنه يقولون: من لازم العبادة أن ينوي فيها قطعًا وأن يستشعرها، فهذا الذي أغمي عليه ارتفع عقله، فلم يكن ممسكًا بإرادة، ولم يكن قاصدًا الصيام حقيقة؛ فبناءً على ذلك قالوا: إنه لا يصح صومه.
من أين أتيتم أو قلتم بوجوب القضاء؟
حقيقة إن وجوب القضاء مأخوذ من أنهم على سبيل الاحتياط، وشبهوه بمثل من فاتت عليه النية، ولِمَا جاء عن أيضًا بعض الصحابة فيمن فاته يوم وليلة في الصلوات، فإنه يقضي، لأجل ذلك قالوا: إن الإغماء لا يطول غالبًا؛ فبناء على ذلك يكون حكمه حكم من فاته شيء من أوقات الصلاة، فإنه يؤمر على ما جاء من الصحابة بالقضاء إذا كان يوم وليلة، وبعضهم قال: ثلاثة أيام بلياليها.
لكن هنا مسألة، أنَّ الإغماءات الحاضرة قد يطول، فقد يكون شهرًا أو شهرين أو ثلاثة أشهر، وربما يكون لمدة سنوات، وهي التي في العلم الحديث بالغيبوبة، الذي يغيب وعيه وما في نحو ذلك الحال مما يعلمه أهل الطب والواقع.
فنقول: بناءً على كلام إطلاق الفقهاء أنَّ المغمى عليه يقضي؛ فيلزمه القضاء، لكن الظاهر من تعديلاتهم أنهم لم يتصوروا مثل هذه الصورة البتة؛ ولذلك في أكثر تعليلاتهم يقولون: لأنه لا يطول غالبًا؛ ولأن أكثر ما فيه أنَّ الأصل أن المغمى عليه غير مكلف، قد غاب عقله، لكنهم كأنهم جروه إلى القضاء في اليوم واليومين والثلاثة، لأمرين:
أولًا: على سبيل الاحتياط، وثانيًا: القياس على ما جاء عن الصحابة في قضاء اليوم والليلة، مع أنَّه لو أغمي عليه وقت واحد، لم يدرك أوله ولا آخره، لم يجب عليه، لم يتعلق به وجوبه، لكن لَمَّا جاء عن الصحابة أن اليوم والليلة شيء قليل، ويمكن القضاء، ونلزمه بالقضاء، فكما يلزم بالقضاء هناك في الصلاة، فإنه يلزم في اليوم واليومين والثلاثة في قضاء الصيام، فكأنهم أخذوا ذلك على سبيل الاحتياط، وعلى سبيل النظر والاعتبار والقياس.
فنقول: أمَّا إذا طالت المدة فلا شك في أن أنه ينظر فيه، لكن متى نحكم أن المدة قد طالت؟ هذا الحقيقة يمكن يقطع في الشهر والشهرين والثلاثة، لكن إذا زادت عن ثلاثة أيام؛ فإنها مما يحتاج فيها إلى شيء التحري، ولعل من وقعت له أن يرجع في ذلك إلى أهل الفُتيا فيستفتي، فيفتى بما يليق بحاله -بإذن الله جل وعلا-.
قال: (أَوْ جُنَّ جَمِيعَ النَّهَارِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ)، فكذلك المجنون إذا كان جنونه غير مطبق يعني غير متصل فيجن ويفيق، فلا يخلو إمَّا أن يجن أثناء النهار، فهذا تعلق بالتكليف في بعض النهار؛ فبناء على ذلك يلزمه القضاء، لكن لو جن في جميع النهار، ارتفع عنها التكليف، ومن ارتفع عنه التكليف فلا يلزمه القضاء بحال من الأحوال.
لِمَ فرقوا بين المجنون والمغمى عليه؟
لأن المجنون قطعًا قد زال عنه التكليف، لكن المغمى عليه فيه ما يستدعي جره على سبيل الاحتياط للمفيق، أو في أحكام المكلف، فلأجل ذلك ألزموه احتياطًا.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ فَرْضٍ إِلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ)}.
الصيام عبادة، والعبادة هنا هي استكمال اليوم بجميع أجزائه، منذ أول ثانية من الصباح إلى آخر ثانية منه، حتى يدخل المساء، فلما كان ذلك، كان لابُد له من نية؛ لأنَّ النبي قال: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ» ؛ ولأنَّ من نوى في أثناء النهار ولو بعد ثانية واحدة لكانت العبادة تبع للنية، فمعنى ذلك أنه وقع في نيته لبعض يوم وليس لجميعه، ولو كان ثانية واحدة؛ فبناء على ذلك لا بد من الليل، هذا من جهة النظر.
فلأجل ذلك حتى لو لم يأت فيه أتى، لكن نقول: جاء فيه الأثر وهو حديث حفصة عند الخمسة أن النبي قال: «مَن لم يُجمعِ الصِّيامَ قبلَ الفجرِ فلا صيامَ لَهُ» .
قال أهل العلم: هذا الحديث وإن كان أكثر المتقدمين من أهل الحديث على أنه موقوف، لكنهم لا يختلفون في أنه عليه العمل وإليه المصير هم قد يختلفون فيه كرواية حديثية لكنهم لا يختلفون في أنه مما يحتج به ويُعتبر.
ولَمَّا قلنا: إن الأصول الشرعية دالة عليه؛ فلأجل ذلك نقول هنا: إن الصيام لابُد له من نية من الليل، وهنا قال: (مِنْ صَومِ فَرْضٍ) فسواء بأصل الشرع أو كان صوم نذر أو كفارة أو ما في معنها فيخرج من ذلك صيام النفل، فصيام النفل يجوز من النهار، سواء قبل الزوال أو بعده؛ لأنَّ النبي دخل على عائشة فقال: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ» ، لكن بشرط أنه لم يحصل منه ناقض من نواقض الصوم بأن يكون أكلًا في أول النهار أو جامع زوجته أو نحو ذلك فما دام أنه أصبح ممسكًا وأحدث النية، فيصح صومه في تلك الحال، لكن ذلك في غير الفرض.
قال: (بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ)، يعني لابُد من أن ينوي نية معينة بأنه صيام رمضان إذا كان رمضان وهذا واضح، وإذا كان غير رمضان فلابد من أن يقول نويت عن كفارة كذا أو عن نذر كذا فلابد من أن معينًا.
أمَّا يصوم بالفرض ولا ويقول والله ها أنا ناوي من الليل ثم يقول: هذا يا جبر خلها عن الكفارة وهذه بتخليها عن ذي لا ما يصلح لابُد من أن يكون معينًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَيَصِحُّ نَفْلٌ مِمَّنْ لَمْ يَفْعَلْ مُفْسِدًا بِنِيَّةٍ نَهَارًا مُطْلَقً)}.
أمَّا النفل فتصح بنية من النهار كما قلنا في حديث عائشة، لكن مثلًا ما ذكر المؤلف لم يفعل منشدًا، أما إذا فعل مفسدًا فلا.
إذا قلنا بذلك فهنا يقول أهل العلم: بم يثاب؟
هل يثاب بالنهار الكامل أو تبع للنية؟
عند الحنابلة أنه تبع للنية، فالذي أصبح ونوى الساعة العاشرة فيثاب من الساعة العاشرة إلى الإفطار، ومن نوى الساعة الثانية عشرة فيثاب أقل من ذلك، وفي هذا أن ما جاء في الشرع فيه تعليق النفل على صيام ذلك اليوم، فإنه أيضًا لا يتأتى له تلك الفضيلة إلا بالنية من الليل، مثل صيام يوم عرفة، صيام عرفة بصيام يوم كامل، صيام ستة من شوال، وهكذا.
وهذا فيه خلاف، فالشافعية لا يقولون: لا يتجزأ، لأنها عبادة واحدة، فبناء على ذلك تصح، لكن على سبيل الاحتياط والأسلم للإنسان إذا كان يريد نفلا مخصوصا؛ فالأولى أن ينويه حتى يحصل له أجر ذلك بيقين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (بَيَانُ الْمُفْطِرَاتِ وَأَحْكَامِهَا.
فصل: وَمَنْ أَدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ، أَوْ مُجَوَّفٍ فِي جَسَدِهِ كَدِمَاغٍ وَحَلْقٍ شَيْئًا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ غَيْرَ إِحْلِيلِهِ أَوْ ابْتَلَعَ نُخَامَةً بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى فَمِهِ أَوِ اسْتَقَاءَ فَقَاءَ، أَوِ اسْتَمْنَى، أَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَمْنَى، أَوْ نَوَى الْإِفْطَارَ، أَوْ حَجَمَ، أَوْ احْتَجَمَ عَامِدًا مُخْتَارًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ)
}.
نعم هذا الفصل الذي ذكره المؤلف- رحمه الله تعالى- في مفسدات الصوم.
بم يفسد صوم الصائم؟ أو بعبارة أخرى ما الذي يجب على الصائم أن يجتنبه حال صيامه؟
هذا هو الفصل الذي عقده المؤلف- رحمه الله تعالى- له، فقال: (وَمَنْ أَدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ) أي: من أكل أو شرب أو أدخل إلى جوفه بأي وجه كان، من أي موضع معتاد أو غير معتاد، وصل إلى الجوف، إلى داخل البطن، إلى ما يمر في أمعائه، إلى ما يتجاوز به حلقه، حتى ولو خرج إلى دماغه، فكل ذلك وصل إلى جوفه؛ فبناء على ذلك يحصل له الفطر، والدليل أن النبي قال: «مَن أكَلَ ناسِيًا وهو صائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فإنَّما أطْعَمَهُ اللَّهُ وسَقاهُ» ، فيدل ذلك على أن الأكل والشرب يمنع منه الصائم، هذا بالنسبة للأكل والشرب، لماذا تقولون: "كل ما يدخل من أي وجه كان"؟
نقول؛ لأن النبي قال: «وَبَالِغْ فِيِ الاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمً» ، الاستنشاق في الأنف، فدل على أن الصائم في حال صيامه يتجنب كل شيء يصل إلى جوفه، سواء كان من فمه أو من أي مدخل يمكن أن يولج إلى الجوف شيئًا، فهذا متقرر وواضح.
ومنع الأكل والشرب محل إجماع لأهل العلم؛ لذلك أهل العلم قيدوا كثيرًا فيما يكون المدخل فيه معتادًا كالأنف؛ لأنه يعني فيه السعوط الذي يدخل مباشرة أو حتى ما قد يدخل ولو بوجه بعيد، مثل: التقطير في الأذن أو التقطير في العين.
العين فيها فتحة صغيرة لطيفة، لكنها في بعض الأحوال يكون لبعض هذه الأشياء جريان ودخول، فيحس به في جوفه، فنقول: إذا أحس به في جوفه فكأنه تعمد دخول ذلك، وهذا قول جمهور أهل العلم، وإن خالف في ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى ورضي عنه-؛ فلأجل ذلك ينبغي للصوم أن يتوقى ذلك كله، فإن هذا مما يحصل به التمام والكمال.
الحقيقة أن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد بحث، فما دام أنك تشير إليَّ بأن الوقت قد انتهى فربما استهللنا في الدرس القادم- بإذن الله جل وعلا- بعض ما يتعلق بهذه المسألة أو جئنا فيها ما يحتاج إلى زيادة على شيء من الاختصار اللائق بالمقام، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم آمين.
جزاكم الله خيرا، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة- إن شاء الله- إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك