الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

57330 18
الدرس الخامس عشر

أخصر المختصرات

{الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيِّنا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم التسليم.
ثم أمَّا بعد، فأرحب بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان في مجلس جديد لمجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات طلاب العلم، والطالبات ومن حضر هذا المجلس المبارك، أسأل الله أن يتم علينا وعليكم النعم الظاهرة والباطنة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً، وَفِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ تشديدةً)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الموفقين، وأن يجعلنا من المتقين الذين إذا أعطوا شكروا وإذا أذنبوا استغفروا وإذا نسوا تذكروا، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ)، يعني: المصلي سواء كان إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا إن تيسر له ذلك، وسيأتي بيان وتفصيل ما يتعلق بقراءة المأموم مع إمامه.
والفاتحة هي فاتحة الكتاب، بها تفتتح الصلاة وبها يفتتح كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-، ولذلك سُميت الفاتحة، وهي أعظم سورة في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-، كما جاء عند مالك في الموطأ أنَّ النبي ﷺ قال: «لَم ينزَل في التَّوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزَّبورِ، ولا في الفُرقانِ مِثلُه»[1]، ومما يدل على عظيم فضلها ما سميت به في الحديث أنها الشافية الكافية، وأعظم ما جاء في ذلك: «بيْنَما جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النبيِّ ﷺ، سَمِعَ نَقِيضًا مِن فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقالَ: هذا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ اليومَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا اليَومَ، فَنَزَلَ منه مَلَكٌ، فَقالَ: هذا مَلَكٌ نَزَلَ إلى الأرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا اليَومَ، فَسَلَّمَ، وَقالَ: أَبْشِرْ بنُورَيْنِ أُوتِيتَهُما لَمْ يُؤْتَهُما نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ»[2]، هذه السورة التي طالما قرأناها ولم نتمعَّن في آياتها، وربما خشعَ الإنسان وخضع عند آيات كثيرة من كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-، لكنه لم يرعِ سمعه ليكون أكثر خشوعًا عند هذه الآيات وما اشتملت عليه من المعاني وما فيها من الأسرار والتدبرات العظيمة التي لا ينفك المسلم من الحاجة إليها، ولذلك وإن طال الحديث فإننا بحاجة إلى أن نقف معها وقفات لطيفة.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً)، فلا يقطع الفاتحة فيقرأ نصفها ثم يقرأ سورة ثم يعود فيكملها! وإنما لابد أنَّ تكون مرتبة، آية بعدها آية دونما تغيير لنظم هذه السورة وتقديم لمؤخر أو تأخير لمقدَّم، وأن تكون متوالية مثل ما ذكرنا.
قال: (وَفِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ تشديدةً)، ما الذي نستفيد من قول الحنابلة -رَحِمَهُ اللهُ- إحدى عشرة تشديدة؟
هو تنبيه على أنَّ المصلي يلزمه تلاوة هذه السورة على نحو ما نزلت بتشديداتها؛ لأنَّ كثيرًا من النفوس جبلت حتى ولو كان عارفًا بالقراءة أن يخفِّف، خاصة الذي لا يستحضر، فاحتاج المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- أن ينص على التشديدات، والمقصود بذلك أنَّ تُعرب إعرابًا تامًّا فلا يرفع منصوبًا ولا ينصب مرفوعًا ولا يُغير نظمها، ولا تُفوَّت تشديداتها فتخفَّف فيتغيِّر المعنى فيفوت المقصود من هذه السورة، ومن المعلوم أنَّ ذلك قد يكون مفسِدًا للصلاة إذا تعمَّده الإنسان أو كان مغيِّرًا للمعنى، كقوله كقراءته "أنعمتُ" بدل "أنعمتَ" فأسند الإنعام إلى نفسه والمنعم هو الله -جَلَّ وَعَلَا- فكان لابد على القارئ أن يقول: "أنعمتَ" يعني إشارة إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- المنعم على العباد بالنعم الظاهرة والباطنة، ويُرى تفريط كثير في ضبط قراءة سورة الفاتحة وإنا لنرى أناسا يتقدمون الناس في صلوات فوائت في المساجد فيقرأون فيلحنون في قراءتها، ولقد وقفتُ على ما اختُبر به أناس كثير لم يخلُ على الأقل عشرون بالمئة من الإخلال بالفاتحة، منهم خمسة بالمئة ممن لم يحفظ الفاتحة أو يقيمها، وهم متعلِّمون وهم يقرأون ويكتبون، وهم أصحاب شهادات، وهم يحسنون هذه الحواسيب، واستعمال هذه المعدات الجديدة والمقتنيات الحديثة من إلكترونية أو سواها، فيجب على المسلم أن يعلم أنَّ بهذه تصح صلاته، وأنَّ تفريطه فيها لا يعفيه جهله أو عدم قراءته، فلابد أن يتعلمها، وأن يعيد تعلمها وأن يقرأها على شيخ حتى يستقيم على ذلك لسانه.
قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سأبين التفسير لأنَّه يحتاج إليه، فـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هي حمد والثناء، و"أل" للاستغراق، فكل المحامد والثناء مستحقٌّ لله -جَلَّ وَعَلَا- لا لأحد سواه، لذاته ولصفاته ولأفعاله ولإحسانه إلى عباده، يُحمد الله -جَلَّ وَعَلَا- وهو المحمود في كل حال حتى لا يُحمد أحد على ضر إلا الله -جَلَّ وَعَلَا-، والحمد هو ثناء مع الحب، وهذا هو الفارق بينه وبين المدح كما تقدم الإشارة في أول الكتاب فيما استفتح به كتابه من حمد الله والثناء عليه.
قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يعني بما ربَّاهم من النعم، والله -جَلَّ وَعَلَا- أحوج إلى أنَّ نحمده، ونِعم الله تترا وتتتابع علينا، فينبغي للإنسان أن يحمد الله وهو مستشعر لأنَّه يحمد الله الذي يُنعم عليه، يحمد الله الذي يستحق الحمد، يحمد الله الذي ينبغي أنَّ تلهج بذلك ألسنتنا على ذلك، نقوم ونقعد ونصبح ونمسي، في صلواتنا وخارجها، ولذلك جاء في الحديث: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَ»[3].
قوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إشارة إلى رحمة الله الواسعة العامة للمسلم والكافر، والرحيم إشارة إلى الرحمة الخاصة بأهل الإيمان.
قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ هي إشارة إلى أنَّ الله مالك اليوم الآخر الذي يجتمع فيه الأولين والآخرين، وهذه الثلاث آيات: أولها ﴿الْحَمْدُ﴾ فيه الحب، و ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فيه الرجاء، و ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ فيه الخوف، قال أهل العلم: وهذه أركان العبادة، ولذلك يقول المصلي بعدها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ، فتأهَّلت النفس واستحضرت أركانها فأعلنت بـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي: المعبود الله -جَلَّ وَعَلَا- لا أحد سواه، فـ "إياك" في تقديمها حصر وتخصيص بأن يُعبد الله ولا يُعبد أحد سواه.
وقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إشارة إلى أنَّ الله هو المعين لعبده في كل شيء حتى في العبادة، فلا يستحضر الإنسان يوما من الأيام أو في عمل من الأعمال وإن كان يسيرًا أنه قادر على ذلك دون الله -جَلَّ وَعَلَا-، حتى حركة هذه الأصبع، حتى حركة هذه الأرمش، حتى هذه الأنفاس التي تدخل وتخرج دونما شعور لو أراد الله استبقائها لبقيت أو نقصها لنقصت أو توقفها لتوقفت، ولَتفلَّتت الروح وذهبت، ولكن لا يستشعر الكثير من الناس.
قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ، طلب من الله الهداية، والهداية المقصود بها الهداية العامة، يعني في كل الأمور، هداية في العبادة، هداية في الصلاة، هداية في الطاعات، هداية فيما يأتيه الإنسان من رزقه ويطلبه من عيشه، وإصلاح زوجه، وإتمام بيته، وتهذيب ولده وتربيتهم، وكل الأمور يحتاجه الإنسان فيها إلى الهداية.
ثم أتم الهداية ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وهي الهداية للصراط المستقيم، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ثم تتعوذ من طريقين:
طريق المغضوب الذين علموا ولم يعلموا، وهذه صفة وخصلة في اليهود ظاهرة، وفي كل من شابههم من هذه الأمة فقد شابه أمة قد جاء الذَّم الوعيد لها في كتاب الله.
وطريق الضالين وهم الذين عملوا وتعبدوا على غير بصيرة ولا علم، وهم النصارى ومن شابههم من هذه الأمة، فمن سلم من ذلك فقد سلم بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- من الانحراف والضلال والزيغ.
والله -جَلَّ وَعَلَا- كما في حديث أبي هريرة: «فإذا قالَ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ﴾ قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ»[4]، ولأجل ذلك كان من أحسن ما يقول العبد إذا فرغ "آمين"، وهي اسم فعل بمعنى: اللهم استجب. يقول ذلك الإمام والمأموم والمنفرد كلهم يقولونها، فإنَّ النبي ﷺ قالها ومدَّ بها صوته، قال في الحديث الذي في الصحيح: «إِذَا أمَّنَ الإمَامُ، فأمِّنُوا، فإنَّه مَن وافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلَائِكَةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»[5].
{أحسن الله إليكم. قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا فَرَغَ قَالَ: "آمِينَ" يَجْهَرُ بِهَا إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ مَعًا فِي جَهْرِيَّةٍ وَغَيْرِهِمَا فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ)}.
هذا هو مشروع المذهب عند الحنابلة وقول الجمهور خلافًا للحنفية -رحمهم الله تعالى- فيجهر بها الإمام، وكان النبي ﷺ يمد بها صوته.
قوله: (وَمَأْمُومٌ مَعًا فِي جَهْرِيَّةٍ)، أمَّا في السرية فلا.
قوله: (وَغَيْرِهِمَ)، يعني فيما يجهر به فيمن له الجهر، فيجهرون كما يجهر الإمام والمأموم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُسَنُّ جَهْرُ إِمَامٍ بِقِرَاءَةِ صُبْحٍ وَجُمُعَةٍ وَعِيدٍ وَكُسُوفٍ وَاسْتِسْقَاءٍ، وَأُولَيَيْ مَغْرِبٍ وَعِشَاءٍ، وَيُكْرَهُ لِمَأْمُومٍ، وَيُخَيَّرُ مُنْفَرِدٌ وَنَحْوُهُ)}.
جهر الإمام في الصلاة الجهرية التي هي المغرب والعشاء والفجر في الصلاة الفرض وصلاة الجمعة: سنة، فلو أنَّ إمامًا صلى فلم يجهر بصلاته فإنَّ صلاته صحيحة، ولو أنَّ إمامًا صلى فنسي الجهر فتذكر في أثناء الصلاة لم يلزمه أن يبتدأ القراءة من أولها؛ بل له أن يجهر فيما وقف عليه؛ لأنَّ الجهر في ذلك سنة، فلو أسرَّ فلم يسمعه المأمومين لم يكن ذلك قادحًا في صحة صلاته ولا صلاتهم؛ لأنَّ بعض الناس يظن أنه إذا لم يجهر بالصلاة أنه قد فات صحتها أو أنَّ الإمام قد أخل بشيء عظيم، لا؛ إنما ذلك سنة كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
ومثل ذلك الخسوف والاستسقاء فإنه يستحب فيهما الجهر، وسيأتي تفاصيل ذلك في محله بإذن الله.
قوله: (وَأُولَيَيْ مَغْرِبٍ وَعِشَاءٍ)، أي: الأوليين من صلاة وصلاة العشاء وركعتي الفجر كلها يجهر بها.
قال: (وَيُكْرَهُ لِمَأْمُومٍ)، أمَّا المأموم فيكره له الجهر:
أولًا: لأنَّه خلاف السنة.
ثانيًا: لما يفضي إلى التشويش على المأمومين وعلى الإمام، ولذلك جاء عن النبي ﷺ أنه عن نهى عن القراءة خلفه، قال: «لَا تَفْعَلُو».
وقال أهل العلم: إنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- لما قال لما أنزل قوله: ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204] بإجماع أهل العلم أنَّ ذلك في الصلاة، ولذلك لا يجب الإنصات للقرآن خارج الصلاة، وإنما هو مستحب ومندوب إليه لكنه ليس بواجب، أمَّا في الصلاة؛ فإنه متأكد لازم وفي ذلك نزلت الآية.
قال: (وَيُخَيَّرُ مُنْفَرِدٌ وَنَحْوُهُ)، إذا صلى منفردًا صلاة المغرب أو العشاء لكونه معذورًا أو لكونه قد فاتته أو لغير ذلك؛ هل يجهر أو لا يجهر؟
هذا مبني هل تعلقها بالجماعة؟ أو تعلقها بصلاة الليل ونحوها؟ لأجل ذلك الحنابلة جعلوا الأمر فيه سعة، فيُخيَّر المنفرد بين أن يجهر وبين سواه فهما على حد سواء في الحكم والاعتبار.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَهَا سُورَةً فِي الصُّبْحِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَالْمَغْرِبِ مِنْ قِصَارِهِ، وَالْبَاقِي مِنْ أَوْسَاطِهِ)}.
هذا هو المستحب للإمام وللمنفرد إذا صلوا، وأمَّا المأموم فإنه تبع لإمامه، يستحب أن يقرأ من طوال المفصل، هذه هي السنة الغالبة للنبي ﷺ، المفصل يبدأ من سورة ق إلى سورة الناس، طواله من ق إلى عم يتساءلون، ومن عم إلى الضحى أوساطه، ومن الضحى إلى الناس قصاره، يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فِي الصُّبْحِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ)، فيقرأ مثلا ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورً﴾ [الإنسان: 1] في الأولى وفي الثانية المرسلات، أو يقرأ بتبارك و ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ سورة القلم، هذا هو المستحب، وهذا هو الغالب من حال النبي ﷺ.
ويقرأ في الظهر والعصر والعشاء من أوساطه، مثل: سبح والغاشية والطارق والبلد، وما شابه ذلك من أوساطه.
أمَّا المغرب فيستحب من قصاره، والعجب كل العجب أنَّ كثيرا من الناس في هذا الوقت لا يكادون يواظبون أو يُظهرون السنة في ذلك، فأكثر ما يقرأ الناس في المغرب أو في غيرها من عرض آيات من كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- من غير المفصل، وهذا خلاف السنة، وقد جاء عن النبي ﷺ غيرها كما جاء أنه قرأ في المغرب مثلا بالطوال كما قرأ بالأعراف ومرة قرأ بالطور ومرة قرأ بالصافات، لكن هذا خلاف العادة الغالبة، فنحن نتكلم عن العادة الغالبة.
كذلك إذا كان الإمام يقرأ من قصار المفصل فقرأ مرة من آخر سورة النحل أو آخر سورة الكهف أو نحوها لا بأس، لكن لا ينبغي للإنسان خاصَّة لمن تعرَّض وتصدَّى أن يكون إمامًا للمسلمين، فإنه ينبغي له أن يحرص على تمام الصلاة وكمالها، وأن يحرص الإتيان بالسنن ويتحرَّاها، ولذلك جاء في الحديث: «الإِمَامُ ضَامِنٌ»[6]، فكل ما يكون من تمام سواء كان من الواجبات أو المستحبات فهو في ميزان حسناته، وأيضًا يُؤجَر بتتميم صلاة المأمومين، فهذا من الأشياء التي كثرت، وكذلك تقصير صلاة الفجر بالمرة، فإنَّ صلاة الفجر مما يطلب تطويلها، وكانت هذه سُنة نبينا ﷺ فيها، فينبغي أن يلحظ المصلي اتباع سُنة النبي ﷺ في ذلك، ويجاهد نفسه عليها.
{أحسن الله إليكم. قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَرْكَعُ مُكَبِّرًا رَافِعًا يَدَيْهِ، ثُمَّ يَضَعُهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُفَرَّجَتَيِ الْأَصَابِعِ وَيُسَوِّي ظَهْرَهُ، وَيَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ" ثَلَاثًا، وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَالِ)}.
يعني بعد أن ينتهي من القراءة يركع، مكبرًا قائلًا: "الله أكبر"، ويرفع يديه إلى حذو منكبيه، ثم يضعهما على ركبتيه مُفرجتي الأصابع، والتكبير بين الانتقالات عند الحنابلة واجب وسيأتي بيانه، خلافًا لجمهور أهل العلم الذين يرونه مستحبًّا.
وعند الحنابلة يشددون في أنه لا بد أن يكون التكبير حال الانتقال، فلا يكبر في حال قيامه، ولا يكبر في حال ركوعه، ولو فعل ذلك لبطلت صلاته عندهم، لكن المحققين من الحنابلة كابن رجب -رَحِمَهُ اللهُ- وغيره قالوا: لو تداخل فبدأ في الانتقال ودخل وهو راكع أو انتهى عند الركوع، فإن هذا مما لا يُسلم منه، فلأجل ذلك قالوا بعدم بطلان الصلاة في ذلك، لكن ينبغي للإنسان أن يحرص على الحفاظ على ذلك طلبًا للتمام والكمال.
قال: (ثُمَّ يَضَعُهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُفَرَّجَتَيِ الْأَصَابِعِ) هذه هي السنة، وتكون يده ممدودة يعني ما يزويها أو يميلها فلابد أنَّ تكون ممدودة، فلو جعلها في غير ذلك لم يمنع ذلك صحة صلاته، وهذا آخر الأمر، وكان في أول الأمر التطبيق كما جاء في الحديث الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص «صَلَّيْتُ إلى جَنْبِ أبِي، فَطَبَّقْتُ بيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وضَعْتُهُما بيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أبِي، وقالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ، فَنُهِينَا عنْه وأُمِرْنَا أنْ نَضَعَ أيْدِينَا علَى الرُّكَبِ»[7]، وهذه نسخت واستقرت السنة على هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُسَوِّي ظَهْرَهُ، وَيَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ" ثَلَاثًا، وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَالِ)}.
الركوع تمامه أن يسوي ظهره برأسه، فيرفع رأسه لا ينزله ولا يرفعه أكثر بل يكون مساويًا لظهره مستقيما.
وأدنى الركوع الذي تصح به الصلاة: أن ينحني معتدل الخلقة -يعني المتوسط- حتى تمس يديه ركبتيه، أمَّا من كان يداه طويلتان فيقولون بقدر المعتدل، يعني لابد أن ينحني بظهره إنحناء كانحناء المعتدلين، معنى ذلك أنَّ شخص له أمال رأسه هكذا قليلا بدون أنَّ تصل يد المعتدل إلى ركبتيه فإنه لم يركع ولم تصح صلاته في تلك الحال ولم يؤدي الركوع الذي أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- به.
فإذًا الركوع له حدُّ وجوب ولزوم وحدُّ كمال وتمام وهو أن يسوي ظهره ويستقيم مع رأسه وينظر في ذلك إلى موضع سجوده.
قال: (وَيَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ")، وهذا جاء في السنن وهو محل اتفاق «فأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ عزَّ وجلَّ»[8]، وفي الحديث: «لمَّا نَزَلَتْ: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: اجْعَلوها في رُكوعِكم»[9] كما جاءت بذلك السنة، وأن يجعل ذلك ثلاثًا والكمال عشر، وبعد العشر يمكن أن يكون الإنسان له من الأذكار التي وردت في حال الركوع ما ينشغل به، وليس أنه يعني العشر هي للركوع ثم يقوم، لا؛ المقصود أنَّ كمال الركوع في الذكر أن يأتي بعشر، بعد ذلك إذا أراد أن يطيل ركوعه فيعظِّم الله -جَلَّ وَعَلَا- بما شاء وبما جاء من الأحاديث، مثل: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ المَلَائِكَةِ والرُّوحِ»[10]«سبحانَ ذي الجبروتِ والملكوتِ والكبرياءِ والعظَمَةِ»[11]، ونحو ذلك مما ورد عن النبي ﷺ.
وبعض الحنابلة قال: لا حدَّ لأكثره فيمكن أن يزيد، وسيأتينا أنَّ الركوع بقدر القيام والسجود، أو أنَّ بينهما نسبة وتناسب على ما جاء في حديث البراء ابن عازب: «كانَ رُكُوعُ النبيِّ ﷺ وسُجُودُهُ وبيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وإذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ما خَلا القِيامَ والقُعُودَ قَرِيبًا مِنَ السَّواءِ»[12]، ما يعني أنه قريب من السواء أنه إذا وقف ثلاث دقائق أن يركع ثلاث دقائق، قال أهل العلم: أن يطيل في الركوع والسجود بقدرِ ما يطيل في القيام، فإذا أطال القيام بالمرة فيطيل الركوع أكثر مما يعتاد، وهكذا وهذا يبينه ما جاء في صفة صلاة النبي ﷺ في الكسوف على ما سيأتينا بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
قول: "سبحان ربي العظيم" واضح معناها، فإنه تسبيح لله وتنزيه له، فهو العظيم في قدره وصفاته وذاته سبحانه وتعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ مَعَهُ قَائِلًا: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" وَبَعْدَ انْتِصَابِهِ: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ" وَمَأْمُومٌ: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" فَقَطْ)}.
لو أنَّ المصلي اقتصر على سبحان ربي العظيم واحدة فإنه يتأتَّى بها المقصود ويأتي بالواجب في ذلك، ثم بعد هذا يرفع رأسه من الركوع.
قوله: (يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ) يعني يرفعهما مكبرًا، كثير من الناس حتى من طلبة العلم خاصة في القيام من الركوع ينشغل عن رفع يديه إلى حذو منكبيه، وينبغي للإنسان أن يحرص على تمام صلاته كما قلنا في أول الصفة، كان الصحابة يفضلون على بعض بقدر ما كانوا يعرفون بضبطهم لصفة صلاة رسول الله ﷺ، ومَن كان لصلاته أشد حرصًا يوشك أن يكون توفيقًا في سائر أموره، وهي قاعدة لا تكاد تنخرم البتة، ومن أخل ولو قليلًا أو توانى وتأخَّر حتى في السنن والمستحبات في الصلاة، أو فعل بعض المكروهات؛ يوشك أن يكون ذلك منتقلًا إلى سائر حياته، والموفق مَن وفقه الله -جَلَّ وَعَلَا.
فإذًا يرفع يديه قائلا: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" وهي اعتراف بأن الله يسمع من حمده سمعَ إجابة وإثابة وإعطاء، سبحانه تعالى.
بعد أن يقف تماما يقول: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" والمأموم إذا سمع الإمام يقول: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" يقول: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" ولا يقول: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة خلافا للشافعية، الشافعية وبعض الفقهاء يقولون: إنه يقول مثل الإمام: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، وأصل ذلك عند الحنابلة قول النبي -ﷺ: «إذا قالَ الإمامُ : سَمعَ اللَّهُ لمن حمدَهُ، فقولوا: اللَّهمَّ ربَّنا لَكَ الحمدُ»[13] فَفَرَق بينهما فدلَّ على أنَّ ذكر المأموم يقتصر على قول "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ".
ويزيد: "مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ" أو "ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه"، جاء في هذا أنَّ أحد الصحابة قالها، فقال ﷺ: «مَنِ المُتَكَلِّمُ قالَ: أنَا، قالَ: رَأَيْتُ بضْعَةً وثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَ»[14]، يقول بعض شراح الحديث: فتعجبت من أنه بضعة وثلاثين ملكًا، يقول: فنظرت فإذا أحرفها بضعة وثلاثين حرفًا، فكأن كل ملك رفع حرفًا، وهذا يدل على عظم هذا الذكر العظيم الذي تصدَّى له هؤلاء الملائكة مع ما جعل الله -جَلَّ وَعَلَا- لهم من الخلقة والقوة والخصيصة التي اختصهم الله -جَلَّ وَعَلَا- بها ليبان عظيم الثناء على الله وما يُفتح على العبد بسبب اللهج بذلك واستشعار هذه المعاني العظيمة.
طبعا عند الحنابلة أنه يقتصر على قول "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، وليس في ذلك يفسر ذلك الاقتصار؟! وإلا فالأصل أنَّ الأذكار الثابتة للإمام ثابتة للمأمومين سواء بسواء، ولذلك على المفتى به عندنا وقول كثير من المحققين أنه يقول كما يقول الإمام: "ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركاً فيه، ملء السماوات وملئ ما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد"، وفيه أدعية جاءت في الأحاديث الصحاح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ)}.
لاحظ أنه قال: (ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ) ولم يقل: "يرفع يديه"، فليس هذا بموضع من مواضع رفع اليدين، أمَّا التكبير فلا إشكال في أنه موضع له، فأمَّا ما جاء عن النبي ﷺ أنه «يرفع يدَيه في كلِّ خفضٍ ورفعٍ» وإن صححه بعض المتأخرين لكنه عند أهل العلم المتقدمين من أهل الحديث أنَّ فيه ضعف ولين وأنه لا يقاوم ما جاء في الأحاديث الصحيحة أنَّ محلَّ رفع اليدين: عند الابتداء الصلاة: وعند الركوع: وعند الرفع منه: وعند الرفع من التشهد الأول وهذا عند ابن عمر، وإن كان الحنابلة لا يقولون به وسيأتي الكلام عليه، وذكروا موضعين آخرين ليس هذا موطن ذكرهما يمكن نذكرها في موطنها وهي محل كلام.
فيقول المؤلف: (وَيَسْجُدُ)، كيف ينزل للسجود؟
قال: (عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ) جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا سَجدَ أحدُكم فلا يَبركُ كما يَبركُ البعيرُ»[15]، هل حديث وائل بن حجر وفي حديث أبي هريرة، في حديث وائل بن حجر «إذا سجَدَ يضَعُ رُكبَتَيْه قبلَ يَدَيْه»[16]، وفي حديث أبي هريرة: «وليضع يَديه قبل رُكبَتيه»[17]، والكلام في هذا طويل جدًّا، لكن الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- وقد جاء هذا عن بعض الصحابة عن عمر وابن عمر وغيره أنَّهم قدَّموا النزول بالركبتين، والأمر في ذلك فيه فسحة، وليست كطريقة بعض المحدثين الذين يقولون: بوجوب هذا أو غيرهما.
كيف نقول في هيئة بروك البعير؟
قال بعض للعلم: إنَّ المقصود بذلك ألا ينحني من أول نزوله، بل إذا أراد المصلي أن يهوي ساجدًا، والهوي أن ينزل باستقامته حتى إذا وصل إلى الأرض انحنى، سواء قلنا قدَّم ركبتيه أو يديه.
والظاهر -والله تعالى أعلم- أنَّ الانحناء من أول وهلة هو الذي يساوي بروك البعير ويشابهه، وقد نهينا عن مشابهة الحيوانات في الصلوات، فبناء على ذلك كيفما نزل بعد ذلك بركبتيه أو بيديه فيه سعة ولا يكون باركًا بروك البعير.
أمَّا مَن انحنى من أول وهلة لغير حاجة وهو قادر وفيه قوة -لأنَّ بعض كبار السن لا يقدر، وهذا ليس محل الحديث- من كان قادرًا فانحنى فيوشك أن يكون حصلت منه المنهي عنها، فإذًا يضع ركبتيه وهذا مشهور المذهب وبناء على حديث وائل بن حجر وتقديم الحنابلة له، وما جاء عن الصحابة وجعلوا ذلك مقويًا لما جاء في الحديث وإن كان فيه نوع ضعف.
قال: (ثُمَّ يَدَيْهِ)، وهذا ظاهر إذا وضع ركبتيه أولًا.
قال: (ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ) فالنبي ﷺ قال في حديث ابن عباس: «أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ علَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ علَى الجَبْهَةِ، وأَشَارَ بيَدِهِ علَى أنْفِهِ»[18] فجعلهما كحكم واحد، ثم أطراف كفيه وركبتيه وأطراف قدميه، ولا يجوز للإنسان أن يرفع أطراف قدميه، فإنَّ ذلك معرِّض لصلاته للبطلان، وعند الحنابلة أنَّ ذلك مُبطل للصلاة، ومفوت لركنيتها، لأنَّ كثيرًا من الناس إذا سجد ارتفع من الخلف، رفع رجليه من الخلف ولا يلحظ ذلك، فلابدَّ أن تكون مماسة للأرض، والأولى أنَّ تكون أصابعه موجهة إلى القبلة قدر استطاعته.
قال: (وَسُنَّ كَوْنُهُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَمُجَافَاةُ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ)، إذا كان الإنسان ساجدًا فإنه يجافي عضديه عن جنبيه ما يجعلهما هكذا، ويرفع ذراعيه عن الأرض؛ لأنَّ هذا بسطٌ كبسطِ الكلب وهذا منهي عنه، ويجافي بطنه عن فخذيه فلا ينكمش، ويجافي فخذيه عن ساقيه، بأن تكون فخذاه مستقيمتان، فهذا هو السجود الذي يحصل به التَّمام.
وهل تكون القدمين ملتصقتين بعضهما ببعض أو مفرجتين؟
المشهور من المذهب أنهما مفرجتان وهذا ظاهر، فالصلاة مبنية على ذلك، خلافا لقول بعض مشايخنا المتأخرين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ كَوْنُهُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَمُجَافَاةُ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَطْنِهِ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَتَفْرِقَةُ رُكْبَتَيْهِ وَيَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى" ثَلَاثًا، وَهِيَ أَدْنَى الْكَمَالِ)}.
هذه هيئة السجود، والسجود من أعظم ما يتقرب به إلى الله -جَلَّ وَعَلَا-، قال ﷺ: «وأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»[19].
وللفائدة: فإنَّ السجود لا يكون إلا في صلاة، أو سجود شكر أو تلاوة، ولا يُتعبد لله بسجود خارج ذلك في قول عامة أهل العلم خلافًا لوجه عند بعض الشافعية، ما يأتي واحد يقول أسجد لله تقربًا! وإن قال به بعض الشافعية وقال به بعض المتأخرين، فإذا سجد على هذه الهيئة التامة فيقول في سجوده "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى"؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «فلمَّا نزَلَت: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ قال: اجعَلوها في سُجودِكم»[20].
ويقول: "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى" ثلاثا إلى عشر مثل ما قلنا في الركوع سواء بسواء، وقد يزيد على ذلك، وهذا قد جاء عن بعض الفقهاء والحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- وله أن يدعو الله بما شاء وأن يتعرض لفضل الله ولرحمته، وسيأتي لذلك قيد في آخر صفة الصلاة ونذكره في موضعه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا وَيَجْلِسُ مُفْتَرِشًا وَيَقُولُ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي" ثَلَاثًا، وَهُوَ أَكْمَلُهُ)}.
قوله: (ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرً) يعني يرفع من السجود مكبرًا وهذا أيضًا ليس فيه رفع لليدين.
قال: (وَيَجْلِسُ)، هذه الجلسة بين السجدتين.
قال: (مُفْتَرِشً)، قال أهل العلم يفترش اليسرى فيجلس بإليتيه عليه وينصب قدمه اليمنى، هذه هي السنة في الجلسة بين السجدتين، جاء عند مسلم في صحيحه أنَّ ينصب قدميه جميعًا ويجلس على عقبيه، وهذه إذا فعلها فهي صحيحة وجاءت بها السنة، لكنها عند الحنابلة مباحة؛ لأنَّه نهى عن الإقعاء وهذا يسمى إقعاءً عند بعض الفقهاء، لكن الإقعاء المكروه في الجلسة بين السجدتين: أن يجلس على إليتيه وينصب ساقيه وفخذيه، فهذه منهيٌّ عنها لا إشكال، أما أتم الصفات هي أن يجلس مفترشًا رجله اليسرى ناصبًا اليمنى، بعض الناس يفترش عقبيه جميعًا فهذا بعضهم أدخلها في النهي، أو يجلس دونما انتباه كيف يجلس! نقول: هذه صلاة وهي مقتدى فيها بالنبي ﷺ، ونحن متعبدون في كل حركة من حركاتها، فينبغي أنَّ تتأكد أنَّ هيئتك هيئة تمام وكمال وهيئة اقتداءٍ واستنانٍ بالنبي ﷺ.
ثم ويجلس ويجعل يديه على فخذيه ويقول "رَبِّ اغْفِرْ لِي" يكرر ها ثلاثًا، أو كما جاء في الحديث الآخر «اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، وارْحَمْني، وعافِني، واجْبُرني، وارْفَعْني، واهْدِني، وارْزُقْني»[21] فيقول هذا أو ذاك.
قال: (وَهُوَ أَكْمَلُهُ)، يعني أن يقولها ثلاثًا.
يلحظ أنَّ الجلسة بين السجدتين كما القيام من الركوع ينبغي ألا يستعجل فيها، وأنها محلٌّ للطمأنينة، وأن عدم الطمأنينة فيها مدعاة لبطلان، وسيأتي ذلك بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَنْهَضُ مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ، فَإِنْ شَقَّ فَبِالْأَرْضِ)}.
قال: (وَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ) قوله: (كَذَلِكَ) إشارة إلى هيئة وكيفية وما يقول في السجود الأول سواء بسواء، من السجود على سبعة الأعضاء، ومن المباعدة بين الجنبين والعضدين، وبين الفخذين والبطن، وبين الفخذين والساقين وهكذا، ويقول "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى".
قال: (ثمَّ يَنْهَضُ مُكَبِّرً) أيضًا في النهوض إلى الركعة الثانية يكون مكبرًا قائلا "الله أكبر" لا غير، ولا يرفع يديه.
قال: (مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ)، وذلك إذا قدر، أمَّا إذا احتاج إلى أن يعتمد على يديه فيعتمد، فهذا هو الأشهر، أنه لا يعتمد على يديه.
قال: (مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ)، يعني يديه على ركبتيه فإذا قَامَ لم يعتمد على الأرض.
قال: (فَإِنْ شَقَّ فَبِالْأَرْضِ)، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فاتقوا الله ما استطعتم، وينهض بدون اعتماد على اليدين هذا هو الأتم، لكن لو فعل ذلك لا غضاضة حتى ولو كان قادرًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَيَأْتِي بِمِثْلِهَا غَيْرَ النِّيَّةِ والتحريمةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ، إِنْ كَانَ تَعَوَّذَ ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْتَرِشً)}.
قوله: (فَيَأْتِي بِمِثْلِهَ)، يعني يأتي في الركعة الثانية بمثل الركعة الأولى سواء بسواء من جهة اشتمال الركعة على: الفاتحة، وقراءة سورة، وكل ما مر مما اعتبر في الركعة الأولى يكون في الركعة الثانية، ثم الركوع، ثم القيام منه، ثم السجود سواء بسواء.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (غَيْرَ النِّيَّةِ)، النية في أول الصلاة كافية للصلاة كلها.
قال: (والتحريمةِ)، أي: تكبيرة الإحرام، أمَّا التكبيرة هذه فهي تكبيرة انتقال، وفرق بينهما: تكبيرة الإحرام ركن، وتكبيرة الانتقال لا تكون في حال القيام، وإنما تكون حال الانتقال، وهي أيضًا واجبة، لو نسيها عند الحنابلة لا إشكال في ذلك، وتُجبر بسجدتي سهو، وعند بقية الفقهاء أنَّ ذلك مُستحب وليس عليه شيء، فإذًا فرق بين النية والتحريمة.
قال: (وَالِاسْتِفْتَاحِ)، فالاستفتاح كافٍ للصلاة كلها.
قال: (وَالتَّعَوُّذِ)؛ لأنَّ التعوذ عند افتتاح لقراءة القرآن، فكأن الحنابلة -رحمهم الله- قالوا من أنَّ الصلاة هذه واحدة وقراءتها واحدة، ولا يفصلها كلام آدميين، لا يفصلها إلا ذكر وتسبيح وهو مشروع حتى في أثناء الصلاة أن يسبح الله -جَلَّ وَعَلَا- إذا مرَّ بآية التسبيح سبح، وإذا مرَّ بآية سؤال سأل، فيقولون كأنه كالشيء الواحد، وإن كان بعض الفقهاء كابن تيمية وغيره قال من أنه يستعيذ، وأنا -وإن كان قول الحنابلة وجيه من حيث الاستدلال- أُفضِّل الاستعاذة لما لَحِقَ الناس من سرعة انجذابهم إلى الوساوس والأفكار والشياطين، فإعادة الاستعاذة مدعاة إلى أن يكون أحضر لقلبه، وباعتبار كثرة المشغلات وحاجة الإنسان إلى الاستعاذة من الشيطان، واستحضار ما هو فيه من الحال والصلاة والتعظيم والثناء على الله -جَلَّ وَعَلَا- والأمر في ذلك فيه سعة كثيرة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا. وَسُنَّ وَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَبْضُ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصَرِ مِنْ يُمْنَاهُ، وَتَحْلِيقُ إِبْهَامِهِمَا مَعَ الْوُسْطَى، وَإِشَارَتُهُ بِسَبَّابَتِهَا فِي تَشَهُّدٍ وَدُعَاءٍ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ مُطْلَقًا وَبَسْطُ الْيُسْرَى)}.
قوله: (ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْتَرِشً)، يعني بعد ما ينتهي من الركعة الثانية مثل الأولى، فإذا نهض من السجدة الثانية لا ينهض إلى القيام، وإنما يجلس مفترشًا كهيئة جلوسه بين السجدتين، فيفترش رجله اليسرى وناصبًا قدمه اليمنى، جاعلًا يده اليسرى منبسطة على فخذه، أما يده اليمنى فيقبض الخنصر والبنصر، ويحلق بالإبهام والوسطى، ويشير بالسبابة، هذه التي جاءت في الصحيح في حال الجلوس للتشهد الأول، وذلك جاء في بعضها كهيئة ثلاث وخمسين، وجاءت الصفة الأخرى أن يقبضها كلها ويشير بالسبابة، والإشارة بالسبابة هكذا، وليست التحريك، وسيأتي موضع التحريك بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (وَإِشَارَتُهُ بِسَبَّابَتِهَا فِي تَشَهُّدٍ وَدُعَاءٍ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ مُطْلَقً)، الإشارة بالسبابة هكذا، فهذه يصدق عليهما أنه أشار، وجاء في حديث وائل بن حُجر: «يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَ»[22]، قال أهل العلم: فبناء على ذلك يكون التحريك عند ذكر الله -جَلَّ وَعَلَا-، فإذا قال: "التحيات لله" حرَّك، وإذا قال: "الصلاة والطيبات السلام عليك أيُّهَا النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أنَّ لا إله إلا الله"؛ فهذه أربعة مواضع يحرك فيها.
بعضهم قال: حتى إذا قال: "اللهم صلي على النبي" أيضًا حرك.
قوله: (وَدُعَاءٍ)، أي: يحرك في الدعاء، وهذا إشارة إلى ما جاء في حديث وائل بن حجر على تحسينه وتقويته واعتبار ما جاء فيه أنه يحرك عند الدعاء مطلقًا.
قال: (وَبَسْطُ الْيُسْرَى)، يعني لا تجمع كاليمنى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ")}.
التشهد الأول واجب والثاني ركن وسيأتي تفصيل ذلك، التحيات عن النبي ﷺ بصفات متقاربة في حديث ابن مسعود وفي حديث عمر، وما اختاره الحنابلة ما جاء في حديث ابن مسعود فإنه أشهر وأحفظ.
قول: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ)، كثير من الناس يقرأ هذه التحيات لا يعرف معناها، كأنه كلامًا لا ليس بالعربية، فـ "التحيات" هي الألفاظ الدالة على التعظيم لله -جَلَّ وَعَلَا- والثناء، فما يعظَّم الله به من قولٍ في ذاته وصفاته وأفعاله فهي لله -جَلَّ وَعَلَا-، فكلُّ ألفاظ التعظيم الإجلال التبجيل والتقدير فهي لله سبحانه وتعالى.
والتحية في الأصل: هي ما يُعمل عند أول لقاء، ولذلك تسمى: "تحية المسجد" عند أول دخول المسجد، والطواف تحية؛ لأنَّه يُفعل أول البيت، وإن كان هو ليس تحية المسجد، لكنها بالنسبة للمعتمر والحاج أول شيء يفعلونه هو الطواف، فـ "التحيات لله" يعني ما يعظم به الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: "وَالصَّلَوَاتُ" يعني الصلوات الخمس وكل ما يصليه العبد.
قال: "الطَّيِّبَاتُ"، قالوا: هذا من عطف العام الخاص، فيدخل في ذلك أيضًا أنواع العبادات كلها.
وبعضهم قال أيضًا: يدخل في ذلك لله -جَلَّ وَعَلَا- ما طابت من أوصاف وأسماء وأفعال له -سبحانه وتعالى- فيثنى على الله بكمال صفاته وتمامها وأسمائه وأفعاله، فيشتمل على ذلك.
قال: (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ)، تسليم على النبي ﷺ، وكاف الخطاب هنا ليست حقيقةً وإنما هي إقامة للغائب مقام الحاضر تعظيمًا له وزيادة في الاهتمام، وإلا فالنبي ﷺ ميِّتٌ، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]، وقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144]، ولذلك جاء: «ما مِن أحدٍ يسلِّمُ عليَّ إلَّا ردَّ اللَّهُ عليَّ روحي حتَّى أردَّ علَيهِ السَّلامَ»[23]، فرد الروح حالٌ خاصة في رد السلام، وما سوى ذلك فهو باقٍ على ما هو عليه من الحكم بموته -صلوات ربي وسلمه عليه- ولأجل ذلك ليس فيه بابٌ لأهل الأهواء والضلال والجهالات الذين يفتحون بذلك دعاء النبي ﷺ، فلا أحدَ يُدعى دون الله، والدعاء عبادة لله -جَلَّ وَعَلَا- فلا يُتوجه بها إلى غيره.
وما يستدل به بعض الجهلة بهذا الدعاء فليس بصحيح، فهو مقصور عليه وهي إقامة للغائب مقام الخطاب إجلالًا له وتقديرًا؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي﴾ [غافر: 60]، ما قال: ادعوا نبيه أو ادعوا الملك! قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ فجعل الدعاء عبادة، وهذا بإجماع أهل العلم، فلم يجُز صرفه لأحد سوى الله سبحانه وتعالى.
قال: (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ)، وهذا يستشعر الإنسان أنه يسلم على المسلمين أجمعين، وفي ذلك من الخير والفضيلة ما فيه.
ثم الشهادتين فيقول: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، والشهادة فيها معنى الإثبات والنطق بذلك والإعلام؛ لأنَّ الشهادة إعلام للغير، فتعلن بأنك قد وحَّدت الله -جَلَّ وَعَلَا- فتوجَّهت إليه بالعبادة، لا إلى أحد سواه وقد صدقت بالرسالة، تصديق بخبرها، وطاعة بأمرها، واجتناب نواهيها، وما جاء عن النبي ﷺ فيها، وفي هذا إثبات أنَّ طاعة للرسول كطاعة الله -جَلَّ وَعَلَا- جعلهما الله -جَلَّ وَعَلَا- قرينان لا يتحقق الأول إلا بالثاني، خلافًا لأهل الأهواء الذين يزعمون أنهم اتبعوا القرآن ويتركون السنة فحتى في التَّحيات وحتى في الصلوات المفروضات تكون قرينةً للشهادة لله وهي في النطق، وهي كذلك في الاعتقاد، وهي في العمل، والاستقرار على ذلك في الأعمال كلها.
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ يَنْهَضُ فِي مَغْرِبٍ وَرُبَاعِيَّةٍ مُكَبِّرًا وَيُصَلِّي الْبَاقِي كَذَلِكَ سِرًّا مُقْتَصِرًا عَلَى الْفَاتِحَةِ)}.
قال: (ثُمَّ يَنْهَضُ فِي مَغْرِبٍ وَرُبَاعِيَّةٍ)، يعني إذا التشهد الأول فإنه يقوم إلى الثالثة أنَّ كانت الصلاة ثلاثية كالمغرب، وإن كانت أيضًا الرباعية قام ليأتي بالثالثة والرابعة كذلك.
قال: (وَيُصَلِّي الْبَاقِي)، يعني: الصلوات الباقية سواء الثالثة من المغرب أو الثالثة والرابعة من الظهر والعصر ومن المغرب والعشاء؛ أنها كذلك سرًّا مقتصرًا على الفاتحة، السر يعني بالنسبة للعشاء والمغرب، ومقتصرًا على الفاتحة بالنسبة الظهر والعصر.
لعلنا نكتفي، كان بودنا أنَّ نكون قد انتهينا من صفة الصلاة، لكن كما قلت لكم لأهمية هذا الباب وإن كان سيحملنا على الاختصار فيما لحق ذلك من الأبواب، لكن لابد من الاهتمام، ولابد للطالب من الضبط والحفظ، ومن الإتقان لهذه الصلاة، ومعرفة أوجهها، والإتيان بها كما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- وكما سنَّ نبيه ﷺ، وقد كان شيخنا الشيخ عبد الله بن جبرين -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- إذا قام في صلاته مع كبر سنه ورآه الرائي من خلفه يظنه ابن عشرين لحسن قيامه وإقامته للأركان والركوع والسجود، وهذا هو الذي درجَ عليه العلماء والفقهاء وهم الذين عرفوا ما فيها من الأهمية، وما لها من القدر والمنزلة، وما لها عند الله -جَلَّ وَعَلَا- من أثر ومثوبة، وهي التي يتعبد الله بها العبدُ في كل حاله وفي أيامه ولياليه، نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا ممن أتمها فقُبِلت خير قبول وأتم ما يكون من القبول بأركانها وواجباتها ومستحباتها، مبتعدين عن كل ما ينقصها من مكروه أو محرم أو مفسد أو مبطل، والله يتولانا وإياكم برحماته.
{اللهم آمين، نستكمل ما بقي بإذن الله في مجالس قادمة إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1] أخرجه الترمذي (2875)، والنسائي في (السنن الكبرى) (11205)، وأحمد (9345).
[2] صحيح مسلم (806).
[3] صحيح مسلم (2734).
[4] صحيح مسلم (395).
[5] أخرجه البخاري (780)، ومسلم (410)
[6] أخرجه أبو داود (517)، والترمذي (207)، وأحمد (7169).
[7] صحيح البخاري (790).
[8] صحيح مسلم (479).
[9] أخرجه أبو داود (869) واللفظ له، وابن ماجه (887)، وأحمد (17414).
[10] صحيح مسلم (487).
[11] صحيح أبي داود (873).
[12] أخرجه البخاري (792)، ومسلم (471).
[13] أخرجه البخاري (796)، ومسلم (409).
[14] صحيح البخاري (799).
[15] أخرجه أبو داود (840)، والبيهقي (2739).
[16] سنن أبي داود (838).
[17] أخرجه أبو داود (840)، والبيهقي (2739).
[18] صحيح البخاري (812).
[19] صحيح مسلم (479).
[20] أخرجه أبو داود (869) واللفظ له، وابن ماجه (887)، وأحمد (17414).
[21] صحيح ابن ماجه (740).
[22] رواه النسائي (889) وصححه الألباني.
[23] أخرجه أبو داود (2041) واللفظ له، وأحمد (10815).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك