{الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على خير من صام وتعبَّدَ وقام، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتمّ السلام، ثم أمَّا بعد:
فأهلا بكم أعزاءنا المشاهدين المستمعين في كل مكان، في المجلس الثاني من مجالس شرح "أخصر المختصرات" مع فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلا وسهلا، حياك الله.
{نستأذنكم فضيلة الشيخ في القراءة، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَقَدْ سَنَحَ بِخَلَدِي أَنْ أَخْتَصِرَ كِتَابِي الْمُسَمَّى بِـ "كَافِي الْمُبْتَدِي" الْكَائِنَ فِي فِقْهِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ الصَّابِرِ لِحُكْمِ الْمَلِكِ الْمُبْدِي؛ لِيَقْرُبَ تَنَاوُلُهُ عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ، وَيَسْهُلَ حِفْظُهُ عَلَى الرَّاغِبِينَ، وَيَقِلَّ حَجْمُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ، وَسَمَّيْتُهُ "أَخْصَرَ الْمُخْتَصَرَاتِ"؛ لِأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى أَخْصَرَ مِنْهُ جَامِعٍ لِمَسَائِلِهِ فِي فِقْهِنَا مِنَ الْمُؤَلَّفَاتِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من عباده الموفقين المتقين، الذين إذا أعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يبلغنا الخير، في أهلينا وأنفسنا والمسلمين يا رب العالمين، نحن في مجالس طيبة بإذن الله جلَّ وعلا، في جادة للعلم، في طريق للترقي في منازله ودرجاته، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُبلغنا أعلى المنازل وأرفعها في العلم وفي ميدان أهله.
هذا كتاب "أخصر المختصرات"، ولا نزال في مُقدمته، يقول -رَحِمَهُ اللهُ: (فَقَدْ سَنَحَ بِخَلَدِي أَنْ أَخْتَصِرَ كِتَابِي) وسنح يعني: عرض له وتيسر، يقال: سنحت الفرصة إذا تيسرت الأمور، فهذا من توفيق الله -جَلَّ وَعَلَا- لهذا الإمام، لَمَّا رأى فائدة كتابه الأول والحاجة إلى اختصاره، مع أنَّ هذا المختصر كان أوسع من مختصره، فكان فيه من الفائدة والنفع الشيء الكثير، وهذا توفيق الله -جَلَّ وَعَلَا- لعبده، أنه إذا بدأ الخير وفَّقَه لتمامه وكماله، فكل خير يُوشك أن يُبَلِّغَه الله -جَلَّ وَعَلَا- الفضل والرفعة فيه.
وهذا الكتاب هو مختصرٌ لمختصرٍ أنفع ما يكون للطلاب، وهو على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والدراسة على مذهب ما من أنفع ما يكون للطالب؛ لأنَّ العلم مبنيٌ على الاستدلال، والاستدلال له أصول، فإذا لم يكن للطالب استدلال وأصول يمشي عليها فإنه يُوشك أن يتعارض قوله، ويتناقض في المسائل ولا تطرد عليه، ففي مسألة على سبيل المثال يكون قد أخذ لزومها بقول صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، باعتبار أن أقوال الصحابة حجة كما هو مذهب الحنابلة، ثم يأتي إلى مسألة أخرى فيقول بضد ذلك مع أنَّ فيها قول للصحابي فيكون قد تعارض قوله ولم يطرد استدلاله، فيقع في الخلل والخطأ، ولأجل ذلك الفقهاء الأربعة -رحمهم الله تعالى- لَمَّا دَوَّنوا مذاهبهم كانت لهم هذه الأصول والاستدلالات التي ينطلقون منها، فتجد أنَّ أقوالهم مُطردة، ومسائلهم مُتفقة، لا يمكن أن تتعارض في استدلالها، ولا أن تتقابل في استمدادها، فكان ذلك من أهم ما يكون، وهذا لا غضاضة فيه، يعني: هذه مدارس للترقي، فاذا وصل الإنسان إلى المرحلة العليا جاز له النَّظر في الموازنة والتَّرجيح، وتلك منزلة يبلغها مَنْ بَلَّغَه الله -جَلَّ وَعَلَا- في العلم منزلة عالية ودرجة رفيعة، لكن لا يُتصوَّر لأحدٍ أن يدرس العلم على مذهب أو على مذهبين في آنٍ واحدٍ، كما أنه لا يمكن أن يلتحق بمدرستين في أن واحدٍ، المدرسة الغربية والشرقية أو المدرسة الأمريكية البريطانية في العلوم التجريبية، لا يمكن ذلك.
أيضًا من الأهمية بمكان أن يكون له مسلك في التعلم على مذهب واحد، فإذا احتيج إلى مسألة من المسائل التي قوي فيها الخلاف فلا بأس من التنبيه على ما جرت عليه الفتيا، أو ما اشتد فيه الخلاف، ليستفيد من ذلك الطالب في واقعه وفيما ينزل به، وإذا كان الطالب الذي يدرس في بلدٍ شُهِرَ فيه مذهب ما، فيحسن به أن يكون لديه مختصر أيضًا على ذلك المذهب، ليحصل له المقارنة فلا يحدث له التضاد، بمعنى: أنه إذا قرر مسألة ما على مذهب أحمد وهو في بلد يشتهرُ فيها مذهب أبي حنيفة فيظن أنَّ الناس على خطأ أو خلل، لكن إذا اطَّلَعَ على بعض مختصراتهم رأى أنَّ هذه المسألة سلكوا فيها مذهب أبي حنيفة أو الفتيا في مذهبهم، فيكون ذلك سببًا لعدم حصول التشويش عليه إبَّان تعلمه وترقيه في منازل العلم والعلماء.
وقول الإمام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فِي فِقْهِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ الصَّابِرِ لِحُكْمِ) الإمام أحمد إمام أهل السنة، وهو من أعظم الأئمة، فيما ذُكر من سيرته، وما عُرف من مسيرته في العلم والتعلم والصبر والمجاهدة، فكان حريٌّ بكل طالبٍ أن يتعرف على سيرته، ولذلك لَمَّا جاء الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" -وهو كتاب كبير- مَرَّ الذهبي على ثلةٍ كبيرة من أهل العلم، لم يكن له أن يُفَصِّلَ في سيرة من السير، كما فَصَّلَ في سيرة الإمام أحمد بن حنبل، حتى بلغت صفحاته أكثر من مئة وسبعين في المطبوع من هذا الكتاب، وأنا أُوصي الطلاب بأن يرجعوا إلى هذا الكتاب فينظروا في سيرة الإمام فإنها نافعة جدًا، ولذلك قال: (الصَّابِرِ لِحُكْمِ الْمَلِكِ الْمُبْدِي) وذلك لَمَّا تعرض للفتنة الفتنة المشهورة التي حصل بها بلاء كثير، وهي فتنة خلق القرآن، وما ابتُلِيَ بذلك أهل العلم، أن يقولوا بها، وأن يمنعوا ما عليه أهل السُّنة من أنَّ كلام الله ليس بمخلوق، وأنه صفة من صفات الله -جَلَّ وَعَلَا- فمنهم من وَرَّىَ، ومنهم مَن تَوارى لِئَلَّا يدخل في هذه الفتنة إلا الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- فإنه انبرى لها، فوقف وصبر وصمد، حتى انجَلَتْ الفتنة بعد عقدين طويلين ووقتين كان فيهما من الشدة والجلد ما الله به عليم.
وفي هذا كان الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول: إنه كان يدعو للصٍّ وسارقٍ ولم يزل يدعو له، وذلك لأنه مع ما ابتُلِيَ به من هذا البلاء إلا أنه أسدى إلى الإمام أحمد نصيحة لَمَّا كان في السجن، فقال يا إمام: جُلدت في أمرٍ ليس في خير فاصبر فإنك على خيرٍ، فكان ذلك من أعظم ما صبَّرَ الإمام وتجلد حتى انجلت الفتنة واندفع البلاء، ولذلك قال: (الصَّابِرِ لِحُكْمِ الْمَلِكِ الْمُبْدِي)، وهو إشارة إلى أن تلك الأقدار، وما يحصل بأهل العلم من بلاء فإنما ذلك بتقدير من الله -جَلَّ وَعَلَا- فهو الذي يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ ، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ سبحانه وتعالى.
يقول: (لِيَقْرُبَ تَنَاوُلُهُ عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ) هذه مسألة مُهمة فهو ما كان له ليؤلف ليثبت له اسما أو ليظهر له ذكر، وإنما يطلب بذلك وجه الله -جَلَّ وَعَلَا، فلأجل ذلك أراد أن يُبين مزيد الحاجة إلى هذا، فقال: (لِيَقْرُبَ تَنَاوُلُهُ عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ) ولذلك كان المتقرر عند فقهاء الحنابلة أنَّ هذا من أعظم ما يبدأ فيه الطالب في التعلم، وهو كذلك لاختصاره وإتيانه على المسائل المهمة.
ثم قال: (وَيَسْهُلَ حِفْظُهُ عَلَى الرَّاغِبِينَ) من أراد الحفظ فإنه لو فُصِّلت المسائل وكثرت كما هو في الإقناع أو المنتهى، فربما يعجز عن ذلك الطالب في ابتداء حفظه، فلأجل ذلك كان هذا سهلا على الراغب في الحفظ المقبل عليه.
ثم قال: (وَيَقِلَّ حَجْمُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ) الرغبة في القلب، والطلب بالفعل والعمل، فكأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- في ذلك متوازنًا فيما ذكر.
قال: (وَسَمَّيْتُهُ "أَخْصَرَ الْمُخْتَصَرَاتِ") والمختصر عند أهل العلم هو ما اختُصِرَ ما هو أعم منه، ليجتمع فيه الأهم، سواءٌ كان ذلك مُتوجهًا إلى الألفاظ والجمل أو كان ذلك مُتوجهًا إلى المعاني، وقد يتوجه إليهما جميعًا فيُختَصَرَ من اللفظ ويختصر من المعنى بحسب ما تقوم به الحاجة ويُحتاج إليه.
ثم علل لذلك فقال: (لِأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى أَخْصَرَ مِنْهُ جَامِعٍ لِمَسَائِلِهِ فِي فِقْهِنَا مِنَ الْمُؤَلَّفَاتِ)، يعني في فقه الإمام أحمد وفي مدرسة الحنابلة -رَحِمَهم اللهُ تعالى، فلأجل ذلك كان هذا انطلاقًا من المؤلف وسببًا لتأليفه وإقبالا على ما سَنَحَ بخلده.
{أحسن الله إليكم، ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَنْفَعَ قَارِئِيهِ وَحَافِظِيهِ وَنَاظِرِيهِ إِنَّهُ جَدِيرٌ بِإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، مُقَرِّبًا إِلَيْهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَمَا تَوْفِيقِي وَاعْتِصَامِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)}.
هذا من بركة أهل العلم، لم يزل بعضهم يدعو لبعض ويثني على بعض، وتنتقل هذه الدعوات من السلف إلى الخلف، وتبقى من الخلف إلى من تقدم ممن سلف، فالمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- تعالى قال: (وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَنْفَعَ قَارِئِيهِ) فمن أقبل عليه فقد ناله من دعاء هذا الإمام، ودخل فيه (وَحَافِظِيهِ وَنَاظِرِيهِ) على وجه أخصُّ؛ لأنَّ عنايتهم تكون به أتم، حتى ولو سَنَحَ للإنسان لأن يَنظر فيه أو يتصفحه فلن يكون بعيدًا من دعوة وحصول بركة بإذن الله -جلا وعلا-، إنه جدير بإجابة الدعوات، فالله -جل وعلا- مجيب من دعاه، ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رأى الصحابة يرفعون أصواتهم بالدعاء فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا علَى أَنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ ليسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبً»[1].
قال: (وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ) هذه العبارة هي التي يجب أن يقف معها كل واحد منا، فإنَّ الإنسان قد يتحدث لأجل أن يتزين أمام الناس بالشرح، أو أن يتزين ببعض الْمُلَحِ في العلم، أو بغيرها، وذلك لن يُجدي على صاحبه شيئًا، وستذهب الأيام وتنطفي هذه الشاشات، ويذهب بريق هذه الأشياء، ولا يبقى للإنسان إلا ما قدَّم بين يديه، ينظر أيمن منه فلا يرى إلَّا ما قَدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلَّا ما قَدَّم، وينظرَ تلقاء وجه فيرى النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فلأجل ذلك يجب علينا أن نستحضرَ الإخلاص في كل أعمالنا، وأعظم ما يكون ذلك في أمور العلم، وأعظم ما يكون ذلك إذا كان ذلك بينه وبين الناس، فإنَّ النفس لها نزاعات ولها أهواء، فإياك أن يكون مسراك في العلم لأجل أن تتزين به في المجالس، أو أن تتكثر به بين الأقران، أو أن يكون لك غرضٌ من أغراض الدنيا، فإنَّ ذلك يذهب ولن يجدي على صاحبه شيئا، فالله نسأل -كما سأل المؤلف رحمه الله تعالى ربه- أن يجعل عملنا وعمله وعملكم خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكون قربة وزلفى إلى جنان الله -جل وعلا.
ثم قال: (وَمَا تَوْفِيقِي وَاعْتِصَامِي إِلَّا بِاللَّهِ)
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى ... فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ
{أحسن الله إليكم، قال رحمه الله: (كِتَابُ الطَّهَارَةِ
الْمِيَاهُ ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: طَهُورٌ، وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ كَمُتَغَيِّرٍ بِغَيْرِ مُمَازِجٍ، وَمُحَرَّمٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَيُزِيلُ الْخَبَثَ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ وَغَيْرُ بِئْرِ النَّاقَةِ مِنْ ثَمُودَ)}.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (كِتَابُ الطَّهَارَةِ)، جرى فقهاء الحنابلة كما الشافعية المالكية وجمع من أهل العلم على البدء بالطهارة، وذلك لأنها مُقدِّمة الصلاة والطريق إليها، والصلاة أهم أركان الإسلام، فكان ذلك هو البداءة بها والإشارة إليها، وهي أيضًا إشارة إلى تطهير النفس من درن الذنوب والمعاصي وكل ما ساء، ولذلك ابتدأ الحنابلة بالطهارة وانتهوا بالإقرار، قالوا: وهو إشارة إلى إقرار الإنسان بضعفه، والفقهاء بحاجتهم إلى الله -جَلَّ وَعَلَا-، فكان البداءة بتنقية النفوس وتزكيتها، والنهاية بالإقرار بالضعف والمسكنة لله -جَلَّ وَعَلَا، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ والبداءة بالعبادات؛ لأنَّ العبادات سابقة وأهم من المعاملات، وهي حق الله -جَلَّ وَعَلَا- على عباده.
والطهارة هي النزاهة والنظافة في اللغة، أمَّا في الاصطلاح فكما عرَّفها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- أنها ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث، هو أشار إليها في قوله في المحرم: (لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَيُزِيلُ الْخَبَثَ)؛ لأنَّ الماء الطهور هو الذي يرفع الحدث ويزيل الخبث، فاذًا هي رفع الحدث وزوال النجس، وبذلك تتحصل الطهارة للعبد فتصح بذلك صلاته وما تُشترط له طهارته إن كان ذلك من حدث أصغر أو حدث أكبر بالوضوء وبالغسل حسب ما هو متقرر على ما سيأتي بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا.
و (الْمِيَاهُ ثَلَاثَةٌ): تقسيم المياه إلى ثلاثة هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة كما هو قول جماهير أهل العلم، وأصل ذلك أنَّ الشرع جاء في أدلةٍ بتسمية الماء طهورًا وذلك حينما سئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ماء البحر فقال: «هُوَ اَلطُّهُورُ مَاؤُهُ اَلْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فلمَّا قال: «هُوَ اَلطُّهُورُ مَاؤُهُ» عُرِفَ أنه يمكن أن تجد ماء ولا يكون طهورًا، ويدل لذلك أيضًا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن ينغمس الجنب في الماء الدائم الذي لا يجري، مع أنه قطعًا لا يُنجسه، فلولا أنه يُؤثر فيه فينقل حكمه من الطهورية إلى عدم الانتفاع به أو نحوه، لَمَا نهى عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمن أجل هذا ذهب جماهير أهل العلم إلى اعتبار المياه ثلاثة أقسام؛ ولأنه يوجد ماء دخل عليه مَا يُؤثر فيه، لكنه لم يبق على خلقته، ولم يزل عنه اسم الماء، فإمَّا أن نقول: إنه يجوز التطهر به أو لا.
حينما نقول: إنه يجوز التطهر به لابد أن نعتمد على أصل، والله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ﴾ ، إذًا الماء الطهور هو الذي نزل من السماء، وهو الذي على خلقته، ولذلك قال: (وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ)، فإذا لم يبق على خلقته فمعنى ذلك أنَّ هذا الوصف وهو وصف الطهورية قد حصل فيه ما يخل به، فإمَّا أن تبقى الطهورية وإمَّا أن لا تبقى، فهذا محل تردد، والطهارة يُطلب فيها اليقين، فلم يكن لنا أن نُعَرِّضَ عبادتنا إلى ما هو محل تردد وليس فيه يقين بحصول التطهير به ورفع الحدث؛ فلأجل ذلك قالوا: إنها ثلاثة أقسام، مع أنَّ من قال: إنه ينقسم إلى قسمين قوله معتبر، قال به الحنفية واختاره ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- وقالوا: إنَّ الماء ما دام اسم الماء باقٍ عليه فهو صفة التَّطهير، وقوة إزالة النجاسة ورفع الحدث فيه باقية، فأخذوا بذلك، لكن هذا هو مأخذ من قال إنَّ أقسام المياه ثلاثة.
عَرَّف الطهور الذي على وزن فعول، وهو الذي متعدٍ يحصل به التطهير، قال: (وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ)، فما دام أنَّ الماء باقٍ على خلقته فهو يحصل به التطهير ويحصل به الطهارة.
ذكر أهل العلم أنَّ بعض المياه يمكن أن تكون باقية على خلقتها، وقد يُمنع من التطهير بها كما سيأتي، وقد يحصل تَغيرٌ ولا يُمنع التطهير أيضًا وهو مستثنى، فعلى سبيل المثال الماء الآجن، والماء الآجن هو الذي تغيَّر بطول المكث، فلمَّا كان الناس يحفظون مياههم فلا بد أن يكون لها تغير، فإذا كان في قربة فقد يدخل فيها ربما بعض طعم هذا الجلد الذي حفظ فيه، وإذا كان في غدير فقد يكتسب من طعم التراب ونحوه، أو بئر أو نحوها.
فبناء على ذلك أجمع أهل العلم أنَّ المتغير على هذا النحو باقٍ على طهوريته؛ لأنه لا تسلم المياه من أن تتأثر في طول مُكثها واستمرار بقائها، فلأجل ذلك كان هذا أمرًا ظاهرًا عند أهل العلم مجمعًا عليه.
ثم ذكر بعض الأشياء التي تُغَيِّرُه ثم يَتفاوت حُكمها، فقال: (وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ كَمُتَغَيِّرٍ بِغَيْرِ مُمَازِجٍ وَمُحَرَّمٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَيُزِيلُ الْخَبَثَ) ما معنى متغير بغير ممازج؟ يعني لو أنَّ حوضًا من الماء فيه قطع خشب، هذه الطعم غير ممازج، فهي لا تغير الماء ولا تُدَاخِلُهُ، لكن قد تُؤثر فيه فنشعر بطعمها فيه، فقالوا: ما دام أنها لم تمازج الماء أو تداخله فالماء باقٍ على طهوريته، لكن لِمَ قيل بالكراهة؟
لأنه يمكن اتقاؤها وحجبها، فإذا وقع في الماء شيء أزلناه ونتعاهده بما يمنع مثل هذه الأشياء.
والمتقرر عند أهل العلم أنه إذا احتيج إلى هذا الماء ولم يوجد غيره، أو وجد غيره لكن يُحتاج إليه إلى نحو شرب ونحو ذلك فإنه تزول الكراهة، فالقاعدة عند أهل العلم: أنَّ ما وُصِفَ بالكراهة تزول عند الحاجة.
(وَمُحَرَّمٌ) المحرم لا يرفع الحدث ويزيل الخبث وهو المغصوب، كيف محرم؟
يعني: أنَّ الماء باقٍ على طهوريته لكن لأجل أنَّ الوصف الذي هو خارج عن حقيقة هذا الماء لكنه موجود، غُصِبَ هذا الماء، فهذا الغاصب لو أراد أن يتوضأ بهذا الماء نقول: إنه محرم عليك، وبناء على ذلك لَمَّا كان محرمًا عليه؛ لأنه مُعتدٍ بهذا الغصب ومُعتد بهذا التوضؤ، فإنَّه منهي عن هذا، والنَّهي يقتضي الفساد، وبناء على ذلك لا يرتفع حدثه به.
ومثل ذلك الماء المسروق، ومثل ذلك أيضًا الماء المشترى من عين المال الحرام، ما معنى المشترى من عين المال الحرام؟ يعني مثلا: امرأة بغي، قبضت عشرة ريالات من بغائها -نسأل الله السلامة والعافية ونسأله أن يَهدي ضالَّ المسلمين- ثم بهذه العشرة عينها اشترت ماءً فتطهرت به، نقول: هذا الماء لا يرفع حدثها لماذا؟
لأنه ماء محرم لكونه من مالٍ حرام، فبناء على ذلك لا يرتفع به الحدث، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة خلافا للجمهور؛ لأن الجمهور يقولون: هذا أمر خارج عن الحقيقة، فبناء على ذلك هو يأثم بهذا الفعل ويصح من السَّارق إذا توضأ ومن الغاصب إذا توضأ بالماء الذي غصبه، ومن المرأة التي اشترت بمالها من بغاها ماء فتوضأت به، لكنه قال: إنه يزيل الخبث، لماذا لا يرفع الحدث ويزيل الخبث؟ لأن رفع الحدث عند الفقهاء عبادة، والعبادة لابد فيها من نية، فبناء على ذلك لم تصح من شيء محرم، أما زوال الخبث فكيفما زال عند أهل العلم حصل به المقصود، حتى لو لم تدرِ أنت وكان على ثوبك نجاسة فأصابتك مطرٌ من السماء، فزالت النجاسة بذلك المطر الذي أصابك طهُر ثوبك وجازت الصلاة فيه، ولو لم تدرِ ولو لم تنوِ ولو لم تشعر بذلك الماء.
إذًا زوال الخبث لا يُحتاج فيه إلى نية، فلأجل ذلك كيفما زال حصل به المقصود، فلو زالَ بماء محرم كمغصوبٍ أو مسروقٍ أو نحوه.
قال: (وَغَيْرُ بِئْرِ النَّاقَةِ مِنْ ثَمُودَ)، آبار ثمود جاء النَّهي عنها، لأنَّها ديار معذَّبين، ولما استقى الصحابة منها أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يريقوها.
قالوا: إلا بئر الناقة فإنَّه أذن فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما جاء ذلك في الأثر، فأمرهم أن يستبقوا ما استسقوا به -أو ما استقوه- من بئر الناقة، فلأجل ذلك كان مستثنًى من آبار ثمود، وإلا فآبار ثمود قد نهي عن أن تستعمل لأنها ديار معذبين كما جاء في الحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِي: طَاهِرٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَلَا يُزِيلُ الْخَبَثَ، وَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ بِمُمَازِجٍ طَاهِرٍ).
ما الفرق بين الطَّاهر والطهور؟
إذا قالوا إنه "لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث" يعني أنه يستعمل فيما ينتفع به الناس من أكل ومن شرب ومن تغسيل قذر، لكنه لا يزيل نجاسة، ولا يحصل به وضوء ولا غسل.
وهذا القسم الثاني هو مشهور المذهب عند الحنابلة وهو قول جمهور خلافًا لشيخ الإسلام، وهذا هو الذي حصل فيه الخلاف، هل يمكن أن يوجد ماء ليس بطهور وليس بنجس؟
هذا هو محل الكلام:
- فمنهم من قال: لا، ما دام اسم الماء باقٍ وليس بنجسٍ فهو طهور يحصل به التَّطهير، وأخذوا بالعمومات، وإطلاق اسم الماء عليه.
- ومنهم من قال: جاء في النصوص ما يدل على أن الماء طهور، ويُمكن أن تؤثر فيه الأشياء، فبناءً على ذلك يُمكن أن نتصور أن هذا الماء لم يبقَ على خلقته، ولم ينتقل إلى النَّجس، فهو في مرحلةٍ بينهما، لا يجوز أن نتطهر به فنرفع الحدث، ولكن يمكن أن نستعمله في الأمور العادية التي يحتاج إليها الناس.
فلذلك قال: (طَاهِرٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَلَا يُزِيلُ الْخَبَثَ)، ولعلك تلحظ هنا أن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- لم يعرفه، وهذا هو الكثير عند الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- فأكثر ما يُعرِّفونه بالمثال، لأنه لا ضابط له، إلا أن نقول: ما بقيَ له اسم "الماء" ولم يبقَ على أصل خلقته، لكن يأتي الإشكال على الماء الذي انغمس فيه الجنب، فهو لم يتغير عن خلقته، فبناءً على ذلك لا يستقر له وصف، إلا أنهم يعدِّدون التي داخلها شيء مما يغيرها فانتقل حكمها من التَّطهير، ولم تكن نجسة لكون المتغير به مما لا يؤثر فيه نجاسة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (طَاهِرٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَلَا يُزِيلُ الْخَبَثَ، وَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ بِمُمَازِجٍ طَاهِرٍ).
معنى الممازج: الذي يتداخل، مثل لو صُب على الماء حبر، هذا الحبر يمازِج الماء ويداخله وتراه في كل أجزائه، فبدل أن يكون الماء مشرقًا أو مضيئا تجد أنه يخبو لونه بهذا الزراق الذي دخلَ فيه، ولو صببت عليه مثلًا لبنًا رأيت أنه ينتشر في أجزائه، لذلك قالوا من أنه ممازج، فإذا صُب على الماء لبنًا فهنا عندنا درجتان:
- إمَّا أن يُصب هذا اللبن أو هذا الحبر فلا يتغيَّر، يعني يُرى أثر بسيط لكن ما تغير الماء؛ فهذا باقٍ على أصل خلقته وطهور.
- لكن إذا رأينا أن الماء دخل عليه شيءٌ من الظلمة أو ذهبَ مذهب الحبرِ كازرقاق ولو يسير فهنا يكون انتقل إلى كونه ماء طاهرًا، لا يستعمل في الطهارة الشَّرعية التي هي يحصل بها رفع الحدث وإزالة الخبث.
طبعا يحسُن بنا أن نشير إلى تعريف الحدث، وهو: الوصف القائم بالبدن، الذي يمنع الصلاة ونحوها، فلو بالَ الإنسان فهو محدث.
معنى وصف: لو جئنا بشخصين واحد بال وواحد لم يبل. هل يختلفان؟ لا يختلفان، لكن هذا نصفه بأنه محدث فلا يجوز له أن يصلِّي بوضوئه، وهذا متطهِّر باقٍ على طهارته.
فمعنى كونه أحدثَ: يعني لحق به وصف يمنع وضوءه من أن يصلي به أو أن يفعل به شيء.
وزوال الخبث: إزالة ما على الجسد من الخبث والنجاسة.
قال: (وَمِنْهُ يَسِيرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي رَفْعِ حَدَثٍ)، يعني: ماء قليل.
معنى الماء المستعمل: هو الذي استعمل في طهارة، فإذا جئت بإناء فارغ وصببت على نفسك وضوء وما تقاطر من يدك أو وجهك وقع في هذا الإناء، فنقول: هذا ماء مستعمل، لأنك استعملته في الطهارة.
فيقولون: ما فيه من التطهير قد ذهب، لأنه استُعمِل في الطهارة.
بعض الناس يتبادر إلى ذهنه أنه لو جاء إنسان بإناء فيه ماء ثم غرف وتوضأ وبقي في هذا الإناء بقيَّة؛ هذا ما يسمى عند الفقهاء ماءً مُستعملًا، هذا يُسمى فضل الطهور، وفضل الطهور طهور في الأصل؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ بفضل ماء ميمونة كما في الصحيح، فهذا هو الفرق بين الماء المستعمل والماء الفضلة، هذا ما ينبغي التنبيه عليه.
طبعا فضلة الماء استثني منه فضل ماء المرأة، وهذه مسألة الحقيقة فيها إشكال كثير، وفيها تفصيلات عند الحنابلة كبيرة، إذا خلت المرأة بماء فهل يسلبه الطهورية أو لا؟
يقولون: إنه يسلبه بقيود سبعة ذكروها، ويسلبها عن الرجل، لما جاء في حديث الحكم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة فيه إشكال؛ لأن الحديث فيه علَّة، أن يتوضأ الرجل أو أن تتوضأ المرأة بفضل الرجل، مع أن الحنابلة لا يقولون إلا بمنع الرجل من فضل المرأة، أمَّا المرأة أن تتوضأ بفضل المرأة أو فضل الطفل فهذا جائز.
على كل حال: أصل هذا عندهم هو مرويات عن الصَّحابة هي التي قوَّت القول، لكن يبقى القول فيه إشكالات، ولذلك كثرت القيود فيه، ويقول الإمام ابن سعدي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- لما جاء على هذه المسألة في استدراكها: "ومما يدل على ضعف المسألة إذا كثرت القيود والاشتراطات".
أمَّا لو أنَّ شخصًا استعمل الماء لأجلِ نظافة، قام صباحًا إلى عمله فاستعمل الماء ولكونه في مكانٍ يقل فيه الماء أبقى تحته إناءً يجمع ما نزل منه من الماء، فلو جاء الظُّهر واحتاج إلى التَّطهر، فنقول: هذا ماء مُستعمل، يجوز بها التطهر؛ لأنه وإن كان مُستعملًا لكنه مستعملٌ في غير رفع حدث، أمَّا لو أنَّ رجلا توضأ من بول أو من ريح أو من جنابة أو نحو ذلك؛ فنقول: هذا الماء الذي بقي بعده قد سُلب طهوريته وصار ماءً مُستعملًا طاهرًا، لا يجوز أن يُتطهر به ويستعمل في العادات من أكل شرب أو تنظيف بيت أو سواه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: نَجِسٌ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ مُطْلَقًا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهُوَ مَا تَغَيَّرَ بِنَجَاسَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّ تَطْهِيرٍ)}.
النجس: هو ما تغير بالنجاسة.
والنجاسة هي ما حكم الشارع بنجاسته من بول أو غائط أو دم أو مذي أو غوثِ حيوان غير مأكول، إلى تعداد النَّجاسات التي سيأتي بيانها بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا-، فإذًا الماء الذي وقعت فيه النجاسة ينجُ.
ما ضابط ذلك؟ سيأتي بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا-، فيما ذكره المؤلف، لكن في الأصل أنَّ الماء النجس هو ما خالطته النَّجاسة، لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ»[2]، وهذه الزيادة وإن كانت ضعيفة عند أهل العلم -يعني في الثلاث أوصاف اللي لونه أو طعمه أو ريحة- لكنها محل إجماع أنها مناط الحكم بنجاسة الشيء، فأي شيء فيه هذه الثلاثة يكون نجسًا، وسيأتي تفصيل هذا.
قال: (يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ مُطْلَقً)، يشير بقوله (مطلق) إلى أنه لا يستعمل لا في التطهير، ولا يستعمل فيما يستعمل فيه الماء الطاهر في العادات، يعني لا يجوز لك أن تستعمله مطلقا، لأن استعمال الماء النجس يفضِي إلى التلطُّخ بالنجاسات، والشرع قد جاء بالنهي عن التَّلطُّخ بالنجاسات أو التلوث بها والتخلص منها، والسلامة من درنها، فلمَّا كان كذلك فلا يجوز لإنسان أن يستعملها.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (إِلَّا لِضَرُورَةٍ)، إذا اضطر إلى ذلك كدفع غصة في فمه لا يجد ماءً إلا نجسًا بجواره أو أشرف على هلكةٍ ولم يجد إلا الماء المتنجِّس فلا شكَّ أنه يجوز له ذلك؛ بل يجب عليه حفظ نفسه ودفع ضرورته ويستعمل ذلك في تلك الحال.
أما ما سوى الضرورة فلا، حتى لو احتاج، فإن الحاجة ترفع الكراهة، ولكن المحرم لا يرفعه إلا الاضطرار.
متى يُقال إن الماء نجس؟
قال: (وَهُوَ مَا تَغَيَّرَ بِنَجَاسَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّ تَطْهِيرٍ، أَوْ لَاقَاهَا فِي غَيْرِهِ وَهُوَ يَسِيرٌ).
الماء النجس أحدُ ماءين:
- إما ماء قليل -وسيأتي متى يكون الماء قليلًا أو كثيرًا- لاقى نجاسة، قليلة أو كثيرة، فلو كان عندك إناء وكان شخص يبول فطارت منه رذاذ فوقع في هذا في هذا الماء، فنقول: هذا الماء الذي في هذا الإناء هو قليل فنجس بملاقاة النجاسة، فإذًا لا يفرق هذا الإناء أن يقع فيه رذاذ، أو أن يأتي شخص فيبول عليه، كما لو جاء صغيرٌ فبالَ في هذا الإناء بولًا كاملًا، ابن ست أو خمس سنوات لا يشعر ولا يعرف -وإلا لا يجوز لإنسان أن يلوِّث الماء الطَّهور وأن يقذِّره وينجسه- أو معتدي واعتدى بذلك وأراد إفساده على الناس، المهم أنه إذا وقع في الماء القليل نجاسة قليلة جدًّا أو كثيرة نجُسَ، وحُكم بكونه نجسًا، أثرت فيه أو لم تؤثر فلا يعتبر هذا، مجرد الملاقاة كافٍ في هذا.
طيب لماذا؟ مع أنكم تقولون إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ»؟
قالوا لأنه جاء في حديث ابن عمر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَان الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ»[3]، فدلَّ على أنَّ غيره يحمل الخبث بمجرد ملاقاتها مطلقًا، فلأجل ذلك قال الفقهاء: إن الماء القليل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة.
- أمَّا إذا كان الماء كثيرًا فلا ينجس إلا بالتَّغير، ويستثنى من ذلك حالة وهي: أن يتنجَّس في محل التَّطهير، أو أن يتغيَّر في محل التطهير، يعني الآن لو كان على هذا الثوب نجاسة بول أو غيره، فصُب عليه، فأوَّل ما يصب عليه ستجد في تحرك هذه النجاسة يختلف لون الماء، فيأخذ لون الصفار، لو قلنا: إنه ينجس في محل التطهير ما طهرت شيء، كل ما أصاب النجاسة نجس بها فبقيت نجاسة، فبناء على ذلك محل التطهير لا حكم له.
لو أنَّ شخصًا صبَّ على نفسه ماء وهو يتخلَّص من عذرته فإنها ستتغير وستأخذ لونها إلى أن يغمق اللون، فلو قيل إنه ينجس ما تطهر الإنسان، فلأجل ذلك قالوا: أمَّا إذا كان في محلِّ التطهير فلا يحكم بنجاسته؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في الأعرابي الذي بال في المسجد: «وأَهْرِيقُوا علَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ»[4]، ولا شك أن هذا الماء كان قليلًا، وسيتغير في محل التَّطهير، ومع ذلك لم يحكم بالنَّجاسة، فدلَّ على أنَّ في محل التَّطهير هو في مدافعة النَّجاسة فلا يحكم بنجاسته في تلك الحال.
فبناء على ذلك: الماء إن كان قليلًا ولاقى نجاسة فهو نجس بمجرد ملاقاتها، سواء كانت شيئًا قليلًا جدًّا أو كثيرًا؛ لأن الماء القليل ليس له قوة في دفع النَّجاسة.
أمَّا لو كان الماء كثيرًا فوقعت فيه نجاسة فإنها لا تُؤثر فيه إلا أن تغيِّره، والتَّغير يكون بتغيير أحد أوصافه وهي:
- الريح: يشم رائحة النجاسة في هذا الماء.
- أو الطعم: لو طعمت هذا الماء وجدت فيه أثر النجاسة.
- أو لونه.
وهذا من الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- في التفريق بين الماء القليل والكثير هو مبنيٌّ على الجمع بين الدَّليلين فحملوا حديث ابن عمر: «إِذَا كَان الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» فلا يكون إلا بالتَّغير، وحملوا ملاقاة النجاسة على ما جاء في الأحاديث أن النجاسة إذا وقعت في ماء نجسَّته، فجمعوا بينهما فقالوا: إن النجاسة تؤثر في الماء إلا أن يكون كثيرًا لحديث ابن عمر.
هذا الكلام قد يرد عليه بعض الإيرادات:
- بعضهم يقول: إن الماء القليل والكثير بمثابة واحدة ما دام أنه لم يتغير فلا يؤثر، هذا له احتمال.
ونقول: لِمَ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَان الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ»؟
قالوا: يفهم منه أنَّ القليل يحمل الخبث بمجرد الملاقاة، وإلا فبالإجماع أنه إذا تغير نجس.
إذًا، القليل يحمل النَّجاسة أو ينجس بمجرد الملاقاة، وهذا لا يحملها إلا بالتغير.
وقالوا: إذا كان الماء ليس بقليل فيكون على سبيل الاحتياط، أو أنه في الغالب يتغير فتنبهوا.
لكن نقول: إن الاحتياط في الطَّهارة والتَّيقن لها ينبغي أن لا يكون في تعريض هذا الماء نجس أو لم ينجس، فما دام أنه لاقى النجاسات فالغالب أن المياه القليلة تتأثر بالنجاسة، فجعلنا حكمها واحدًا وتيقنَّا للعبادة على أتم وجه فبناء على ذلك طلبنا السلامة، وجعلنا الماء القليل نجسًا لموافقة مفهوم حديث ابن عمر، واحتياطا للعبادة في سلامتها من أن تؤدى بطهارة مشكوك فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْجَارِي كَالرَّاكِدِ)}.
هذا إشارة إلى قولٍ في المذهب وقولٍ عند بعض الفقهاء أن الجاري له قوة، فبناء على ذلك لا يشترط فيه الكثرة والقلة، بل هو دافعٌ للنجاسة، فأراد أن ينبِّه المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الجاري ما دام قليلًا فحكمه حكم الماء ليسير في أنه ينجس مجرد ملاقاة النجاسة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْكَثِيرُ قُلَّتَانِ، وَهُمَا مِائَةُ رِطْلٍ وَسَبْعَةُ أَرْطَالٍ وَسُبُعُ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ، وَالْيَسِيرُ مَا دُونَهُمَ)}.
الحديث ما جاء فيه تعيين هذه القلال، فجاء: «إِذَا كَان الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ»، فجاء الفقهاء وقالوا: ننظر إلى القلال، فالقلال ما تقله الأيدي، فاجتهدوا وقالوا إن أشهر القلال هي قلال هجر، وهي قلال معروفة، وهذا يسمى بساط الحال الذي جاء فيه التنزيل يصرف على أشهر ما يكون وأوضح ما يكون أو في محل التنزيل، فذهبوا إلى هذه القلال وبدأوا ينظرون إلى سعتها.
ومن المعلوم أنَّ القلال كيل، والرَّطل وزن، فما الفرق بين الكيل والوزن؟
الكيل: اعتبار الشيء بسعته أو حجمه.
والرطل والوزن: هو اعتبار بثقلها وخفتها.
فنقْلُ المكيل إلى موزون هذا ليس دقيقًا في الجملة، مثل الصَّاع إلى الأوزان الحالية، طبعا كلمة "كيلو" دائما مشكلة مع "الكيل"، فالكيلو من الوزن وليست من الكيل، لكنها ليست عربية فتنبهوا لذلك!
الكيلُ هو: اعتبار الأشياء بالحجم، يعني مثلًا: لتر، سطل، برميل، جالون، هذه أشياء مشهورة عند الناس الآن اليوم، هذه كلها وإن كانت أشياء ليست عربية لكنها مشهورة، هذي بالأحجام.
الوزن يكون بالكيلو، أو الرطل، أو جرام، أو طن.
ولَمَّا كان في ذلك الوقت ينتشر الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات سهُل على الناس معرفتها، لكن صار أكثر شيء عند الناس الآن الوزن فاحتاج الفقهاء إلى أن يقرِّبوه بالموزون، ولذلك في بعض المطولات يأتي به بالدمشقي وبالعراقي وبالمصري وبغيره، فعموما لابد أن تعلم أنه ليس دقيقًا لكنه على سبيل التَّقريب، لأن الماء قد يكون أثقل من اللبن، فلو وضعت لبنًا يكون أثقل مثلًا أو العكس، وأشياء أخرى سائلة قد تكون أخف أو أثقل من الماء، فإذا وضعت مثلًا قطن في صاعٍ ما بلغ وزنه ولا جرامات، ولو وضعت ماءً لربما كان مئات الجرامات أو أكثر من ذلك بالآلاف.
وعلى سبيل التقريب جاءوا وقربوا القلَّة فوجدوها مائة رطل، واجتهد بعض المعاصرين بأن يكون بالجرامات، بعضهم يقول: إنه تقريبًا مائتين وخمسة، وبعضهم قال -كما في حاشية الشيخ القعيمي- إنه مائة وتسعين أو مائة وواحد وتسعين ونصف أو نحوها، يعني تتراوح بين ذلك، لأنهم يقولون: ذراع وربع في ذراع وربع في عمق ذراع وربع، هذا تقريب للكثير، فإذا كان هذا القدر فيعتبر ماءً كثيرًا، فالحكم بنجاسته يكون بالتَّغير، وإذا كان أعظم من ذلك أو أكثر فهو كثير.
وما كان أقل من القلتين فهو يسير فينجس بملاقاة النجاسة على مشهور المذهب عند الحنابلة، كما هو قول جمهور أهل العلم.
{نستأذنكم شيخنا في الاكتفاء بهذا القدر}.
أرجو أن يكون فيه بركة، نحن حريصون الآن على الاختصار قدر الاستطاعة حتى يكون لنا قطع لقدر لا بأس به في هذا الفصل بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- وإلا كان ثم مسائل تحتاج إلى شيء من التنبيه أو التَّفصيل. أسألُ الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن ينفعنا جميعا بما سمعنا.
بودي أن المشاهدين يتواصلون فيما أشكل عليهم، وفيما يحتاجون إليه، وفي بعض التنبيهات لو كان في بعض الشرح قصور أو غيره، فيمكن أن يستدرك كذلك، سواء كان في دروس لاحقة أو كان ذلك أيضًا في الدروس التي ستكون افتراضية بالالتقاء بالطُّلاب المواظبين، والتشاور معهم والتَّدارس في المسائل الملقاة، أسأل الله أن ينفعنا جميعًا وأن يوفقنا وإياكم والإخوة القائمين لكل خير وهدى وأن يتقبل منا ومن المسلمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.
{بارك الله فيكم وأحسن إليكم وبارك في علمكم.
أعزائي المشاهدين، نستكمل ما بقي في مجالس قادمة بإذن الله، ولذلكم الحين نستودعكم الله والسَّلام عليكم ورحمة الله}.
-------------------------
[1] صحيح مسلم (2704).
[2] ابن ماجه (521) والدارقطني (47) ، والبيهقي (1226).
[3] صحيح الترمذي (67)، صحيح النسائي (52).
[4] صحيح البخاري (6128).