الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

57320 18
الدرس الحادي عشر

أخصر المختصرات

{الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم.
ثم أمَّا بعد؛ فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين والمستمعين في كل مكان، في مجلس جديد من مجالس شرح متن (أخصر المختصرات) يشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله طلاب العلم وطالباته، نفعكم الله -جَلَّ وَعَلَا- ونفع بكم، وجعل العلم ملء قلوبكم وأيامكم وأحوالكم، نافعًا لكم في دنياكم وأجرًا عند ربكم يا رب العالمين.
{اللهم آمين، أستأذنكم شيخنا في استكمال ما بقي من كتاب الصَّلاة، أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا تَصِحُّ مِنْ مَجْنُونٍ وَلَا صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيَّزٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، على آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من الموفَّقين، وأن يجعلنا من المسدَّدين وأن لا يجعلنا من المخذولين، إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا تَصِحُّ مِنْ مَجْنُونٍ)، يعني: أنَّ المجنون لا نيَّة له، فلا يُؤمر بها، ولا ينبغي لوليه أن يحمله على ما لا يُحسنه، فلو صلَّى المجنون لا تعتبر صلاته شيئًا؛ لأنَّ النية شرط في العبادة، والمجنون لا تصح منه نية، ولا يُتصور منه حصولها.
كذلك قوله: (وَلَا صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيَّزٍ)، الصغير الذي لا يميز بين الأشياء لو وقف وركع ولا يدري أهذا ركوع صلاة أم هو ركوع لعب؟ هل هم يجتمعون ليأنسون؟ أم يصلون لله ويسجدون؟ هو لا يعرف ذلك البتة، فلما كان غير مميّز فإنه حتى ولو قام مع المصلِّي حيث صلَّى ولو ركع وسجد فإنَّ ذلك لا ينفعه شيئًا ما دام غير مميز، أمَّا إذا وصل إلى سن التمييز، وسن التمييز عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- في السن السابعة؛ لأنَّ هذا غالب الأولاد، وإن كان لبعضهم ذكاء وفطنة ونباهة ومعرفة، فربما يكون في أبكر من ذلك عارف بالأشياء مميِّز بينها، لكن جعلوا السنة السابعة هي الأصل في ذلك، وإشارة إلى قول النبي صلى الله وسلم: «مُروا أولادَكم بالصَّلاةِ وهُم أبناءُ سَبعِ سنينَ واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ»[1]، فكأنه فهم من قول النبي ﷺ «مروهم لسبع» أنَّ هذا سن يميز فيه الصغير ويتبين الأشياء ويعرف الفرق بينها.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِهَا لِسَبْعٍ، وَضَرْبُهُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ)}.
إذًا هي لا تصح منه لو كان مجنونًا أو غير مميز، فإذا ميَّز فإنَّ على وليه أمره بها.
هنا قوله: (وَعَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِهَ)، يعني أنه لا يتعلق بالصبي وجوب ولا لزوم، ذلك لأنه غير مكلف ولا بالغ، فلو تركها فلا شيء عليه، ولو نام عنها فلا شيء عليه، ولو أهملها فلا شيء عليه، لكن يلحق وليه من التَّبعة عند الله -جَلَّ وَعَلَا- بحسب ما قصَّر في تعليم ولده وتأديبه عليها؛ لأنَّ الأمر بها أمر اعتياد وتعليم وتهذيب وتأديب حتى تستقر على ذلك نفوسهم، وتستقيم على ذلك أفعالهم منذ صغرهم، فعلى الولي أن يأمر ويذكِّر الولد فيقول له: صلِّ الظهر، اذهب فصلِّ، يوقظه من منامه، يأمره بما يلزم لها من وضوء، ومما يجب للصلاة في كل شيء، إلا أنه لا على الصغير ستر عورته كما يجب على الكبير، وسيأتي ذلك في أحكام العورات بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
فإذًا لو أنَّ هذا الصغير لم يُؤمر فلا إثم عليه، ولو لم يصلِّ فلا إثم عليه، لكن على الأب وعلى الأم أو على وليه الذي لم يأمره بذلك إثم في تركِ ما أوجب الله عليه من التَّأديب والتَّعليم لها، فأبناء سبع يؤمرون بها، ويُحمَلون عليها ويذكَّرون فيها، فالطلاب في الأولى الابتدائية والثانية والثالثة يؤمرون بذلك، حتى إذا بلغوا عشرًا فإنَّ التأكيد عليهم أبلغ؛ لأنهم قاربوا البلوغ، وأيضًا عالجوا الصَّلاة لسنوات، فليس بكثير عليهم ولا صعب أن ينتظموا فيها وأن يحافظوا عليها، فيُضرب على ذلك، وإذا قيل بالضرب ليس هنا الضرب المعنِّف ولا الضرب الذي يلحق بالولد أذية، ولا بالصُّراخ الذي يفسد عليه نفسه، لكنه ضرب تأديب بما لا يؤذيه وبما يحمله على الخير، ويبين أنه قد فرَّط فيما يتعيَّن عليه أن يحافظ وأن يعرف قدره، وأن يلزم نفسه به.
قال: (وَضَرْبُهُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ)، فإذًا ابن عشر يؤمر بها، فإذا تركها ولم يصلِّ يضرب على ذلك ويعاقب عقاب تأديب.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِ الضَّرُورَةِ إِلَّا مِمَّنْ لَهُ الْجَمْعُ بِنِيَّتِهِ، وَمُشْتَغِلٌ بِشَرْطٍ لَهَا يَحْصُلُ قَرِيبً)}.
لا يجوز تأخير الصَّلاة، ولا التخلف عن أدائها في وقتها، ولذلك قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4]، قال أهل التفسير: الذين يُؤخرونها عن وقتها، ومثل ذلك قوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّ﴾ [مريم: 59]، سواء كان ذلك بتركها بالكليَّة فداخل في الآية، أو كان بتركها حتى يخرج وقتها، فهو مُتوعَّد بما تُوعِّد به الأول سواء بسواء، ولأنَّ الصَّلاة جاء في الشرع لها أوقات محدودة وأوقات معلومة لا يجوز تأخيرها عنها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتً﴾ [النساء: 103]، ولو كان يجوز تأخير الصَّلاة لكان أولى الناس بالتأخير والتيسير هم من في الحرب وفي مُقارعة الأعداء، ومع ذلك أُمروا بها بحسب حالهم، مما يدل على تأكُّد الوجوب وتأكُّد أدائها في الوقت على ما سيأتي بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (وَيَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِ الضَّرُورَةِ)، يعني: أنَّ الصَّلاة يحرم تأخيرها حتى يخرج وقتها -بالنِّسبة الظهر والمغرب والفجر- لأنها لا أوقات ضرورة لها، ويحرم تأخيرها إلى وقت ضرورة بغير عذرٍ في صلاة العشاء وفي صلاة العصر، فوقت العصر سيأتي أن له وقتُ ضرورة، وسيأتي متى يجوز تأخيرها إلى وقت الاضطرار، ومثل ذلك وقت العشاء.
فإذًا كان المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: لا تُؤخَّر الصَّلاة حتى يخرج وقتها، ولا تُؤخَّر الصَّلاة إذا كان لها وقت ضرورة إلى وقت الضرورة بدون اضطرار، فلا يجوز التأخير إلى ذلك الوقت إلا لمن اضطر إليه ولم يسعه أن يُؤديها إلا فيه، على ما سيأتي بيانه بإذن الله.
قال: (إِلَّا مِمَّنْ لَهُ الْجَمْعُ بِنِيَّتِهِ)، أمَّا من له الجمع لمرض أو له الجمع لسفر أو له الجمع لعذرٍ من الأعذار التي سيأتي جوازُ الجمع لأجلها، فيجوز له أن يُؤخِّرها عن وقتها، لكن مع ذلك يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (بِنِيَّتِهِ)، فلو كان المسافر كما تنتشر في هذا في هذه الأوقات سفر النزهة والتَّمتُّع برفاهية السفر وما فيه من التنقل في البلدان أو غيرها، فلو أنه دخل عليه وقت الظهر وظلَّ في متعه وفي شهوته وفي رغباته حتى دخل وقت العصر، فنقول: هذا آثم، يقول: أنا أصلي الظهر مع العصر. نقول: يجوز لك أن تؤخرها مع العصر إذا نويت الجمع في وقت الأولى، أمَّا إذا أخرتها بدون نيَّة حتى إذا دخل الثانية قلت: أنا أصليها معها؛ فإنَّ هذا لا يُفيدك شيئًا؛ لأنه لا تكون صلاة الوقتين وقتًا واحدًا إلا بنية، وإلا فالأصل أن لكل صلاة وقتها ولكل صلاة حكمها، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلَّا مِمَّنْ لَهُ الْجَمْعُ بِنِيَّتِهِ)، فإذًا إذا نوى الإنسان جمع التأخير فيصليها جمع تأخير، فبعدَ ذلك لو تسنَّى له الوقت أن يقدِّمها فله أن ينوي التَّقديم بعد ذلك، فلا مانع من هذا ولا شيء يحول بينه وبين ذلك، وإن أخرها على ما نوى في نيته الأولى؛ فإنه قد فعلَ ما يجوز له، ونوى ما يحقق له جواز الجمع بين الصلاتين.
قال: (وَمُشْتَغِلٌ بِشَرْطٍ لَهَا يَحْصُلُ قَرِيبً)، يعني: لو كان الإنسان يشتغل بشرطها كمن يخيط ثوبًا انقطع ليحصل له ستر عورته، أو أصلح دلاءً ليخرج ماءً؛ هؤلاء مُشتغلون بشرطها، فلو تأخَّروا قليلًا فلا بأس، لكن لا يُؤخر الصَّلاة حتى يخرج وقتها.
ولأجل ذلك قالوا: إذا خشي خروج الوقت فيصلي حسب حاله، فإذا كان عادمًا للسترة فيصلي ولو عُريانًا؛ لأنَّ شرط الوقت أولى من غيره، ولو لم يجد الماء فإنه يصلِّي بالتَّيمم؛ لأنه في مثل هذا معذور، والحفاظ على الوقت أولى من غيره، وثمَّ تفاصيل أخرى ليس هذا محل بحثها يمكن أن تأتي في شروط الصَّلاة بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
{قال-رَحِمَهُ اللهُ-: (وَجَاحِدُهَا كَافِرٌ)}.
جاحدُ الصَّلاة كافر، فمَن جحد وجوبها وقال: لا تجب الصَّلاة، أو قال: لا تجب علي، أو نحو ذلك؛ فهذا كافر؛ لأنَّ وجوب الصَّلاة مُستقر في الكتاب والسنة والإجماع، والأحاديث في ذلك مُتواترة والأدلَّة في ذلك مُتكاثرة، قال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء/78]، أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- في آيات كثيرة فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ وجعلها الله -جَلَّ وَعَلَا- من ركائز الإسلام وأركانه، قال ﷺ: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله وأقام الصَّلاة»[2]، وهذا أعظم ما يكون في لزومها ووجوبها، فبناء على ذلك من جحد هذا فكأنما جحد ما جاء في الكتاب وفي السنة، فيكون بذلك كافرًا، ولا يختلف في ذلك أهل العلم البتة، لكن من تركها تهاونًا فالمشهور من المذهب عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أنَّ التَّارك لها أيضًا يكفر بذلك، خلافًا لجمهور العلماء الذين يقولون: إنَّ التَّرك للتَّهاون تعريضٌ للوعيد وفعلٌ لأكبر الكبائر وأعظمها، لكنه لا يخرجه عن دائرة الإسلام، فالحنابلة -رحمهم الله تعالى- يقولون: «إنَّ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ»[3] قال ذلك النبي ﷺ، وما كان الصحابة يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصَّلاة، وفي ذلك أدلة كثيرة ليس هذا محل بسطها وبيانها.
لكن هنا ننبه على أمر عظيم: وهو أنَّ الحنابلة الذين قالوا بكفر تارك الصَّلاة؛ قالوا إنَّ ذلك لا يترتب عليه الأحكام بمجرد التَّرك، وإنما بالحكم بكفره ولذلك قال: (ودعاه إمام أو نائبه) يعني: القاضي قال له: صلِّ. قال: لن أصلي! فعند ذلك تُجرى عليه أحكام هذه الصَّلاة.
هل يتصور أنَّ واحدًا ما يصلي ويبقى فيه الإسلام؟
هذه مسألة ذكرها شيخ الإسلام وغيره ليس هذا محل ذكرها، لكن ما نأتي ونقول: فلان لا يصلي، إذًا هو كافر، ويجب أن يفرق بينه وبين زوجته! لا، أحكام الإسلام باقية، وما يترتب على كل الأحكام ثابت، ولا يُنقض إلا بحكم مثله، ولا يقرر هذا الحكم إلا مَن له الأهلية، بأن أن يكون قاضيًا أو إمامًا للمسلمين، ولما كانت هذه المسائل أيضًا فيها خفاء، فربما يبدو للناس أنَّه لا يصلي وهو يصلي في بيته، وربما يكون أيضًا معذورا لجهله، يظن أنَّ المريض بهذه العلة لا يصلي، أو الذي معه حدثٌ دائم لا تتأتى منه الطهارة، فإذًا ثم أشياء تمنع من مثل ذلك، فإذًا المهم أنه لا الحكم بأنه لا يصلي بمجرد الأمر الظاهر، ولأهل العلم في هذا كلام طويل.
هنا مسألة: الحنابلة يختلفون بعد هذا، هل يكفر بترك صلاتين أو أكثر أو نحوه؟ أو بعموم الصَّلاة كلها أو بمجموعها؟
أيضًا خلاف بينهم مع أهل الحديث:
- فمنهم من يقول: لابد أن يترك جميع الصلوات.
- منهم من يقول: يترك جملتها.
- بعضهم شدَّد حتى قالوا بترك صلاتين كما هو ظاهر المذهب، إذا تأخر عن الصلاة الأولى حتى تضايق وقت الثانية.
فإذًا المسألة فيها عندهم خلاف لمن قال بكفر تارك الصَّلاة.
ولو قيل: إنه يكفر إن تركها بالكليَّة لكان هذا هو المتوجِّه؛ لأنه هو الذي يتحقق له اسم الترك، وفي تفاصيل هذه المسألة من الخلاف ما ليس هذا هو محل بحثه للطالب في أول وهلة.
هنا مسألة تقابل هذه: لنفرض أنك سمعت هذا الكلام، وسلكت ما سلكه فقهاء الحنابلة في هذا، وربما كان الإنسان في المغرب الذي يشيع فيه مذهب مالك أو كان في بلاد يشيع فيها مذهب أبي حنيفة أو مذهب الشافعي فيسمع هذا الكلام، فلا يعني أن سماعك له، وسلوكك مسلكه؛ أن ذلك يسوِّغ لك إطلاق الحكم بالتكفير لمن كان على مذهب آخر وله أئمة يفتونه، وعلى أصول صحيحة دلائل وحجج وبراهين قويَّة لها محل من الاعتبار الاستشهاد.
فبناء على ذلك: ينبغي للطالب إذا تلقَّى هذه المسألة على قولٍ لا يعني أنه يمكن أن يُلزِم غيره بمثل ذلك القول، خاصَّة فيمن كان في محلٍّ له أهليَّة في العلم، وله محلُّ مرجعيَّة صحيحة فيه، وقول عند الفقهاء محفوظ، ناهيكَ أنَّ الحنابلة الذين قالوا بالتكفير لم يرتِّبوا أحكام التَّكفير إلا بالقيود التي سبقت، فهذا مانع من حصول فتنة، فكثير من الطلاب لأوَّل وهلة يلقون أحكام التَّكفير على الناس بدعوى أن هؤلاء لا يصلون، أو أن هؤلاء لا يفعلون، أو أن هؤلاء تركوا الصَّلاة، وبين الرجل وبين الشرك ترك الصَّلاة، نحن نقولها ونحفظها ونسلكها، لكن لا يمكن لنا أن نطلقها على المعين، ولا يمكن لنا أن نُلزِم مَن أخذ قولا له اعتبار وظهور في مذاهب الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ- وربما كان مُقابلًا لقول الحنابلة وربما كان أقوى منه، فنأتي فنُلغِيَ تلك الأقاويل والمسائل الاجتهادية ونُلزِم بقولٍ رآه أهل مذهب ما، هذا من الفقه في الخلاف ومنع حصول الفتنة، و يجب على الطلاب أن يعرفوه ويحفظوه، لأنه ما ابتُلِيَ الناس بأعظم من هذه الفتنة، أنَّ سامعًا يسمع أن تارك الصَّلاة كافر فيأتي إلى بلاد فيلقي أحكام الكفر جزافًا على الأفراد والجماعات، حتى لا يكاد يبقى في بلده أو من أهله أو مَن يخالطه مسلم!
ومن أجل هذا نشأ من قلة الفهم في مثل هذه المسائل وخلافها والفقه فيها نشأت مثل هذه الجماعات المتشدِّدة والمسالك المنحرفة التي استباحت دماء المسلمين، فقد ولغت فيهم وفعلت ما فعلت، ولذلك على مرِّ التأريخ الحنابلة -رحمهم الله تعالى- إن كانوا في بغداد ففي بغداد شافعية وفيهم حنفية وكذلك في مصر وكذلك في أقضية فلسطين ونواحي دمشق وغيرها في جبل الصَّالحية، ولم يُعرف في وقت من الأوقات أنهم الحقوا بمن كان على مذهب مالك أو مذهب الشافعي أو مذهب أبي حنيفة أنهم كفار وأنه يجب استباحة دمائهم، نحو ذلك من ترتيب مثل هذه الآثار، لم يذكر شيء من هذا، فكان من العلم والفقه في مثل هذه المسائل أن تُحفظ هذه المسائل على وجهها، وأن تعرف قيودها، وأما ترتُّب الأحكام على الأعيان فإن ذلك من المسائل العظيمة، وله مسلك خاص وعند أهل العلم الحنابلة في ذلك من التَّقييد ومَن له الأهليَّة في ذلك وما يترتَّب على ذلك، وباب العذر في ذلك واضحٌ، والاعتبارات الأخرى معتبرة، فلا ينبغي التَّعجل إلى مثل هذه الأقاويل التي تستدعي الفتنة وحصولها، لكن في المقابل يجب ألا يتخلَّف الناس عن أداء هذه الصَّلوات، ولا أن يتهاونوا بها، سواء قيل بكفر تارك الصَّلاة أو لا، وعند فقهاء الشافعية والحنفية والمالكية مع ما قالوه من عدم التكفير، فإنهم لم يُعرف عنهم أن المجتمعات تركت الصَّلاة أو أهملتها، فليس الأمر دائر بين أن تركها كفرٌ أو ليس بكفر، فينتهي عند ذلك فعلها وأداؤها، لا، حتى مع قولنا من أنه ليس بكفرٍ فإنه لا شكَّ أنه من العظائم والأمور الكبار والأمور الشديدة، وأعظم ما في دين الإسلام مما تجب المحافظة عليه والتزامه، وأن يسعى إليه المسلم، وأن يرجو بذلك رحمة الله -جَلَّ وَعَلَا-، فلأجلِ ذلك ربما كانَ مَن قال بعدم التَّكفير أكثرَ في الحرص وأعظم في الاستقامة عليها من غيره بكثير، فهم يتنافسون في الفعل والأداء، ويتسابقون إلى الأجر والمثوبة، ويتحرَّونَ الحكم فيمن ضيَّع أو أهمل بحسب ما يجدُّ لهم وينظرون فيه من الأحكام، ويجعلون تلك الأحكام عند أهلها في ترتيب آثارها وإجراء ما يلزم إجراؤه فيها.
ولا يترك ذلك لآحاد الناس ولمحدثة الطلبة وصغار الطلاب الذين يتلقَّون المسألة فيظنُّون أنهم استجمعوا جميع مسائلها، أو حق لهم أن يستبيحوا دماء المسلمين ورقابهم بما حفظوه من كلمة، أو سمعوه من مسألة، أو استجمع لهم من دليل؛ فإن ذلك لا يجوز لهم البتة.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَرْضَا كِفَايَةٍ عَلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ لِلْخَمْسِ الْمُؤَدَّاةِ وَالْجُمْعَةِ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هو في الأذان والإقامة؛ لأنَّ الأذان هو الذي يُدعى به إلى الصَّلاة، ويُعلم الناس بدخول وقتها وإتيانها وفعلها.
وسبب مشروعيته معلوم كما في حديث عبد الله بن زيد، والأذان فيه من المعنى العظيم، واختصت به هذه الأمة، وهو من أعظم ما منَّ الله به على هذه الأمة، فبينما تدقون نواقيس وترتفع أصوات وأجراس غاية ما فيها الإزعاج والإشغال، فإنَّ ما يدعى إليه أهل الإسلام بتكبير الله وتعظيمه، وذكره والثناء عليه، وحثِّ المسلمين بـ (حي على الصَّلاة حي على الفلاح).
وأول كلمة من الأذان "الله أكبر" من كل شيء، ومما اشتغل به المشتغلون، ومما التهى به الملتهون، فكان ذلك محركًا للناس، وموقظًا لقلوبهم، إلى الاستجابة لأمر ربهم والاستنان بسنة نبيهم ﷺ، فمَن سمع الأذان فليُجب، ومَن شنَّف أذانه هذه الكلمات فليستجبْ وليُسرعْ ويُلقِ ما في يده وليتخلَّصْ من شغله وليُجِيبْ داعي ربه، جعلنا الله وإياكم من المجيبين في ليلهم ونهارهم وسفرهم وحضرهم المعَانين على الصَّلاة وفعلها.
قال: (الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ).
الأذان: هو إعلام بدخول الوقت.
الإقامة: هي إعلام بالشروع في الصَّلاة والدخول فيها.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَرْضَا كِفَايَةٍ)، يعني: إذا قام به مَن يكفي سقط الإثم عن الباقي؛ لأنَّ النبي ﷺ جعلَ للأذان شخصان، كما أذَّن بلال وأبو محذورة، فهما من مؤذني رسول الله ﷺ.
ومما يدلُّ على أنه فرض كفاية: أنَّ النبي ﷺ «كانَ يُغِيرُ إذَا طَلَعَ الفَجْرُ، وكانَ يَسْتَمِعُ الأذَانَ، فإنْ سَمِعَ أذَانًا أمْسَكَ وإلَّا أغَارَ»[4]، قال أهل العلم: فهذا دالٌّ على تأكد الأذان ولزومه في كل محله أو كل قرية، وإذا قام به مَن يكفي سواء في الحي الواحد يوصل الأذان أو في البلد الواحد لصغرها أو لانتشار قول المؤذن وارتفاع صوته إلى أنحائها؛ فإنَّ ذلك كافٍ وتحصل به الكفاية، وكذلك الإقامة هي فرض كفاية إذا أرادوا الشُّروع في الصَّلاة والدخول فيها.
قال: (عَلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ)، أمَّا على النساء فليس عليهنَّ أذان ولا إقامة.
وهل يستحب لهم لهن ذلك أو لا؟
خلاف بين الفقهاء، والظاهر عند الحنابلة أنَّ ذلك غير مستحب، بل يكرهونه للنساء؛ لأنَّ فيه رفع صوت، والنساء محلٌّ لغضِّ الصوت وعدم رفعه، والأمر في ذلك فيه فسحة ونظر، لكن هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة -رَحِمَهُ اللهُ.
قوله: (الْأَحْرَارِ)، أمَّا العبيد فإنهم ليس عليهم إجابة للمؤذن ولا ذهاب إلى المسجد، فبناءً على ذلك لا يجب الأذان عليهم.
قال: (الْمُقِيمِينَ)، أمَّا المسافر فليس عليه بواجب، فإن أذَّن فقد فعلَ ما يُستحب، وهذا ينبغي إلا يُفرِّط فيه الإنسان، فإنه ما سمع المؤذن إذا أذن من حجرٍ ولا شجرٍ مدارٍ إلا شهد له يوم القيامة.
قال: (لِلْخَمْسِ الْمُؤَدَّاةِ)، فالأذان إنما يجب للصلوات الخمس، أما الصلوات النَّفل وغيرها فلا يُؤذَّن لها ولا يُنادى إليها بالألفاظ المعروفة.
قال: (الْمُؤَدَّاةِ) أمَّا إذا كانت الصَّلاة مقضية فلا يكون الأذان فرضَ كفايةٍ فيها، وإذا أرادَ الإنسان أن يُؤذِّن لها فليؤذِّن، لكن لا يرفع بذلك صوته لئلا يحصل عند الناس غلط أو لغط، هل دخل الوقت أو لا؟ سمعوا ذلك المؤذن يؤذن.
قال: (وَالْجُمْعَةِ)، الجمعة داخلة طبعًا في الصلوات الخمس، لكنه أكَّد عليها باعتبار خصوص وقتها وما يتعلَّق وجوبِ المجيء والسَّعي إليها.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولَا يَصِحُّ إِلَّا مُرَتَّبًا مُتَوَالِيًا مَنْوِيَّا مِنْ ذَكَرٍ مُمَيَّزٍ عَدْلٍ وَلَوْ ظَاهِرً)}.
الأذان لا يصح إلا مُرتبا، هذه شروط الأذان، فلا يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ثم يقول: (الله أكبر)؛ لا بد للأذان أن يكون مرتبًا (الله أكبر الله أكبر) سواء أذن بأذان بلال وهو سبع عشرة جملة، أو بأذان أبي محذورة وهو تسع عشرة جملة.
أذان بلال فيه التكبيرات أربع (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن رسول الله، حي على الصَّلاة حي على الصَّلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)، خمسة عشر جملة.
أذان أبي محذورة إما سبعة عشر، أو تسعة عشر، لأن أذان أبي محذورة فيه الترجيع، فهو (الله أكبر الله أكبر الله، أكبر الله أكبر)، أربع مرات،
وفي رواية أخرى أنَّ التَّكبير في أول أذان أبي محذورة مرتين، (الله أكبر الله أكبر)، ثم الترجيح بأن يقول المؤذن في نفسه: (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله)، ثم يعود فيقول: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله)، ثم يقول في نفسه: (أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله) ثم يرفع الصوت (أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله) ثم يقول: (حي على الصَّلاة حي على الصَّلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله)، كما في أذان بلال سواء بسواء، فإذا قاله بأربع تكبيرات في الأوِّلِ صارت تسعة عشر جملة، وإن قال تكبيرتين صارت سبع عشرة جملة، وكلها ثابتة في الصَّحيح، ويؤذِّن المؤذِّن بأذان بلال لأنه كان الأكثر، وإن أذَّن بأذان أبي محذورة كما هو الأشهر في بلاد باكستان وبنجلاديش ومن ذهبَ مذهب أبي حنيفة، فحَسَنٌ وهو ثابت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (ولَا يَصِحُّ إِلَّا مُرَتَّبًا مُتَوَالِيً)؛ لأنه عبادة واحدة، فلا يقول: (الله أكبر) ثم يسكت بعدَ عشر دقائق أو ربع ساعة ثم يقول: (الله أكبر) ثانية، أو يُكبر تكبيرتين ثم يأتيه اتصال ويجلس يتحدث في أمور دنياه ربع ساعة ثم يكمل الأذان! هذا لا ينفع.
قال: (مَنْوِيَّ)، أمَّا لو كبَّر الإنسان على أنه يذكر الله -جل وعلا- ثم بعدَ ذلك كأنه ذكر أنَّ الوقت دخل فأكمل، نقول: لا، لابد من نية الأذان، فنية الأذان مختلفةٌ عن نية ذكر الله -جل وعلا- بالتكبير أو بالشهادة أو بغيرها، فلابد أن يكون منويًّا.
قال: (مِنْ ذَكَرٍ)، أمَّا الأنثى فليست محلًّا للأذان ولا يُطلَب منها لِمَا ذكرنا.
وهذا هو الذي يتأتَّى به فرض الكفاية، حتى لو قيل بمشروعية الأذان للمرأة فالمشروعية هنا على سبيل الاستحباب عند قول بعضهم، لكنه لا يتأتَّى به فرض الكفاية، لأن فرض الكفاية يكون برفع الصوت، ورفع الصوت محله الرجال.
قال: (مُمَيَّزٍ)، يعني حتى ولو لم يكن بالغًا، فإذا كان مميزًا فيصح منه الأذان ويعتبر.
قوله: (عَدْلٍ)؛ لأنَّ المؤذن يُخبر بدخول الوقت، فلابد أن يكون من أهل العدالة الذين يُرضَى قولهم ويُقبل، أمَّا إذا كان من أهل الفسق وممن لا يُعتدُّ بهم فلا يُوثق أن يؤذِّن في غير وقت الصلاة، فلأجل ذلك قالوا: لابد أن يكون عدلًا ولو ظاهرًا -يعني في الظاهر- أمَّا الخفايا فلو وقع منه نقص أو قصور فلا يمنع ذلك من العدالة الظاهرة، ويُكتفى بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبَعْدَ الْوَقْتِ لِغَيْرِ فَجْرٍ)}.
لا يصح الأذان إلا بعدَ دخول الوقت، فإذا دخل الوقت صحَّ الأذان، وأمَّا في غير ذلك فلا يصح؛ لأنَّ الأذان إعلام بدخول الوقت.
قوله: (لِغَيْرِ فَجْرٍ)، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ الفجر يجوز أن يؤذن له قبل الفجر، واستدلوا لذلك بما جاء في حديث النبي ﷺ لَمَّا قال: «إنَّ بلَالًا يُؤَذِّنُ بلَيْلٍ، فَكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يُنَادِيَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ قالَ: وكانَ رَجُلًا أعْمَى، لا يُنَادِي حتَّى يُقالَ له: أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ» فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ صلاة الفجر يجوز أن يُنادى لها ويُؤذن قبل وقتها بعد منتصف الليل.
وهل هذا مقيَّد بأن يوجد مؤذن لأذان الفجر؟ يعني يؤذن إذا دخل الوقت أو لا؟
ظاهر كلامهم الاطلاع، ما دام أنه أذن للفجر حتى ولو قبل وقتها فيجوز، لكن بعضهم قال: لابد أن يوجد مَن يؤذِّن لدخول الوقت فيكون هذا أذانًا أولًا ينبه الناس حتى يستعدوا للصلاة ويصلوا من ليلهم ويتسحَّروا إن أرادوا سحورًا ونحو ذلك، ويؤذن هذا لدخول الوقت، لكن ظاهر مذهب الحنابلة الإطلاق في أنَّ الفجر متى ما أذن حتى ولو قبل الوقت ما دام بعد منتصف الليل فذلك صحيح، ولكن قال بعضهم على سبيل التنبيه وربما بعضهم على سبيل التَّقييد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك متأرجحًا، يعني ما مرة يأذن في هذا الوقت ومرة في هذا الوقت؛ لأنَّ هذا يدخل الخطأ على الناس، فلا يدرون حين يؤذن هذا اليوم أهو بدخول الوقت أم كعادته في أذانه قبله؟ هل يسعهم أن يتسحروا أو لا؟ خاصة فيما مضى التي لم تكن هذه الساعات والمؤقِّتات مشتهرة، فيعتمد الناس على المؤذن قطعًا ولا يعتمدون على شيء سواه، فلا يكادون يخرجون ويتحرَّون الوقت ولا يوجد عندهم من المؤقِّتات ما يعينهم على ذلك، فبناءً على هذا يحسن به أن يكون مرتبًا لذلك، فإن كان يؤذِّن في الأذان الأول والأذان الثاني سبيل مرتبة فهذا أولى وأتم، لأنه يحصل للناس تمام الأمور وكمالها في التبكير للصلوات وفي الاستعداد لها، وفي التسحر لمن أراد الصيام، والتنبيه لمن أراد الوتر والقيام قبل الفجر، وأيضًا الدخول للصلاة و الشروع فيها إذا أذَّن بعد دخول الوقت وحصوله.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ كَوْنُهُ صَيِّتًا أَمِينًا عَالِمًا بِالْوَقْتِ)}.
قوله: (وَسُنَّ كَوْنُهُ صَيِّتً) إذا كان المؤذن أظهر في الصوت فإن هذا مما يعين على بلوغ الصوت وانتشاره، وإذا كان أندى في صوته وأحسن فهذا مطلوب على سبيل التَّرغيب، لا أن يكون ذلك هو المناط في الاختيار، فإنَّ نداوة الصوت تستهوي القلب، ويكون أدعى لإجابته، ولذلك أمر النبي ﷺ عبد الله بن زيد أن يلقيه على بلال قال: «فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»[5]، لكن كما قلنا: ليس هذا هو المناط؛ لأنَّ بعضهم قد لا يكون عدلًا، وقد لا يكون ممن يُعتمد عليه، لكن لأجل طراوة صوته وحسنه يُقدم في الأذان، فربما فوَّت وربما ضيَّع وربما كان له مقصد من الدنيا ليس له في الآخرة نصيبٌ ولا قصدٌ، والنبي ﷺ قال لعثمان بن أبي العاص: «وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرً»[6]، فيحسن أن يكون من أهل الديانة والأمانة لا أن يكون المسوِّغ في الاختيار وغيره نداوة الصوت وطراوته.
قوله: (أَمِينً) أن يكون أمينا، مثل ما قلنا: الإمام المؤذن مؤتمن والإمام ضامن، فالمؤذن مؤتمَن على دخول أوقات الصلوات التي هي أعظم العبادات، وأوقات الصِّيام بإمساك الناس وفطرهم ونحو ذلك، فلا يجوز أن يكون فاسقًا يؤذِّن قبل دخول وقت الصَّلاة فيصلِّي الناس ويغترون به، فيفسد عليهم عباداتهم.
قوله: (عَالِمًا بِالْوَقْتِ) سواء كان ذلك بالاعتبارات والاختبارات القديمة والآلات المتقدمة، أو كان ذلك أيضًا بالأشياء الحديثة، فالعلم بالوقت لئلا يغلطَ فيغلط الناس بغلطه.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ جَمَعَ أَوْ قَضَى فَوَائِتَ أَذَّنَ لِلْأُولَى، وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةِ)}.
هذه هي سنة النبي ﷺ، فإنه إذا جمعت الصلاتين كان وقتهما واحد، والوقت الواحد له أذان واحد، والإقامة لكل صلاة فيقيم لذلك، النبي ﷺ في مزدلفة أذَّن لصلاتي المغرب والعشاء ثم أقام لكل واحدة، وفي عرفة قبل ذلك بين الظهر والعصر، ومثل ذلك لما فاتته الصَّلاة في غزوة الأحزاب فإنه أذَّن ثم أقامَ لكل صلاة حتى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والحديث في ذلك معروف، وسيأتي بإذن الله ما يتعلَّق به في مناسبة لاحقة.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَسُنَّ لِمُؤَذِّنٍ وَسَامِعِهِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّا إِلَّا فِي الْحَيْعَلَةِ، فَيَقُولُ الْحَوْقَلَةَ وَفِي التَّثْوِيبِ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ)}.
قوله: (وَسُنَّ لِمُؤَذِّنٍ وَسَامِعِهِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّ)، أما استحباب المتابعة سرًّا للسامع فهذا ظاهر لا إشكال فيه، فإن النبي ﷺ قال: «إِذَا سَمِعتُم المُؤَذِّن فَقُولُوا مِثلَ مَا يَقُول»[7]، وهذا ظاهر لا إشكال فيه وهو مستحب عند عامة أهل العلم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، لكن ظاهر كلامه أن حتى المؤذن نفسه يردد مع نفسه، قال: (وَسُنَّ لِمُؤَذِّنٍ وَسَامِعِهِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّ)، وهل محتمل يعني باعتبار استحباب المتابعة للعموم، لقوله: «فَقُولُوا مِثلَ مَا يَقُول» فيدخل في ذلك المؤذِّن وغيره، ويحتمل أن الأمر منقسمٌ، فالمؤذن يؤذِّن والمستمع يتابع ويقول مثل قوله، وهذا ربما كان أقرب، ومنه حديث: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِـمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْـحَمْدُ»[8]، فجعل للإمام التَّسميع وجعل للمأموم التَّحميد، فربما يكون ذلك كذلك، فعلى كل حال هي محل للنظر والاجتهاد.
ثم يقول: (وَسُنَّ لِمُؤَذِّنٍ وَسَامِعِهِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّ)، ما يرفع صوته حتى لا يختلط على الناس المؤذِّن من السامع والمتابع وسواه.
قال: (إِلَّا فِي الْحَيْعَلَةِ) الحيعلة: هي قول: (حي على الصَّلاة)، فيقول الحوقلة، وهي قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله).
فإذا قال المؤذن: (الله أكبر) يقول: (الله أكبر). إذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله). إذا قال: (أشهد أن محمدا رسول الله) يقول: (أشهد أن محمدا رسول الله)، فإذا قال: (حي على الصَّلاة على الفلاح) فيقول في كل واحدة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وذلك لأمور:
أولًا: قال أهل العلم إنَّ الكلمات الأُوَل هي ذكر لله -جَلَّ وَعَلَا- فتردادها ترداد للذكر وذكر بذلك، أمَّا قول: (حي على الصَّلاة حي على الفلاح) فليست بذكر، فلا فائدة من تردادها وكان القول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) لأنه لما دُعي إلى حضور الصَّلاة وإتيانها كأنه تبرَّأ من حوله وقوته، فطلب من الله -جَلَّ وَعَلَا- الإعانة والتَّوفيق، فكان أنسبَ ما يقول في مثل تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي التَّثْوِيبِ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ)}.
تثويب: من ثَابَ إذا رجع؛ لأنه رجع أيضًا وأمر بالصَّلاة لما قال: (الصَّلاة خير من النوم)، وسمي تثويبًا لأنه رجع أيضًا للحث على الصَّلاة، وهذا في صلاة الفجر كما هو معلوم خاصَّة، فيكون ذلك مستحبًّا لأنه رجع فكرَّرَ الأمر بإتيان الصَّلاة السعي إليها، وقالوا: إنَّ ذلك مناسب لأنه في مثل ذلك الوقت يكون الناس نيام وفيهم تعب، وفيهم ركون إلى الراحة وخلود إلى النوم ونحو ذلك، فكان هذا أحوج ما يكون إلى إعادة تذكيرهم وحثهم على إتيان الصَّلاة، وبذلك جاءت السنة في أذان بلال وصح ذلك عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فكان ذلك مستحبًّا، فالتثويب إذًا أما أن يكون في أذان الفجر فهذا مستحبٌّ محفوظٌ، وفي السنة معلوم معروف، وإمَّا أن يكون في أذان غيرها من الصلوات كالظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ فإنَّ هذا عند أهل العلم مكروه، وبعضهم قال: إنه بدعة، لقوله: «والا أثوب إلا في الفجر»، وجاء في الأثر «ونهى عن التثويب في العشاء»، ولَمَّا سمع ابن عمر مؤذنًا يثوِّب في العشاء خرج من المسجد، ودخل في ذلك ما يشتهر عند بعضهم أنه في أثناء الأذان يقول: (حي على خير العمل)، فهذا من التثويب الذي لم يؤمر به، خلافًا للتثويب الثابت في صلاة الفجر.
ومثل ذلك أيضًا التثويب بعد الأذان، كأن يقول المؤذن للناس بعد الأذان: "الصَّلاة، أو تعالوا إلى الصَّلاة، أو حضرت الإقامة" أو نحو ذلك، من التثويب الذي ونهى عنه أهل العلم، أمَّا إذا كان خارج المسجد فأمَر أحدٌ أحدًا بالصَّلاة فقال: "اذهب إلى الصَّلاة، حي على الصَّلاة، الصَّلاة تقام" ونحو ذلك؛ فهذا ليس من تثويب المؤذن؛ بل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يكون فيه شيء، لكن لا يشرع للمؤذن أن يقول في غير أذان الفجر ولا أن يقول بعد الأذان ما هو حث على الصَّلاة أو تثويب فيها، فإن ما ورد في الأذان كافٍ، وما ورد حاصل به المقصود.
قوله: (وَفِي التَّثْوِيبِ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ)، هذا اجتهاد جاء فيه أثر عند بعض التابعين وحكم بذلك الفقهاء -رحمهم تعالى- وهي محلُّ نظرٍ واجتهادٍ.
هل يقول مثل ما يقول المؤذن: (الصَّلاة خير من النوم) أو الحوقلة؟
الحقيقة أن هذا محل تردد كبير جدا، والحنابلة قالوا إنه يقول: (صدقت وبررت) باعتبار ما جاء في بعض الأثر.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَقَوْلُ مَا وَرَدَ وَالدُّعَاءُ)}.
الصَّلاة على النبي ﷺ هذا جاء في الحديث وثابت، فأمر بالصَّلاة عليه، فكان ذلك من سنن الأذان ومستحباته.
قوله: (وَقَوْلُ مَا وَرَدَ وَالدُّعَاءُ)، قول ما ورد جاء عن النبي ﷺ أنه يقولها بعد الأذان وجاء أنه يقولها بعد الشَّهادتين «رَضيـتُ بِاللهِ رَبَّـاً وَبِالإسْلامِ ديـناً وَبِمُحَـمَّدٍ ﷺ نَبِيّ»[9]، وكما جاء في الروايات «وَأَنَا أَشْهَد» لَمَّا يقول: (أشهد أن محمدا رسول الله).
ويقول ما ورد من الدعاء: «اللَّهُمَّ رَبَّ هذِه الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الذي وعَدْتَهُ»[10]، ويدعو بما فتح الله عليه فإن الدُّعاء بين الأذان والإقامة من المواطن التي جاء فيها تحرِّي الإجابة وحصول بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- المقصود وتحصيل أثر ذلك الدعاء، وإجابة الله لعبده فيه.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ خُرُوجٌ مِنْ مَسْجِدٍ بَعْدَهُ بِلَا عُذْرٍ أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ)}.
خروج الإنسان من المؤسف بعد الأذان محرَّم لما جاء في حديث عمار لما رأى رجلا يخرج بعد الأذان: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ»[11]، ويتأتَّى ذلك بعد انتهاء الأذان، أما إذا كان قبل الأذان أو في أثنائه فعندهم أنه يدخل في المنهي عنه، لكنهم يكرهون ذلك لأنه جاء في الحديث «إنَّ الشَّيْطانَ إذا ثُوِّبَ بالصَّلاةِ ولَّى وله ضُراطٌ»[12]، لكن يستثني من هذا أهل العلم إذا كان له سبب، إما أنه يذهب ويرجع لتجديد وضوء أو لحاجة لأهل أو لنحو ذلك، أو إذا كان يخرج لإمامةٍ في مسجد آخر، أو كان يخرج أيضًا لإمام أتم وأفضل، أو لنحو ذلك من الأسباب الصَّحيحة؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا خرج تفوت عليه الصَّلاة، قد تأكَّدت في حقِّه وهو يسمع المؤذن وهو حاصلٌ في المسجد، ولأجل ذلك قالوا: أما إذا كان يعود إلى المسجد أو يلحق الصَّلاة في مسجد آخر وله سبب في الخروج يستدعي ذلك إما ليقرب من شغل أو ليتأتى له أداء أمر لا يتأتى له إلا بذلك فربما سُهِّل في هذا وخُفِّف؛ لأنَّ الأصل أنَّ مَن خرج من المسجد بعد الأذان فإنه يوشك أن تفوته الصَّلاة وتفوته الجماعة فيفوت عليه الأجر العظيم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ خُرُوجٌ مِنْ مَسْجِدٍ بَعْدَهُ بِلَا عُذْرٍ أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ)}.
(بلا عذر) كما قلنا، أما إذا كان له عذر مثل الأشياء التي ذكرناها فلا بأس.
قوله: (أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ)، كأن يخرج إلى نحو صلاة، أو لكونه تعب، وإمَّا لحضور مجلس علم طويل أو لنحو ذلك من الأمور؛ فأراد أن يكون أكثر حضورًا إقبالًا على صلاته فلا بأس، أمَّا أن يخرج بعد الأذان فمما تتأكد به الحرمة لتأكُّد الصَّلاة في حقه، ولَمِا جاء في الأثر عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{أحسن الله إليكم استكمال ما بقي في مجلس قادم}.
لعل ما أخذناه فيه كفاية، وإن كنا نتأمل أن نكون أسرع في إلقاء المسائل والتعليق عليها، حتى نأتي على القصد المقدَّر لنا في هذا الفصل، أسأل الله الإعانة، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين.
{بارك الله فيك ونفع بكم وبعلمكم الإسلام والمسلمين، نستأذنكم في استكمال فيما بقي في مجالس أخر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------
[1] رواه أبو داود وصححه الألباني.
[2] متفق عليه.
[3] رواه مسلم.
[4] أخرجه مسلم (382).
[5] وروى أحمد وَأَبُو دَاوُد
[6] أخرجه أحمد 4/21 (16379)، و"أبو داود"531، و"النَّسائي"2/23 وهو حديث صحيح على شرط الإمام مسلم.
[7] متفق عليه.
[8] متفق عليه
[9] صححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (1368).
[10] رواه البخاري.
[11] رواه مسلم (655).
[12] رواه مسلم (389).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك