{الحمد لله، الحمد لله الملك العلَّام، القدوس السَّلام، وصلَّى الله وسلَّم على خير من صلَّى وصام، وتعبَّد وقام، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم سلام.
ثم أمَّا بعد، فأهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين ومستمعينا في كل مكان، في مجلس جديد لمجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله.
{أحسن الله إليكم وبارك فيكم، استأذنكم شيخنا في استكمال ما توقفنا عنده، أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْمُبْتَدَأَةُ تَجْلِسُ أَقَلَّهُ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ دَمُهَا أَكْثَرَهُ اغْتَسَلَتْ أَيْضًا إِذَا انْقَطَعَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ ثَلَاثًا فَهُوَ حَيْضٌ تَقْضِي مَا وَجَبَ فِيهِ، وَإِنْ أَيِسَتْ قَبْلَهُ، أَوْ لَمْ يَعُدْ فَلَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فاسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتم علينا وعليكم نعمه الظاهرة والباطنة وأن يصرف عنا النقم وأن يحفظ الله العباد والبلاد والمسلمين أجمعين يا رب العالمين.
أيُّها الإخوة المشاهدون؛ في هذا المجلس من مجالس شرح (أخصر المختصرات) وقد ابتدأنا في فصل الحيض، وفيه مسائل مهمة، فيها من الصعوبة وفيها من الوعورة وفيها من الأشكال ما لا يخفى، ولم يزل هذا الباب فيه ما فيه، واستشكل كثير من العلماء بعض مسائله، وعلى كل حال ما ذكره المؤلف هنا في هذا المختصر يعد من أمهات هذه المسائل، ولذلك ربما يُسلمنا الله من التعرض لدقائق هذه المسائل وما فيها من الصعوبة وسواها.
ولتعلم النساء أنَّ الحيض مما كتبه الله على بنات آدم، كما قال ذلك النبي ﷺ لعائشة لَمَّا حاضت وهي في طريق الحج فبكت، فقال النبي ﷺ: «إنَّ هذا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ علَى بَنَاتِ آدَمَ»[1]، وهو كالتسلية لهنَّ، فإنَّ كثيرا من النساء يَعرض لها هذا الدم والحيض، فربما منها من صلاة وربما فاتَ عليها وقت عبادة عظيم، وربما رأت الناس يبتهلون ويخشعون ويصلُّون ويسجدون، وهي يُحالُ بينها وبين ذاك، ألا فلتعلم النساء أنَّ هؤلاء كما يتعبدون لله بالإقبال والإخبات والابتهال، فإنها تتعبد لله -جَلَّ وَعَلَا- بالإمساك عن الصلاة والامتناع، وهي في عبادة كما أنهن في عبادة، فإذا علِمَتْ ذلك واستشعرت هذا الأمر فإنه يزيد أجرها أجرًا، ويعظُم فضلها، ولعله أن يكتب لها ما كُتب لهن بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا-، فإنَّ ذلك عارض ليس من قِبَلها، فيدخل في قول النبي ﷺ: «إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً»[2]، فلعلها أن تكون كذلك.
ابتدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في ذكرِ أحوالِ النِّساء في الحيضِ فذكر المبتدأة، وهي التي ابتدأت نزول الدم ورأت العادة لأول وهلة كيف يمكنها أن تعمل؟ وكيف يمكنها أن تحكم؟
وهنا ننبه إلى أنَّ طريقة الحنابلة في ذلك فيها شيء من الصعوبة، وربما خالفت منهجَ كثيرٍ من الفقهاء، نحن سنذكر ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- وربما نحتاج إلى أن نُعرِّض إلى بعض ما يستقيم به الأمر، ونحتاج إلى زيادة توضيح يُسَهِّلُ على الطالب في طلبه لدراسة هذه المسائل.
لَمَّا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ المبتدأة إذا نزل معها الدَّم تجلس أقلَّه، وأقلُّه هو ما مرَّ معنا في الدرس الماضي وهو يومٌ وليلةٌ.
معنى ذلك: أنه لو استمرَّ معها الدم يومان أو ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنها لا تبقى، فهذه المرأة إذا ذهب عليها يوم وليلة فإنها بعد ذلك تغتسل وتصلي وتصوم ولو كان الدم مُستمرًّا معها.
وهذا راجع إلى أصل عند الحنابلة، وهو أننا لا ندري هل هذا الدم هو دم فسادٍ أو دم حيضٍ؟ هذا الخارج وهو الخارج المعتاد أو غير المعتاد؛ لأنه لأول وهلةٍ يمرُّ بها، فنحن نأتي المتيقَّن وهو يوم وليلة -وهو أقل الحيض- فنعتبره حيضًا، وما زاد نبقى في حال شكٍّ أو تردد أو ارتيابٍ، فبنوا على أنه ليس بحيضٍ في أول وهلة، ثم بعدَ ذلك سيعودون إلى تفصيل الحكم فيه على ما سيأتي معنا.
لماذا قالوا هذا؟
قالوا: لأنَّ العادة إنما تُعرف بالاعتياد، وهذه لم تعتد بعد حتى نحكم بما اعتادت، فاقتصروا على الأقل، وما زاد فهو مترددٌ بين أن يكون داخل في هذه العادة وما كتبه الله على بنات حواء، أو راجعٌ إلى دم فسادٍ اعترض لهذه المرأة، ثم لم يعُد لها بعدَ ذلك، فلا يمكننا أن نحكمَ بأنه من دم الحيض حتى يكون مُعتادًا مُستقرًّا.
هذا هو أصل كلامهم حتى ذهبوا إلى هذا المذهب وحصل عندهم شيءٌ من هذا الإشكال، فلذلك قال المؤلف: (وَالْمُبْتَدَأَةُ تَجْلِسُ أَقَلَّهُ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي)، يعني: سواء انقطع أو لم ينقطع، فإن كان قد انقطع فالأمر واضح، لكن حتى ولو لم ينقطع فهي تغتسل وتصلي.
ثم يقول المؤلف: (فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ دَمُهَا أَكْثَرَهُ اغْتَسَلَتْ أَيْضًا إِذَا انْقَطَعَ)، يعني أنَّ هذه المرأة إذا جاءت في اليوم الثامن وانقطع منها الدم؛ فإنها تغتسل مرة ثانية، مما يدل على أنهم اعتبروا أنَّ هذا الوقت هو وقت تردد، ولم يحملوه على أحكام الطهر، ولم يحملوه على أحكام الحيض.
لماذا لم يحملوه على أحكام الطهر؟
لأنهم أوجبوا عليها الغسل مرة أخرى، ولو كانت اغتسلت من حيض وانتهى غسلها لكفاها الغسل بعد يومٍ وليلةٍ.
لماذا لم يُجروا عليها أحكام الحيض؟
لأنهم ألزموها بالصلاة والصيام لهذه الأيام.
فيقولون: إذا لم يُجاوز دمها أكثره اغتسلت إذا انقطعت؛ لماذا؟ لأنه تبيَّن أنه ليس باستحاضة كما سيأتي.
يقول: (فَإِنْ تَكَرَّرَ ثَلَاثً)، يعني: لو تكرر معها ثمانية أيام لمدة ثلاثة أشهر؛ عرفنا أنه حيض، والثمانية أيام كلها حيض، وحكمنا باليوم والليلة فقط دون السبعة كان على سبيل التَّحري، ثم تبيَّن خلافه، فيُحكم بأنه حيض.
وبناء على ذلك:
أولًا: نُقرُّ بأنَّ عادتها ثمانية أيام، تقضي ما وجبَ فيه.
ثانيًا: إذا كانت قد صامت فإنَّ صيامها في الأيام التي كانت تصلِّي فيها وتصوم تبيَّن أنها تصوم وهي حائض، فعليها القضاء كذلك.
لأجل هذا ترون ما حصل عند الفقهاء من نوع تردد، وهو مبني عند الحنابلة على أصل وهو: أنَّ العادة إنما تكون بالاعتياد والتَّكرار، وأيضًا على الاحتياط للعبادات والتيقن فيها، حتى لا تفوت على المكلف فيكون قد أنقص ما أوجب الله -جَلَّ وَعَلَا- عليه.
ومن أهل العلم من قال: إنَّ الأصل في هذه الدماء أنها دماء طبيعة وجبلة، وأنَّ خروجها من هذا هو خروج على هذا النحو الذي هو حيض تُقطع منه صلاة، ولم يكن في مثل هذه الأمور من أحوال الصحابة والتابعين ما ذُكر من مثل هذا التفريق، جعل حال مترددة بين حالين ونحو ذلك.
ومما يزيد الأمر وضوحًا: أنَّ الحنابلة أنفسهم -رحمهم الله تعالى- قالوا: لو أنَّ المرأة استقرت حيضتها خمسة أيام، ثم تقدمت أو تأخرت أو زادت يومًا أو نقصت؛ هل كل ما زادت يوم لازم تكرر ثلاث مرات حتى ننظر وتعود كالمبتدأة أو لا؟ هم قالوا: لا، وهذا يدل على أنَّ هذا القول ليس بقول مُنضبطٍ من كل وجهٍ، وإن كان له وجهٌ قد اعتُمد فيه على التَّكرار واعتُمد فيه أيضًا على الاحتياط؛ لكن لَمَّا كان هذا القول من جهة أنه غير مُطَّرد بدليل قولهم في المسألة المشابهة التي ذكرناها وخلاف الفقهاء، وأيضًا أنه فيه معارضة مع الأصل، فإنَّ الأصل أنَّ الدم الذي يخرج من هذا المحل هو دم حيض، وأنَّ خروج دم الاستحاضة ليس بأمر ظاهرٍ ولا غالبٍ، ولذلك تحيض النساء بالمئات والآلاف والملايين، ربما يقل أن تكون واحدة منهن قد داخلَ حيضها استحاضةٌ أو نزيفٌ أو دمًا آخر فحصل فيه اشتباه، فلمَّا كان الأصل مطَّردًا ومستقرًّا فلماذا نُدخل عليه ما هو خلاف الأصل وما هو أمر نادر قليل غير حاصل؟!
فعلى كل حال، هذا هو ماذا المؤلف أوضحناه لكم حتى لا يكون مُشكل من جهة ما أورده، وذكرنا الوجه الآخر وهو قول جماهير أهل العلم وهو أكثر استقرارًا، ولا يسع النساء إلا العمل به، وهو أيضًا قال به الحنابلة في مسائل مشابهة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
قال: (وَإِنْ أَيِسَتْ قَبْلَهُ، أَوْ لَمْ يَعُدْ فَلَ)، يعني لو كانت حاضت ثمانية أيام، ثم الشهر الثاني حاضت ثمانية أيام، ثم لم يعد إليها، نحن لا ندري هل عادتها يوم وليلة ولا سبعة أيام؟ فبناء على ذلك يقولون: هي فعلت الأحوط، فليس عليها شيء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ جَاوَزَهُ فَمُسْتَحَاضَةٌ تَجْلِسُ الْمُتَمَيِّزَ إِنْ كَانَ، وَصَلُحَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِلَّا أَقَلَّ الْحَيْضِ حَتَّى تَتَكَرَّرَ اسْتِحَاضتُهَا ثُمَّ غَالِبَه)}.
إذا جاوز أكثر خمسة عشر يومًا كما ذكرنا أنه قول عامة أهل العلم خلافًا لابن حزم -رحمهم الله تعالى- فبناء على ذلك نقول: إن هذه المرأة التي استمر دمها هو دم حيض واستحاضة على حدٍّ سواء، فلا نعرف متى نحكم بالحيض التي له أحكام خاصة؟ ولا نحكم بالاستحاضة التي لها أحكام خاصة؟ فكيف يمكن أن نأمر هذه المرأة أن تعمل؟
تقدَّم معنا أن الحائض يحرم وطؤها، وأن حائض لا تصلِّي، وأن الحائض لا تصوم، وأنه يجب عليها قضاء صومها، فبناء على ذلك هذه التي استمرَّ معها الدم أكثر من خمسة عشر يومًا ماذا تفعل؟
إذا قالت: أصلي؟
نقول: هذا ليس بحيض؛ لأنه أكثر من خمسة عشر يومًا.
لو قيل: طيب لا تصلي أبدًا؟
نقول: لا يمكن أن يكون الحيض أكثر من خمسة عشر يوم، فكيف تبقين شهرًا ولا شهرين ولا ثلاثة؛ واستحيضت بعض النساء الصحابة السبع سنوات، ما تصلي سبع سنوات؟! ما يمكن!
فبناء على ذلك قالوا: إنه يصار إلى الأمر الآخر، قال: (وَإِنْ جَاوَزَهُ فَمُسْتَحَاضَةٌ تَجْلِسُ الْمُتَمَيِّزَ إِنْ كَانَ).
ودم الاستحاضة: هو نزيف -كما يُعرف عند المعاصرين- وهو دم يخرج بلا حدٍّ من عرق في أدنى الرحم خلافًا للحيض، وبين هذين الدَّمين اختلاف:
- دم الاستحاضة دم رقيق أحمر خفيف جدًّا ولا رائحة له، ولا وقت له ويستمر.
- دم الحيض: دم أسود ثخين يُعرَف -كما جاء في الحديث- و"يَعْرِف" كما جاء أيضًا في ضبط الحديث، يعني له رائحة نتنة.
فنقول: هذه المرأة تجلس المتميِّز، إذا تميَّز عندها الدم، إن رأيتِ بعضه أسود فتجلسينه، وإن رأيتِ أن بعضه فيه رائحة تجلسينه، يعني إذا اجتمعت هذه الصفات أو بعضها، أو فيه ثخانة خلافًا لسواه؛ فهذه الصِّفات جميعًا أو بعضها يمكن أن تميِّز، لكن ليس معنى ذلك أنه متى ما رؤي على الإطلاق؛ قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَصَلُحَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي)، يعني يُمكن أن يكون دم الحيض خمسة أيام أو ثلاثة أيام أو سبعة أيام؛ أمَّا أن يكون الثخين ستة عشر يومًا أو سبعة عشر يومًا فلا يمكن أيضًا.
فبناء على ذلك قال: إن صَلُحَ فهي تجلس هذا المتميز.
والظاهر من هذا: أنها لا تحتاج إلى أن يتكرر ثلاث مرات حتى تجلس، وهذا مما يدل على أنَّ قولهم في تلك المسألة قولٌ لم يطَّرد عندهم.
ثم قال: (وَإِلَّا أَقَلَّ الْحَيْضِ حَتَّى تَتَكَرَّرَ اسْتِحَاضتُهَ)، يعني إن كان التمييز يصلح أن يكون حيضًا بأن لا يتجاوز أكثره فهي تجلس ذلك المتميز حتى يتكرَّر، فإذا تكرَّر ثلاثة أشهر بعدها تنتقل إلى العادة، ثم تتحيض في علم الله ستة أيام أو سبعًا، فإذا كانت عادة نسائها سبعة أيام فإنها تجلس سبعة أيام من كل شهر.
في الحال الثانية: أن تكون هذه المبتدأة التي استُحيضَت واستمرَّ دمها لا تمييز لها البتَّة، فعند ذلك يقولون: إنها تجلس أقل الحيض يوم وليلة، ثم بعدَ ذلك تجلس غالب الحيض ستة أيام أو سبعة؛ لأنها بعد ثلاثة أشهر تستقر على العادة.
إذًا؛ المبتدأة المستحاضة:
- إما أن يكون لها تمييز: فتجلس تمييزها.
- إذا لم يكن تمييز: فإنها تجلس ثلاثة أشهر يوم وليلة، ثم تجلس غالب الحيض وهو سبعة أيام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمُسْتَحَاضَةٌ مُعْتَادَةٌ تُقَدِّمُ عَادَتَهَ)}.
هذه مستحاضة معتادة، يعني امرأة تحيض لها خمس سنوات أو ست سنوات وتعرف عادتها، ثم جاءها نزيف، أو ما يسمى عند الفقهاء "استحاضة"، فهذه لها عادة مُستقرة، وتعرفها وتحفظها، فهل تقدم الدم المتميز؟ أو تقدم العادة؟
لا شك أنه إذا كان دمها لا يتميَّز فهي تجلس عادتها، وإذا لم تكن لها عادة مُستقرَّة فهي تجلس تمييزها مثل: المبتدأة.
والإشكال في المرأة التي لها تمييز ولها عادة ولم تتفقا، يعني: هي ترى الدم الذي فيه سواد وثخانة ورائحة يأتيها في أول الشهر، ويستمر خمسة أيام، وعادتها كانت يوم عشرين من كل شهر، فهل تقدِّم التَّمييز أو تقدِّم العادة في مثل هذه الحال؟
هذا خلاف بين الفقهاء، فظاهر كلام الحنابلة كما صرح به المؤلف هنا: أنَّ العادة مُقدَّمة؛ لأنَّ العادة هي الأصل، وسمي الحيض "عادة" لاعتياده وتكراره، فما تكرر واعتُيد أولى من سواه، ولأجل ذلك قدموه على التمييز، خلافا لفقهاء الشافعية وبعض الفقهاء الذين يقولون إن التمييز مقدَّم على العادة.
فإذًا محل الكلام هنا: إذا كان لها تمييز ولها عادة ولم يتفقا فأيهما يقدم؟
فالمشهور من المذهب عند الحنابلة كما صرح نحن المؤلف هنا: أنها تجلس العادة التي اعتادتها وعرفتها وحفظتها، خلافًا لمن يقول: إنها تجلس ما تميزه.
وهذا الخلاف فيه قوي جدًّا، ومحله إذا وجد معا، أما إذا كان لها تمييز ولا عادة لها فلا إشكال في أنها تجلس في التمييز، وإذا كان لها عادة ولا تمييز لها فهذه أيضًا مسألة لا إشكال في أنها تجلس عادتها، لكن الكلام إذا وُجدت العادة ووُجد التمييز ثم لم يكونا في آنٍ وأحد، فعند ذلك أيهما يُغلَّب؟ هل هو التمييز الظاهر؟ أو هي العادة المستقرة؟
فالحنابلة يرون أنَّ العادة المستقرِّة هي المقدَّمة في مثل تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَلْزَمُهَا وَنَحْوَهَا غَسْلُ الْمَحَلِّ وَعَصْبُهُ وَالْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِنْ خَرَجَ شَيْءٌ، وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ)}.
قوله: (وَيَلْزَمُهَ)، الضمير هنا راجع إلى المستحاضة التي حكمنا بأنها جاوز الدم الحيض فحُكم بأنها مستحاضة، فلزمها ما يلزم الطَّاهرات من الصَّلاة وغيرها، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (غَسْلُ الْمَحَلِّ)، طبعا يلزمها في غير الأيام التي حكمنا بأنها حيض، يعني سواء كنَّا حكمنا بأنها حيض باعتبار العادة أو باعتبار التَّمييز أو باعتبار أقل الحيض الذي هو يوم وليلة -على ما تقدم فيما مضى- وفيما سوى هذه الأيام يلزمها أن تحكم بأنها طاهر، وإذا قلنا بأنها طاهر فمعنى ذلك أنه يلزمها أحكام.
قال: (وَنَحْوَهَ)، يعني ونحو المستحاضة ممن يذكره الفقهاء بأن حدثه دائم، كمن به سلسُ بولٍ، أو استطلاقُ ريحٍ، يعني دائما تخرج منه ما يسمى باللغة العصرية غازات، فيقولون: يلزم هؤلاء غسل المحل، وهذا طبعًا في سلس البول، أما الريح فلا تنجِّس -كما مر بنا- فلا تحتاج إلى غسل، لكن المستحاضة ومَن به بول دائم يغسل المحل ثم يعصبه كما جاء ذلك في الحديث: «تَلَجَّمِي»، لأن هذا أحوط لخروجه، ولعله أن يمسك استرساله، وهذا هو المستقر عند الفقهاء وهو المعنى الظاهر من الحديث.
بعضهم يقول: ولئلا لا يحصل به تلويث، وعدم حصول التلويث به ليس هو المقصود الأول من التَّلجُّم، ولكن هو مقصود آخر لا شك لئلا تنتشر هذه النجاسات، لكن هنا إذا قيل بالتَّلجُّم؛ فبعضهم يقول: خاصَّة إذا كان رجلًا وهو يخرج من ذكره البول بإطلاق، فلو عصبة فإنه يضر به.
نقول: الفقهاء حينما يقولون ذلك ما يقولون إنه يعصبه بحيث يؤذي نفسه، فالتَّلجُّم والحفظ والعصب في مثل هذا يكون في كل شيء بحسبه، وبالقدر الذي يُحفظ أن يخرج الخارج قدر الاستطاعة، ومِن جهة أخرى بما لا يحصل عليه به مضرَّة، فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها، ولا ضرارا ولا ضرار، وهذه قاعدة مستقرة في الشرع لا إشكال فيها، ونصَّ عليها النبي ﷺ، وتتابعت عليها الأدلة والأحاديث.
قوله: (وَالْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ)، لأن النبي ﷺ لما شكت إليه حمن وفاطمة أمرهم بالضوء لكل صلاة، وذلك واجبٌ.
قوله: (إِنْ خَرَجَ شَيْءٌ)، لأن هؤلاء الذين أحداثهم دائمة لا يعني ذلك أنهم في حدث في كل وقت، لكن المقصود أن المحل لا ينشف، ولا يُعرف له وقت، فربما يستمر خمس ساعات متتالية، وربما ينقطع ساعة، لكن لا ندري متى ينقطع ولا متى يتحرك ولا متى يستطلق ولا متى يقف، فبناء على هذا إذا كانت توضأت ولم يخرج -وكل هؤلاء أعرف بأنفسهم- فلا يلزمهم شيء، لكن إذا خرجَ فيلزمه الوضوء عند دخول وقت الصلاة.
قال: (وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ)، لماذا نية الاستباحة؟ هو وضوء والمتقرِّر عند الحنابلة أنه رافع للحدث وإن جرى فيه خلاف لكن هذا هو تصريح صاحب الإقناع وغيره، لماذا؟
لأنه وإن رفعَ الحدثَ لكن ثَم حدثٌ مقارِن، وسيكون حدثًا لاحقًا، فهو يرفع الحدث الماضي، لكن هل كل ما خرج منه سيتوضأ؟ لا، فإذًا هو يكون رافع للحدث، مع ذلك لا بد أن تنوي الاستباحة؛ لأنه سيخرج بول أو دم للمرأة المستحاضة، وهذا الوضوء يرفع عنها كلفة إعادة الوضوء مرة أخرى، فبناء على ذلك وجبَ عليها أن تنوي نية استباحة الصَّلاة مع استمرار الحدث وتتابعه.
قال: (وَحَرُمَ وَطْؤُهَا إِلَّا مَعَ خَوْفِ الزِّنَ)، يعني أنَّ زوجها لا يُجامعها لِمَا يحصل بذلك من تقذُّر وتلوُّث بالنجاسة ونحوها، وهذا أحدُ القولين في المذهب، وإن كان عند الحنابلة وجه آخر وهو قول لجماعة من أهل التحقيق: أنَّ ذلك وإن كان فيه شيء من الاستقذار إلا إنه ليس بممنوع؛ لأنه لا يتأتَّى للرجل إعفاف نفسه؛ ولأنَّ فاطمة بنت حبيش وحمنة استمر عليهما دم الاستحاضة مدة طويلة، ولم يذكر أنه مُنِعَ أزواجهن من إتيانهن أو أنهن ذكرن ذلك عن أزواجهن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَالنَّقَاءُ زَمَنُهُ طُهْرٌ يُكْرَهُ الْوَطْءُ فِيهِ)}.
هذا ذكر لأحكام النفاس.
والنفاس: دم يرخيه الرحم عند الولادة، وعند الحنابلة يقولون: وقربها، يعني أنَّ دم النفاس هو الدم الذي يحصل عند خروج الولد، هذا لا إشكال فيه وهو محل اتفاق، لكن الدم الذي يخرج قبيل الولادة كيوم أو يومين مع آلام الولادة الذي هو الطَّلق، والآلام التي تصاحب الولادة فيخرج دم، فعند الحنابلة -رَحِمَهُ اللهُ- أن ذلك دم نفاس، لأنَّه وقت تنفُّس الرحم وخروج الولد، فألحقوه به من جهة ما يتعلَّق به من الحكم المترتب على دم النفاس، من جهة عدم الصلاة ومن جهة قضاء الصوم، ومن جهة عدم الوطء ونحو ذلك، إلا أنهم استثنوا من ذلك أنه لا يدخل في عدِّ أيام النفاس، بمعنى أنها أربعين يوم من الولادة، فحتى ولو كانت قبل يوم أو يومين فلا نعد هذه الأيام في الأربعين التي تحبس منه المرأة إذا ولدت وخرج دمها، بل تبقى أربعين يومًا، وهذا جاءت به السنة وهو المشهور عند أهل العلم، وإن كان في الحدِّ هذا نزاع، لكن هو قول أكثر أهل العلم، وهو الذي يعني يأتي على النساء في الجملة، فإنَّ غالب النساء لا تتجاوز الأربعين، فكان الحكم بذلك واضحًا، ومن زادت عن الأربعين فتكون كمن بها استحاضة، من جهة أنها تلزمها الصلوات ونحو ذلك، وتخرج من أحكام دم نفاس.
وكل من ولدت يكون الدم دم نفاس، فلو أنها وضعت لستة أشهر فكذلك، ولو وضعت لأربعة أشهر فكذلك، لو وضعت ثلاثة أشهر فكذلك.
المتقرر عند العلماء: أنَّ النفاس يُحكم به إذا أسقطت سِقطًا تبيَّن فيه خلقُ إنسانٍ، فبناء على ذلك: لو وضعت يدًا أو رجلًا؛ بل قال الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- حتى ما وضعت به قطعة دمٍ يعرفه خواصُّ النِّساء كالقوابل، فإذا قالت القابلة: هذه هيئة رأس أو هيئة قدم فنحكم مِن أن قد وضعت، فإذا تبع ذلك دمٌ فإنه يكون دمَ نفاس.
المفهوم من هذا: أنَّ المرأة لو أسقطت مُضغة ليس فيها تخلُّق فالدم الذي يخرج بعد ذلك يعتبر دمَ فسادٍ، لا يمنعها من الصَّلاة، ولا يمنعها مما تمنع منه النُّفساء البتة، هذا هو الفرق بينهم، والغالب أن التي يتبين فيها خلق الإنسان ثلاثة أشهر، لكن ليس بالضرورة.
فإذًا عندنا اختلافٌ بين المترتبة على دم النِّفاس مِن جهة الحكم بأنه نفاس أو دم فساد، أو الأحكام المترتبة على الصلاة عليه ونفخ الروح فيه ونحو ذلك؛ فهذه لها مسألة أخرى، لكن هنا متى ما تبيَّن فيه خلق إنسان فيُحكم بأن الدم التَّابع لذلك دم نفاس، فبناء على ذلك تأخذ أحكام النفاس التي هي أحكام الحيض مِن منع الصلاة وغيرها، أما إذا لم يتخلَّق فلا.
قال: (وَالنَّقَاءُ زَمَنُهُ طُهْرٌ)، المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ كثيرًا من هؤلاء النساء اللاتي يضعنَ ينزل منهن دما، منهن من ينتهي عند سبع وثلاثين يومًا، ومنهن من ينتهي عند ثلاثين، ومنهن من ينتهي دمها عند خمسٍ وعشرين يومًا.
ما يكون من الطهر في تلك الحال؟
يقولون: هو نقاء وطهر، لكن يكره الوطء فيه خوفًا من أن يكون النقاء ليس تامًّا وشيئًا من الاحتياط الذي ذكره فقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- فلئلَّا يكون الدم مستمرًّا، ولئلَّا تكون هي لا زال نفاسها قائمًا فيكون الزوج قد أتاها في تلك الحال وهي حال لا يجوز للزوج إتيانها فيه، فلأجل هذا الاحتمال منعوا منه أو كرهوه على سبيل الاحتياط، ولأجل ذلك قالوا: ويكره الوطء فيه.
وهذا مبني على قاعدة عندهم على حدِّ قول القائل فيهم:
وَإِنَّ الْأَوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ .... خِلَافِهِمْ وَلَوْ ضَعِيفًا فَاسْتَبِنْ
لأن بعضهم يقول: ما يأتيها حتى تنتهي الأربعين.
ولكن من حيث النظر: إذا طهر جاء تعلَّق بأحكام الطَّاهرات، ومن ضمن أحكام الطاهرات: إتيان الرجل زوجه وإعفافه لنفسه وإعفافه لها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ كَحَيْضٍ فِي أَحْكَامِهِ غَيْرَ عِدَّةٍ وَبُلُوغٍ)}.
هو كحيض في أحكامه، يعني أن هذا الدم دم حيض من حيث أنها لا تصلي، ومن حيث أنها لا تصوم، ومن حيث أنه لا يجوز جماع زوجها لها، ومن حيث أنه لا يجوز لها مس مصحف، وهكذا من الأحكام مثل: دخول المسجد والطواف، كل الأحكام التي تمنع من الحائض تمنع منه النفساء سواء بسواء.
قال: (غَيْرَ عِدَّةٍ وَبُلُوغٍ)، أمَّا العدة فظاهر من جهة أنَّ المرأة التي عليها عدة بالأقراء -يعني بالحِيَض- فهذه ليست حيضة، فبناء على ذلك لا يحكم بأنها حيضة من الحيض فلا تحسب على المرأة في مثل تلك الحال.
وكذلك البلوغ؛ لأنها وإن كانت حاملًا -والحمل دليل أنها قد بلغت- لكن قطعًا الحمل إنما تكون من مائهما فالبلوغ حاصل بالإنزال لا بالنفاس، فيقولون: إنه لا لا يتصور أن امرأة تكون قد حملت إلا قد أنزلت وقد حاضت قبل ذلك، فبناء على ذلك قالوا: إنَّ البلوغ حاصل بالإنزال السابق لهذا الحمل، فلا يكون علامة على البلوغ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الصَّلَاةِ)}.
بعد أن أنهى -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما يتعلَّق بأحكام الحيض الذي هو تمام أحكام الطهارة، وفصَّل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أحكامَ الحيض لتشققها وكثرتها و ما يتعلق بها، وإلا فهي من موجبات الغسل، وكان يُمكن أن تذكر في ذلك، وينتهي الكلام عندها، لكن خُصَّ باب وبعضهم ربما عنوَنَ لها بكتاب، وبعض الفقهاء قد أفاضَ في ذلك لكثرة تفرُّع المسائل والأحكام فيها، فاحتيج إلى بسطها وتوضيحها وبيان ما يتعلق فيها، فلأجل ذلك ذكر الحنابلة كما ذكر الفقهاء غيرهم هذا في كتابٍ أو في فصلٍ أو في بابٍ مخصوصٍ، وجمعوا فيه المسائل المتعلقة به، ثم ضموا إلى ذلك المسائل التي تتداخل معه كأحكام الاستحاضة، فإن أحكام الاستحاضة ليست من أحكام الحيض ولا تدخل فيه ولا تساويه في الأحكام أو في الآثار، ومع ذلك ذكروها لتشابههما، وحتى يتَّضح للطالب كيف التَّمييز، وما يترتب على هذا من أحكام وما يترتب على ذاك، ثم أيضًا ذكروا ما تعلق بها، أو ما ماثل ذلك من أحكام مَن حدثه دائم، أيضًا ذكروا فيها أحكام النفاس، وأحكام النفاس لَمَّا كان مُشابهًا لأحكام الحيض من وجه ضمُّوه إليه وبينوا ما يتفقان ما فيه من الأحكام وما يختلفان.
فعلى سبيل المثال: ليس عدد أيام النفاس كعدد أيام الحيض، والحيض يدخل في أحكام العِدد، والنفاس لا يدخل في ذلك كما مرَّ بنا، ومثل ذلك الأحكام المتقدِّمة، وأيضًا يذكر الفقهاء في الفروق الفقهية تفاصيل أكثر في ذلك.
والمؤلف انتهى من هذا، ثم بدأ في كتاب الصلاة، وكتاب الصلاة هو أعظم ما يجبُ على المكلَّف بعد الشَّهادتين، ولذلك كان ثاني أركان الإسلام، وهو من الأمور العظام، ولو كان الحديثُ ليسَ حديثًا في الوعظِ أو التَّنبيهِ، لكن بدٌ من ذلك، خاصة لما لحق بالناس من الضَّعف في الصلاة وإقامتها والحرص عليها، وما يتبع ذلك من التَّهاون والتكاسل، ومشابهة المنافقين في ذلك، والتعرض لوعيد الله -جَلَّ وَعَلَا، والله -سبحانه وتعالى- يقول في كتابه: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّ﴾ [مريم: 59]، فالله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه يقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4-5]، والله -جَلَّ وَعَلَا- شبَّه الذين يتكاسلون عن الصلاة بالمنافقين، قال: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء: 142]، وفيها أحاديث كثيرة دالَّة على عِظَم أمرِ المتخلِّف عن الصَّلاة والمهمل لها، قال ﷺ: «لقَدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بحَطَبٍ، فيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بالصَّلاَةِ، فيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ»[3]، فإذا كان تركُ صلاة الجماعة موجبٌ لتحريقِ البيوت، يقول النبي ﷺ: «لَوْلا ما في البيوتِ مِنَ النِّساءِ والذُّرِّيَّةِ»[4]، فكيف بمن يؤخرها عن وقتها؟ فكيف بمن لا يؤديها البتة؟! نسأل الله السلامة والعافية.
لذلك يقول النبي ﷺ: «إنَّ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ»[5]، وقال: «العَهدُ الَّذي بيْنَنا وبيْنَهمُ الصَّلاةُ؛ فمَن ترَكَها فقدْ كَفَرَ»[6].
وأعظم ما جاء في ذلك قول النبي ﷺ: «أوَّلُ ما تَفْقِدُونَ مِنْ دينِكُمُ الأمَانَةُ وآخِرُهُ الصَّلَاةُ»[7]، فمن فقدَ الصلاة فيفهم من الحديث أنه لم يبقَ له من دينه شيء، وإن فعل بعضَ أفعال المسلمين، وإن عمل ما يُمدح به ويثنى عليه فيه من أخلاق وصفات، أو مِن بذلٍ وإحسانٍ أو مِن برٍّ وصلةٍ، فإنه قد ذهبَ عليه آخرُ دينه الذي به يقوم وبه يستقر، ولذلك استدلَّ بهذا الحديث الحنابلة الذين قالوا بكفر تارك الصَّلاة.
ثم لو نظرتم إلى ما ذكره العلماء تعظيمًا لهذا الصَّلاة وبيانًا لقدرها، وإن من أعظم مَن ذكر ذلك وتكلَّم فيه الحافظ محمد بن نصر المغوزي في كتابه (تعظيم قدر الصلاة)، وجعل ذلك في مجلدين عظيمين نافعين مفيدين لمن أرادَ أن يقيم الصلاة كما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- فذكرَ أن الله -جَلَّ وَعَلَا- أوجبها فوقَ سبع سماوات ورفعَ لذلك نبيه كما جرى في حديث الإسراء والمعراج، وأوجبها في الأجر والمثوبة، خمسًا في الفعل والأداء، وأوجبَ لها الجماعة، وأوجب لها الطهارة، ومنع فيها الكلام، ولم تسقط عن المسلم بحال حتى ولو ضعُف بصره، أو ذهبت عليه قواه، أو تعطَّل قيامه، فإنَّ ذلك لا يحولُ بين العبدِ وصلاته، حتى ولو كان في حالِ سفرٍ أو مسير لا حضر، حتى ولو كان في حال حرب ومسايفة وقتل ومقاتلة، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ... ﴾ [النساء: 102]، كل ذلك وغيره ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا الكتاب تعظيمًا لقدرِ هذه الصلاة وبيانًا لمنزلتها، ولا تسقط عن المرء بحالٍ ما دام عقله باقيًا، كما قال ذلك عامة أهل العلم وإن خالف في ذلك بعض فقهاء الحنفية في دقائق مسائلَ ليس هذا محل بسطها، فكلُّ هذا ممَّا يحملنا على تعظيمِ هذه الصَّلاة والتَّواصي على فعلها والمحافظة عليها، وإقامة الصلاة إقامة لها بأركانها وشروطها وواجباتها، وما يؤمر فيها والبعد عما يُنهى عن ذلك ويُكره، طلبا لتمام الصلاة وكمالها، ومَن كان مِن المصلين فإنه يوشك أن يكون من المفلحين، فإنَّ النبي ﷺ ذكر في الحديث «إنَّ أوَّلَ ما يُحاسَبُ به العَبْدُ صَلاتُه، فإن صَلَحَتْ صَلاتُه صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإن فَسَدَتْ صَلاتُه فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه»[8]، نسأل الله ألا يجعلنا وإياكم من المردودين.
فهذا الكتاب العظيم والحديث في مثل هذه المسائل التي لا ينفكُّ المسلم من الحاجة إليها، وهو مكلَّف طيلة حياته وأيَّام بقاء عقله وتكليفه بأداءِ هذه الصَّلاة، على ذلك يصبح ويُظهر يكون قبل مغيب الشمس وعند مغيبها وعند اشتداد ظُلمة الليل في العشاء مغيب الشفق لا ينفكُّ الإنسان عن أدائها، قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17]؛ فكل ذلك دال على عظم هذه الصلاة، فلذلك لو لم يكن للمرء حاجة في كثير من مسائل العلم، فإن حاجته إلى هذه المسائل ملحَّة، مهما عُذر الإنسان من الجهل في مسائل من مسائل دينه فإنه لن يكون معذورًا عن مسائل صلاته التي يؤمر بها الناس على حدٍّ سواء، ولذلك كانت من الواجبات المعلومة التي يعلمها المسلمون بالاضطرار، فلا يكاد مسلمٌ لا يعلم تحتُّم الصلاة ووجوبها إلا مَن كان لأوَّل وهلةٍ أسلم أو مَن نشأ ببادية لم يعرف الإسلام ولم يعرف أحكامه، وإلا فإن العلم بوجوب الصَّلاة وتحتُّمها معلوم بالاضطرار، ولأجلِ ذلك يقول أهل العلم: هي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ولا يقولون "بإجماع العلماء" لأن العلم بها يستوي به الصَّغير والكبير والمرأة والرجل والعالم والجاهل على حد سواء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (تَجِبُ الْخَمْسُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ إِلَّا حَائِضًا وَنُفَسَاءَ)}.
يعني تجب الخمس الصلوات، لأن الصلاة منها صلاة واجبة، ومنها صلاة مستحبة، منها صلاة وتر، ومنها سنن مطلقة، ومنها سنن راتبة، ومنها صلاة ضحى، ومنها صلاة ليل، ومنها صلاة استسقاء، ومنها صلاة حاجة، أو صلاة توبة، أو نحو ذلك من الصلوات، فما الواجب منها وما غير الواجب؟ شرع المؤلف في ذلك بذكرها، فقال: (تَجِبُ الْخَمْسُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ).
وقبل أن نأتي إلى هذا الحكم لعلَّ الاسترسال في تعظيم قدر الصلاة منعنا من أن نذكر تعريفها، فالصلاة في اللغة: بمعنى الدعاء.
وبعضهم يقول: "من المصلي" وهو الذي يأتي ثانيًا بعد أوَّلٍ، وذلك لأنَّ الصلاة تأتي بعد الشَّهادتين، فالأوَّل في دين المرء شهادته، والثاني صلاته.
والأشهر من ذلك أنها بمعنى الدعاء، ولذلك قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [التوبة: 103]، وكما جاء في الحديث: «فإنْ كانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وإنْ كانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ»[9]، يعني دُعي الداعي فإن كان صائمًا فليدعُ لصاحب الدعوة في دعوته.
أما الصلاة في الاصطلاح: فهي عبادة ذاتُ أقوالٍ وأفعالٍ مخصوصةٍ، فيها الركوع والسجود التَّشهد والسَّلام، مفتتحة بالتكبير مختتمة بالسلام، وما بين ذلك صلاةٌ.
فهذا تعريفها في الأشهر عند أهل العلم، ولها تعاريف متقاربة في ذلك.
قال المؤلف: (تَجِبُ الْخَمْسُ)، أما وجوب الصلاة فكما قلنا إنه معلوم من الإسلام بالاضطرار، ولذلك توعَّد الله -جَلَّ وَعَلَا- المتخلِّفين عنها، وأبانَ عن عقوبتهم كما في الآيات التي تقدَّمت معنا، ولا يُختلف في ذلك البتَّة.
والخمس هي: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، والجمعة داخلة في ذلك وسيأتي الكلام عليها بإذن -جَلَّ وَعَلَا- في مسائل مخصوصة بها.
قوله: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)، طيب ما حال الكافر؟ هل لا تجب عليه؟
الكلام هنا في وجوب الأداء والعمل، وليس في وجوب الحساب والعقاب، فمن جهة أنَّ الكافر لا يُحاسب على أدائها يقال له: أدِّها ويُطلب منه ذلك؛ لأنَّها لا تصح من الكافر باعتبارِ أنَّ من شرط الصلاة النِّية، والنيَّة لا تصح إلا من المسلم لأنها إخلاص العبادة لله، والتوجه إليه، وقصده بالعبادة، وقطع ما يناقضها ويعارضها، فهي من جهةٍ واجبة على كل مسلم أداءً وفعلًا.
أمَّا لو جاء الكافر وقال: أنا أؤدي الصلاة حتى لا أحاسب.
نقول: لا تنفعك؛ لأنك إذا أردتَّ أن تصلي فأسلم، إذا أردت أن تصلي فأصلح قصدك وأظهر شهادتك ثم أدِّ صلاتك.
أمَّا في الآخرة فإنهم يحاسبون عليها، قال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ [المدثر: 42 - 45].
فإذًا هي تجب على كل مسلم، ما يقول واحد: لو كان الإنسان غير مسلم فهي غير واجبة عليه!
نقول: بين ذلك فرق؛ لأنَّ الكافر سيُحاسب عليها حسابًا عسيرًا -نسأل الله العافية والسلامة.
قال: (مُكَلَّفٍ) المكلف يدخل فيه العاقل البالغ، فلو كان الإنسان بالغًا لكنَّه مجنون فإنها لا تجب عليه الصَّلاة، ولو كان الإنسان عاقلًا تمامَ العقلِ لكنه لم يبلغ فإنَّها لا تجب عليه، بل تُستحب في حقِّه كما سيأتي بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في صلاة الصَّغير.
قال: (إِلَّا حَائِضًا وَنُفَسَاءَ)، فالحائض والنفساء لا صلاة عليهم، ما الدليل على ذلك؟
قول النبي ﷺ في الحديث الذي في الصحيح لما ذكرَ نقصان المرأة في عقلها، قال: «أَليسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ ولَمْ تَصُمْ، فَذلكَ نُقْصَانُ دِينِهَ»[10]، وهذا يفهم أيضًا من حديث عائشة لما سألتها معاذة: "ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يخلفنا ذلك على عهد النبي ﷺ فنؤمر بالقضاء الصوم لا بقضاء الصلاة"، فيفهم منه أنهم ما كانوا يصلون، لكن أصرح ما يكون هو الحديث: «أَليسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ ولَمْ تَصُمْ، فَذلكَ نُقْصَانُ دِينِهَ».
هذا ما يتعلق بدرس هذا اليوم، لعلنا بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- أن نكمل ما توقَّفنا عنه في مجلسٍ قادم، أسأل الله لنا ولكم دوام التَّوفيق والسَّداد.
{اللهم آمين. نستكمل ما بقي في مجلسٍ قادم بإذن الله.
إلى ذلكم الحين أعزاءنا المشاهدين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1] صحيح مسلم (1213).
[2] صحيح البخاري (2996).
[3] صحيح البخاري (644).
[4] مسند أحمد (8796).
[5] صحيح مسلم (82).
[6] أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وأحمد (22987).
[7] السلسلة الصحيحة (1739).
[8] صحيح النسائي (464)، صحيح الجامع (2573).
[9] صحيح مسلم (1431).
[10] صحيح البخاري (1951).