الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

15574 18
الدرس الثاني

أخصر المختصرات 2

{الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم التسليم.
أمَّا بعد؛ فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله.
{بارك الله فيكم ونفع بكم. أستأذنكم لاستكمال ما توقفنا عنده}.
نعم، استعن بالله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا إِمَامَةُ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ وَأُمِّيٌّ وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، أَوْ يُدْغِمُ فِيهَا حَرْفًا لَا يُدْغَمُ أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى إِلَّا بِمِثْلِهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُتم علينا وعليكم نِعَمه، وأن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يُبلغنا سنة نبيه مُغتبطين بذلك، وأن يجعلها أعظم ما تكون أجرًا، وأرفع ما تكون منزلة يوم لقاءه، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا -أيُّها المشاهدون- فيما يتعلق بالإمامة وأحكامها، وكنا انتهينا في المجلس الماضي عند إمامة الفاسق وقلنا: إنَّ الإمامة كمال، وأنه لا يلي مثل ذلك من كان من أهل الفسق والفجور، ومتى ما كان الإمام أتم كانت الصلاة أكمل، وإذا تفاوت في الصلاح تفاوتت الإمامة بحسب تفاوتهم، فلا شك أنَّ من كان أتم في ذلك فهو أزكى عند الله -جَلَّ وَعَلَا-، والاقتداء به سبب لحصول التمام في عموم الصلاة وكمالها، وكلما نزل حصل ضد ذلك.
لكن إذا كان فاسقًا فهل تصح أو لا تصح؟
كما ذكرنا في المجلس الماضي أنَّ هذا هو مشهور المذهب لقول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: 18]، وكما في بعض الآثار: "لا يؤمنَّ فاجرٌ مؤمنًا"، وإن اختلف في هذا الحديث وتُكلم فيه.
أمَّا الرواية الثانية، فهي التي عليها الفتيا، وهي قول جماهير أهل العلم بصحة إمامة الفاسق؛ لأنَّ من صحت صلاته صحت إمامته، لكن لا شك أنه محل للإثم والمؤاخذة، كما قلنا: إنَّ هذا سواء كان في الاعتقاد أو كان في العمل والسلوك.
قال: (إِلَّا فِي جُمُعَةٍ وَعِيدٍ تَعَذُّرًا خَلْفَ غَيْرِهِ)، فإنَّ الجمعة والعيد جرت العادة على أنَّ من يليها هو الإمام الأعظم كما ذكرنا، فلأجل ذلك تصح حتى ولو كان عُرِفَ بفسق أو نقص إيمان ونحوه تحصيلًا للمصلحة العظمى، وهي حصول اجتماع الناس وعدم الاختلاف عليه، ومنع حصول الصدع والافتراق الذي هو مدعاة للفتنة والاختلاف، وحصول البلاء من كل وجه.
ثم يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا إِمَامَةُ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ)، من حدثه دائم كمن به سلس بول، أو لا تمسك مؤخرته عن خروج ريح وغاز أو نحوه، فبناء على ذلك قالوا: إن هذه حال نقص، والأصل أن صلاة مثل هذا لا تصح، لأنه ليس بمتطهر، لكن لعموم قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وهذا لا يستطيع أكثر من ذلك، ولذلك صحت صلاته، لكنها لا تصح إمامته لغيره لحصول النقص عليه، والإمامة إنما حالها حال الكمالات، فينبغي أن يليها مَن كان أتم في حاله وأكمل في طهارته.
قال: (وَأُميٍّ)، الأمي في اللغة: من لا يقرأ ولا يكتب على العموم، لكن عند الفقهاء هو مَن لا يُحسن قراءة الفاتحة، كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، أَوْ يُدْغِمُ فِيهَا حَرْفًا لَا يُدْغَمُ أَوْ يَلْحَنُ فِيهَ)؛ لأنَّ الفاتحة ركنٌ، وقراءة الإمام قراءةٌ لمن خلفه، فإذا قرأ الإمام قراءة خاطئة صلَّى الناس بغير فاتحة، وبناءً على ذلك لا يصح أن يكون الإمام أميًّا.
قال: (أَوْ يُدْغِمُ فِيهَا حَرْفًا لَا يُدْغَمُ أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى)، مثل: الألتغ أو الألثغ، وهو الذي يقلب بعض الحروف، وهذا إذا كان يقلبه قلبًا تامًّا، أمَّا إذا كانت تتداخل بعض الحروف في بعض فهذا تصح صلاته، لكن لا شك أنَّ الأتم للصلاة أن يكون الإمام أفصح وأجود في قراءته.
قال: (أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى)، كأن يقول: {أنعمتُ عليهم} فهذا بَدَّلَ، فجعل الإنعام من نفسه وليس الله -جَلَّ وَعَلَا-، وهذا يُحيل المعنى إحالة بالغة.
وبناء على ذلك يقول أهل العلم: إنَّ إمامته لا تصح إلا بمثله، فإذا لم يوجد إلا من هذه حاله، كأن يكون المجتمع لا يوجد فيه غير أمي، أو كمن هم ببادية لا يوجد فيهم قارئ يحسن القراءة، أو حديثي عهدٍ بإسلام فيقرؤون كيفما استطاعوا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكن أن يتقدم هذا الأمي أو من لحنه لحنًا جليًّا في الفاتحة يُحيل المعنى ويفسد القراءة بمن هو قراءته صالحة وإمامته صحيحة؛ فإنَّ هذا لا يصح كما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَا مَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَعَاجِزٍ عَنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، أَوْ قُعُودٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ اجْتِنَابِ نَجَاسَةٍ أَوْ اسْتِقْبَالٍ)}.
قوله: (وَكَذَا مَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ)، وهو من حدثه دائم، سواء كان حدثه دائم بالريح أو كانت مُستحاضة تصلي بنساء مثلها أو بنساء طاهرات، أو من كان به سلس بول، وهو الذي يخرج بوله باستمرار أو لا ينقطع؛ فكل هؤلاء لا تصح إمامتهم إلا بمن هو مثلهم.
قال: (وَعَاجِزٍ عَنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ)، لا يمكن لعاجز عن الركوع والسجود أن يُصلي بالناس، فإذا كان يُومئ بالركوع السجود فيصلي مَأمومًا، ويُصلي القادر على الركوع والسجود إمامًا.
قال: (أَوْ قُعُودٍ وَنَحْوِهَ)، إذا كان يعجز عن القعود ولا يستطيع، باعتبار أن القعود من أركان الصلاة كالجلسة بين السجدتين والجلوس للتشهد الأخير ونحوه، والجلوس للتشهد الأول واجب وهكذا.
قال: (أَوْ اجْتِنَابِ نَجَاسَةٍ)، من كانت به نجاسة لا يستطيع التخلص منها، أو كان عاجزًا عن اجتنابها، فلا يصلي إمامًا؛ لأنَّ حالته نقص، وعند الحنابلة أنَّ اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة، ولا تصح الصلاة مع حصولها؛ فبناء على ذلك لا يصح أن يكون فيها إمامًا.
قال: (أَوْ اسْتِقْبَالٍ)، لا يستطيع استقبال القبلة لعلة أو بلاء، فبناء على ذلك لا يكون فيها إمامًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا عَاجِزٍ عَنْ قِيَامٍ بِقَادِرٍ إِلَّا رَاتِبًا رُجِيَ زَوَالُ عِلَّتِهِ، وَلَا مُمَيِّزٍ لِبَالِغٍ فِي فَرْضٍ، وَلَا امْرَأَةٍ لِرِجَالٍ وَخُنَاثٍ)}.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا عَاجِزٍ عَنْ قِيَامٍ بِقَادِرٍ)، كأنه لَمَّا تكلم عن العجز عن الركوع والسجود على الإطلاق، يعني: سواء كان الإمام الراتب أو غير الراتب، لكن بعد ذلك قال: (وَلَا عَاجِزٍ عَنْ قِيَامٍ بِقَادِرٍ إلا راتبً)، لو عجز شخص عن القيام وهو غير إمام راتب فهو كالمسائل السابقة، لا يجوز له أن يُصلي بالناس، كما لو اجتمع أناس عند مريض، وكان أقرأهم لكتاب الله، فقالوا: صلِّ بنا -وهو يصلي جالس- نقول: لا، يصلي بهم جالسًا؛ لأنَّ العاجز عن الركوع والقيام لا يكون إمامًا، لكن لو كان الإمام الراتب فيقولون: تصح.
ولم فرق الحنابلة بين القيام والركوع والسجود؟
لأنَّ الأصل عدم ذلك على الإطلاق، لكن لَمَّا حصل أنَّ النبي لما جُحشت قدمه فصلَّى بالناس جالسًا فصلى الصحابة خلفه جلوسًا، كان ذلك كالمستثنى، والمستثنى عند الفقهاء يقتصر ولا يقاس عليه، فلأجل ذلك قالوا: من عجز عن القيام وهو إمام راتب -قيدوها بكل القيود التي جاءت في الحديث، ولم ينقلوها إلى غيرها؛ لأنها جاءت على سبيل الاستثناء، وخلافًا للأصل، فاقتصر على الحال أو الحادثة التي وقعت بقيودها كما جاءت- فبناء على ذلك قال: (وَلَا عَاجِزٍ عَنْ قِيَامٍ بِقَادِرٍ إلا راتبً)، فإذا كان الإمام إمامًا راتبًا، وكان لديه عجز عارض، قال: (رُجِيَ زَوَالُ عِلَّتِهِ) فهو شيء عارض؛ فيصلي بالناس، وإذا قعد صلوا خلفه قعودًا، فإن ابتدأ الصلاة قائمًا ثم قعد أتموا قيامًا، وإن ابتدأها قاعدًا صلوا معه قعودًا وأتموا، وهذا جاء في الحديث، ولأهل العلم فيه كلام، هذه إشارة إليه كافية بما نحن به في صدده من الاختصار.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا مُمَيِّزٍ لِبَالِغٍ فِي فَرْضٍ)، عند الحنابلة أنَّ المميز صلاته صلاة نفل، والبالغ صلاته صلاة فرض، ولا يليق أن يكون مَن يصلي نفلًا إمامًا للمفترض؛ لأنَّ حاله أقل أو نقص من حال صلاة البالغ الذي يصلي فرضًا، فالواجب أنَّ البالغ هو الذي يُصلي به، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مشهور المذهب، وإن كانت الفتيا على خلاف ذلك، كما هو قول ابن تيمية وقول جمهور أهل الفقهاء؛ لأنه مَن صحَّت صلاته صحت إمامته، ولأنه جاء عن الصحابة كعمرو بن سلمة أنه صلى بالناس وهو صغير وأقرَّ النبي صلاته، فقالوا بجوازها، لكن لا شك أنه كلما كان أكمل وأبعد عن الخلاف فهو أولى وأتم.
قال: (وَلَا امْرَأَةٍ لِرِجَالٍ وَخُنَاثٍ)، المرأة لا تؤم الرجال، وذلك لأن الإمام محل للاقتداء والمشاهدة، والمرأة إنما يُطلب غض البصر عنها وعدم رؤيتها، فلأجل ذلك لا يجوز أن تكون إمامًا للرجال مُطلقًا، فالأصل أن المرأة ليست محلًّا للإمامة.
قوله: (وخناثٍ)، وهم المُشكِلين، أمَّا لو كان خُنثى غير مشكل، فهذا ليس بخنثى، والآن قلَّ هذا، فالآن يوجد من له آلتان وهذا كثير، ويُعرف ببعض التحاليل المخبرية مع تقدم الطب ونحوه، وذلك بالاطلاع على جيناته ونحو ذلك، فيُعرف أهو رجل أو امرأة، لكن فيما مضى لم يكن يُعرف إلا بالأمر الظاهر، فإذا كان للمولود آلتان -آلة رجل وآلة أنثى- لم يُعرف ذلك، فيقولون: ما يبول به، فإذا بالَ بهما أشكل ذلك عليهم، فينظرون إلى بلوغه هل يحيض أو لا يحيض أو نحو ذلك، فربما لم يحصل له حيض، فيكون الإشكال باقيًا، ولم يُنبت شعرًا حتى يرجحوا أنه ذكر؛ فبناء على ذلك يبقى فيه الإشكال.
فالمقصود هنا ما بقي به الإشكال؛ لأنَّ المرأة إذا صلَّت بالخنثى المشكل فيُمكن أن يكون هذا المُشكل رجلًا، فتكون إمامة للرجال.
وكذلك الخنثى المشكل لا يصير إمامًا للرجال؛ لأنه يُمكن أن يكون أنثى، فلا تجوز إمامته في تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا خَلْفَ مُحْدِثٍ أَوْ نَجِسٍ، فَإِنْ جَهِلَا حَتَّى انْقَضَتْ صَحَّتْ لِمَأْمُومٍ)}.
لا تصح الصلاة خلف محدث؛ لأنه لا تصح صلاته.
قال: (أَوْ نَجِسٍ)، إذا كان به نجاسة فلا تصح إمامته، فبناء على ذلك لو علمت أنَّ هذا الإمام صلى وهو مُحدث إمَّا للتساهل أو لغير ذلك من الأسباب، أحيانًا الخوف من والد أو غيره، فبناء على ذلك قالوا: إنه لا تصح إمامته، ولا يصح للإنسان أن يقتدي به وهو يعلم أنَّ حاله كذلك؛ لأنَّ صلاته لا تصح، وبالتالي لم تصح إمامته.
قال: (فَإِنْ جَهِلَ)، يعني: الإمام والمأموم، لَمَّا انتهت الصلاة تذكر الإمام أنه محدث، فبناء على ذلك نقول: إنَّ صلاة المأمومين صحيحة فلا يُعيدون، وصلاة الإمام باطلة فتلزمه أن يعيد، فيتوضأ ويؤدي الصلاة التي قد فاتته، ومثل ذلك إذا كانت به نجاسة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ لَحَّانٍ وَفَأْفَاءٍ وَنَحْوِهِ).
قوله: (وَتُكْرَهُ إِمَامَةُ لَحَّانٍ)، اللحان من اللحن، وهو الخطأ في الإعراب، فيرفع ما حقه النصب، أو يجر ما حقه الرفع، أو غير ذلك مما يحصل في بعض من يتأتأ بقراءته ولا يحسنها، فبناء على ذلك تكره.
والمقصود هنا: في غير الفاتحة، أما إذا كان في الفاتحة ويحيل المعنى فهذا قد تقدم وهو الأمي، لكنه كقراءة بعض الأعراب، الذين يعني يلتوي لسانهم على ما اعتادوا في نطقهم ولهجاتهم، فبناء على ذلك ينبغي للناس أن يحسنوا قراءة الفاتحة، وأن يتعلموها وأن يقيموا على ذلك ألسنتهم؛ لأننا لاحظنا أنَّ كثيرًا من العوام لا يُحسن قراءة الفاتحة، وينبغي للأولاد أن يعلموا أمهاتهم وجداتهم وأجدادهم، فهذا باب مهم للغاية، وقد سمعت أن بعض الزملاء اختبروا مجموعة في مكان من الأمكنة فوجدوا أكثرهم يلحنون في الفاتحة ويخطئون فيها، فتجاوز ذلك الثلاثين بالمائة، وهذا خلل كبير، وهو متوقف على الصلاة، ولا يعذرون بذلك ما دام يمكنهم أن يتعلموا ويحسنوا، فاللَّحان إذًا من اللحن، كما أنه يكره التَّلحين وهو تلحين القراءة، والتَّطريب بها زائدًا عن المعتاد، وزائدًا عن التجويد، فإنما القراءة الخشية، وإنما القراءة التباكي، وإنما القراءة التَّسهيل فيها، فالقرآن ميسر وليس محلًا لطرب النفوس ونشوتها، ولذلك جاء في آخر الزمان كما جاء في بعض الآثار أنه يقدمون شخصًا ليس لشيء قال: "إلا ليغنيهم" يعني: أنهم جعلوا القرآن كالغناء يطربون به وينتشون كما يطربون بسماع الأغاني والمعازف -نسأل الله السلامة والعافية.
فلأجل ذلك ينبغي أن يُعظَّم كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-، وقراءته قراءة خشية وخوف من الله -جَلَّ وَعَلَا-، وخشوع، ولذلك جاء عن السلف الأمر بالبكاء، قال: «فإِنْ لَم تَبْكُوا فتَباكَوْ»[1]، وهو روي مرفوعًا إلى النبي ، فالتلحين واللحن لا شك أنه مما ينقص القراءة والإمام.
قال: (وَفَأْفَاءٍ)، وهو الذي بالقراءة يتأتئ بالقراءة ويتوقف فيها، فلا شك أن ذلك يمنع حسن القراءة وتمامها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ وُقُوفُ الْمَأْمُومِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَالْوَاحِدُ عَنْ يَمِينِهِ وُجُوبًا، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ نَدْبً)}.
بعد أن تكلم المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- على أحوال الإمام وما يكون فيها من منع، وما يكون فيها من نقصٍ، وما يكون فيها من تمامٍ وكمال؛ انتقل إلى مواقف المأمومين من إمامهم، فيقول: (وَسُنَّ وُقُوفُ الْمَأْمُومِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ)، أي: إذا كانوا اثنين فأكثر، هذا هو المستحب أن يكونوا خلفه، فإن جابر جاء وصلى مع النبي فوقف عن يمينه، فجاء جبَّار وصلى مع النبي ووقف عن يساره، فدفعهما خلفه، فدلَّ ذلك على أنَّ موقف المأمومين -اثنين أو أكثر- خلف الإمام، ويصح أن يكونا عن يمينه، ويصح أن يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، كما حصل ذلك مع ابن مسعود.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَالْوَاحِدُ عَنْ يَمِينِهِ وُجُوبً)، فإذا لم يكن مع الإمام إلا واحد فيكون عن يمينه؛ لأنَّه إذا صلى خلفه صلَّى منفردًا، ولا صلاة لمنفرد خلف الصف، وإذا صلَّى عن يساره مع خلو يمينه فهذا منهي عنه؛ لأنَّ النبي لَمَّا قام يصلي من الليل في بيت ميمونة، وكان ابن عباس قد قام يصلي عن يساره؛ جذبه فجعله عن يمينه؛ فدل ذلك على أنَّ اليسار ليس بموقفٍ إذا كان اليمين خاليًا.
قال: (وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ نَدْبً)، لكن لو صلت عن يمين الإمام فتصح مع الكراهة، لكن موقف المرأة ولو كانت واحدة تكون خلفه؛ لأنه لَمَّا صلى بالغلام والمرأة، كانت المرأة خلفهم في القصة التي رواها مسلم في صحيحه؛ فَدلَّ ذلك على أنَّ هذا هو موقف المرأة، فتكون خلف المأمومين، ولو كانت واحدة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ صَلَّى عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ مَعَ خُلُوِّ يَمِينِهِ أَوْ فَذًّا رَكْعَةً لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ)}.
عند الحنابلة أنَّ صلاة الشخص الواحد عن اليسار مع خلو اليمين باطلة، يقولون: لأنَّ النبي أدار ابن عباس، فالخلاف بينهم وبين الجمهور، يقولون: هل أمره النبي بالإعادة؟ لأنه ابتدأ الصلاة وهو عن اليسار؛ فمن هذا اشتد الخلاف في هل تصح أو لا تصح؟ والحنابلة على الاحتياط، وعدم صحة الصلاة لو بقي خلفه منفردًا عن اليسار مع خلو اليمين.
قال: (أَوْ فَذًّ)، يعني: من صلَّى مُنفردًا خلف الصف، فهذا منهي عنه، لا صلاة لفذٍ خلف الصف، فهذا لا شك أنه لا يصح مع إمكان أن يدخل في الصف الذي قبله.
لكن لو لم يجد المأموم مكانًا في أن يدخل في الصف ولم يأتي معه أحد فهل يصلي وتصح بذلك صلاته أو لا؟
ظاهر إطلاق الحنابلة أنه لا تصح صلاته، ولأجل ذلك يقولون: إمَّا أن يتقدم ويصلي عن يمين الإمام، وإمَّا أن يجذب شخصًا فيشير إلى شخص فيرجع معه حتى يصلي، لعموم الحديث «لَا صَلَاةَ لمنفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ»[2].
ومنهم من قال: إذا تعذر أن يأتي أحد معه صح؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ؛ ولأن وابصة لَمَّا صلَّى كبر مُنفردًا ثم دخل في الصف، فنهاه النبي وقال: «لا تعد»، فقالوا: دل ذلك على صحة تكبيره ودخوله، فبناء على ذلك صحَّحوه، والخلاف في هذا بين الحنابلة وبين الجمهور وهو من مفردات الحنابلة، فالخلاف في ذلك شهير.
على كل حال؛ ينبغي أن لا يعرض الإنسان صلاته لأن يكون فذًّا مع إمكان عدم حصول ذلك مهما كان الحال، إذا لم يكن فهذه مسائل الاجتهاد، الجمهور يقولون: تصح الصلاة، وشيخ الإسلام مع إنه يقول في الأصل: إنه لا تصح صلاة الفذ، ولكن قال: للتعذر ولأجل العذر ولأن الله -جَلَّ وَعَلَا قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ، ولئلا تفوته الجماعة فإنه يصلي بحسب حاله.
الحنابلة يقولون: إذا لم يجد وإذا لم يرجع معه أحد فيجلس حتى تنتهي صلاته ويصلي وحده.
قال: (لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ)، هذا على مشهور المذهب على ما ذكرنا من التوضيح والتفصيل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذَا جَمَعَهُمَا مَسْجِدٌ صَحَّتْ الْقُدْوَةُ مُطْلَقًا، بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ)}.
إذا صلت الجماعة في المسجد فلو كان بعضهم في أول المسجد وبعضهم في آخره، فلو افترضنا أن المسجد هذا كبير كالمساجد الكبيرة في بعض المدن الآن، فجاء شخص وصاحبه متأخرًا ووجد الإمام راكعًا، فركعوا أول دخولهم لباب المسجد على يسار الباب أو عن يمينه، وبينهم وبين الإمام ثلاثين صفًا أو سبعين مترا، فيقولون: ما دام أنهما في المسجد فالمسجد بقعة واحدة فالجماعة في ذلك صحيحة.
فيقول: (فَإِذَا جَمَعَهُمَا مَسْجِدٌ)، المسجد شيء واحد، فالجماعة فيه واحدة ولو تفرَّقت.
وأظهر ما يكون هذا مثلا في المسجد النبوي وفي المسجد الحرام، خاصة وأن الناس قريبي عهد بأحداث كورونا وما تابعها، فكان يعني يتصور خلو مثل هذا المسجد -عافانا الله وإياكم من الأوبئة والبلاء وملأ الله المساجد خيرًا وعبادة وأناسا- فلو أنهم صلوا اثنين عند الكعبة واثنين في الدور الثاني وفي الدور الثالث أو في جهة توسعة الملك عبد الله في آخرها، فهو بعيد جدًا، لكن ما دام جمعهما مسجد -يطلق عليه اسم المسجد-، صح ذلك ولو تباعوا، فإذًا ما دام اسم المسجد يشملهم فهو شيء واحد وهي جماعة واحدة، لم يصر فيها البتة.
قال: (صَحَّتْ الْقُدْوَةُ مُطْلَقً)، يعني الاقتداء مطلقًا في أي حال من الأحوال، سواء بعذر أو بدون عذر، فرطوا أو توانوا أو تكاسلوا؛ لا كل ذلك لا يمنع صحة الصلاة.
قال: (بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ)، ما داموا أنهم يسمعوا "الله أكبر" في الركوع، و"سمع الله لمن حمده"، أو يروا؛ لأنَّ المكان واحد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِلَّا شُرِطَ رُؤْيَةُ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ أَيْضًا، وَلَوْ فِي بَعْضِهَ)}.
إن لم يجمعهما مكان واحد بأن كان بعض المأمومين خارج المسجد، فإذا كانوا خارج المسجد فإن الاقتداء يتعذر، والجماعة إنما في الشيء الواحد، فلا بد أن يكون شيء يجمعهم، أو يمكن أن يعتبر فيه اتفاقهم، وذلك إنما هو إنما هم يجتمعون على الإمام، ويجتمعون على الاتفاق عليه ركوعًا وسجودًا، فلأجل ذلك قال الفقهاء شُرِطت رؤية الإمام حتى يقتدون، إذا ركع ركعوا إذا قام قاموا، خاصة إذا كانوا ليسوا في المسجد فمعنى ذلك أنه سيكونون الصوت بعيدًا، خاصة في الأزمنة الأولى التي لا توجد هذه المكبرات.
قال: (أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ)، أو رؤية من ورائه لأن كل مأموم هو كالإمام لمن خلفه يقتدي به، فهذا يقتدي بهذا، وهذا يقتدي بهذا، إلى أن يقتدي الصف الأول بالإمام.
قال: (وَلَوْ فِي بَعْضِهَ)، يعني: لو كانوا يرون من في القيام من شباك، فهم إذا سجدوا أو ركعوا ففي الغالب لا يرونه، أو بالعكس إذا كان فيه نقب في أصل المسجد فإذا سجدوا رآهم، وإذا قام لم يراهم، فقد يكون ذا أو ذاك، فالمهم ما دام أنه يراهم في بعض الصلاة فصحيحٌ، فظاهر كلامهم هنا أنه لو كانوا يسمعون فقط بدون رؤية لم يكفِ ذلك، وهذا مهم للغاية، لأن الرؤية هي التي تدل على إمكان التتابع ووجود المكان الواحد، وإلا فمن في الرياض يسمعون من يكبر في مكة، ولابد من مكان واحد يجمعهم ولا يحول بينهم وبين مَن بعدهم، فتتصل الأمور، ويكون كالمكان الواحد الذي تصح فيه الجماعة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُرِهَ عُلُوُّ إِمَامٍ عَلَى مَأْمُومٍ ذِرَاعًا فَأَكْثَرَ، وَصَلَاتُهُ فِي مِحْرَابٍ يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ)}.
علو الإمام على المأموم مكروه، لأن الأصل أن يقتدوا به، وأن يكونوا كالشيء الواحد، فلا يكون بينهم اختلاف، فيفهم من هذا أنه إذا كان أقل من ذلك شيئًا يسيرًا فلا بأس، لأن النبي صلى مرة على المنبر، وكان إذا أراد أن يسجد نزل لضيق المكان، فلا بأس إذا كان أقل من ذراع، وأمَّا أكثر فلا؛ لأنَّ المأمومين شيء واحد، والكراهة ترتفع بالحاجة، فلو احتاجوا كما لو كان ضيق ولا يوجد إلا مكان مرتفع للإمام والناس تحته، فإذا احتاجوا إلى ذلك جاز، أمَّا علو المأموم على الإمام فلا غضاضة فيه، كما لو كان الإمام في الدور الأول والناس في الدور الثاني أو الثالث ونحوه، المهم أن لا يفترق الإمام عن المأمومين كأنه مختلف عنهم، والمقصود من ذلك حصول التساوي والاتفاق، فإنَّ الإمام والمأمومين في شيءٍ واحد لا يختلفون، يؤدون الصلاة لله -جَلَّ وَعَلَا- له يسجدون، وله يركعون، وله يعظمون، ويقتدون بالإمام ويستنُّون بمن تقدمهم في الركوع والسجود.
قال: (وَصَلَاتُهُ فِي مِحْرَابٍ)، صلاته في محراب يمنع مشاهدته، وكذلك في "طاق".
المحراب: هو الذي يكون في مقدمة المسجد ويدخل فيه الإمام، كره هذا بعض السف والصحابة، لأنه إذا دخل تعذر على الناس رؤيته، والمقصود من الإمامة حينما يتقدم عليهم أن يحصل به الاقتداء، وإلا كان وسطهم، فبناء على ذلك إذا دخل هذا المحراب لم يحصل المقصود في التقدم وهو الرؤية والاقتداء والاستنان به، فلأجل ذلك قالوا من أنه يُكره ذلك، ولهذا قالوا: (وَصَلَاتُهُ فِي مِحْرَابٍ يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ).
أمَّا إذا كان المحراب كما هي أكثر المحارب في هذا الزمان منفرجة بما تعرف به جهة القبلة لكن ليست عميقة بحيث إذا دخل الإمام فيها لم يُرى؛ فبناء على ذلك فهذه لا إشكال فيها، وهذا أحسن من جهة موافقة السنة وحصول الاقتداء بالإمام وعدم حصول المكروه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَطَوُّعُهُ مَوْضِعَ الْمَكْتُوبَةِ، وَإِطَالَتُهُ الِاسْتِقْبَالَ بَعْدَ السَّلَامِ)}.
جاء النهي عن (وَتَطَوُّعُهُ مَوْضِعَ الْمَكْتُوبَةِ) لئلا يظنه ناس في صلاة الفريضة، فيقتدون به فيلتبس ذلك عليهم، فيظنون أنه ابتدأ الصلاة وشرع فيها ونحو ذلك، أو إذا كان بعد الصلاة فيظنون أنه نقص من صلاتهم فقام يكملها أو يتمها، فمنعًا للبس فإنه إذا أراد أن يتنفَّل؛ فإنه يغير موضع صلاة المكتوبة استنانا بالنبي .
قال: (وَإِطَالَتُهُ الِاسْتِقْبَالَ بَعْدَ السَّلَامِ)، فإنَّ النبي من سنته أنه كان ينصرف إلى الناس إذا انتهى من صلاته، فبناء على ذلك هذا هو المستحب، إلا أنَّ الفقهاء يقولون: إلا أن يكون خلفه نساء فينتظر حتى ينصرفن، كما كان النبي ينتظر حتى إذا انصرفت النساء استقبلَ المأمومين، ولذلك كان الصحابة أو يصلون عن يمينه أول استقباله لهم -صلوات ربي وسلامه عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَوُقُوفُ مَأْمُومٍ بَيْنَ سَوَارٍ تَقْطَعُ الصُّفُوفَ عُرْفًا إِلَّا لِحَاجَةٍ فِي الْكُلِّ)}.
قوله: (وَوُقُوفُ مَأْمُومٍ بَيْنَ سَوَارٍ)، السواري: مثل الأعمدة، هذه السواري إذا كانت تقطع الصفوف، ما هي التي تقطع الصفوف؟
قالوا: إذا كانت كثيرة كثلاثة أذرع أو بمثابة وقوف ثلاثة رجال، فهذه منهي عنها، لأن الصحابة كما جاء في الحديث كانوا يتقون الوقوف في السواري، وهذا -كما قلنا- راجع إلى أصل، وهو تكميل الصفوف ورصِّها وتتميمها وعدم التفاوت فيها، أو حصول الفجوات بينها.
قال: (إِلَّا لِحَاجَةٍ فِي الْكُلِّ)، فإذا احتاج الناس إلى الوقوف بين السواري صلوا، فإن ذلك خير من أن ينتقلوا خارج المسجد، فإن صلاتهم بين السواري وانقطاع الصفوف بذلك أسهل من الصلاة خارج المسجد، والتي يفوت عليهم بها الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة ما يتبع ذلك من خير كثير، ولأجل ذلك يحصل أن خاصة مع وجود المصليات التي تحيط بالمسجد الحرام مَن يسوي الصلاة في هذه المصليات بالصلاة في الحرم، وهذا ليس بصحيح، فإن الصلاة في هذه المصليات إذا اتصلت الصفوف هي محكوم بصحة الصلاة وحصول الأجر ونحوه، لكن يفوت على الإنسان أنه لو بقي فيها بعد الصلاة ليس كبقائه في الحرم، فإنما هي تُعد لحاجة الناس إلى الصلاة إذا ضاق بهم الحرم، وإذا جاء الإنسان إليها هذه مصليات ليست مساجد، فلا تكن لها سنة راتبة، ولا يكون لها انتظار للصلاة ونحوه، فإذًا أحكامها أقل، هي جُعلت فُرجة للناس وتوسيعًا عليهم، وزيادة في التسهيل خاصة للكبار ونحوه، ولا شك أنها نعمة عظيمة، لكن ينبغي للإنسان أن يحرص على الصلاة في الحرم وأن يدخل المسجد، لأن في ذلك فوائد وثواب من جهات كثيرة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
قال: (إِلَّا لِحَاجَةٍ فِي الْكُلِّ)، يعني: فيما تقدم سواء كان التطوع في موضع المكتوبة لو لم يجد مكانًا أو إطالته الاستقبال كما إطالته الانتظار، لا يستقبل الناس لحاجة كما لو تعذر عليه ذلك لوجع في حركته، أو انتظار خروج نساء أو سواه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحُضُورُ مَسْجِدٍ وَجَمَاعَةٍ لِمَنْ رَائِحَتُهُ كَرِيهَةٌ مِنْ بَصَلٍ أَوْ غَيْرِهِ)}.
النبي نهى عن ذلك، وبين أنَّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم؛ ولأنَّ هذا موضع صلاةٍ وتعظيمٍ، قال : «مَن أكَلَ مِن هذِه الشَّجَرَةِ -يَعْنِي الثُّومَ- فلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَ»[3]، فنهى النبي عن ذلك، والمشهور في المذهب أنَّ هذا على سبيل الكراهة.
ومثل ذلك ما كان شأنه شأن الكراث، فإذا كان ذلك منهيًّا عنه مع إباحته فما كان منهيًا عنه مع حرمته أولى، كمن به رائحة دخان، أو غير ذلك من الروائح الكريهة، فإنَّ مَن كانت هذه حاله فإنما يحصل بتفويت حضور المسجد له من الأجر والمثوبة أقل مما يحصل للناس من الأذية، فإذا كانت روائحه تنبعت منه رائحة مقززة من فمه أو من آباطه أو من سوى ذلك فهو معذور يصلي في بيته، ويمنع عن الناس أذاه أخف من أن يأتي ويحصل للناس أذاه ويتكرَّهون الجلوس في المسجد والبقاء للطاعة والخشوع فيها وما يتبع ذلك من الأجر والمثوبة، حتى لو كان ذلك المسجد في موضعٍ لا يدخله إلا هم، فإنَّ محل العلة هو تأذي الملائكة، وتأذي بني آدم على حال سواء، كما جاء في ألفاظ الحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُعْذَرُ بِتَرْكِ جُمُعَةٍ وَجَمَاعَةٍ مَرِيضٌ، وَمُدَافِعُ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ وَمَنْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ)}.
لَمَّا حقَّق المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أحكام الجماعة ووجوب حضورها ولزوم إجابة النداء إلى غير ذلك مما تقدم بيانه وإيضاحه؛ أراد بعد ذلك أن يبيِّن من هو المعذور في إتيان الجمعة والجماعة، فإذا كان الإنسان مريضًا يخاف زيادة مرضه، أو بطء شفائه وعلاجه، أو يشق عليه ذلك مشقة بالغة، أو يخاف حصول المرض؛ فكل هؤلاء معذورون من إتيان الصلاة، ومحكوم بسقوط الوجوب عليهم فيما إذا صلوا في بيوتهم.
قال: (وَمُدَافِعُ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ)، الأخبثان: يعني: البول أو الغائط، فإنَّ من يدافع الأخبثين ينشغل، والصلاة حالها حال الخشوع والخضوع، والإقبال على الله -جَلَّ وَعَلَا- والتأمل في الآيات والتدبر، وتعظيم الله بالتسبيح والتعظيم والتهليل والتكبير، والخضوع له عند الدعاء والإخبات له عند السؤال؛ فكل ذلك لا يتأتى لمن كان مدافعًا لأخبثيه، يقال: يدافعه الأخبثان أو يدافع الأخبثين؛ لأنها مدافعة من هذا وذا، فهذا يدفعها ألا تخرج وهي تدافعه لطلب الخروج.
ويقال لمن احتبس بوله: حاقن. ومن احتبس غائطه: حاقب.
وفي مثل ذلك يقول الفقهاء: ما تشتد به شهوته، كما لو كان به شهوة لزوجه، ومن به شبق، فهذا نصَّ عليه الفقهاء بأنه داخل في مثل هذه المسألة من باب أولى.
ومثل ذلك أيضًا كما قال ابن عقيل وغيره: إذا زُفَّت إليه فهي بمثابة ذلك وقريب منه.
قال: (وَمَنْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ)، إذا حضر الطعام وهو محتاج إليه فأيضًا تقلق نفسه، وتتحرك رغبته فربما انشغل في صلاته، ولذلك جاء عن النبي : «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أحَدِكُمْ وأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَؤُوا بالعَشَاءِ»[4]، وجاء هذا عن ابن عمر، ومحفوظ ذلك عن السلف -رحمهم الله تعالى.
وهنا قال: (الطعام)، فيخرج من ذلك الشراب، لأن الشراب لا يحتاج فيه إلى وقت طويل، وما يحصل الآن من شرب للشراب الحار ونحوه، هل يكون بمثابة الطعام أو لا؟
هذا يتوقف على: هل تكون الحاجة إليه مثل الحاجة إلى الطعام تقوية وإذهابًا للجوع وحصولًا للراحة أو لا؟ ومع النظر يبعد قياسه من كل وجه، لكنه قد يحتمل في بعض الأحوال، وكلام الفقهاء ظاهره متعلق بالطعام الذي يحتاجه الجسم ووقته طويل، فلأجل ذلك لم يذكروا ما يتعلق بالشراب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَخَائِفٌ ضَيَاعَ مَالِهِ أَوْ مَوْتَ قَرِيبِهِ أَوْ ضَرَرًا مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ)}.
قوله: (وَخَائِفٌ ضَيَاعَ مَالِهِ)، كما لو كان له دواب، يخاف إن ذهب أن تتيه وتذهب فلا تجتمع، وليس له أحد يمسكها وليس له حظيرة تحفظها، ومثل ذلك إذا كانت له أغراض اشتراها ولا يجد مكان يحرزها فيه ويمنع عنها العادي والسارق المتلصص، أو كان عاملًا يحرص مكانا فهذا قوته وطلبه لرزقه؛ فنص الفقهاء على أن ذلك مُسقط للجماعة، ومثل ذلك من خبز خبزه يخشى إن ذهب أن يحترق أو طعامه وغداءه، ونحو ذلك من الأشياء أن قليلة أو كثيرة.
قال: (أَوْ مَوْتَ قَرِيبِهِ)، كمن له قريب يخاف أن ينقطع عنه علاجه، أو تتوقف عنه الآلة التي تساعده، أو يحتاج إلى علاج عند حصول تعثر في نفسه أو غير ذلك.
قال: (أَوْ ضَرَرًا مِنْ سُلْطَانٍ)، كما لو كان السلطان ظالمًا -نسأل الله السلامة والعافية- فيترصد به جند أو يُراد به سوء، وهذا ذكر في أحوال مرَّت على الفقهاء واحتيج إلى ذكرها، فالمهم أنَّ المقصود: أنه إذا لحقه ضرر في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ مُلَازَمَةَ غَرِيمٍ وَلَا وَفَاءَ لَهُ، أَوْ فَوْتَ رُفْقَتِهِ وَنَحْوِهِمْ)}.
المطر نحو ذلك لأنه جاء في حديث ابن عمر: «صَلُّوا في رِحالِكُمْ»[5]، مثلًا اشتد المطر في صلاة الفجر بين يدي الصلاة، أو في صلاة الجمعة، فيطلب من الناس أن يصلوا في رحالهم، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس فإنه آتٍ عند البخاري في صلاة الجمعة، ولو كانت جمعة فالعذر للناس مشروع، والعفو عن ذلك حاصل، ولا غضاضة في ذلك ولا إشكال.
قال: (أَوْ مُلَازَمَةَ غَرِيمٍ وَلَا وَفَاءَ لَهُ)، لو كان إنسان عليه دين ويتربص به غريمه وهو لا يستطيع الوفاء، وهو ليس مماطل، أو يجد قدرة على الوفاء ولا يفي، هذا إن ذهب فإنه يلحقه من الذل ويلحقه من العار ويلحقه من الأذى في ملازمة ذلك الغريم، ويراه الناس وهو يتبعه، والأصل إنظاره، الله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ ، فبناء على ذلك له أن لا يخرج وأن يصلي في داره.
قال: (أَوْ فَوْتَ رُفْقَتِهِ وَنَحْوِهِمْ»، الآن مثل الطائرات، إذا جلس يصلي أغلقوا الباب وذهبوا! هذا يصلي إذا وصلَ، إذا كانت الصلاة تصلى قبل خروج وقتها أو الوقت الذي تُجمع اليه، وإذا أمكنه أن يصلي في الطائرة في مكان كامل بركوع وسجود ونحوه كما هو غالب صلى كذلك، وإن لم يمكنه صلى بحسب ما يأتي له، وسيأتي ذلك بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في صلاة أهل الأعذار مما يتبع ذلك مباشرة.
فإذًا إذا خاف فوات الرفقة فلا تلزمه الجماعة، إذا كانت السيارة هذه لا تأتي إلا هذا الوقت ثم تذهب، فإن ذهب يصلي لم يجد ما يوصله إلى بيته ولا يرده من عمله أو نحو ذلك، ففي الشرع فسحة ورفع للحرج وتيسير على الناس فيما اشتد عليهم.
ومَن تعذر عليه الجماعة بعذر من هذه الأعذار فهو مأجور فيما نواه، ومعذور فيما حصل له؛ لأنَّ النبي كما في الحديث الذي في البخاري: «إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً»[6].
بقيت مسألة نختم بها وهي: أن صلاة الجماعة متعينة، هل تتعين في المسجد أو لا؟
المشهور عند الحنابلة -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- وهم من أشهر القائلين بوجوب الصلاة: أنها كيفما تحققت صلاة الجماعة حصل بذلك المقصود؛ لأنَّ النبي قال: «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ»[7].
شيخ الإسلام شدد في ذلك وجعلها لابد أن تكون في المسجد، وأن حصول الجماعة إنما هو يكون بذاك.
فعلى كل حال؛ لا شك أن حصول الصلاة في المساجد والسعي إليها من أعظم ما يُوفَّق له العبد، ويعمَر به وقته وقلبه، ويصلح به عمله، وتستقيم به أموره؛ لكن لو تعذر عليه ذلك فالجماعة تتأتى بما اجتمع إليه من زملاء في عملٍ أو في مدرسةٍ أو في مستشفى أو غير ذلك مما تعرض للناس الصلاة فيه فيصلون، فلا غضاضة عليهم في ذلك ولا حرج إذا صلوا في ذلك، النبي لما عاده من عاده من أصحابه في مشربته صلى بهم وصلوا معه، فدل ذلك على أن الجماعة تتأتى بأي حال.
كما قلنا: إن هذا ليس هو باب للتخلف عن صلاة المساجد ولا الضعف فيها، ولا التقاعس عن سنن ومستحبات والتنافس في الأجور؛ وإنما هو بيان لما يلحق به الإنسان الإثم، أو يخشى فيه من الحرج، أو تلحقه من التبعة عند الله -جَلَّ وَعَلَا-.
والله يتولانا برحماته، والله يبلغنا الخير والبر والطاعة، والله يسعدنا إلى الخير ويعيننا عليه، ويجعلنا ممن بادر وسبق، وممن نافس وحصَّل، وممن كُتب من عباده المخلصين المجاهدين، الذين يطلبون الخير ويوفَّقون له، وأن لا يخذلنا وألا يكلنا إلى أنفسنا، أن ربنا جواد كريم.
{اللهم آمين، بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستكمل ما بقي في المجالس القادمة إن شاء الله، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1] السلسلة الضعيفة (6511).
[2] فتح الباري (2/313).
[3] صحيح البخاري (853).
[4] صحيح البخاري (673).
[5] صحيح البخاري (632).
[6] صحيح البخاري (2996).
[7] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك