الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

57281 18
الدرس السابع

أخصر المختصرات

{الحمد لله رب العالمين وصلاة وسلامًا على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل صلاة وأتم تسليم، ثم أما بعد:
فأهلًا وسهلًا أعزاءنا في كل مكان، في مجلس جديد لمجالس شرح متن (أخصر المختصرات)، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، أهلًا وسهلًا بكم صاحب الفضيلة}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله المشاهدين وطلَّاب العلم جميعًا.
{رضي الله عنكم وبارك فيكم. نستأذنكم شيخنا باستكمال ما توقفنا عليه.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَزَوَالُ عَقْلٍ إِلَّا يَسِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجنبنا وإيَّاكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنَّا نعوذ بك من مضلَّات الفتن، أو أن نردَّ على أعقابنا أو أن نفتن، وأن يحفظنا وإيَّاكم ووالدينا وأزواجنا وذريَّاتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزالُ الحديث -طلبة العلم وطالباته- فيما يتعلق بنواقض الوضوء، وكما علمتم ودرستم أنَّ هذا الكتاب مختصرٌ لطيفٌ، يُذكِّر الطالب الذي قطعَ شوطًا، ويؤصِّل للطالب الذي ابتدأ همَّة في العلم والإقبال عليه، فذكرَ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المسائل على شيءٍ من الاختصار أو رؤوس المسائل التي لا بد للطَّالب منها.
الناقض الثَّالث من نواقض الوضوء، قال: (وَزَوَالُ عَقْلٍ) يعني: سواء كان زال العقل بنوم أو بإغماء أو بِسُكرٍ أو ببنج أو بما سواه، أو بجنون غير مطبقٍ كذلك، فمتى ما زال العقل حُكم بحصولِ النَّقض، فبناءً على ذلك لو كان الإنسان متطهرًا فأُغمي عليه فإنه يجب عليه أن إذا أفاقَ أن يتوضأ وهكذا؛ لأنه في حال إغمائه أو زوال عقله يُحتمل أن يكون قد انتقض وضوءه، ولَمَّا كانت هذه المظنَّة مظنَّة غالبة أو مظنَّة لا يستطاع ضبطها أُقيمت المظنَّة مقام الحقيقة، فجُعل ذهاب العقل أو حصول العارض عليه هو بمثابة حصول النَّاقض، خاصَّة -كما قلنا في المجلس الماضي- وأنَّ هذه العوارض عُرضة لتحرُّكِ النواقض، ولذلك جاء في الحديث عند أبي داود أنَّ النَّبي ﷺ قال: «العَينُ وِكاءُ السَّهِ، فإذا نامتِ العَيْنانِ استطَلَقَ الوِكاءُ»[1]، يعني: رباط السَّه -التي هي حلقة الدبر- فإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فلذلك يكثر من النَّائمين حصولُ خروجِ الريح ونحوها.
وفي حديث صفوان بن عسال لَمَّا قال: «كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ يأمُرُنا إذا كنَّا سُفْرًا أن لا ننزِعَ خِفَافَنا ثلاثةَ أيامٍ ولياليهِنَّ إلَّا مِن جنابةٍ، ولكن مِن غائطٍ وبَولٍ ونَومٍ»[2]، فجُعلت هذه النواقض نواقض للحدث الأصغر، وعُدَّ النوم من بينها، ولَمَّا كان النَّوم ناقضًا وزوالُ العقل فيه أخفُّ من غيره كان حصولُ النَّقض بما هو أشد منه كالإغماء أو الجنون أو السُّكر أو البنج من باب أولى أن يدخل في ذلك ويأخذ حكمه.
استثنى من ذلك المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وقال: (إِلَّا يَسِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ)، يسير النوم يعفى عنه، وليس كلُّ يسير كذلك، بل لو كان يسيرًا من مضطجع لحسب ذلك ناقضًا، لو كانَ من جالسٍ لكنه متكئ لعُدَّ ذلك ناقضًا، فبناء على ذلك لو كان النوم مِن جالسٍ لكنه كثير طويل فعد ناقضًا، إذًا متى يكون يسير النوم غير ناقض؟
متى ما وجد فيه أمران:
- أن يكون يسيرًا.
- وأن يكون من قاعدٍ غيرِ متكئٍ ولا معتمدٍ؛ لأنه إذا كان مُتكئًا أو مُعتمدًا لا يتماسك، لكن إذا كان جالسًا جلسةً قد استمسكت فيها حلقة دبره فالغالب بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- أنَّ الوقت اليسير ليس وقتًا لإمكان حصول خروج ذلك، فبناء على ذلك خُفف فيه.
وأصلُ هذا أيضًا ما جاء في الأحاديث أنَّ الصَّحابة كانوا ينتظرون رسول الله ﷺ في صلاة العشاء حتى تخفقَ رؤوسهم ثم يقومون ويصلُّون ولا يتوضؤون، وجاء عن ابن عباس أنه كان ربما أخفقَ حتى حُمل بأذنه فقام وصلى ولم يتوضأ، فأخذَ من هذا أهلُ العلم التَّخفيف في النَّوم بما لا يغلب على الظَّنِّ حصول النَّاقض معه الذي هو النَّوم الذي قد استرسل فيه، أو قد ظُن أنه يكون معه خروج خارج.
بقيت مسألة كثيرةُ الوقوع كثيرةُ الإشكال كثيرُ الحاجة وهي: أن بعض الناس تخفق قرأته أو تغفو عينه ثم لا يدري أنامَ كثيرًا أم نامَ يسيرًا؟
طبعا النوم هو الذي سيخفى عليه هو يسير أم كثير، وطبعًا هذا إذا كان في غير حالة متكئًا ولا مضجعًا، فإذا كان مستجمعًا لنفسه لكن شكَّ؛ فالأصلُ أن وضوءه صحيح وأنَّ طهارته لم تنتقض وأنَّ النوم كان قليلًا، فبناء على ذلك له أن يصلِّي في هذه الحال، لكن لو كان النوم فيه رؤيا فيقولون: إن حصول رؤيا في النوم دليل على كثرته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَغُسْلُ مَيِّتٍ)}.
غُسل الميت مُوجِبٌ للوضوء عند فقهاء الحنابلة، وأصلهم في ذلك بناء على أصول أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في اعتماد قول الصَّحابي، فقد جاء عن غيرِ واحدٍ من أصحاب النَّبي ﷺ كابن عمر وابن عباس وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهم- أنَّهم أمروه بالوضوء.
والمقصود بغُسل الميت أيضًا: أي القائم على تغسيله، والقائمُ على تغسيله وهو الذي يقلبه ولو أحيانًا، أمَّا الذي يصبُّ عليه ماءً ونحو ذلك فلا يسمى غاسلًا، فإذا لم يُسمَّ غاسلًا لم ينتقض وضوءه، ولم يجب عليه الوضوء لو انتهى من ذلك، أمَّا لو كان الإنسان يقلِّب الميتَ سواءً كان في وقت التغسيل كلِّه أو في بعض الأحيان فيعتبر غاسلًا، فيلزمه ذلك الحكم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَكْلُ لَحْمِ إِبِلٍ)}.
هذا أيضًا مشهور مذهب الحنابلة خلافًا لجمهور الفقهاء.
وأصل ذلك: ما جاء في الحديث عند أحمد وأهل سنن: «أنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أأَتَوَضَّأُ مِن لُحُومِ الغَنَمِ؟ قالَ: إنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وإنْ شِئْتَ فلا تَوَضَّأْ قالَ أتَوَضَّأُ مِن لُحُومِ الإبِلِ؟ قالَ: نَعَمْ»[3]، فلما علَّق ذلك على المشيئة دلَّ على أنَّ الآخرَ معلَّق على اللزوم والتَّعين والوجوب، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة وقول علماء الحديث أو أئمة الحديث خلافًا لجمهور أهل العلم من الأئمة الثلاثة.
وتعلُّق الحكم عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أنَّه تعبدي، فليس لعلَّةٍ ظاهرةٍ، وإن كان بعضهم يقول: إنَّ الابل فيها ثورانٌ وفيها هيجانٌ ونحو ذلك، فناسبَ أنَّ الآكل للحمها أن يتوضأ ليطفئ ذلك الثوران وغيره، لكن المشهور من المذهب أنَّ الحكمة تعبديَّة، ولأجلِ ذلك قالوا: إنَّ تعلق باللحم فقط لا غير، أي ما سمي لحمًا، فما خرج عن كونه لحما كمصرانٍ و نحو ذلك فإنها لا تدخل في حكم اللحم، وكذلك شرب مرقها وشرب لبنها ونحو ذلك لا يدخل في الحكم، مع أنَّ الأصل أنه إذا أطلق اللحم فإنه يكون على سبيل التغليب، ولذلك لَمَّا حرم الله -جَلَّ وَعَلَا- لحم الخنزير في كتابه، فبإجماع أهل العلم أن ذلك مشتملٌ لجميع أجزائه، فما الذي حمل الفقهاء هنا أن يقصروه وهنا أن يعموه؟!
مثل ما قلت لكم:
أولًا: أن الحكمة هنا تعبديَّة، لا لخبثٍ ونجاسةٍ كما في لحم الخنزير.
والثانية: أنه جاء في حديث جابر قال: «كانَ آخِرَ الأمْرِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ تَرْكُ الوُضوءِ ممَّا مَسَّتِ النَّارُ»[4]، فقالوا: إنَّ هذا خاص باللحم باعتبار ما جاء في الحديث وبقي غيره على الأصل والعموم، ولا يأتي حديث جابر ناسخًا لحديث أهل السنن وهذا في الوضوء من لحم الإبل؛ لأنَّ ذلك عام وهذا خاص، وفيه مبحث طويل في الخلاف بين الحنابلة والجمهور -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى-، لكن حسبك أن تعلم أنَّ هذا مختصٌّ باللحم دون ما سواه، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالرِّدَّةُ)}.
نسأل الله السَّلامة والعافية نسأل الله أن يعصمنا وإياكم؛ فإنَّ الردة هي الخروج من الإسلام والنكوص بعد الاستقامة -نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى ومن الزيغ بعد الهداية.
فمن وقع في الردة إن كان ذلك باعتقادٍ أو بقولٍ أو بفعلٍ، وسيأتي ذلك مفصَّلًا في أحكام المرتد وما تحصل به الرِّدة؛ فإن المرتد في مثل هذه الحال قد انتقض وضوءه.
والحالُ أنَّ المرتد لن يسأل عن ذلك، لكن المسألة مفروضة فيما لو أنَّ رجلًا ارتدَّ ثم تاب في مجلسه ورجع وآب إلى رشده وهدايته، فبناء على ذلك نقول: إن وضوءه السابق قبل الردة قد انتقض، فيلزمه بعد ذلك وضوء جديد وطهارة متجددة؛ لأنَّ العبادة مبناها على النية، وهذا المتطهر قد كان نوى، ثم لَمَّا ارتدَّ انقطعت نيته وقصده؛ ففسدت عباداته، فاحتاج بعد ذلك إلى أن يتوضأ ويتطهَّر مرة أخرى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ غُسْلًا غَيْرَ مَوْتٍ)}.
موجبات الغسل تسمى الحدث الأكبر، فإذا كانت موجبةً للغسل الذي هو طهارة من الحدث الأكبر، فمن باب أولى أن تكون متضمِّنةً لحصول الحدث الأصغر، فما أوجب غسلًا أوجب وضوءًا من باب أولى.
قال: (غَيْرَ مَوْتٍ)، قالوا: إنَّ الميت يجب غسله ولا يجب توضئته بل يندب ذلك، فلو غُسِّل بصبِّ الماء عليه فيكتفى بذلك؛ لأنَّ غسل الميت على سبيل التعبد والإكرام، فبناء على ذلك لا يشمل وضوءا.
ويستثنى من ذلك حال: وهو فيما لو بعد تغسيله خرجَ منه شيء فيوجبون وضوءه، فإذًا الأصل أن الميت يجب غسله دون وضوءه من حيث العموم، سوى المسألة المستثناة على ما ذكرنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَسُّ فَرْجِ آدَمِيٍّ مُتَّصِلٍ أَوْ حَلْقَةِ دُبُرِهِ بِيَدٍ)}.
مسُّ الفرج ناقض وموجب لإعادة الطهارة الصُّغرى، وأصلُ ذلك أنَّ النَّبي ﷺ قال: «مَنْ مَسَّ ذَكرَه فَلْيتَوَضَّ»[5]، وحديث: «من أفضى بيدِهِ إلى ذَكرِهِ ليس بينهما سِترٌ ولا حجابٌ فلْيتوضَّ»[6]، فهذه الأحاديث دالَّةٌ على أنَّ مسَّ الذَّكر أو فرج المرأة أو حلقة الدُّبر التي هي كلها داخلة في اسم الفرج؛ فإنه موجب للوضوء لهذه الأحاديث؛ ولأنَّ ذلك جاء عن غير واحد من أصحاب النَّبي ﷺ.
فإن قيل: إنَّ النَّبي ﷺ لَمَّا سئل أيتوضأ الرجل من مس ذكره؟ قال: «إنما هو بضعة منك»، فلأهل العلم في ذلك كلامٌ طويلٌ:
- فمنهم مَن قدَّم حديث «مَنْ مَسَّ ذَكرَه فَلْيتَوَضَّ»؛ لأنه أصح، وإن كانا في الصحة على قدر متقارب، هما حديثان صحيحان معتبران معتمدان عند أهل العلم بالحديث لكن هذا أصح؛ ولأنَّ هذا ناقلٌ عن الأصل، ولأنَّ هذا أحوط، ولأنَّ هذا آتٍ عن الصحابة على نحو أكثر.
- ومنهم من جعل أن الوضوء من مس الذكر على سبيل الاستحباب كما هي طريقة ابن تيمية وبعض أهل العلم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فإذًا تقرَّر أنَّ مسَّ الفرج موجبٌ للوضوء؛ فالمقصود هنا هو فرج الآدمي، فلو مسَّ فرجَ بهيمةٍ أو طيرٍ أو سمكة أو نحو ذلك فلا يلزم منه شيء، ومثل ذلك لو مسَّ آلة زائدة كآلة خنثى، فإنَّ آلة الخنثى المشكل الذي لم يُعلم أهو ذكر أم أنثى لا ينقض الوضوء، أما الذي عُلم فإذا مسَّ آلته المعلومة إذا كان أنثى فرجًا أو إذا كان ذكرًا فذكر؛ فإذا مس آلةً زائدة فالأصل أن هذه زائدة فلا يُعتبر بها، فإذًا أن يتيقَّن مس فرج آدمي متصل ليس بخنثى مُشكِل.
وهنا قوله (مُتَّصِلٌ) يخرج ما لو كان منفصلًا فلو كان عضوًا مقطوعًا في الأرض أو غير ذلك، كالذين يتعاطون مثلا في المختبرات أحيانًا تشريح بعض هذه الأجزاء وغيرها وتقليبها فإن ذلك لا يعتبر ناقضًا للوضوء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ حَلْقَةِ دُبُرِهِ) لما ذكرنا أنه جاء في بعض الأحاديث «فرجه»، وفي بعضها «مَن أفْضى بيدهِ إلى فرجهِ»[7] كما في بعض الروايات.
ويُلحظ في هذا: أن ذلك تُبتلى به النساء كثيرًا في تغسيل صغيرها ولدًا كانَ أو أنثى، فإذا فعلت ذلك على هذا النحو كان عليها أن تُعيد طهارتها.
قال: (بِيَدٍ)، يعني متعلق الحكم باليد، سواء كان باطنها أو ظاهرها، أمَّا لو مسَّه بذراع، أو مثلًا سقط عليه برأسه لو كان صغيرًا عنده أو نحو ذلك؛ فإن هذا لا يؤثر، لكن استثنى من هذا أهل العلم لو مسَّ فرجًا بفرجٍ، فلو التصق ذكرُ الزوج بفرج امرأته التصاقًا، فيقولون: هذا أبلغ من اليد، فيدخل في ذلك لا ما سواه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَمْسُ ذَكَرِ أَوْ أُنْثَى الْآخَرَ لِشَهْوَةٍ بِلَا حَائِلٍ فِيهِمَ)}.
الملامسة أعمّ من المس، فالمس باليدِ والملامسة بعمومِ الجسدِ، وهذا عند فقهاء الحنابلة كما هو عند بعض الفقهاء ناقضٌ للوضوء، لقول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [النساء: 43]، قال أهل العلم: إنَّ هذا إنما يكون ناقضًا بقيدين:
- أن يكون لشهوة.
- وأن يكون بلا حائل.
أمَّا كونه لشهوة فيقولون: هذا جمعًا بينه وبين الأحاديث الكثيرة التي جاءت بحصول الملامسة بدون ما شهوة، وبدون ما حصول وضوء من النَّبي ﷺ، فجمعًا بين النصوص أنَّ هذا فيما إذا كان بشهوة وذاك بغير شهوة، فالنَّبي ﷺ كان يغمز عائشة وهو يُصلِّي فلا ينتقض وضوءه ويتم صلاته، ويحمل أمامة بنت زينب في صلاته وإن كانت صغيرة، لكن فيه أحاديث كثيرة، فجمع بينها أهل العلم بأن ذلك لغير شهوة كما جاء في الحديث وهو أقرب وألصقُ ما يكون: «كان النبيُّ ﷺ يُقَبِّلَ بعضَ أزواجِه، ثم يصلي ولا يتوض»[8]، فإذًا هذا هو السبب في القيد الأول لشهوة.
وقولهم: (بَلَا حَائِل)؛ لأنَّ هذا هو حقيقةُ الملامسةِ وإذا مسَّها بحائل فإنما مسَّ ثيابها ولم يلامسها.
إذًا هذا ناقض من نواقض الوضوء التي ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فإن قال قائل: إن قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ المقصود بذلك هو الجماع؟
نقول: هذا قال به جماعة من أهل العلم، لكن الحنابلة قالوا: هذا محتمل وذاك محتمل، والأصل أنَّ الملامسة هي عمومها فتطلق على ما هو الأصل، ولأنَّ هذا هو أحوط للعبادة، لكن الحقيقة أنَّ هذا قد يبتلى به الناس كثيرًا خاصة في وقت الزِّحام، كمن هم بالطَّواف يُطلب منهم الوضوء ولا ينفكُّ أيضًا الناس من الازدحام ومماسة بعضهم لبعض، فلأجل ذلك تجد بعضها النساء يحرصن على أن تغطي يدها وجميع جسدها لئلا تحصل المماسة بوجهٍ من الوجوه.
فإذًا؛ هذا ناقض من نواقض الوضوء عند الحنابلة وجمعٍ من الفقهاء بناء على ظاهر الآية وجمعًا بينه وبين الأحاديث، وقيد بأن يكون لشهوة وأن يكون بلا حائل.
معنى: (بلا حائل) يعني ما فيه مماسة البشرة للبشرة بأن لا يكون ثمة حائل كثوبٍ أو قميصٍ أو غطاءٍ أو سواه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لَا لِشَعْرٍ وَسِنٍّ وَظُفْرٍ)}.
يعني لو مسَّ الإنسان شعرًا أو سنًّا أو ظفرًا، فإن هذه في حكم المنفصل فلا تكون في حكم أن الناقض للوضوء.
ومثل ذلك لو مس بشعره أو بظفره أو بسنه فلا يعتبر أيضًا ناقضًا لأنها في حكم المنفصل.
وبعضهم أيضًا قيدَ بأن لا تكون صغيرةً، فإذا كانت صغيرةً فإنه لا يعتبر، لأنها لا تتحرك الشهوة للصغير.
والحكم هنا عند الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- أنه للَّامس لا الملموس، حتى ولو وجد الملموس شهوةً، فإذا كان الرجل هو الذي مسَّ المرأة فهو الذي ينتقض وضوءه بشرطه، يعني بأن يكون بدون حائل وأن يكون بشهوة، وإذا كان اللامسةُ هي المرأة فهي التي ينتقض وضوئها حتى ولو كان الرجل قد وجد من الشهوة أكثرها مما وجدت، فلا ينتقض وضوءه إلا أن يخرج منه مذي أو غير ذلك فهذا شيء آخر ينتقض وضوءه بأمر آخر سبق بيانه، لا بمجرد اللمس الذي نحن بصدد الكلام عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا بِهَا وَلَا مَنْ دُونَ سَبْعٍ)}.
قوله: (وَلَا بِهَ)، يعني بلمس بهذه الأشياء الثلاثة فإنها لا تكون ناقضة.
قوله: (وَلَا مَنْ دُونَ سَبْعٍ»، لِمَا ذكرنا؛ لأنَّ الشهوة ظاهرة في أنها لا تتعلق بمثل هؤلاء الصغار عادة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ مَلْمُوسٍ مُطْلَقً)}.
مثل ما ذكرنا قبل قليل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ شَكَّ فِي طَهَارَةٍ أَوْ حَدَثٍ بَنَى عَلَى يَقِينِهِ)}.
هذه مسألة مهمة، يذكرها الفقهاء وجاء بها النَّص ويحتاج إليها العبد، فإن مَن لم يحسِن هذه المسألة انفتح عليه باب الوسوسة، ودخلَ عليه الشيطان من كل وجه، والأمر أيسر من ذلك وأوضح، مَن تيقَّن شيئًا حكمَ به، ومَن شكَّ في شيء لم يلتفت إليه، فمَن تيقن الطَّهارة لم يلتفت إلى ما يأتي في نفسه، أنا خارج مني ريح أو لم تخرج مني ريح؟ أنا ذهبت للحمام، أو لم أذهب لقضاء بول أو غائط؟ أنا مسست امرأة بيدي أو لا؟ لما أعطيت زوجتي الدراهم هل وقعت يدي على يدها؟ أو أنها أخذت الدراهم؟ كل هذه شكوك لا التفات إليها، فالأصل طهارتك، والأصل ثبوت وضوئك، فلا تلتفت إلى هذه الأوهام.
والعكس بالعكس فلا ينبغي للإنسان أن يتهاون، فلو أنَّ شخصًا -على سبيل المثال- تيقن أنه كان قد انتقض وضوءه أو ذهب إلى الخلاء وبالَ أو غير ذلك من النواقض المتقدمة، ثم قال: أنا أذكر أني اغتسلت، لكن أنا توضأت مع الغسل أو ما توضأت؟ لا تشدد على نفسك! هذان بابان يدخلان:
- إمَّا باب التَّساهل والتَّلاعب وغير المبالاة بالعبادة؛ فهذا يفضي بالإنسان إلى إخلاله بما يجب عليه.
- أو فتح باب الوساوس بالتَّشدد والتَّزمُّت والرُّكون إلى كلِّ فكرة، والنَّظر في كل وسوسة واعتبارها شيئًا واقعًا.
جاء في الحديث: «شُكِيَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرَّجُلُ يَجِدُ في الصَّلاةِ شيئًا أيَقْطَعُ الصَّلاةَ؟ قالَ: لا حتَّى يَسْمع صَوْتًا أوْ يَجِدَ رِيحً»[9]، المقصود: أن يتيقن حصول النجاسة.
قال أهل العلم من الحنابلة وجمع منهم: إن هذا ليس بمختصٍّ في حال الصلاة، بل لو كان في الصلاة أو قبلها أو بعدها فالحكم في ذلك واحدٌ، في أنَّ مَن تيقَّن الطَّهارة لم يلتفت إلى الشُّكوك.
والعكس بالعكس؛ من تيقَّن النجاسة وشكَّ هل تطهر أو لا؛ أنا ذهبت إلى دورة المياه بعد ذلك لكن ما أدري أنا غسلت وجهي للذهاب للعمل والدوام أو أنني أكملتُ ذلك وضوءًا؟ فنقول: هذا تيقَّن الحدث وشكَّ في حصول الطَّهارة، فالأصل أنه محدث فلا يجوز له أن يصلي حتى يتوضأ، فهذه قاعدةٌ ظاهرةٌ جلية.
وهنا قوله: (شَكَّ)، الشك عند الفقهاء يطلق على معنيان:
- مطلق التَّردد مع غلبة ظنٍّ.
- أو حصول غلبة ظن بأحد الأمرين، يعني أن يكون ظنًّا راجحًا، أو وهمًا وشكًّا مرجوحًا، أو متساويان؛ هذه أحوال ثلاثة كلها داخلة هنا، إذًا الحكم باليقين مهما كان هذا الشك قويًا أو ضعيفًا، لكن في بعض المسائل إذا قيل بالشَّك فإنما يتعلق الحكم إذا استوى الأمران على حدٍّ سواءٍ في حصولٍ وعدمه، أما غلبة الظن مني فقد يحكم بها وأما الوهم فلا يلتفت إليه، فإذًا هذا قد يعتبر مطلق الشك الذي كما في هذه المسألة، وقد يفرق وسيأتي ذلك له أمثلة سنأتي عليها ونبينها بإذن الله جل وعلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرُمَ عَلَى مُحْدِثٍ مَسُّ مُصْحَفٍ وَصَلَاةٌ وَطَوَافٌ)}.
هذا بيانٌ من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما لا يجوز للمحدِث فعله، وما يحرم عليه إتيانه، وهذا ترتيب أبلغ ما يكون وأتم.
قوله: (وَحَرُمَ عَلَى مُحْدِثٍ)، ذكرنا أن المُحدِث: وهو مَن اتَّصف بوصفٍ من الأوصاف التي ذهبت بها طهارته بحسب ما جاء في الشَّرع -كما بينا ذلك فيما مضى.
أو كما يقول الفقهاء: وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها، يعني مما تجب له الطهارة.
قال: (مَسُّ مُصْحَفٍ)، المصحف هو كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- الذي كُتب فيه كلامه من فاتحته إلى خاتمته، فلا يجوز بدون طهارة، وأصل ذلك: قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79]، وإن كان يقصد بذلك اللوح المحفوظ، فقاسَ أهل العلم وأدخلوا ذلك في حكمه، فإنَّ أعظم ما في اللوح المحفوظ هو كلام الله -جَلَّ وَعَلَا.
وأيضًا ما جاء في الحديث في بعض أسانيده مقال: «ولا يمسُّ القرآنَ إلَّا طاهرٌ»[10] وهو حديث عمرو بن حزم وإن تكلم فيه.
ولذلك فإن الأئمة الأربعة وجماهير أهل العلم على ذلك، وهذا منهم إظهار لتعظيم المصحف وإجلاله، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]،
 ولذلك فإنَّ من الأهمية بمكان أن يتعلَّم الناس تعظيم المصحف، وعدم التساهل في تعظيم المصحف والإبقاء على عظيم المنزلة التي أنزله الله -جَلَّ وَعَلَا- إياها بما تضمَّنه من كتابةِ كلامه الذي تكلَّم به سبحانه، وأنزله على نبيه وجعله منهاجًا لأمته وتعبَّد الناس بتلاوته، وبالاعتصام به يحصل الخير، وبالاستمساك به يبلغ العبد الدرجة العلا، ولذلك جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- وقال به بعض الفقهاء قال: "وإذا كان من عادة الناس أن يقوم بعضهم لبعضهم إجلالًا فإنه يستحب إذا جاء المصحف أن يقوم له الإنسان إجلالًا، فليس المصحف الذي هو كلام الله بأقل من تعظيم الناس لبعضهم مع بعض"، لذلك الناس يستنكفون أن يبسطوا أقدامهم أمام آبائهم أو أمهاتهم أو أصدقائهم أو من يُجلِّونه، فمن باب أولى ألا تجعل قدميك إلى مصحفٍ وغيره.
فإذًا من أوجه التعظيم الذي جاء بها النَّص: ألا يمس ذلك محدث، تعظيمًا لكتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- والمصحف ما بين الدُّفتين.
هنا مسألة مهمة وهي: حمله بعلَّاقة أو بكمِّه فلا بأس، واختُلف في مس تجليدته وأيضًا الفراغ الذي يحيط به، وكلامهم على الإطلاق بأنها لا تمس في تلك الحال لمنتقضِ وضوءه وهذا ظاهر قول المؤلف: (وَحَرُمَ عَلَى مُحْدِثٍ مَسُّ مُصْحَفٍ)، فبناء على ذلك يحرم هذا.
فيه مسائل كثيرة ويحتاج الناس إليها كثيرًا فلذلك وإن كان الوقت ضيقًا لكن لأهميتها نتطرق إليها:
الأولى: أحيانًا يقرأ الناس في تفسير، فبعضهم يفصل ويقول: التفسير إذا كان أكثر والقرآن أقل؛ فلا يشترط فيه الطهارة.
والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم: أن ما كان على هيئة المصحف بأن فرزَ القرآن بكتابةٍ وجُعل التفسير في حواشيه فإنَّ هذا مصحف لا شك، ولو كان التفسير أكثر ولو كان ذلك أضعاف أضعاف كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-؛ لأنَّ الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تلزم الطهارة لمس كتب التفسير، المقصود بذلك: التي اشترك فيها كلام المفسرين مع الآيات فلم تتمايز، أمَّا إذا تمايزت بأن تُجعل في صفحة وحولها التَّفسير فهذا مصحف، نعم أنا أعرف أن ثَم كلام لبعضهم خلاف ذلك، لكن هذا ظاهرٌ من كلام الفقهاء ما يقررونه فيما وقفتُ عليه وتأملته.
الثانية: يكثر الآن استعمال الناس لآلات الجوال التي اشتملت على أشياء مدمجة يمكن استخراج المصحف منها، على كل حال، هذا في الغالب لا يسمى مصحفًا، وأقرب ما يكون أنه مثل اللوح الذي كتب عليه بعض آياتٍ للطفل يحفظ فيها القرآن كما في المدارس المتقدِّمة، فبناءً على ذلك الفقهاء يقولون: إن الطفل الذي يمسك لوحًا لابد أن يتوضأ ولا يباشر أيضًا الآيات، لأنها ليست مصحفًا إذا كان اللوح يكتب ويمحى عليه، لكنه لا يباشر الآية فيمسها إذا لم يكن على غير طهارة، وعلى وليِّه أن يوضئه ويطهِّره لذلك، فهل نقول مثل هذا في الجوال؟
الحقيقة أن الجوال يختلف من جهة وهو أن اليد لا تباشر هذا المكتوب، وإنما تباشر هذه الشاشة التي هي قطعة زجاج وتحتها ينعكس ذلك المصحف، فبناء على ذلك لا يأتي عليه ما يأتي على حكم اللوح؛ فبناء على ذلك مسُّه في تلك الحال لا يكون به بأس، لكنني أوصي بأن لا يلجأ الإنسان إلى القراءة في مثل هذه الشاشة إلا إذا لم يجد مصحفًا، أمَّا إذا وجد مصحفًا فإن تقليب المصحف وإمساكه والنظر فيه عبادةٌ، فكان أتمَّ للمتنسِّك وللتَّالي لكتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- لكن لا شك أن الإنسان قد يحتاج إلى الجوال في أماكن كثيرة، وهذه الأجهزة اللوحيَّة أسهل عليك في التنقل، وأحيانًا في السفر، وفي بعض الأماكن التي ينتظر فيها كأماكن صرف الأموال التي هي البنوك والمصارف، أو في المطارات أو سواها، لكن إذا كان الإنسان في سَعةٍ ويستطيع القراءة في المصحف فهو أولى وأتمُّ بكثير.
قال: (وَصَلَاةٌ)، وهذا بإجماع أهل العلم، قال ﷺ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أحَدِكُمْ إذا أحْدَثَ حتَّى يَتَوَضَّ»[11]، وقال: «مِفتاحُ الصَّلاةِ الطُّهورُ»[12]، كما جاء ذلك في الأحاديث الكثيرة وهذا إجماع لا اختلاف فيه.
قوله: (وَطَوَافٌ)، وطواف كذلك الطواف عند الحنابلة كما هو قول جماهير أهل العلم أنه لابد له من الطَّهارة الصغرى والكبرى -من الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر- فلابد أن يكون الإنسان متوضئًا لم يكن به ناقضٌ من نواقض الوضوء ولا موجبٌ من موجبات الغسل؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ﴾ [الحج: 26]، وقال: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾ [البقرة: 125]، فكيف يكون المكان متطهِّرًا لشخصٍ يَفِدُ غير متطهر؟! وعن ابن عباس قال: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ»[13]، فالتخفيف عن الحائض هل هو لعدم دخول المسجد؟ أو لكونها في حال ليست متطهرة فلا يجوز لها أن تطوف؟
الثانية ليست الأولى، لأنه بلا شك وعند جماهير أهل العلم أنَّ مَن به حدث كحيضٍ أو نحوه إذا احتاج المرور في المسجد مرَّ، وإذا احتاج إلى المكث فإنه يتوضأ فيخفف حدثه فيمكث.
فإذًا دلَّ ذلك على أن المقصود هو عدم حصولِ الطواف إلا بطهارة، ولأنه جاء في أثر ابن عباس: "الطَّوافُ حَولَ البيتِ مِثلُ الصَّلاةِ، إلَّا أنَّكم تتكلَّمونَ فيه"، فاعتبار الطهارة لذلك أمر ظاهر جلي.
فبناء على ذلك: غير المتوضئ لا يجوز له الطواف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلَى جُنُبٍ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ، وَقِرَاءَةُ آيَةِ قُرْآنٍ، وَلُبْثٌ فِي مَسْجِدٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ)}.
قال: (وَعَلَى جُنُبٍ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ)، يعني ويحرم على جنب ونحوه -يعني الحائض ونحوهم- ذلك المتقدِّم من مسِّ المصحف ومن الصَّلاة ومن الطَّواف، فحدثهم أغلظ، فحرُم عليهم ما حرُمَ ما حرُمَ على مَن عليه حدث أصغر وزيادة، فإذا حرَّمنا على مَن خرج منه الريح أو باَل أو نحوها هذه الأشياء فمِن باب أولى من أحدث حدثًا أكبر، أو من كانت به جنابة، أو من كان بها حيض أو نحو ذلك، أن لا يفعل هذه الأشياء المتقدِّمة.
قال: (وَقِرَاءَةُ آيَةِ قُرْآنٍ)، لا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، فجاء في الحديث أنَّ النَّبي ﷺ «لا يحجزُهُ عنِ القرآنِ شيءٌ إلَّا الجَنابةَ»[14].
وهنا قوله: (وَقِرَاءَةُ آيَةِ قُرْآنٍ)، يعني أنَّ بعض الآيات تقرأ على كونها قرآنًا وأحيانًا تقرأ على كونها دعاءً، فالمحرم ما أريدَ به التِّلاوة والتَّعبد بالقراءة، لا ما أريد به الاستنان بالسُّنَّة وقول الذكر والدعاء.
فعلى سبيل المثال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، هذا دعاء وقرآن، فإذا قرأه القارئ في صلاته أو ردَّده المتعبِّد بالتِّلاوة قصدا للقرآن؛ فهذا لا يجوز للجنب في مثل هذه الحال أن يفعل ذلك، لكن لو أن شخصًا فرغَ من طعامه وهو جنب فإنه مما يشرع للإنسان أن يقول: "الحمد لله رب العالمين"، فباعتبار هذه الحال هو ذكرٌ عند الانتهاء من الطعام، فقوله في ذلك ليس قراءة للقرآن، فبناءً على ذلك للجنب أن يقولها في هذا النحو أو في هذه الحال لافي تلك.
ومثل ذلك: لو أن الجنب ركب دابته مُسافرًا، فله أن يقول: "سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ"؛ لأنَّ قوله هنا على سبيل الدعاء والذِّكر الوارد عن النَّبي ﷺ لا على سبيل القراءة والتِّلاوة التي يُمنع الجنب منها في تلك الحال.
قال: (وَلُبْثٌ فِي مَسْجِدٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ)، الجنب يمنع من ورود المسجد، إلا إذا كان عابر سبيل فلا بأس بذلك، أو خفف الجنابة بالوضوء فإنه جاء عن أصحاب النَّبي ﷺ أنهم تكون عليهم الجنابة فيتوضؤون فيجلسون في المسجد يتحدَّثون، لأنها خاصَّة فيما مضى ليس في كل الأحوال يتسنَّى لهم استعمال الماء وإذا استعملوه ربما يشحُّ عليهم ويقل، فلا يحتاجونه إلا إذا اجتمعت حاجاتهم ولزمت، فبناء على ذلك ذكروا هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ سَبْعَةٌ)}.
هذا الفصل عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في موجبات الغسل التي تسمى الحدث الأكبر، فما مضى حدثٌ أصغر الذي هو خارج من سبيل، أو النوم، أو أكل لحم الجزور، أو مس الفرج، أو ملامسة بشهوة بدون ما حائل؛ فهذه كما تقدَّم هي أحداث صغرى توجب وضوءًا، فانتقل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في الفصل الذي ذكره في الأحداث الكبرى التي توجب طهارة كبرى.
والطهارة الصغرى هي الوضوء إذا عبر عنها الفقهاء، الطهارة الكبرى هي الغسل؛ فلما انتهى المؤلف من الطهارة الصغرى وما يتعلق بها تكلَّم على ما يتعلق بالطَّهارة الكبرى.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ سَبْعَةٌ).
الغسل: يقال غَسَّلَ غُسْلًا واغْتَسَلَ اغْتِسَالًا.
والغُسل -بالضم- هو: فعل الطَّهارة والتعميم.
وأمَّا الغَسل -بالفتح- هو: ما يغتسل به.
مثل الوَضوء والوُضوء:
فالوَضوء هو: الماء الذي يُتوضأ به.
والوُضوء هو: فعل الوضوء.
السَّحور: ما يُعد في وجبة السحور.
والسُّحور هو: فعله وهكذا،
والغسل هو: تعميم الماء على البدن بماء مباح طهور على صفة مخصوصة -كما سيأتي.
فإذًا ما موجبات الغسل؟
كما ذكرنا أن قول الفقهاء كونها سبعة هذا باعتبار السبر -يعني النظر في الأدلة- وجمعها تسهيلًا على الطالب، فقد يذكر بعض الفقهاء ستة بحسب ما وصلوا إليه وبحسب نظرهم في أصولِ المذهبِ وطريقةِ الاستدلالِ وغيرها، وسيأتي تفصيل ذلك في هذه السبعة بوجه أوضح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِهِ بِلَذَّةٍ وَانْتِقَالُهُ)}.
المني: هو الماء الأبيض الذي يخرج عند غلبة الشَّهوة إمَّا بجماع أو مداعبةٍ أو فكرةٍ ونحوها، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إنَّ خروج المني موجبٌ من موجبات الغسل، قال ﷺ: «وَإذا فَضَخْتَ المَاءَ فاغْتسلْ»[15] كما في الحديث الذي عند أهل السنن حديث علي، وقوله: «إذَا فَضَخْتَ»، يعني إذا خرج منك دفقًا بلذة، فهذا فيه دليل على القيدين جميعًا: الذي هو خروج المني، وأن يكون دفقًا بلذة.
فلو خرج من غير مخرجه كما لو انكسر صلبه فخرج مني؛ هذا غير موجب للغسل عند الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى-، فإذًا لا بد أن يكون من مخرجه، وأن يكون بلذة، يعني أن يكون خارج بالغلبة فلا يستطيع الإنسان منعه ولا حبسه إذا تحرك، فهذا إذًا موجب للغسل بإجماع أهل العلم ولا يختلفون في ذلك، سواء كان ذلك من الرَّجل أو كان ذلك من المرأة، يعني خروج منيها، وماء الرجل هو ماء أبيض غليظ، وماء المرأة ماء أصفر رقيق.
قال: (وَانْتِقَالُهُ)، هذا الحقيقة من المفردات عند أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- أنهم يقولون: إن المني إذا انتقل ولم يخرج فإنه في حكم الخارج موجِبٌ للغسل، يعني لو أحس به خارج من صلبه لكنه لم يدفقه إلى الخارج، فيقولن إن هذا موجب للغسل سواء كان عند الرجل أو المرأة، لماذا؟
لعل أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذهبَ إلى أن انتقاله هو الذي يحصل به الإكسال الذي لأجله أوجب الغسل، لكن الحقيقة هذا وإن كان هذا هو قول أحمد المشهور وهو مذهب الحنابلة المعتمَد إلَّا أن عامَّة أهل العلم على خلافه، بل ربما نقل الإجماع على خلاف ذلك، وهي رواية عند كثير أو عند جماعة من محققي المذهب أن الانتقال لا حكم، وأن متعلَّق الحكم هو الخروج لا غير، فبناءً على ذلك انتقل أو لم ينتقل لا حكم له، ولأن الشريعة تعلُّق أحكامها يكون بالأمر الظاهر لا بأمور غير واضحة ولا لها ميزان يستطيع الناس إعماله.
فبناء على ذلك؛ فإن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر مشهور المذهب، وهو أنه بمجرد الانتقال إذا كان بشهوة يجب الغسل، وذكرنا القول الآخر لأهميته، ولأن هذا قول ربما كان عامَّة أهل العلم على خلافه.
{نستأذنكم شيخنا بالاكتفاء بهذا القدر نظرًا لضيق الوقت}.
الحمد لله، أرجو أن يكون في ذكرناه كفاية، وإن كنَّا تأخرنا كثيرًا، لكن مثل هذه المسائل لها أهميَّة بالغة يكثر السؤال عنها، ويدخل كثير من الناس في إشكالات، وهي متعلقة بأمر من أهم الأمور وهي صلاة العبد وعبادته، فلأجل ذلك دخلنا في شيء من التَّفصيلات والمسائل والفروع، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتمَّ علينا وعليكم نعمه الظَّاهرة والباطنة، وأن يطهِّر قلوبنا من النِّفاق والرياء، وأن يطهرنا من البلاء والأسقام، وأن يحفظنا من كل سوء ومكروه، وأن يجعلنا من الطاهرين المطهرين، وعباده الأولياء المتَّقين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
{اللهم آمين. بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين، نستأذنكم في استكمال ما بقي في مجلس قادم، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد (16925)، وأبو يعلى (7372).
[2] أخرجه الترمذي (96)، والنسائي في ((المجتبى)) (1/ 126)، وابن ماجه (478).
[3] صحيح مسلم (360).
[4] أخرجه أبو داود (192)، والنسائي (185).
[5] أخرجه أبو داود (181)، وأحمد (27293) واللفظ لهما، والترمذي (82)، والنسائي (163) وابن ماجه (479) باختلاف يسير.
[6] أخرجه أحمد (8404).
[7] أخرجه أحمد (8404).
[8] أخرجه أبو داود (179)، والترمذي (86)، والنسائي (170)، وابن ماجه (503)، وأحمد (25766).
[9] صحيح البخاري (2056).
[10] ضعيف الجامع (2333).
[11] صحيح البخاري (6954)، صحيح مسلم (225).
[12] صحيح الترمذي (238).
[13] صحيح البخاري (329)، مسلم (1328).
[14] ضعيف ابن ما جه (115).
[15] صحيح النسائي (193)، صحيح أبي داود (206).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك